عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 16-04-2010, 03:31 PM
الصورة الرمزية جون الكويت
جون الكويت جون الكويت غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 2,208
افتراضي

كلمة وفاء ورثاء

في الشيخ أحمد غنام الرشيد
ومضى على رحيلك عام..

إن من الوفاء الذي افتقدناه أن نذكر مآثر امرئ رحل عن دنيانا وله من الأيادي والفضائل ما لاينبغي التذكير به تيمنا به وترحما عليه، والسطور اللاحقة فيض خاطر وتسطير قلم جادت بها نفس كريمة في رجل من أهل الصلاح والفضل بعث بها الأخ الفاضل المهندس أحمد أحمد عيطة يتذكر ويذكر فيها رجلا من أهل الخير والفضل والصلاح والعلم إنه الشيخ أحمد غنام الرشيد- يرحمه الله- والتي عبر في رسالته عن مضمون صاحبها في رجل من أهل هذا البلد الطيب وإنه لجميل أن نتذكر بالخير علماءنا لنظل أوفياء لأنفسنا مصداقا لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «الخبر باق فيّ وفي أمتي إلى يوم الدين».

وإليكم المقالة بتمامها كما بعث بها صاحبها، والتي جاءت تحت عنوان (ومضى على رحيلك عام).
إثنا عشر عاما هي مدى معرفتي به، وعام واحد فرق بيننا اليوم في الحياة، عرفته من خلال عملي مديراً بمكتبة ابن كثير، والعلم رحم بين أهله فكان سبب حبي له وحبه لي، والناس من الإسلام ثلاثة أصناف إسلام الشهادة والعبادة، وإسلام الإيمان والعقيدة، وإسلام الرجولة والبطولة، والرجل رحمه الله أظنه وأحسبه والله حسيبه كان يجمعها كما تجمع الراحة الأصابع، فمن يعرف الرجل عن كثب يعرف فيه الرجل المؤمن، لا بل المؤمن «الرجل» في خلقه ودينه وعفته فو الله لقد كان من الرجال الذي يذكرنا بالله رؤيتهم فهو يطمع.. لا كما طمع الناس في الشهوات والأعراض إنما في العلم والحكمة وهو يلهو.. لا كما يلهو الفارغون.. وإنما بالقراءة وكتابة الشعر وهو يغني.. لا كما يغني الماجفون.. وإنما يتغنى بأمجاد الأمة وانتصاراتها وهو يسكر.. لا كما يسكر الخلعاء والفجار.. وإنما بنصر للإسلام هنا وهناك وهو يغني ويصفق..

حينما يرى مؤلفا جديدا أو مطموراً من التراث حقق وهو يخضع لله والحق ليتمرد على الشيطان والباطل ويقهر دنيا الأوهام وهو يبكي.. لا كما تبكي الصبية ولكن خشية لله الواحد القهار وهو يضحك.. لا كما تضحك الصغار ولكن للشدائد والصعاب فقد بترت ساقه قبل وفاته بأعوام فما زاد عن الحمد لله، وهو يقاتل.. لا كما يقاتل الناس.. وإنما يقاتل الناس بالحب كما تعلم من إمامة حسن البنا.
فو الله كان حديثه حكمة، وصمته فكرة، ومناجاته صلاة، وكدحه لبذل علم أو معرفة.

عرفته عن قرب فكان محباً للعلم وأهله فما من كتاب جديد يرى فيه النفع لطلاب العلم حتى يشتري منه «كماً» يوزعه على طلبة العلم احتسابا لله ولا يري كتاب أدب يروح عن النفس إلا اشترى نسخاً لأحبابه والمقربين منه اهداء لهم.

كان يعرج على مكتبتي أحياناً ثلاث مرات في اليوم في الصباح حتى قبيل آذان الظهر، ومرة بعد العصر، ومرة بعد صلاة العشاء يأتي لنتجاذب أطراف العلم، فلا يرى طالب علم يدخل المكتبة إلا ويهديه كتاب وان رأى طالب وافد يصر على دفع ثمن كتبه وان غلت كانت أسعد لحظاته هي أن يرى مخطوطاً قد حقق كما أن له أيادي بيضاء على طلاب العلم بالكويت، بل ومكتبتها الوطنية فلكم أهداها كتباً، كان عارفاً بالكتب وطباعتها المختلفة وسنوات طباعتها وأفضل تحقيق لها على مستوى العالم الإسلامي، كان حبه للكتاب يفوق حبه لنفسه التي بين جنبيه وكان كثيراً ما ينشد هذه الأبيات كلما اشترى كتباً أو كتاباً.

نعم والله لقد كان عاشقاً.. فليس العاشق الذي يتأوه من شدة الحب إنما العاشق الذي يحمل على كاهله هموم الناس وأحزانهم، فقد كان يخلق عالمه بنفسه كان يحمل في مخباته عدة فئات من النقود كل منها في ربلة وكل فئة على حدة، فإذا خرج من بيته ترى عمال النظافة بمنطقة الفيحاء يتهافتون عليه كالفراش فيعطي كل واحد منهم ما اعتاده أن يعطيه كل يوم.. ثم يستقل تاكسياً فيعطيه المزيد حتى أنهم كانوا يتنافسون على توصيله في الذهاب والإياب.. فيأتي منطقة المكتبات فيعطي العاملين بها كل على حدة عمال النظافة الذين يعملون حول المكتبات، ثم يذهب إلى ديوانيات طلاب العلم، ويعطي المحتاج منهم.. والله لقد كان مثالا في البذل فلا يعرف فقيرة مقبلة على الزواج حتى يساعد في تستيرها ولا يعرف شابا مقبلا على الزواج محتاج إلا ويساعده، ولكن أعطى أسرا هدمت منازلهم حتى أعادوا بناءها.. بترت ساقه فقام بتركيب طرف صناعي يسعى عليه ويذهب إلى المكتبات وطلاب العلم وزيارة الناس فأقول له هوناً
فيتمثل قول القاضي عبدالوهاب المالكي.

متى يصل العطاش إلى ارتواء
إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد
إذا جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوما
على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل
والأكابر فقد طابت منادمة المنايا

كما أنه كان صاحب ملكة قوية رغم بلوغه الثمانين من العمر كان يحفظ عيون الشعر العربي فكم كانت لنا معه مجالس وأنا والأستاذ فهد محمد الدبوس وكثيراً ما أقول يقيس الناس أعمارهم بالسنين ونحن نقيسها بالأوقات الصالحة فما أحلاها من أوقات نتبادل فيها أجمل أبيات الأدب وعيونه ولا نسأله عن بيت إلا ويخبرنا بقائله، كما أنه كان يحفظ كثيرا من شعر المعارضات فما من ميمية إلا ويحفظ معارضاتها ولا تأتيه إلا ويحفظ معارضاتها قديمها وحديثها كان غاية في الحفظ، كما كان حجة في الفقه الحنبلي وكان كثير الثناء على شيوخه وأساتذته رحمه الله كما كان غاية في التواضع فلا يقابل عاملاً أو بواباً إلا ويسأل عن أحواله وأولاده ويعطيه من المال ما يعنيه على لأواء الحياة.

كذلك عرفته شاعراً يأسى ويفرح فلا يترك مصاباً للأمة إلا وترى له كلمات تنزف، ولا يرى مولوداً لشخص إلا ويباركه ويهديه قصيدة حتى أن صاحب مكتبة يقول لقد أنشأ في أولادي الثلاثة كل منهم قصيدة كتب يرثي شهداء الإسلام في 54 قصيدة تنبأ فيها بهزيمة الطاغية فكانت هزيمة 56 ثم كتب قصيدة في الشهيد سيد قطب ورفاقه ودعا فيها على الطاغية فكانت هزيمة 67 كتب محن المسلمين في أفغانستان والعراق وكشمير والصومال والبوسنة كتب من الشعر الكثير فليت ورثته يخرجون ذلك الشعر إلى النور حتى لا يحرم محبوه ومحبو الشعر والأدب منه كما أن له مكتبة غراء ليس لها نظير في الكويت.. أرجو وكلي أمل أن ترعاها الدولة وينتفع بها الناس.

إن ما كتبته عن الشيخ الغنام لهو ثج من عج، وأثل من أشل، وقليل من كثير مما أعرفه أنا فكيف بما يعرفه غيري عله فرحمه الله، وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه ومحبيه الصبرو السلوان.

أحمد أحمد عيطة
الوطن - اليوم
رد مع اقتباس