عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-08-2010, 11:49 AM
الصورة الرمزية فتى البارق النجدي
فتى البارق النجدي فتى البارق النجدي غير متواجد حالياً
عضو مخالف، تحت الملاحظة، النقاط: 1
 
تاريخ التسجيل: Aug 2010
المشاركات: 48
افتراضي العثمان مدرسة السفر الشراعي بالكويت


عائلة العثمان
مدرسة السفر الشراعي في الكويت
د. عبدالمحسن عبدالله الخرافي

تاريخ مَن صَنَعَ التاريخ

يحق لكل من وضع لبنة في بنيان التاريخ أن يسجل اسمه ضمن الكبار الذين شادوا أكبر عمران عرفته البشرية.
إنه بنيان قد بدأ متواضعاً، لكنه لا يزال يكبر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يرقى *حين يرقى * بمن يعيش على هامش التاريخ لا شأن له ولا أثر، بل يرقى ويكبر ارتفاعاً ويمتد اتساعا بمن كان له في الحياة صنيع يذكر.
دعنا نسلط الضوء على بقعة من الأرض مجدبة، هي امتداد لصحراء قاحلة تكاد تستغرق أنحاء شبه الجزيرة العربية، لا أنهار فيها ولا خضرة لطالما كانت بيئة طاردة شهدت هجرات وحركات نزوح كثيرة سطرها التاريخ لقبائل العرب إلى بلاد وجدوا فيها المياه والغطاء الأخضر، وهم في هجرتهم هذه معذورون.
غير أن فئة من الناس ومن تلك القبائل قد قبلت التحدي، فتعاملت مع هذه الظروف القاسية بعزائم قوية، وهمم نافذة، وتفاعل مع الإمكانات شبه المعدومة؛ لتحولها إلى واحة أمان وإن لم تكن واحة خضراء كما العادة في التعريف الجغرافي.
لقد كانت كذلك حين بادر أهلها الكويتيون في تغيير ملامح البيئة المحيطة بهم وهي بيئة صحراوية يغلب عليها الرعي براً والصيد بحراً في مواردها الطبيعية الأساسية، فحين كان برهم مجدباً مقفراً، تجاوزوا محنته فعبروا إلى البحر في اتجاهين:
الأول:
اتجاه رأسي حين سبروا أغواره وانتزعوا اللؤلؤ من أصداف محاره الغائرة تحت سطحه بمسافة كبيرة. وقد مثل الغوص على اللؤلؤ نموذجًا شاخصاً للسعي في كسب الرزق الذي أوجده الله تعالى في موارده على سطح الأرض وباطنها، أما في البحر ففي باطنه فقط، فغاصوا به واستخرجوا اللؤلؤ ليبيعوه إلى حواضر العالم الشرقي في ذلك الزمان، بل وصلوا إلى حواضر العالم الغربي كذلك ليبيعوه هناك( ).
الثاني:
اتجاه أفقي حين عبروا الخليج العربي وبحر العرب ومنهما إلى المحيط الهندي، فنقلوا تمور شط العرب بسفنهم الخشبية البسيطة ذات الأشرعة القماشية المتواضعة إلى أقاصي الأرض بالنسبة لهم في ذلك الوقت في رحلات خطيرة ركبوا فيها عباب البحر وقبلوا التحدي لأمواجه ولكن في حذر من أهواله، ودراسة جيدة لمواقيت هيجانه وسكونه.
والمتأمل في رواد الاتجاهين قد يظن أن البيئة المحيطة بهم كانت مليئة بالأخشاب التي صنعوا منها تلك السفن بأنواعها للغوص والسفر، لكنه يستشعر عظم التحدي حين لا يري ما يكاد يبين من أشجار ضخمة أو متوسطة الحجم، فضلاً عن غطاء أخضر يذكر.
لقد حمل هؤلاء الأخشاب على ظهور السفن واستجلبوها إلى السِّيف( ) وشادوا على جانبه العمارات( ) ليبنوا سفنهم على أيدي الأساتذة المحليين. وعن طريق ذلك أحالوا تلك البقعة المجدبة إلى رئة يتنفس بها أهل الجزيرة العربية عامة وإقليم نجد خاصة. ولقد عكس ذلك كله السبب الحقيقي لاستقرار أهل الكويت فيها فلم ينزح منهم أحد عنها. أما الماء وهو عصب الحياة فاستجلبوه أيضًا بسفنهم من شط العرب وبذلك ملؤوا الفراغ الكبير في تدني المستوى المعيشي في أرضهم الطيبة قبل ظهور النفط.
ألا يشكل ذلك كله تحديًا لمقومات الحياة وقبولاً بل تفاعلاً إيجابياً مع قضاء الله وقدره؟، ألا يمثل ذلك كله الفهم الحقيقي العفوي لمفهوم التوكل على الله تعالى والمقترن بالأخذ بالأسباب والسعي إلى الرزق الحلال ولو من بين أنياب السباع؟ وبالتالي الهروب من قدر الله تعالى إلى قدر الله، والانتقال من الواقع الضيق الذي قدَّره الله تعالى إلى الواقع الفسيح الذي قدره الله تعالى أيضاً للمجتهدين من عباده غير المستسلمين للظروف بل الذين يصنعون الظروف بقدر ما استطاعوا.
وهنا نقول * عودًا على بدء * إنهم صنعوا جزءًا مهماً من تاريخ الكويت والجزيرة العربية، ولولا فضل الله تعالى * بأن سخر لهم البحر ليأكلوا منه ويركبوه * لما تيسرت لهم مقومات الحياة، ولولا إصرارهم وإيمانهم لما استقر الكويتيون في أرض الكويت، ولما كانت الكويت أصلاً، ولما كان لنا أن نكتب أونقرأ هذه السطور.

النواخذة … من المنظور الوطني

إن المتأمل في تاريخ هؤلاء وإنجازاتهم في مجال ارتياد البحر، لابد أن تكون له وقفات وطنية جديرة بالبيان.
الوقفة الأولى:
عجبًا لأمر الخليجيين عامة والكويتيين خاصة الذين ارتادوا البحر وأبدعوا فيه رغم أن طبيعة بلادهم صحراوية تكاد تكون قاحلة جرداء، فمن أين لهم بالأخشاب ليصنعوا منها السفن الكبيرة، كالشُّوعي، والبُوم، والجَاْلبُوت، والسنبوك، والبتيل، والبْغَلَة، والبَقَّارة حتى بلغت المئات من السفن بأنواعها! كيف أحضروها ليصنعوا منها السفن في الكويت أمام عماراتهم على ساحل الخليج؟!
إنها الإرادة الكبيرة والهمة العالية، وهذه هي عزيمة الإنسان الذي سخر الله له الأرض وما عليها من دواب وجماد، سخرها له ليعمر الأرض ويكون خليفة الله فيها، كيف لا وقد ارتاد الإنسان الفضاء عندما تقدم العلم والتكنولوجيا؟
لقد صنع الكويتيون هذه السفن وعلى رأسها وأكبرها البوم السفار الذي حمل علم الكويت خفاقًا في موانئ العالم الشرقي والغربي من آسيا إلى إفريقيا مما يدل على استقلالية الكويت عن أي بلد خارجي.
الوقفة الثانية:
من الذي أوصل العراق بالعالم الخارجي من ناحية تجارة التمور؟
من الذي حمل آلاف الأطنان من التمور من شط العرب ليقوم بتسويقها في الهند وإفريقيا واليمن وعدن وعمان وسواحل الخليج سواء في رحلات السفر أو رحلات القطاعة؟
بل أين هي حضارة الستة آلاف سنة من الحركة البحرية التي يدعي بشأنها النظام العراقي عدم وجود منافذ بحرية له على الخليج العربي والبحر بشكل عام؟
لقد أبانت الحقائق كلها * بما لا يقبل الشك * حقيقة دامغة؛ أنه كان ولا يزال يمتلك ما يزيد على السبعين كيلو متراً على البحر * وهو الخليج العربي * ولديه أكثر من سبعة موانئ بحرية، ولكن العجيب أنه منذ القدم لم يكن للعراقيين من النشاط البحري ما يمكنهم من تسويق تمورهم، فقام الكويتيون بذلك، حيث كانت تخرج سفنهم خالية من الكويت لكي تحمل التمور من شط العرب ثم تتوجه بها مباشرة إلى موانئ الهند أو إفريقيا الشرقية أو سواحل اليمن وعمان أو الخليج عمومًا، فتبيعها هناك وتحمل مكانها الأرز والشاي والتوابل والسكر وجوز الهند، وغيرها بالإضافة إلى جميع أنواع الأخشاب التي تستخدم في عمارة البيوت من جهة، وفي بناء السفن من جهة أخرى.
ولقد كان الكويتيون يمارسون عملهم هذا بكل استقلالية عن العراق، فهم يدخلون موانئها كأجانب يحملون العلم الكويتي، ويقدمون إثبات هويتهم من خلال "القُول"( ) الذي يحمل تصريح السفينة وإثبات ملكيتها باسم حاكم الكويت، مع "المينافيست" الذي يحمل أسماء البحارة، وقائمة محتويات السفينة من بضاعة وتسمى "النُّول"، وقد كانت السلطات العراقية تأخذ الرسوم الجمركية منهم وتسمى "المطرحانية" وتؤخذ بموجب عدد الأطنان التي تحملها السفينة، بل كانت السفينة إذا تأخرت هناك عن المدة المقررة تأخذ عليها سلطات الميناء غرامة.
فكيف بعد هذا كله ومنذ عشرات السنين يدَّعي رأس النظام العراقي تبعية الكويت للعراق زورًا وبهتانًا وافتراءً على الناس والتاريخ والمنطق؟
ولينظر القاريء الكريم - إن شاء – ما كتبه الرحالة روبرت جيران لاندن( ) بشأن استقلالية الكويت بل وإزدهارها حيث يقول:"وفيما يتعلق بالكويت التي كانت المنفذ إلى قلب الجزيرة العربية وآسيا الوسطى فقد غدت في سنة 1900م الفردوس الجديد لما تبقى من خطوط الملاحة البعيدة المدى للأساطيل الشراعية المحلية، غير أن البواخر لم تكن ترسو فيها إلا نادراًُ".
الوقفة الثالثة:
وفيها أحد أهم أسرار النجاح في السفر الشراعي وكذلك الغوص على اللؤلؤ. لقد وفق الله تعالى الكويتيين لارتياد البحر سفراً أو غوصاً… من خلال عوامل عدة … على رأسها عامل مهم لم يلتفت إليه الكثيرون … ألا وهو نفسية البحار الكويتي الذي لولا توفيق الله إياه لما كان النوخذة، ولا كانت رحلة السفر أو رحلة الغوص.
لقد كان النوخذة يصدر الأمر * وإصداره سهل يسير * ولكن من الذي يَهِبُّ للتنفيذ دون كلل أو ملل؟ من الذين يتعاونون بكل روح طيبة وهمة عالية؟ يجيب عن هذا التساؤل النوخذة عيسى عبدالله العثمان قائلاً: إنهم البحرية (أي البحارة) وهم العزوة، فهم لنا خير عزوة… بارك الله لهم وفيهم وجزاهم عنا وعن الكويت كل خير.. فلولاهم * بعد توفيق الله * ما نجحت سفراتنا، وهم مخلصون أوفياء لم تحدث منهم أي شائنة، ولا شانت نفوسهم علينا أو على بعضهم، ولا صدرت منهم كلمة قاصرة أبدًا، تجدهم يؤثرون بعضهم ولو كان بهم خصاصة، فإذا حان وقت الصلاة توجهوا إلى الله متوكلين عليه تاركين الدنيا خلف ظهورهم، وقد استودعوا الله أهلهم وبيوتهم وأولادهم، والله لا تضيع ودائعه".
ورغم كل المغريات والخيرات في البلاد المحيطة بهذة الطواقم البحرية كالعراق وإيران واليمن والهند وغيرها من البلاد * والتي كانت فيها الأنهار والمياه والزراعة والخير العميم والرزق الوفير والمال الكثير * إلا أننا لم نسمع أن أحدهم قد ترك بلده، بل ظل بها وفيًا لأهله ووطنه متحملاً الصعاب وشظف العيش، وقد كان يسافر أحدهم إلى البحر أشهر عديدة يعود بعدها إلى الكويت ليقضي فيها عشرين يومًا على الأكثر ليستلمه نوخذة الغوص، وهكذا يظل بعيدًا عن أهله أغلب أيام العام، وقد استودع الله دينه وأمانته وخواتيم عمله واستأمنه أهله وبيته وماله وعياله متمثلاً قول الله تعالى: "... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" ( ).
الوقفة الرابعة:
وعجب كل العجب من أهل الكويت الذين كانت لديهم إرادة التحدي! أي بلدٍ هذا الذي يعيش كله وتدب الحياة بأوصاله دون ماء يتدفق من أراضيه؟ ولا محطات تحلية لماء البحر، حيث لا بترول ولا كهرباء؟
لقد وصل الكويتيون بسفنهم إلى شط العرب ليحضروا الماء إلى الكويت ثم يوزعوه على الكندر( ) والدواب إلى البيوت بيتًا بيتًا فيرتوي الناس ويطعمون ويأكلون ويشربون.
عجبًا لهذه الإرادة التي هم معذورون منها.. فلو نزحوا إلى الماء كما نزحت قبائل بأسرها وشعوب بأكملها طوال العصور على امتداد التاريخ لما عتب عليهم التاريخ، فهي سنة كونية وحركة مشروعة طلبًا للرزق والكلأ أو مقومات الحياة في غياب البترول، ولكنهم جلبوا أهم مقومات الحياة وهو الماء من مسافات بعيدة.
الوقفة الخامسة:
لن يفهم أحدٌ قولاً للمولى عز وجل في كتابه الكريم * كما ينبغي الفهم * ويحسه * كما يجب الإحساس * إلا من عايش هذا القول وأحسَّه بنفسه، وهو ما يحصل مع النوخذة والبحارة على ظهر السفينة حين تشتد الأزمات وتضربهم الأعاصير ويهاجمهم الطوفان، ومن ذلك قول الله تعالى في سورة النور: "أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ"( ).
نعم عاش البحارة الكويتيون والخليجيون هذه الآية الكريمة فعلاً، حين كانت تدلهمُّ على أحدهم خطوب البحر وصروف أعاصيره، فلا يكاد يرى يده ولو كان في وضح النهار حيث تغيب الشمس وراء الغيوم المتلبدة والأمطار المتراكمة، والأمواج المتلاطمة… وكم ابتلعت هذه الأمواج من رجالات؟ وهذه طبعة النوخذة بلال الصقر خير شاهد، وطبعة عبدالكريم ولد غيث تنطق، وطبعة بهمن تتكلم، وطبعة بوقماز تتحدث، وضربة الغواصة لابن جارالله في عرض المحيط الهندي بالغِبَّة( ) تنبئ بالخطر البشري، فضلاً عن الأخطار الطبيعية.
وصدق أجدادنا حين وصفوا البحر قائلين "داخله مفقود وطالعه مالود" أي مولود.
الوقفة السادسة:
لقد اعتمدت الكويت بشكل أساسي في حركتها التجارية على نواخذة السفر الشراعي - فضلاً عن نواخذة الغوص على اللؤلؤ – حيث كانوا هم الذين يشكلون القصبة الهوائية الموصلة إلى الرئتين اللتين كانت تتنفس بهما الكويت، ألا وهما حركتي السفر الشراعي والغوص على اللؤلؤ.
وقد كانوا سر نجاح التجارة الكويتية بما حققوه من قيادة حكيمة للسفن الشراعية التي كانت تمثل الأداة الوحيدة المتيسرة في ذلك الوقت لنقل البضائع من الكويت وإليها.
كما كانوا الداعمين الرئيسيين لمصروفات الحكومة الكويتية في شؤونها الداخلية والخارجية مثل شؤون الأمن والدفاع وبناء المدارس والمساجد وإغاثة المنكوبين.
خواطر كثيرة تجيش في الخاطر غير أني اختصرتها بتقديم أبرزها في المواقف الستة آنفة الذكر، وهي تشمل وقفات ذات طابع وطني، لا يملك من يتصفح التاريخ البحري للكويت ورجالاتها إلا أن يتوقف أمامها إجلالاً وإكباراً.






لماذا نواخذة السفر الشراعي؟

عزيزي القارئ:
سردنا فيما مضى ما تيسرعن نواخذة السفر الشراعي في تاريخ الكويت، وفيما أجملناه من الحديث مدخل طبيعي للحديث عن نواخذة السفر الشراعي من عائلة العثمان الكريمة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه قبل المضي قدمًا في التفصيل في هذا الموضوع هو: لقد كان هذا الحديث كله عن نواخذة السفر الشراعي، فماذا عن نواخذة الغوص(1) ونواخذة سفر القطاعة(2) ونواخذة الماي(3)؟ ألا يستحقون الحديث عنهم وهم جزء من الكفاءات البحرية الكويتية التي ساهمت في صنع التاريخ الكويتي الحديث؟
والإجابة عن هذا التساؤل الوجيه واضحة المعالم، ومعالمها تتضح فيما يلي:
أولاً:
عدد نواخذة السفر الشراعي محدد واضح يمكن حصره، وبالتالي الحديث عنه، ومن ثم الشعور بالرضا النسبي عن مدى تغطية الحديث عن معظم أفراد الشريحة المعنية بالحديث والذكر.
أما النواخذة من الشرائح الثلاث الأخرى المذكورة فعددهم بالمئات * إن لم يكن بالآلاف * وهو عدد يعجز الإمكان عن حصره.
ثانياً:
هناك فارق زمني معتبر بين اندثار مهنة السفر واندثار مهنة الغوص على اللؤلؤ التي اضمحلت بشكل قسري حين ظهر اللؤلؤ الصناعي في اليابان فكسد اللؤلؤ الطبيعي، وانقطعت بشكل حاد رحلات الغوص على اللؤلؤ منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم وكذلك بالنسبة لسفن الماء التي سرعان ما تم الاستغناء عنها حين تيسرت عملية تحلية المياه كمنتج جانبي بعد ظهور البترول في النصف الثاني من الثلاثينيات.
وبالمقابل استمر السفر الشراعي بعد ذلك رغم ظهور السفن البخارية التجارية ووصولها إلى المنطقة لأنها كانت كلها تستخدم في تسيير الشؤون العسكرية إبَّان الحرب العالمية الثانية، ولم يتم السماح لها بالنقل التجاري إلا في النصف الثاني من الأربعينيات بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها، ومن ثم خف الطلب * الذي كان في أوجه * على السفن الشراعية الكويتيية شبه المتفردة بالنقل التجاري البحري في الخليج آنذاك.
إن هذا الفارق الزمني قد جعل من الأيسر إدراك بعض الجهود التوثيقية لكبار السن لننقل عنهم ما عايشوه أو أدركوه بالنسبة للسفر الشراعي.
ثالثًا:
الاختلاف في طبيعة المهن بين نواخذة السفر الشراعي والنواخذة الآخرين، وخصوصاً في طول المسافات التي يجب أن يقطعها كل منهم، إذ تقتصر المسافات التي يقطعها نوخذة الغوص في الغالب على مغاصات بحر العدان شمال الخليج العربي، وتتحدد المسافة التي يقطعها النوخذة في سفن الماء في المسافة بين جون الكويت وشط العرب، وكذلك الحال بالنسبة لسفن القطاعة التي تصل إلى موانئ الخليج العربي كالبحرين وقطر وعمان في أبعد تقدير حيث التيارات المائية والهوائية المعروفة المحددة.
أما نوخذة السفر الشراعي فعليه أن يقطع المحيط الهندي شرقًا باتجاه الهند أو غربا باتجاه سواحل إفريقيا، والمحيط الهندي من الضخامة بمكان عمقًا واتساعًا بشكل يحار فيه أحذق ربان وأفضل نوخذة.
إنه ثاني أكبر محيط على سطح الكرة الأرضية، ومن ركبه علم ما فيه من الأخطار والأهوال حيث تختفي اليابسة وتنقطع الجزر، ولا تُرى فيه آثار الحياة كما تُرى على اليابسة.
حتى طائر النورس الذي يستبشر به البحَّار المنقطع عن اليابسة إذا ما رآه * لأنه يدل على وجود اليابسة بأي شكل من الأشكال * قد اختفى هو الآخر فلا يكاد يبين.
لذا سماه الكويتيون الغبة (بكسر الغين وفتح الباء وتشديدها)، لأن معنى الغبة في اللغة العربية يوحي بالانقطاع والغياب، وهكذا ينقطع من يدخل المحيط الهندي ردحًا من الزمن حتى يهتدي بفضل الله وتوفيقه إلى برالأمان رغم الأمواج العالية والرياح العاتية، وقد توكل على الله تعالى، ثم اعتمد فقط على استهدائه بالنجوم ومطالعها ليلاً وبالشمس وحركتها نهاراً.
وعودًا على بدء، نقول: إن النواخذة الآخرين ممن عملوا في الغوص وسفر القطاعة وجلب الماء من الذين بذلوا جهودًا كبيرة قد ساهموا بذلك في صنع تاريخ الكويت الحديث، وخصوصاً في القرنين الأخيرين من الألفية الثانية.
ونتمنى أن يتصدى لسيرهم الحسنة باحثون في التراث البحري الكويتي كأمثال الباحث المجتهد الأخ الفاضل د. يعقوب يوسف جاسم الحجي الذي سخَّر جهوده البحثية في تقصي أخبار من استطاع الوصول إليه أو إلى معارفه من نواخذة السفر الشراعي في كتابه القيم " نواخذة السفر الشراعي في الكويت والخليج العربي".
ولعله من المناسب في هذا المقام أن نشير إلى جهود طيبة أوردت نبذة مختصرة عن بعض نواخذة الغوص الكويتيين ولكنها لم تشمل معشار عددهم الحقيقي لضخامته، ولكن الشكر واجب لكل من يتصدى لهذا الموضوع.
فالشكر موصول للأخ الفاضل الأستاذ عادل محمد العبد المغني الذي تحدث عن بعض نواخذة الغوص في كتابه: "نواخذة الغوص والسفر في الكويت"، وكذلك للأخ الفاضل الأستاذ طلال الرميضي الذي تحدث عن نواخذة الغوص من قبيلة العوازم في كتابه: "أعلام الغوص عند العوازم خلال قرن (1850 * 1950م) بإمارة الكويت".












أسطول الكويت البحري

لقد تحدثنا آنفًا عن تاريخ من صنع الكويت من نواخذة السفر الشراعي في الكويت، وقد سلطنا الضوء بشكل ضمني على الوسيلة التي صنع بها هؤلاء النواخذة تاريخ الكويت، ألا وهي الأسطول البحري الذي جاب الشرق والغرب والشمال والجنوب دون سابق تدريب متميز.
ولكن لكي نقف * عزيزي القارئ * على ضخامة ورصانة ذلك الأسطول تاريخيًا وواقعياً، دعنا نستثمر الجهود الرائعة في حصر الخلفية التاريخية للموضوع والتي جادت بها الكتابات الرائعة لكل من د. يعقوب يوسف الحجي الباحث في التراث البحري الكويتي، والباحثيْن الأكاديمييْن أ.د نجاة عبدالقادر الجاسم والمرحوم أ.د بدر الدين عباس الخصوصي في الكتابيْن الرائعيْن: "صناعة السفن الشراعية في الكويت"( ). و"تاريخ صناعة السفن في الكويت وأنشطتها المختلفة"( ) على الترتيب.
نشأة الأسطول البحري الكويتي
وصل العتوب إلى القرين فوجدوها بيئة بحرية صغيرة يتمركز أهلها حول الكوت الذي أنشأه ابن عريعر، فسكنوها وارتبطت حياتهم بالبحر أسوة بسكان القرين الأصليين. ولم يكن ذلك بالأمر الصعب عليهم، إذ إن خبرات العتوب البحرية مكنتهم من الاندماج في ذلك المحيط، فأصبحوا يمارسون الصيد والغوص وربما صناعة السفن كذلك.
وحين ضعف نفوذ بني خالد استطاع العتوب الاستقلال بالقرين، وأصبحوا حكامًا عليها. ففي عام 1756م يذكر كبنهاوزن، المسؤول عن مكتب شركة الهند الشرقية الهولندية في جزيرة خرج الإيرانية، أن العتوب كانوا تحت حكم عدة شيوخ، وذكر منهم مبارك بن صباح ومحمد آل خليفة( ).
كما ذكر أن العتوب كانوا يمتلكون 300 سفينة، ولكنها كانت سفنًا صغيرة للغوص على اللؤلؤ وصيد الأسماك (وربما للنقل بين الموانئ داخل الخليج). كما ذكر أنه يمكن تجنيد 4000 رجل مسلح منهم، وأنهم لا يبحرون بسفنهم هذه إلى أبعد من مغاصات اللؤلؤ الموجودة بالقرب من البحرين، أي أن هؤلاء العتوب ومن كان موجودًا قبلهم في القرين، لم يكونوا يبحرون للهند بعد.
كذلك كانت القرين محطة للقوافل التجارية الحاملة للبضاعة وللبريد من الهند إلى حلب. وقد زار الرحالة نيبور ميناء بوشهر الإيراني عام 1765م، وجمع الكثير من المعلومات عن القرين، فذكر أن عدد سكانها كان حوالي 10 آلاف نسمة، وأنهم يمتلكون حوالي 800 سفينة( ) للغوص على اللؤلؤ وصيد الأسماك.
وفي عام 1764م حين حكم الكويت الشيخ عبدالله ابن صباح الأول، دخل الكويتيون أول معركة حربية بحرية في تاريخهم، تلك هي واقعة الرقة، حيث أودع الكويتيون "نساءهم وأموالهم في سفن وساروا بسفن أخرى لمقابلة عدوهم"( ). ولقد كان لمعرفة أهل الكويت بطبيعة البحر من حولهم وصغر سفنهم وكفاءتها أكبر الأثر في انتصارهم على بني كعب.
وما إن أطل القرن التاسع عشر وأصبحت الكويت تحت حكم الشيخ جابر الأول (جابر العيش) الذي زادت التجارة في عهده ازدهارًا، حتى تبنى صناع السفن الكويتيون صنع "البغلة" و"البتيل" للنقل التجاري، فكانت تلك نقطة تحولٍ كبيرٍ في قدراتهم البحرية والتجارية، حيث استطاعوا الوصول بهذه السفن إلى سواحل الهند واليمن لنقل البضائع منها وإليها دونما حاجة إلى الاعتماد على ميناء مسقط كوسيط تجاري.
ففي عام 1816م وصف الرحالة الإنجليزي بكنجهام ميناء الكويت بأنه ميناء "عظيم"، وذكر أن تجارها يتعاملون مع غيرهم من أمم الخليج، وأن بحارة الكويت مهرة وشجعان. أما سفنهم فقد قاربت مائة سفينة ما بين كبيرة وصغيرة. كما ذكر بكنجام أن تجارة نقل الخيول العربية الأصلية عن طريق السفن إلى الهند كانت تجارة رائجة في الكويت آنذاك.
وأما القبطان بروكس فيقول في تقريره عام 1829م: "إن الكويت كانت الممول الرئيس لشمال ووسط نجد بالقمح وبالقهوة وبالمنتجات الضرورية الأخرى، وأن لديها 15 سفينة من نوع البغلة حمولتها ما بين 100 إلى 400 طن، إضافة إلى العديد من السفن الأخرى المستخدمة في الغوص وفي صيد الأسماك، والتي بلغ عددها آنذاك حوالي 170 سفينة"( ).
كما ذكر أن الكويت تصدر اللؤلؤ والخيول والسمن الطبيعي، وأن سفنها كانت تصل إلى موانئ الهند والبحر الأحمر.
وأما الرحالة ستوكويلر فقد زار الكويت عام 1831م، حيث وصل إليها من الهند على متن سفينة كويتية من نوع البغلة، بلغت حمولتها حوالي 375 طنًا، وذكر أن عدد بحارتها قارب الخمسين بحاراً، مما يدل على ضخامة مثل هذا النوع من السفن آنذاك، والتي كانت تستخدم لنقل الخيول والتمور إلى الهند، وتعود محملة بالأخشاب الهندية( ).
حجم الأسطول البحري الكويتي
في عام 1841م زار الكويت القبطان هنل، ووصف المدينة بأنها "تمثل حالة من الازدهار الاجتماعي، وأن عدد سكانها قارب 25 ألف نسمة، وأنهم كانوا يمتلكون من السفن حوالي 30 بغلة وبتيلا تستخدم في التجارة باستمرار مع الهند، إضافة إلى حوالي 30 سفينة، متوسطة الحجم تستخدم في حرفة النقل داخل الخليج (القطاعة) وحوالي 350 سفينة صغيرة للغوص على اللؤلؤ"( ).
وكان قد سبقه إلى زيارتها الكويت الكولونيل الإنجليزي "پلي" وذلك في عام 1836م، وذكر أن السفن الصغيرة كانت تقوم بنقل البضائع من مواني الخليج الشمالية إلى الكويت حيث تقوم سفن الكويت الكبيرة من نوع البغلة بنقلها إلى الهند، وذكر أن التمر كان أحد الصادرات التي كانت تنقلها سفن الكويت إلى الهند.
ويبدو أن السفن الكويتية من نوع البغلة كانت من الكبر بحيث لم يكن باستطاعتها دخول شط العرب والخروج منه بسهولة وهي محملة بالبضاعة، لذا كانت تنزل البضاعة التى تجلبها من الهند في الكويت لكي تقوم السفن الصغيرة بنقلها إلى موانئ الخليج الشمالية. وأما عن بحارة الكويت فقد ذكر پلي أنهم حوالي 4 آلاف بحار، وأثنى على سمعتهم الطيبة وعلى مهارتهم.
كما ذكر في تقرير آخر عام 1866م "أن هناك حركة في الكويت كبيرة لنقل المتاجر أو ربما كان سكانها الكويتيون أكثر سكان الخليج براعة في صناعة السفن والقوارب".
كما أثنى الرحالة بلجريف عام 1862م على بحارة الكويت، وذكر أن لهم الصدارة بين شعوب الخليج من حيث مهارتهم وجسارتهم والسمعة الطيبة التي يتحلون بها. وأثنى على ميناء الكويت وعلى طقسها الصحي، وذكر أن هناك المئات من السفن الصغيرة التي تزور هذا الميناء.
وفي أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حصل تطور مهم في صناعة السفن الكويتية، حيث صمم صناع السفن الكويتيون البوم كسفينة نقل بدلاً من البغلة، وقد أثبت أنه أفضل من البغلة في قدراته الملاحية. غير أن البوم في ذلك الوقت لم يكن ليداني البغلة من حيث حجمها، بل كان سفينة نقل متوسطة الحجم لا تزيد حمولتها على 150 طناً.
ويؤكد الرحالة روبرت جيران لاندن في كتابه "عمان منذ 1856 مسيراً ومصيراً"( ) أن الكويت أصبحت في عام 1900م أهم مركز لبناء السفن في الخليج.
ولكن ما إن أطل القرن العشرون وحكم الكويت الشيخ مبارك الصباح حتى ازدهرت تجارة الكويت، وازداد عدد سفن الكويت التي تبحر إلى موانئ تنزانيا على الساحل الإفريقي الشرقي. كما ازدهرت حرفة الغوص على اللؤلؤ كذلك، وصارت هذه الحرفة تجتذب إليها الأيدي العاملة من الكويت وباديتها ومن خارج الكويت وسائر موانئ الخليج واليمن وعمان. وكل هذا ساعد صناعة السفن في الكويت على التوسع والازدهار.
ففي عام 1914م * بعد نشوب الحرب العالمية الأولي * بدأ صناع السفن في الكويت صنع سفن كبيرة من نوع البوم السفّار لكي تحل محل البغلة في النقل الشراعي الكويتي، كما تم صنع بوم الماء، وهي سفن من نوع البوم مخصصة لنقل الماء العذب من شط العرب إلى الكويت بعد أن أصبحت مصادر المياه المحلية في الكويت لا تفي بحاجة السكان فيها.
ولقد كان للجهود التي بذلها الشيخ مبارك لحماية الكويت وأهلها وتجارتها أكبر الأثر في ازدهارها وفي هجرة العديد من العائلات من نجد ومن سائر موانئ الخليج إليها. كما هاجر إليها كذلك العديد من صناع السفن الخليجيين الذين سكنوا الكويت وعملوا في صنع السفن بها، وعرفوا بالبحارنة نظرًا لهجرة الكثيرين منهم من البحرين إلى ميناء الكويت، كما جاء بعضهم من ميناء مسقط ومن ميناء لنجة وميناء الجسم كذلك. ولقد بلغ عدد السفن في الكويت (ما بين كويتية وغير كويتية) في عام 1910م ما يقارب 3350 سفينة.
وفي عام 1918م بلغ عدد سكان الكويت حوالي 85 ألف نسمة، كما بلغ عدد السفن فيها عام 1920م حوالي 900 سفينة، منها 200 سفينة للنقل البحري و700 للغوص على اللؤلؤ، بالإضافة إلى سفن نقل الماء وصيد الأسماك. ولقد استمرت صناعة السفن على الرغم من توقف التجارة مع بادية نجد (في حوالي العام 1920) ولكنها لم تكن بالسفن الكثيرة أو الكبيرة الحجم.
ومن الجدير بالذكر ونحن نسوق الروايات الموثقة للرحالة الأجانب أننا قمنا بتوثيقها كما جاءت دون القيام بدراسة تحليلية مقارنة بين المعلومات الواردة فيها وخصوصاً ما يتعلق بأعدادها وأنواعها، وليس هذا هدف حديثنا في هذا الكتاب بل تبيان ضخامة الأسطول الكويتي القديم فحسب.
تدهور صناعة السفن في الكويت
في أواسط العقد الرابع من القرن العشرين اكتشف اليابانيون اللؤلؤ الصناعي، وسهولة تحضيره، فأدى ذلك إلى كساد حرفة الغوص على اللؤلؤ، وبالتالي قلة الطلب على سفن الغوص.
وبعد ذلك قامت الحرب العالمية الثانية، وازدادت حرفة الغوص تدهورًا، كما مُنعت البواخر من إحضار المؤن والبضائع إلى الخليج، واستمر الطلب على صنع السفن في الكويت نظرًا لقيام هذه السفن بنقل البضائع الاستهلاكية بدلاً من البواخر.
كما شارك صناع السفن الكويتيون في جهود الحلفاء عن طريق صنع العشرات من السفن (الدوب) التي استخدمت في المجهود الحربي في الخليج وشط العرب.
ولكن السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية قد أذنت بتدهور مستمر ليس لحرفة الغوص على اللؤلؤ فقط، بل لحرفة نقل البضائع كذلك من الهند وإفريقيا وإليهما نظرًا لاكتشاف البترول في الكويت، وتوقف البحارة الكويتيين عن السفر على السفن الشراعية، وهذا أثر بدوره في صناعة السفن الشراعية في الكويت.
ففي عام 1950م لم تبحر سوى 50 سفينة شراعية كويتية إلى الهند إضافة إلى حوالي 14 سفينة ذات محرك (لنجات)، حتى إذا ما أطلت الستينيات من هذا القرن، توقف النقل الشراعي التجاري الكويتي بعد كل تلك السنوات من العمل المستمر.
ولولا استمرار حرفة صيد الأسماك وإدخال المحركات في السفن التي تقوم بها، لما استمرت صناعة السفن في الكويت حتى اليوم، ولانقرضت منذ زمن طويل.
تميز السفن الكويتية
كان هذا عن الأسطول البحري الكويتي، ولكن ماذا عن تميز الكويتيين وتفوقهم في صناعة السفن؟ لنستمع إلى الأخت الفاضلة أ.د. نجاة عبدالقادر الجاسم وزميلها المرحوم أ.د. بدر الدين عباس الخصوصي يقولان في كتابهما "تاريخ صنع السفن في الكويت وأنشطتها المختلفة":
"اشتهر الكويتيون بصناعة السفن، فحذقوا فنونها وأتقنوا صنعها وعدلوا من طُرُزِها المألوفة، واهتدوا إلى طُرز أخرى ثبتت صلاحيتها وفعاليتها لعبور البحار والمحيطات، وصاروا يزودون بها غيرهم من سكان المناطق الأخرى".
وقد أثنى الرحالة الأوروبيون( ) ممن زاروا الكويت ومنطقة شبه الجزيرة العربية * في الماضي * على مهارة الكويتيين ونبوغهم في فن صناعة السفن، وأشادوا بشهرة الكويت في هذا المجال، فقد نوه الرحالة الدانماركي "كارستن نيبور" بالكويت خلال زيارته لها عام 1765م، وأشاد بمهارة الكويتيين البحرية الذين يملكون ثمانمائة سفينة ويعيشون على التجارة وصيد الأسماك والغوص على اللؤلؤ.
وعقب ذلك بنحو مائة عام أكد "وليام بالجريف" عام 1862م ما قاله "نيبور" عندما ذكر أن مرفأ الكويت يعد من أكبر المرافئ حيث يجتذب إليه مئات من السفن، كما أثنى على مهارة البحارة الكويتيين وإقدامهم، وأشار إلى المكانة الرفيعة التى يتبوؤونها بين بحارة الخليج.
كما تحدث "ديكسون" الوكيل السياسي البريطاني في الكويت عن شهرة الكويت البحرية، فأكد أن أحسن قوارب الخليج تبنى فيها، وأشاد "آلان فاليارس" بالكويت وبشهرتها البحرية عندما زارها عام 1939م، حيث قال )
".. إن واجهتها (البحرية) من أبدع ما تقع عليه العين في الدنيا، وهي تمتد على مسافة ميلين مكونة ورشة كبرى لصنع مراكب النقل الشراعية. فعلى طول هذه الواجهة (البحرية) الممتدة على الساحل .. من مقر المعتمد البريطاني شرقًا إلى المستشفى الأمريكي غربًا، من طرف السور إلى طرفه الآخر، تزدحم السفن الشراعية الكبرى والصغرى.. فتراها واقفة جنبًا إلى جنب على الشاطئ، وفي عرض السيف، وفي الماء في صفوف طويلة يحتوى كل منها على ست سفن أو ثمانٍ، وراء الحواجز المشيدة بالحجارة وهي تواجه البحر..جاثمة على قواعدها الطويلة، سكاناتها غير منزلة ومتونها مكسوة بالحصر".
وعلى الرغم ".. من أن سفناً كثيرة قد عادت بعد رحلاتها الطويلة رأينا مائة سفينة كويتية راسية في مواقفها .. وقد دعمت بالأوتاد وجذوع الأشجار الهندية، وأنزلت عددها إلى الشاطئ، ورأينا سفنًا أخرى تنزل إلى البحر، وسفنًا غيرها تجهز في المرسى استعدادًا لإنزالها إلى الماء، وقوارب طويلة مزدحمة بالبحارة تسحب وراءها زوارق محملة بالحبال للحواجز، وللمراسي المدفونة في الرمال المراد سحبها إلى مواقفها .. سفن في كل مكان بين كبيرة وصغيرة، وعتيقة وجديدة، نشط معظم بحارتها.. إلى أعمالهم المختلفة في حركة لا تهدأ وتيار لا ينقطع..".
أما P.E. Case فقد أفاض الحديث في مقالة له بعنوان( ): "Boom Time in kuwait" عن مهارة الكويتيين البحرية، ومقدرتهم الفائقة في هذا المجال حيث يقول:
".. ومن بين الخليج .. والمياه المحيطة به يشتهر بحارة الكويت بالجرأة والمهارة، كما أن صانعي السفن الكويتيين أعظم الناس خبرة في الخليج، إذ يظلون مشغولين في صنع السفن الحديثة وإصلاح السفن القديمة التي تستخدم لصيد اللؤلؤ والسمك والتجارة ..".
ويشيد عيسى القطامي( ) بتفوق الكويتيين في صناعة السفن، فيذكر أنهم أجادوا هذه الصناعة بالممارسة الطويلة حتى أصبحوا من أمهر الصناع نظرًا للسفن التي كانوا يصنعونها والتي اشتهرت بمتانتها وجودتها للملاحة.
ولقد تميز النواخذة الكويتيون بالإستعانة بأحدث ما توفر في عصرهم من أجهزة ومعدات بحرية لتسهيل مهمتهم في عبور البحار والمحيطات.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن الحديث عن الأسطول البحري الكويتي لا يستقيم بحال من الأحوال دون أن نذكر من أحياه من القوى البشرية المحركة له.
ولئن تكلمنا عن النواخذة في مواضع أخرى في هذا الكتاب وهو موضوع الكتاب على كل حال، إلا إننا لا نكتفي بذلك، بل نسوق الحديث عن النظام الدقيق الذي كان يعمل به البحارة (البحرية)( ) الذين أشرنا إلى إخلاصهم وولائهم. إذ لم تكن الأحداث تتوالى على ظهر السفينة عبثاً أو حيثما اتفق، بل كانت وفق نظام مبرمج دقيق يسير بشكل يومي مرتب معروف لا يحيد عنه أحد إلا وقت الضرورة حين يستلزم الوضع في عرض البحر الخروج عن هذا البرنامج، فيصدر النوخذة أوامره على غير العادة، تكيفاً مع التغيرات الجوية أو البحرية وتسمي هذه الأوامر "الأمَّاريَّات".
ولقد لخصت هذا النظام اليومي الدقيق كما رواه لي كل من:
العم سليمان فهد البلوشى (بو سعد)
والعم يعقوب خالد الشطي (بو خالد)
وكلاهما من بحارة السفر الشراعي .. وذلك فيما يلي:
أولاً: يصلي البحارة صلاة الفجر جماعة، وبعد الصلاة والتسبيح يتناولون طعام الإفطار، تيمناً ببركة البكور التي جاءت في دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا، قَالَ وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، قَالَ وَكَانَ صَخْرٌ( ) رَجُلا تَاجِرًا فَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ"( ).
ثانياً: وبعد الصلاة والإفطار يصيح المجدمى "يَمَّه".
(واليمَّةُ هي عملية نزح المياه المتسربة إلى جوف السفينة ويتم نزحها كل صباح ومساء تخفيفاً عن السفينة) ولا عجب أن تتجمع المياه في جوف السفينة فهي مصنوعة من الأخشاب المتداخلة والمسمرة بمسامير ضخمة، ولذلك قد تتسرب كميات بسيطة من المياه إلى جوف السفينة، ولا يعتبر ذلك عيباً في السفينة إلا إذا اتسع الخرق على الراقع بزيادة الماء المتسربة إلى جوفها.
ثالثاً: فإذا جف الماء المنزوح صاح صائحهم قائلاً "ارفع"، أي كفى فقد انتهى الماء، وهنا يكون المجدمي قد أعد الحبال لتجهيزها وصيانتها وغزل الجديد منها؛ استعداداً لتوفير الحبال الاحتياطية في السفينة والتي تنفع للموسم القادم كذلك.
رابعاً: يستمر العمل في الحبال حتى صلاة الظهر، ولا يوقف ذلك * كما أسلفنا * إلا الأمَّارية فإذا صلى البحارة الظهر وانتهوا من التسبيح وصلاة السنة صاح المجدمي قائلاً: "أنجب"( ) أي ياطباخ ضع الغداء.
خامساً: بعد الغداء تبدأ الراحة اليومية التي يستغلها الأكثرية في نوم الظهيرة "القيلولة" والتي تنتهي مع رفع النداء لصلاة العصر.
سادساً: يصلي البحارة العصر جماعة ثم تبدأ الفترة الحرة، حيث يبدأ كل منهم في قضاء حاجاته الخاصة من غسل ملابسه أو حياكة الخوص الذي جلبه من البصرة بغرض إنتاج السفرة وما شاكلها لكي يبيعها في أقرب بندر تطرح فيه السفينة لحسابه الخاص.
سابعاً: يصلي البحارة المغرب بعدما يجنّ الليل على سطح السفينة، ثم يتناولون طعام العشاء ويتجاذبون أطراف الحديث و"السوالف" حتى صلاة العشاء.
ثامناً: وبعد صلاة العشاء والسنة والوتر يصيح المجدمي مرة أخرى "يَمَّه" فينزل الجميع متعاونين يداً واحدة لنزح الماء المتجمع في قاع السفينة حتى يصيح قائلهم "ارفع".
تاسعاً: ينقسم البحارة هنا إلى نصفين: النصف الأول ينام والنصف الآخر يظل يقظاً منتظراً الأمّاريات وهي * كما سبق ان عرفنا * الأوامر التي تصدر عن النوخذة أو نوخذة الشراع أو المجدمي تجاوباً مع أي متغير ينبغي أن يُحسَب حسابه.
وفي النصف الثاني من الليل يتم تبديل المناوبات فيصحو الفريق الأول وينام الفريق الثاني .. وهكذا يتم تغيير المناوبات في أول الليل وآخره كل فترة مناسبة يتفق عليها البحارة بإشراف المجدمي.




رد مع اقتباس