من تاريخ الاوبئة في الكويت وجاراتها
(جريدة عالم اليوم 25/8/2007م)
من تاريخ الاوبئة في الكويت وجاراتها
بقلم/ أحمد البشر الرومي
قبل ان يعرف اللقاح الواقي ضد الأوبئة السارية الفتاكة - وعلى الأخص الطاعون- كان سكان كل قطر من الأقطار معرضين في كل لحظة الى ما يشبه الفناء التام من جراء انتشار الوباء الذي لا يقاوم ولا يصد.
ولقد كان الرعب والذهول الذي يستولي على الناس في اثناء حدوث أول اصابة بالطاعون في ذلك الزمان ما لا يستطيع ان يتصوره انسان هذا اليوم.
ذلك لان الناس اليوم لم يشهدوا مأساة إنسانية من هذا النوع، إذا استثنينا وباء الانفلونزا في اعقاب الحرب العالمية الأولى، ذلك الوباء الذي أهلك الحرث والنسل مع انه لم يكن شيئاً بالنسبة الى ما كان قبله، ولم تكن الأوبئة المروعة منذ عام -1270- هـ نادرة الوقوع، بل كانت تحدث كل بضعة أعوام تقريباً، وليس ما عرفناه منها هو كل ما حدث.
بل ان هنالك الشيء الكثير مما يسجله التاريخ ولم تنقله الرواة الينا، فالمؤرخون في خلال الثلاثمائة سنة الماضية كانوا قلة، والعجيب ان علماء وأدباء هذه الحقبة ألفوا كتباً لا تعد ولا تحصى في الدين وفي فنون الشعر والأدب، إلا التاريخ فانهم لم يهتموا بتدوينه وكتابته، وما وقع منه تحت أيدينا إلا النزر القليل الذي لا يفي بالغرض، وكل ما كتب في تاريخ هذه الفترة، إنما دون اخبار البلاد المجاورة- «أما الكويت خاصة فانه لم يؤلف ولم يكتب أي تاريخ في أي نوع من الأحداث».
أما ما نسمعه عن ألسنة الشيوخ والعجائز من حوادث واخبار فقد استحالت بمرور الزمن الى ما يشبه الاساطير والخرافات، مما جعل من الصعب على المؤرخ استخلاص الحقيقة منها، ولذلك فانه لا يمكن للمؤرخ ان يعتمد فيما يكتبه على ما يرويه أولئك الرواة عن أي موضوع تاريخي مر عليه أكثر من قرن.
ولهذا فاننا سنعمد فيما نكتب عن موضوع «الطاعون في الكويت عام 1247هـ 1831م "على ما كتبه مؤرخو البلاد المجاورة في ذلك الزمان، ثم نضيف اليه ما نعلمه وما نستخلصه من الروايات عما حل بالكويت في اثناء انتقال هذا الوباء إليها.
لم يكن طاعون 1247هـ 1831م هو الوباء الذي فتك بالناس بل سبقته عدة أوبئة وأعقبته أخرى.
وكل هذه الأوبئة السارية تنتقل بسرعة من قطر الى قطر حاملة الفزع والموت وإذا علمنا أنه ليس هناك أية وقاية معروفة او علاج علمي في ذلك الزمن جزمنا بأن اكثر هذه الأمراض لم يتخط الكويت وان لم يذكر التاريخ شيئاً من هذا.
فالكويت ذات صلة قوية بالعراق وخصوصاً ثغر البصرة حيث كانت السفن الكويتية والبصرية تتردد بين الطرفين في كل يوم فالكويت في ذلك الحين كانت تجلب من البصرة اكثر حاجياتها كالرز «الشلب» والتمر وجذوع النخل والفواكه بأنواعها وسعف النخيل واشياء كثيرة يصعب حصرها،
والقوافل بين الكويت ونجد لا تنقطع طوال السنة، ففي كل يوم تصل قافلة وتغادر قافلة أخرى، واذاً فمن غير المعقول ان تكون الكويت في نجوة من كل هذه الأوبئة فاذا قلنا ان الكويت عانت الويلات من هذه الأوبئة وافنت اكثر سكانها على دفعات لم نكن بعيدين عن الصواب واذا علمنا ان اكثر احياء المدينة اليوم كانت مقابر سابقاً كما شاهدناه اثناء حفريات البلدية التي قامت بها لشق طريق السيول،
وما يرويه الشيوخ والعجائز عن بعض احياء كانت مقابر سابقاً، وما تخلف من بقايا القبور التي كانت في بعض الساحات «البرايح» تأكدنا من ان جميع احياء المدينة كانت مقابر عدا قسم صغير منها هو محلة «الشيوخ» ومحلة «السعود».
ذلك لأن مساحات تلك المقابر المعروفة في البلد لاتتناسب مع صغر المدينة في ذلك الحين فالكويت لم تكن مدينة بالمعنى الصحيح قبل سنة 1270هـ، بل كانت قبل ذلك اشبه بالقرية الكبيرة منها بالمدينة.
اما الطاعون عام 1247 هـ 1831هـ فكان من افظع ما عرفه العراقيون والكويتيون والنجديون حيث كان وباءً كاسحاً أفنى اكثر سكان هذه المناطق تقريباً.
ظهرت اولى الاصابات في هذا الطاعون في مدينة «بتبريز» احدى مقاطعات ايران، ولنترك جعفر الخياط يقص علينا حوادث هذا الوباء في العراق في ترجمته لكتاب اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث قال:
«وصلت الى بغداد في يوليو 1830م اشاعت عن تفشي الطاعون في تبريز وبعد شهرين تحقق تأثيره المروع وسرى شره الى كركوك وقد حدث فيها عدة اصابات طاعونية. وتواردت اليها شتى الانباء عن تقدم الطاعون نحوها فقد جاوز كركوك وأخذ يعيث بالسليمانية وعلى هذا احضر طبيب المقيمة الانكليزية في بغداد تعليمات كاملة لتنفيذ الحجر الصحي.
وذلك بعد أن طلب اليه ذلك الوالي بنفسه، غير ان التأثيرات الرجعية التي أفتت بأن كل عمل يتخذ للحيطة يعد ضرباً من الزندقة حالت دون تنفيذ اتخاذ معظم الاحتياطات، وإذن للقوافل الواردة من الاصقاع التي حلّ فيها الطاعون من ايران وكردستان في ان تدخل بغداد بكل حرية.
وبعد مضي شهر وقعت أول اصابة طاعونية، وكان اول حدوث الاصابات في البيوت القذرة من محال اليهود وفي اوائل أبريل حاول الكثيرون الفرار من المدينة، ولكن الى أين؟ فقد استولت القبائل على الطرق كافة، وكانت السفن النهرية قليلة يضاف الى ذلك ازدحامها وتسرب الطاعون اليها.
وقد بلغت الاصابات اشدها منذ اليوم الرابع من أبريل فبات الذين يموتون بمعدل مائة وخسمين في اليوم الواحد وقد حاول الباشا التركي وأهل بيته الفرار من المدينة غير انهم لم يستطيعوا ترك ثروتهم المكدسة ولاحملها معهم.
وتجمع اخبار هذه الكارثة على تفشي الطاعون المبيد وتبدلت الحال بين الناس من عدم المبالاة الى الذهول والذعر ومن الكآبة الصاخبة الى صمت الموت والقنوط ومات على هذه الحال حتى اليوم العاشر من ابريل سبعة آلاف من الناس في خلال خمسة عشر يوماً، ثم هلك في اليوم الحادي عشر ألف ومائتان ومنذ هذا اليوم الى اليوم السابع والعشرين كان عدد المائتين في كل يوم بين الف وخمسمائة الى ثلاثة آلاف ولم يشف مريض واحد من كل عشرين مصابا، وكان الطعام لا يوجد الا في الندرة،
ولم يشتغل السقاؤون فر كدت حياة المدينة باسرها ولم يفكر احد في غير الموت والموتى وعلى هذا توقفت اعمال الحكومة جمعاء لأن الموت هاجم الموظفين وافراد الجيش فقضى عليهم كقضائه على الناس وخابت مساعي الاحياء في دفن الموتى امام سيل الموت الجارف حتى ظل الاموات مكدسة اشلاؤهم في الشوارع والازقة وهام الاطفال والعجزة على وجوههم في غير هدى وهم جائعون لا قبل لهم بشيء،
وقد كثرت الجرائم والسرقات في هذا العهد الرهيب حتى قضى الموت على الجاني والبريء معاً، وفي نهاية الأسبوع الأول من مارس زال خطر الطاعون وبقي من سلم من السكان في عداد المرضى، ولم يزال ثقيلاً عليهم عبء الجثث الملقاة في الازقة تلعب بها الكلاب ولم ينته اجل المآسي المحزنة التي لم يكن لها مثيل في هذه المدينة الا بعد ان انقضى ثلثا الشهر الجديد!".
فتصور هول هذه الكارثة في مدينة من المدن او قطر من الاقطار! انها لا شك فوق القصور، فالناس يموتون بالجملة، والجثث تملأ الازقة والطرقات، والكلاب والوحوش واللصوص تعبث بالبيوت وممتلكات الناس وهم عنها في شغل من الهول فظيع!
وإذ تركنا للاستاذ الخياط ان يحدثنا عما حل بالعراق من جراء هذه الكارثة فلنترك لمؤرخ آخر في قطر آخر يروي لنا هول هذا الطاعون من زاويته الخاصة.
وهذا المؤرخ هو الشيخ عثمان بن بشر النجدي قال في تاريخه عنوان المجد:
وفي سنة 1247 في هذه السنة وقع الطاعون العظيم الذي عم العراق والسواد والمجرة وسوق الشيوخ والبصرة والزبير والكويت وما حولها وليس هذا مثل الوباء الذي قبله، المسمى (العقاص) بل هذا هو الطاعون المعتاد ونعوذ بالله من غضبه وعقابه وحل بهم الفناء العظيم الذي انقطع منه قبائل وحمائل وخلت من اهلها منازل.
وإذا دخل في بيت لم يخرج منه وفيه عين تطرف وجثا الناس في بيوتهم لا يجدون من يدفنهم واموالهم عندهم ليس لها وال وانتنت البلدان من جيف الإنسان وبقيت الدواب والانعام سائبة في البلدان ليس عندها من يعلفها ويسقيها حتى مات أكثرها ومات بعض الاطفال عطشاً وجوعاً وخر اكثرهم في المساجد رجاء ان يأتيهم من ينقذهم فيموتون فيها لأنه لا يقام فيها جماعة وبقيت البلدان خالية لا يأتي إليها أحد .
وفيها من الأموال ما لا يحصى عده الا الله تعالى فلما كان في النصف من ذي الحجة من السنة المذكورة ارتفع بإذن الله تعالى، واجتمع اناس من بقية الهاربين واكثرهم من الصلبة وهيتم فدخلوا بلد الزبير واطراف البصرة ونهبوا من الاموال ما لا يحصى وليس لهم صاد ولا راد ثم تراجع بعد ذلك في البلدان من كان مسافراً او حاجاً ومن كان قد برئ ومن كان سالماً وهم القليل فضبطوا بلدانهم وحموها من صليب واخوانهم.
فلما علم بذلك اهل نجد وكان اكثر من في تلك البلدان ارحاما لهم واصهاراً سافروا اليها واخذوا ما وجدوا من ترائهم وتفرقت اموالهم في يد الوارث وغير الوارث كما قيل مصائب قوم عند قوم فوائد"،
وفي هذا الطاعون توفي الشاعر المشهور محمد بن حمد بن محمد بن لعبون المدلجي الوايلي في الكويت.
اما مقدار فداحة هذه الكارثة الهائلة في الكويت فليس لدينا اي مصدر نستقي منه بدقة صورة صحيحة تصور لنا ما حدث، وكل ما نعلمه بصدد ذلك لا يعدو الروايات نستخلصها من افواه الشيوخ والعجائز.
وعلى هذا عول الشيخ عبدالعزيز الرشيد في تاريخه فقد ذكر هذا الطاعون فقال:
«اصيبت الكويت في عام 1247 بطاعون عظيم قضى على كثير من اهلها حتى كادت تصبح منه قفراً يباباً لولا المسافرون من اهلها الذين لم يتراجعوا اليها الا بعد صفاء جوها من تلك الظلمة، رجعوا اليها ولكن وجدوا الطاعون قد فتك بكثير من نسائهم فاضطروا الى استقدام عوضهن من البلاد المجاورة كالزبير ونجد وغيرها وبذلك حفظوا البلد من العدم والفناء وفي اثناء تلك المعمعة اغلق اهل بيت في (الشرق) دارهم وادخروا فيها ما يكفيهم من طعام وشراب ولم يسمحوا لاحد بالدخول عليهم خوفاً من تسرب العدوى.
فكان هذا البيت من جراء هذا التحفظ هو الوحيد في الكويت الذي لم يصب من يد الطاعون بضرر غير ان امرأة منهم حاولت الخروج لتنظر ما اصاب اهلها، فانزلوها بحبل من السطح ثم رجعت اليهم اخيراً فلم يفتحوا لها فرجعت ادراجها وقضي عليها كما قضي على غيرها».
هذا كل ما ذكره الشيخ عبدالعزيز الرشيد في تاريخه عن هذا المرض.
واعتقد ان فتك هذا الطاعون في الكويت لا يقل فداحة عما حدث في العراق وفي نجد فالمصادر الشفهية تجمع على ان هذا الطاعون افنى اكثر من ثلاثة ارباع اهل الكويت.
فكانت الجثث تحمل الى المقابر في أول الأمر فلما استفحل امر هذا الوباء واشتد وكثر الموتى تركت الجثث في البيوت اذ ليس هناك من يحملها الى المقابر، وتروي بعض هذه المصادر أنه كان من حسن حظ بعض احياء المدينة ان كانت بقربهم حفر كبيرة حفرت لنقل الطين منها أفصبحت هذه الحفرة مقابر بالجملة، تملأ بالجثث للتخلص منها ومن عفنها ومنظرها!!
وتقول الروايات ايضاً: ان احد مشايخ الدين اشار في شدة الوباء على الكويتيين ان يغادروا المباني والبيوت فتركوها وابتنوا لهم اكواخاً في – الشويخ – وكان القادم اليهم يسمع التهليل والحوقلة قبل وصوله اليهم بمسافة بعيدة وبقوا أياماً في هذه الأكواخ والخيم يدعون الله ان يرفع عنهم هذه النازلة الفظيعة الى أن توقفت الاصابات فرجعوا الى بيوتهم.
وقد حدث هذا الطاعون كما قيل في أيام الشتاء وكانت سفن الكويت التجارية التي تسافر الى الهند في مثل هذا الفصل من كل عام خارج الكويت، وكانت تحمل عددا لا بأس به من الرجال.. هؤلاء نجوا من شر الوباء إذ صادف حدوثه في غيابهم!
وكانوا إما في عرض البحر او في الهند ولم يكن الطاعون قد وصل الى هناك، فلما وصلوا الى الكويت وجدوها توشك ان تكون خالية من السكان، إلا من بعض الضعاف الذين نجوا من الموت فكانوا الاساس الثاني الذي انتشل الكويت من الفناء المحتم والانقراض التام.
وانه لمصاب عظيم حين يجد المرء نفسه بين مرضى لم يبق على مفارقتهم الحياة إلا بضع ساعات، وبين جثث متراكمة ملقاة في الطرقات والأزقة والبيوت لا تجد من يواريها التراب وبين اطفال تصرخ اما من ألم المرض او من فقدهم من يقوم على اطعامهم ورعايتهم.
فتجدهم يهيمون على وجوههم في الشوارع تتلقفهم الاصابات الطاعونية في كل لحظة، ومهما فكر المرء في ذلك اليوم ليبحث له عن طريق للخلاص فانه عاجز عن ذلك فقد كانت كل ابواب الخلاص في ذلك اليوم مقفلة، وكل سبل الفرار مسدودة.. كان أهل الكويت في ذلك اليوم كما قيل:
البحر أمامهم والصحراء خلفهم والطاعون عندهم فليس لديهم الا الصبر.
ويشاء القادر القدير فيتلاشى المرض شيئاً فشيئاً حتى ينعدم قبل ان تنعدم الكويت وإذا الاحياء من أهلها لا يجدون ممن يمت اليهم بصلة القرابة إلا النادر القليل، ويتنفس شاعرهم النبطي الصعداء ويتلفت يمنة ويسرة فيجد الأرض كما كانت ولكنه لا يجد الأهل والأصحاب والأحباب فتذرف عيناه، ويشرق بالدمع ثم يرفع عقيرته متألماً لينفس عن نفسه في قصيدة طويلة (فن) .
يقال ان ناظمها سعود بن محمد وهو الذي سمي احد أحياء الكويت باسمه وهو فريج سعود يقول:
شفنا المنازل مثل دوي الفضا
عقب السكن صارت خلايا مخاريب
واحسرتي ليمن طرا ما مضى
عصر يذكرني الأهل والأصاحيب
__________________
ومنطقي العذب للألباب مستلبٌ *** ومبسمي نضَّ فيه الدر والنضرُ لازم منادمتي وافهـم مناظرتي *** واسمع مكالمتي يفشو لك الخبرُ
التعديل الأخير تم بواسطة الأديب ; 08-08-2009 الساعة 07:27 AM.
|