يواصل الاستاذ والباحث يعقوب يوسف الابراهيم البحث في تداعيات معركة الصريف والاحتكاك العسكري الذي كاد ان يحدث مواجهة بين الاسطول البريطاني من جهة، وبين الفيلق السادس العثماني وقوات ابن رشيد من جهة ثانية، واتضح ان التحركات العثمانية كانت مجرد معارك طواحين هواء وتمنيات بتغير الأوضاع، لا تتعدى التهديدات، حيث انسحبت تلك القوات الى العمارة بعد ان تفشى وباء الكوليرا، وكذلك انسحب الاسطول البريطاني ودارت مفاوضات في بيت النقيب وبيت الشيخ مبارك الصباح بين الأتراك والانكليز وكانت البارجة البريطانية الحربية «بومون» امام ساحل الكويت تساندها البارجة «ريد برست» اذا دعت الحاجة.
كانت القوى الأوروبية الأخرى كروسيا مثلاً في وضع متلهف للوقوف على الأمر. فابتدأت اتصالات سرية بين القنصل الروسي في بغداد والشيخ مبارك عن طريق تجار مثل عباس عليوف أو موظفين مثل غريسنكو. وكذلك فعلت ألمانيا عن طريق سفيرها في اسطنبول ــ مارشال ــ حينما قابل السلطان عبد الحميد شخصياً في 15 يونيو 1901 ذكر فيها للسلطان: «إنه من المؤسف أن تكون هزيمة الشيخ مبارك لم تستغل من قبل الدولة العثمانية للسيطرة على الكويت». وكان رد السلطان بأنه أرسل قوة لتحقيق ذلك ولكنه لم يخبره عن السبب الحقيقي وهو وجود ثلاث بوارج حربية بريطانية في مياه الكويت.
ولم تكن فرنسا بعيدة عن مسرح الأحداث. فقد عرض تحسين باشا – رئيس كتاب المابين – في 17 يوليو 1901 على السلطان مذكرة وزارة الخارجية العثمانية حول ما أوضحه السفير الفرنسي في اسطنبول من أن الشيخ مبارك، بعد معركة في الصريف، مال نحو البريطانيين، فأرسلوا سفينتين حربيتين وأقاموا مكتبين لوكالات سفن تجارية ورفعوا العلم البريطاني.
بعد تلك المحاولات، أمر السلطان بإقامة حامية عسكرية في الكويت، وكانت الأوامر قد صدرت في 26 يوليو 1901 «لى والي البصرة. وقد بعث الشيخ مبارك بنسخة منها إلى «كمبول» الذي بدوره أرسلها إلى وزير خارجية الهند البريطانية في 9 أغسطس 1901، محذراً من إنزال عسكري عثماني في الكويت. في 12 أغسطس 1901 صدرت الأوامر إلى البارجة «بيرسوس» بالتحرك من كراتشي محملة بالجنود وأن تكون البارجة «مارثون» على أهبة الاستعداد للإبحار. في 18 أغسطس 1901 تحرك الطراد العثماني «زحاف» إلى الكويت فوصلها في 21 أغسطس. وقد كان قبطان البارجة «بيرسوس» مراقباً، فأخبر قبطان «زحاف» بعدم إنزال معدات أو جنود إلى بر الكويت. نزل قبطان «زحاف» لمقابلة الشيخ مبارك والطلب منه عدم التعاون مع بريطانيا. فرد عليه الشيخ أن لديه الآن مساندة من بريطانيا ثم بدأ الكابتن بالتهديد والوعيد، وغادر في 25 أغسطس. في 31 أغسطس أرسل قائد البحرية العثماني في البصرة «قابوتانا» (تعني قبطان بالتركية) يعقوب بك إلى نظارة (وزارة) الحربية في اسطنبول قائلاً: لدى وصول الطراد «زحاف» إلى الكويت، جاء لزيارته على الفور قبطان البارجة البريطانية «بيرسوس» وأدلى بالتصريح التالي: «لقد وضعت دولة انكلترا الشيخ مبارك تحت حمايتها. وقام قنصل بوشهر بإعطاء معلومات إلى حكومتكم».
في 26 أغسطس ابتدأ بن رشيد جمع قبائله لتتحرك نحو الكويت. وكان الشيخ مبارك حينها قد توقف عن كتابة منصب «قائمقام الكويت» على رسائله إلى السلطات العثمانية في رسالته المؤرخة في 7 سبتمبر 1901 إلى والي البصرة. وفي التاريخ نفسه وردت أنباء عن احتلال فرنسي لجزر في الخليج تحت سيادة الدولة العثمانية (سبق ان أوردنا تفاصيلها).
توافدت قوات عثمانية قادمة من السماوة على البصرة وتزامن ذلك مع وصول بن رشيد وقبائله إلى مشارف الزبير على مسيرة يومين من الكويت في نهاية شهر سبتمبر، في زيارة قام بها السفير الألماني «مارشال» للسلطان عبد الحميد في 2 أكتوبر 1901، اقترح عليه إقامة دعوى في محكمة العدل الدولية في لاهاي حول مسألة الكويت لإجبار بريطانيا على عرض الاتفاقية التي أبرمتها مع الشيخ مبارك عام 1899، ولكن السلطان لم يكن محبذاً لهذه الفكرة. وكان المقيم البريطاني في الخليج قد اقترح على الشيخ مبارك رفع علم خاص بالكويت حتى يبعدها عن التبعية العثمانية. ولكن الشيخ مبارك لم يوافق، فالكويت غير مسورة وهو يخشى تقدم القوات التركية إذا تمت مثل هذه التصرفات. ولكن في برقية أرسلها وزير الخارجية في حكومة الهند البريطانية إلى قائد الأسطول البحري في 24 سبتمبر يأمره: «إذا هاجمت قوات أمير نجد (بن رشيد) الكويت، فيجب صدهم بالقوة». انتقل إثرها بن رشيد وقواته إلى الحفر من الزبير.
ما أسلفناه هو استعراض سريع وخلفية لتأزم الأمور الناتجة عن تداعيات هزيمة الصريف وتمهيداً لما حدث بعد ذلك إلى أن بلغ مرحلة محاولة إقصاء الشيخ مبارك وإزاحته من حكم الكويت. كما أدى هذا الاحتكاك والاحتقان إلى الموضوع الرئيسي لبحثنا وهو «حادثة العلم أو حادثة بومون Pomone».
حادثة البارجة بومون Pomone
تنسب هذه الحادثة إلى البارجة «بومون»، وهي إحدى قطع الأسطول البريطاني التابع لشرق الهند وتخومها. وكانت واجباته الرئيسية بسط النفوذ الإمبراطوري البريطاني في المحيط الهندي وبحر العرب والخليج العربي.
كانت هذه البارجة مسلحة بأربعة مدافع ميدان من العيار المتوسط ومدفعين ميدان من العيار الصغير. وقد وصلت بعد إبحارها من الهند أي في بداية أكتوبر 1901 إلى الكويت لتلتحق بأسطول قوامه خمس قطع بحرية مؤلفة من:
1 ــ البارجة «مارثون» Marathon ومعها أربعة زوارق صغيرة و6 مدافع قياس 6 بوصات.
2 ــ البارجة «بيرسوس» Persous ومعها أربعة زوارق صغيرة و8 مدافع قياس 4 بوصات.
3- الطراد «سفينكس» وبصحبته أربعة زوارق صغيرة وستة مدافع واحد منها 6 بوصات والباقي 4 بوصات.
4 – المدمرة «أسايا» Assaye مزودة بطوربيدات ومدفع سبع بوصات والآخر أربع بوصات.
5 – الطراد «ريد برست» Red Brest وبصحبته أربعة زوارق صغيرة وستة مدافع اثنان 6 بوصات والباقي 4 بوصات.
مع سفينة القيادة «هاي فلاير» High Flyer تحت قيادة الأدميرال «بوزن-جيت».
وسفينة مستشفى وبلغ عدد الجنود 636 ومنهم 50 من سلاح المارينز (البحرية الملكية).
أمام هذا الكم والجمع الكبير لقوة ضاربة، فقد اتضح أن التحركات العثمانية كانت مجرد «معارك طواحين هواء» وتمنيات بتغير الأوضاع لا تتعدى التهديدات.
في 10 أكتوبر وصل المقيم السياسي في الخليج (كمبول) إلى الكويت الذي أبلغ الشيخ مبارك بأن الأتراك تعهدوا بعدم مهاجمة الكويت مستقبلاً. فتم سحب قوة الفيلق السادس إلى العمارة بعد أن تفشى وباء الكوليرا، ثم انسحب ابن رشيد بعد أن دفعت له مبالغ مالية وأقيل والي البصرة محسن باشا من منصبه وعين مكانه الفريق مصطفى نوري باشا من قادة الفيلق السادس.
على اثر ذلك انسحبت معظم قطع الأسطول البريطاني. وقد صادف وجود الصحافي المصري بيومي إبراهيم في الكويت والذي كتب عدة مقالات في جريدة الأهرام بدأها في 26 سبتمبر ثم 6 و10 و11،12،15 أكتوبر 1901 بتوقيع السائح المصري. وقد ذكر في مقال 9 أكتوبر وتحت عنوان «مسألة الكويت» ما يؤيد تواجد التجمع البحري البريطاني من شاهد عيان: «إن عدد البوارج الراسية في مياه الكويت ست وعسى الله أن يخفف مطامع انكلتره».
بعد أن هدأت العاصفة، اضطرت السلطات العثمانية إلى نهج طريق آخر غير القوة وهو إقناع الشيخ مبارك – بواسطة نقيب البصرة السيد رجب – بسلوك طريق الدين وتعاليمه الحنيفة. فسافر السيد رجب إلى الكويت، وكان له فيها بيت يقيم فيه، وقابل الشيخ مبارك في 10 نوفمبر لكنه لم يستطع كسب الشيخ وإقناعه. وحينما أرسل النقيب تقريره بعد رجوعه إلى البصرة، ذكر فيه: «تواجد ثلاث قطع بحرية في مياه الكويت».
في 20 نوفمبر 1901 وصل الوالي الجديد مصطفى نوري باشا، وبمجرد وصوله استلم خطاباً من السلطان يأمره بإرسال النقيب السيد رجب مرة ثانية إلى الكويت يأمره بإبلاغ الشيخ مبارك «بالحضور إلى اسطنبول ليرتبط بالقصر الهمايوني(1) وأن يكون بالقرب منه».
مفاوضات بيت النقيب
فأرسل الوالي جواباً إلى رئيس كتبة المابين يخبره بامتثاله للأمر السلطاني وسوف يرسل مع السيد رجب شقيقه ميرلاي نجيب بك، وهو من الضباط العثمانيين الذين أمضوا ثلاثة وثلاثين عاماً بين العراق ونجد وله معرفة سابقة بالشيخ مبارك، للإطلاع على أوضاع الكويتيين ومعرفة آرائهم والتشاور معهم. وأخبر الشيخ مقدماً بذلك. غادر الوفد البصرة إلى الكويت في 29 نوفمبر 1901 على ظهر الطراد العثماني «زحاف»، وكانت البارجة «بومون» في ميناء الكويت عند وصوله في الأول من ديسمبر 1901. وأقاموا في بيت النقيب، الذي كان قد بناه قبل خمسة أعوام، في جهة القبلة من المدينة وقابلوا الشيخ مبارك في اليوم التالي وتم تسليم رسالة السلطان المتضمنة أوامره. في يوم 3 ديسمبر أرسل الشيخ مبارك رسالة السلطان وخطاب الوالي ورسالة استغاثة إلى المقيم السياسي في الخليج – بوشهر – يقول فيها: «طلبوا مني ردا والآن أرغب في حمايتكم وحماية نفسي وأطفالي ورعايانا وأعواني وكل بلدي جميعاً وقد وضعنا أنفسنا تحت مسؤوليتكم وانتظر توجيهاتكم وأوامركم». وطلب الشيخ من الوفد مهلة ثلاثة أيام بعذر أن يتشاور مع شعبه.
في صباح 4 ديسمبر وصل السيد رجب مع ميرلاي نجيب بك إلى منزل الشيخ مبارك وأخبراه بأنهما لن يمنحماه أي وقت إضافي للتفكير وأنهما يريدان الإجابة النهائية فوراً. كان قبطان البارجة «بومون» الكومندر «سمونز» متواجداً في غرفة أخرى، فلما ذهب إليه الشيخ لإطلاعه على مطالب الوفد، قام سمونز وأخطر النقيب بأن الشيخ مبارك ليس في موقع الرد عليه أو على السلطان. وأبلغ النقيب: «بما أن الحكومة التركية قد خرقت اتفاق «بقاء الحال على ما هو عليه»
STATUS «QUO مع بريطانيا وهددت شيخ الكويت، فان الحق مع بريطانيا الآن في الأخذ بأسباب حماية الكويت». وكان خلال تلك المدة قد وصلت البارجة «ريد برست» لمساندة «بومون» اذا دعت الحاجة.
غادر الوفد مساء اليوم نفسه (4 ديسمبر) وأبحر الطراد «زحاف» صباح 5 ديسمبر فوصلوا الى البصرة في 8 ديسمبر.
هوامش
(1) همايون: كلمة فارسية تنسب إلى طائر اسطوري يطلق عليه مسمى «هما» اذا وقع ظله على رأس رجل اصبح ملكاً. فهمايوني تعني ملكي.
__________________
"وَتِـــلـْــكَ الأيّـَــامُ نُـــدَاوِلـــُهَـــا بـَـيـْـنَ الـــنَّـــاسِ"
|