راسل ادارة الموقع جديد المشاركات التسجيل الرئيسية

 
 
        

اخر المواضيع

 
 

 
 
العودة   تاريخ الكويت > منتدى تاريخ الكويت > البحوث والمؤلفات
 
 

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 22-09-2011, 11:02 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة ( 11)
قوميون واشتراكيون وفلسطينيون

قد يبدو ما سـأرويه الآن تحت هذا العنوان انتقالا إلى موضوع آخر، أو زاوية أخرى في هذه المساحة الخمسينية من الزمن. ولكنه في الحقيقة إضافة لمسة لونية إلى اللوحة نفسها؛ إلى حكاية السدرة ذاتها التي أظلتنا صغارا وكباراً، أعني الكويت، على امتداد مسافة زمنية بدأت مع مطلع الخمسينات بالتجدد والتغير، وما زالت بالطبع، على المحور الشخصي والعام. في هذه المسافة كما قلت كان الحراك الاجتماعي آخذاً بالتباعد عما ألفناه، يتشبع بأجواء سياسية واقتصادية وثقافية جديدة قد تبدو غريبة عما نعيشه الآن.
لم تكن الحياة العملية، حياة الوظيفة، منفصلة عن الحياة العامة، وفي هذا تواصل بطريقة أو أخرى مع المألوف قبل ذلك في حياتنا بين بر وسفر وبين حياة قوافل وحياة سفن، إلا أن الجديد كان نشوء مؤسسات جديدة، ترسخت الدوائر الحكومية، أي الوزارات بمفهوم اليوم، من جهة، والنوادي والتجمعات الأهلية من جهة أخرى. ووسط كل هذا تموّجت العلاقات وتداخلت في ظلال السدرة وفي ما حولها.

الانفتاح على المحيط

لعل أهم ما حملته هذه السنوات هو الانفتاح على المحيط العربي انفتاحا غير مسبوق. صحيح أن العلاقة بالمحيط العربي لم تكن مقطوعة منذ نشأة الكويت على هذه البقعة الجغرافية والشاطيء الجميل لبوابتها على العالم، إلا أنها لم تشهد ما بدأت تشهده الآن من نمو لحركات فكرية وتردد لأصداء آتية من عواصم عربية بزخم أشد وتطلعات أبعد.
بدأ يتولانا إحساس أننا نستظل بظل أكبر، وتشغلنا قضايا أوسع، هو هذا الظل القومي أو الإحساس به إحساسا ملموساً. سواء عبر تزايد عدد العاملين معنا من البلدان العربية في دوائر الدولة أو في حركة الشارع وأنشطته، أو عبر تلقي مؤثرات ما يحدث من صراعات ومتغيرات في المحيط العربي من حولنا.
لم يكـن كـل هذا مجرد أصداء تأتينا عبر الأثير أو عبـر الاحتكاك بالوافدين، بـل كـان أيضاً تعبيراً عن تطلعات بدأت تنمو في داخلنا في تشابـك كامـل بـين الداخـل والخارج. هـذا قانـون طبيعي، فإذا كنا لسنـا وحدنا في هذا العـالم، فنحـن لسنا وحدنا في عـالمنا الأقرب أيضاً.
عايشت هذه المرحلة عن قـرب، معايشـة المشاركة وليس المراقبة فقـط، وفيهـا تشكلـت أوائل عـلاقاتي في محيط عملي وفي محيط الحياة العامـة عـلى حـد سواء. تعرفت على الفكر القومي والفكر الاشتراكي، وعرفت عن قـرب شـخصيات، بعضها نسيـت ملامحه وبعضها مازلت أحمل آثاراً من أقوالـه، وأكاد أبصر مواقفه كأنها حـدثت بالأمس بالكلمة والصـورة.
كان مجال المعرفة لدينا آنذاك متصلا مكانيا، بين مكاتب العمل ونشاط الأندية الرياضية والثقافية. وهذه الأخيرة كانت أبرز ما ميز مطلع الخمسينات، فقد بدأت هذه النوادي تنشأ وتتفاوت في اهتماماتها. كان لدينا النادي الأهلي، نادي الكويت حالياً، ومديره عبد الرزاق سلطان أمان. وبسبب تميز نشاطي الرياضي في أيام الدراسة، كان طبيعيا أن أشارك في الأنشطة الرياضية منذ وقت مبكر، ومعي الزملاء، خضير المشعان وخالد الحمد وبهجت أبو الخير وعبدالمحسن الفرحان وعبد الله مقهوي.
الرئيس الفخري للنادي كان الشيخ عبد الله المبارك، وشملت أنشطة النـادي الشؤون الرياضية والثقافية والسياسيـة. كانت الأنديـة تعبيراً اجتماعياً قبل أن تتخصص وتتحـول الى الرياضة فقط أو الى الثقافة وحدها أو الى نواد مهنية. عنى النادي بالدرجة الأولى التجمـع، فهو منتـدى بالأحـرى.
من هنا لم يكن غريباً أن يدعو النادي في عام 1955، والثورة الناصرية في كامل قوتها، د. محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر، فجاء وألقى ثلاث محاضرات في ثانوية الشويخ، محور الأنشطة العامة آنذاك، تحت عنوان «الحياد.. والحياد الايجابي»، وكلها يتعلق بمؤتمر باندونغ في اندونيسيا الذي أطلقَ في عام 1955 فكرة وكتلة دول عدم الانحياز بين المعسكرين، الاشتراكي والرأسمالي، بمعناها الايجابي وليس السلبي. وكان لهذه المحاضرات أثر كبير في تفتيح الأذهان على ما يحدث في عالمنا، واعتبرنا الدعوة والمحاضرات انجازاً.

النادي الثقافي

بعد ذلك جاءت نشأة النادي الثقافي القومي الذي سيلعب دوراً كبيراً في توعية المواطن الكويتي بقضاياه وقضايا المحيط العربي الذي هو جزء منه وليس قطعة مفصولة عنه. كان ميدان هذا النادي مزيجا من الثقافي السياسي. ولعب د. أحمد الخطيب الذي عمل معي جنباً الى جنب في المستشفى الأميري، دوراً بارزاً فيه، امتداداً لدوره في النادي الأهلي الرياضي قبل ذلك والذي لم يكن بارزاً. هنا في النادي الثقافي القومي كان له الدور الأكبر على صعيد أنشطة النادي وتوجهاته وعلى صعيد الحركة الوطنية الكويتية عموماً.
كانت مجموعة القوميين العـرب قبل أن تسمى «حركة القوميين العرب» التي ينتمي اليهـا د. الخطيب أحد مؤسسيها أكثـر فئات المعارضة تنظيماً، وتمارس نشاطها عبر هـذا النادي من مقره في شرق على شاطئ الخليج العربي. يعقد ندوات أسبوعية، ويصدر صحيفتين، احداهما شهرية اسمها «الايمان»، والأخرى أسبوعية اسمها «صـدى الايمان».
واذكر مـن الذين عملوا في النادي، محمـد جلال عناية، وغسان كنفاني كمتطـوعين. كنت عضواً في لجنـة النشر في النادي الى جـانب د. أحمـد الخطيب وعبد الـرزاق الزيـد الخالد وعبـد الوهاب عبـد الغفـور. وبعد صدور عددين من «صدى الايمان» أغلقتها دائرة المطبوعـات والنشـر.
في النادي الثقافي القومي بدأت علاقتي حقيقة بحركة القوميين العرب والفلسطينيين خصوصا، وبالحركة السياسية عموماً. لم أكن من القياديين في الحركة ولكنني كنت متعاطفاً معها، وأنشط بحدود امكاناتي وبتوجيهات من د. أحمد الخطيب.
كنت اكتب أخباراً صغيرة في مجلتي «الطليعة» و«الفجر»، وأذهب الى مطبعة مقهوي حيث تطبع الصحيفتان، وهناك أقوم بكتابة وتقديم مادتي الخبرية.
في تلك الأيام شاركت في الكتابة في أجواء مقاومة مشروع الدفاع المشترك الأميركي وحلف بغداد في عام 1955. كانت تردني منشورات توزعها احدى الشخصيات المعروفة في لبنان تناصر حلف بغـداد، وهي شخصية خطيـب محترف التقيت به مرتين في الكويت، ولا يحضرنـي اسمه، الا أنني اتذكر أنـه كان من جماعة السياسي اللبناني صائب سلام ومن خريجي جامعة الأزهر.
ونتيجـة اطلاعي على هذه المنشـورات كتبـت رداً أنتقـد فيـه دفاع هذه الشخصية عن حلف بغداد، ونشرتـه في صحيفة «الأحد» لصاحبها رياض طه، فأرسل لي المدافع عن حلف بغداد ما يشبه الانذار بأن أتوقف عن الكتابة ويهددني بالكتابـة عني في صحـف بـيروت، فتوقفت.

مع الخطيب والقطامي

علاقتي بالخطيب وجاسم القطامي هي التي قربتني من القوميين العرب. أما على صعيد الفكر الاشتراكي فقد جاء تأثيره علي من علاقتي بصيدلي فلسطيني ذي توجه اشتراكي هو كمال أمين، وآخر هو صبحي الخوري. واعتاد الاثنان جلب خطابات خالد بكداش، وكنت استمتع بقراءتها.
في كل هذه الأنشطة كنت مشاركاً جانبياً، لا قائداً ولا زعيماً. أحضر الندوات والمحاضرات في النادي الثقافي. واستمع الى أحاديث قيمة وتوعية قومية تشبعت بها من د. الخطيب أيضاً خلال عملنا في المستشفى، وودت أن يتبلور هذا الوعي نحو الأفضل. من جانبي ترجمت هذا الوعي عملياً بتعاطفي مع الفلسطينيين خاصة والعرب عامة.

التعليم والفلسطينيون

يرجع الحضور الفلسطيني في الكويت في مجال التعليم الى ثلاثينات القرن العشرين، ثم ومع أخبار نكبة عام 1948 التي كانت تصلنا ولو بشكل محدود عبر الراديو، بدأ هذا الحضور يتخذ طابعاً أوسع من مجرد الحضور البشري، ويتجاوزه الى الحضور السياسي حين بدأت أعداد اخواننا الفلسطينيين بالتزايد بعد النكبة مباشرة، تزايدت أعداد الأطباء والمهندسين والمعلمين منهم، بالاضافة الى اليد العاملة.
وأذكر أنه مع عام 1954 بدأت تصل إلينا أيد عاملة فلسطينية من الضفة الغربية عن طريق بغداد فالبصرة بواسطة الشاحنات والقطارات، ثم مشياً على الأقدام إلى الكويت. وكنت آنذاك مسؤولا عن التعيينات في المستشفى الأميري، وقمت بالاهتمام بالوافدين عبر الصحراء وإسكانهم في الجيوان G1 وإرسال الطعام إليهم من المستشفى.
وعرفت الكويت شخصيات فلسطينية في الخمسينات سيكون لها دور سياسي بارز في السنوات اللاحقة مثل ياسر عرفات، الذي عمل مهندساً في وزارة الأشغال مع أبو جهاد الذي جاء إلى الكويت في عام 1957، ولحق بهما فاروق القدومي (أبو اللطف) الذي عمل في وزارة الصحة، وأبو إياد (صلاح خلف) المدرس الذي بدأ ينظم اجتماعات سرية في عام 1959 لتأسيس منظمة فتح وإعلان وثيقة التأسيس.

{صوت العرب}

استمرت علاقتي بالقوميين العرب عبر ندوات واجتماعات ونشاطات متواصلة تعقد دائماً داخل الكويت أو خارجها. كان هناك قوميون عرب في البحرين لهم علاقات مع نظرائهم في الكويت، تترجم أحيانا بلجوء بعضهم إلى الكويت كلما تأزمت أمورهم، كما حدث مع جاسم بو حجي الذي أخرجوه من البحرين إثر اندلاع التظاهرات هناك في عام 1956، فجاء إلى الكويت ووجد فيها ملاذاً. كانت قاعدة القوميين العرب الشعبية واسعة، رغم قلة عددهم، فقد كان لديهم تركيز والتزام.
قبل قيام الثورة المصرية لم أكن مع القوميين العرب، إلا أن ظهور جمال عبدالناصر وذهاب الملكية غيّر أشياء كثيرة في المحيط العربي، بما في ذلك في الكويت. هنا تعاطفت الكويت كلها مع مصر ولقيت الثورة تأييداً. وكنا نستمع دائماً إلى إذاعة صوت العرب. واذكر أنه بعد عام على الثورة كانت لقيادة مجلس الثورة المصرية اتصالات بالعالم العربي، وأحد المدعوين إلى الكويت للتعريف بالثورة كان أنور السادات، فجاء إلى الكويت وزارنا في المستشفى الأميري، والتقيت به كما التقى به رئيس الأطباء د.ايرك بيري، وكانت المرة الأولى التي التقي به شخصياً. كان وسيما أسمر يتحدث عن الثورة وأهدافها وشخصية جمال عبدالناصر بلهجة متفائلة، والسادات ذاته هو من كتب بعد ذلك كتاباً عنوانه عبارة يخاطب فيها ولده «هذا عمك جمال»!
في هذه الفترة نفسها قرأت الكتب التي لها صلة بالمفهوم القومي. مثلا كلفت بقراءة كتاب «الاتحاد» وهو مجموعة مقالات لنقولا زيادة وكامل مروة وقسطنطين زريق الذين كانوا رواد المسيرة القومية، وكنت أتأثر بكتاباتهم.

العدوان الثلاثي

في هذه الفترة وقعت أحداث كان لها تأثير كبير على حياة العالم العربي من حولنا وعلى حياتنا تبعاً لذلك، وبخاصة مع نمو الشعور القومي، والإحساس العارم تحت تأثير مصر الناصرية أن العرب يواجهون مصيراً مشتركا. وخلق هذا أرضية لتحركات شعبية في أكثر من بلد عربي، ولم تكن الكويت استثناء.
عـلى رأس هـذه الأحـداث الكبـرى كان العـدوان الثلاثي العسكـري عـلى مصر، عـدوان التحالف الإسرائيـلي- البريطاني - الفرنسـي في عام 1956. أشعل غضباً عارمـاً على الإنكليز واحـدث انتفاضة في الكويت تمثلـت بالمظاهرات المؤيـدة لمصر والمناوئة للسياسة الإنكليزية.
وقـام النادي الثقافي القومي الذي يقوده د. الخطيب بدور بـارز يجب أن أسجل أنه أنعش الحركة الوطنيـة. فنشط في تعبئة المواطنـين والمقيمـين العرب عبر «لجنة الأندية الكويتية» ونداءاتها للقيام بالمظاهرات. وفي وقتها أرسل د. الخطيب رسالة إلى إذاعة صوت العرب يستنكر فيها العدوان الثلاثي ويعلن عن قيام مظاهرات شعبية، فشعرت بالخوف عليه لأنه لم يكن لدينا آنذاك قانون ودستور.

تظاهرات فريدة

وشهدت أيام تلك التظاهرات حدثاً فريداً من نوعه، ربما في المنطقة العربية كلها، لم يعد يتكرر مع الأسف، وهو ان أوامر صدرت آنذاك لمدير دائرة الشرطة جاسم القطامي بقمع التظاهرات وإخمادها، فرفض تنفيذ هذه الأوامر، وقدم استقالته من وظيفته، وقال واجبه ووظيفته هما خدمة الشعب وليس قمعه أو ضربه، وأن الشعب لم يرتكب جريمة بالتظاهر بل كان يعبر عن مشاعره القومية وتضامنه مع شعب مصر الشقيق.
لم تكن الحكومة معتادة على تجمهر وتظاهرات من هذا النوع، فأمثال هذه التجمعات لم تكن موجودة في الكويت. ومع تواصل التظاهرات أرسل الشيخ عبد الله السالم بطلب مديري النوادي، مثل نادي المعلمين والنادي الأهلي والنادي الثقافي. كان رئيس النادي الأهلي يومها المرحوم محمـد الخالد ولم يحضر، فكلفـت بالحضور نيابـة عنه عن النادي الأهلي، وحضر عن نـادي الخريجـين خالد الخـرافي، وعن نـادي المعارف محمد الحربش وعبـد العـزيز حسين.
استقبلنا الشيخ عبد الله السالم في مكتبه، وسلمنا عليـه ودار هـذا الحـوار:
عبد الله السالم: ماذا تريدون من حركاتكم هذه؟.
خالد الخرافي: والله نحن يا طويل العمر لا نستطيع أن نسكت ونقف مكتوفي الأيدي والشقيقة الكبرى مصر تضربها ثلاث دول، فرنسا وبريطانيا واسرائيل.. يجب أن يكون لنا دور.
عبد الله السالم: ماذا تريدنا أن نعمل؟
خالد الخرافي: يجب أن يكون لنا دور.
عندها نهض الشيخ عن كرسيه وأدار وجهه بمواجهة البحر وقال: لو جاءت منور (أي المدمرة الحربية) ووجهت مدافعها إلى الكويت، ماذا نفعل؟ هذا كلام غير مقبول، خلي العراق يكون له دور، فهو أكبر منا مساحة وإمكانات أكثر بكثير. إنما أنتم إذا أردتم مصلحة الشعب فاتجهوا إلى التجار في السوق واطلبوا منهم أن يحافظوا على اسعار المواد الغذائية، وألا يرفعوا الأسعار. هذه هي الفائدة. ماذا نستطيع أن نفعل لمصر؟ نحن عددنا محدود وإمكاناتنا محدودة، فرجاءً اغلقوا هذا الموضوع.

في ثانوية الشويخ

الحدث الكبير الثاني الذي كان علامة من علامات سنوات الخمسينات ونهضتها القومية كان التجمع الشعبي الذي أقيم على ملعب ثانوية الشويخ الرياضي بمناسبة الذكرى الأولى لقيام الجمهورية العربية المتحدة في فبراير 1959. وظل هذا التجمع، وما تخلله من خطابات وكلمات وما تلاه من إجراءات، علامة بارزة لا تنسى في تاريخ الكويت المعاصر.
شارك النادي الثقافي القومي في هذا التجمع عبر «اتحاد الأندية الكويتية»، وحضرته جماهير غفيرة من المواطنين والوافدين العرب. وفي هذا التجمع ألقى كل من د. أحمد الخطيب وجاسم القطامي خطابين انتقدا فيهما الحكومة، وطالبا بأن تدخل في مفاوضات مع قيادة الجمهورية العربية المتحدة.
كان جاسم القطامي يوم ذاك مديراً لشركة السينما بعد استقالته الشهيـرة مـن دائـرة الشرطة، وذهبت إليـه مع خالـد الحمـد في السوق القـديم لأقنعه بإلقاء كلمة بالمناسبـة، فقـال لا أريـد.. أريد ترخيصـاً من الحكومة أولا بإقـامة الاحتفال في ذكرى الوحـدة، ولا أريد أن أتورط.
للحصول على ترخيص كان يجب أن نذهب إلى عبد الله المبارك رئيس دائرة الأمن العام في قصره، وذهبت أنا والأخ خالد الحمد ووجدنا عنده هاني القدومي مدير الجوازات، وطلبنا الترخيص بإقامة الاحتفال في اليوم التالي. السؤال الوحيد الذي وجَّهه إلينا هو:
«هل يوجد أي شيء؟ هل هناك خرابيط؟»
قلنا :
«لا شيء.. أردنا فقط إذنا منك»
وحصلنا على الترخيص.
وبدأت الاستعدادات وتوجيه الدعوات للتجمع في جو كان فيه الشعب متشجعا جداً لحضور هكذا احتفالات، ومتعاطفاً مع مصر وعبد الناصر بخاصة ومع دعوات الوحدة والقومية العربية. بين الحاضرين في ذلك اليوم كان عبد الله الجابر وأحمد سعيد من إذاعة صوت العرب وجمهور غفير. وجاء القطامي وألقى خطابا حماسياً مؤثراً، تأييداً للوحدة العربية ونقداً للحكم العشائري ومطالبة بالديموقراطية ودور الشعب، وجاء في خطابه مطلبٌ ذو دلالة مهمة في وقت لم تكن فيه الكويت قد استقلت بعد، أو فكر فيه أحد بالحكم الديموقراطي والدستور:
« آن الآوان لحكم شعبي ديموقراطي يكون فيه للشعب دستوره ووزراؤه».
بعد هذا الخطاب والكلمات الأخرى خرج جمهور الاحتفال في تظاهرة كبيرة وحصلت صدامات. وأثارت الخطابات، وخطاب القطامي بالذات، غضب عبد الله المبارك واستدعى القطامي والخطيب. وحدثت ردة فعل قوية لدى الأجهزة الأمنية سحبت نتيجتها جوازات سفر المحسوبين على حركة القوميين العرب. وتم إغلاق جميع النوادي الرياضية والثقافية بناء على إعلان صادر عن دائرة الشؤون الاجتماعية في 8/2/1959. وأمر رئيس الدائرة بتشكيل لجنة خاصة لتصفية موجودات وممتلكات الأندية والهيئات وتحويل جميع حساباتها إلى دائرة الشؤون الاجتماعية. كما ألغيت أيضاً امتيازات جميع الصحف والمجلات الصادرة عن الأندية الثقافية، ومنها جريدة «الفجر» الصادرة عن جمعية الخريجين، و«الشعب»، جريدة أحمد العامر الذي مازال حياً يرزق لكنه لا يختلط بالناس، وهي نفسها الجريدة التي باع امتيازها وأصبح اسمها «الوطن» التي نعرفها حالياً.
ولم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، بل مضت دائرة الأمن العام إلى اعتقال منظمي الاحتفال الشعبي، وعلى رأسهم قياديو النادي الثقافي القومي.
ووجه حاكم الكويت الشيخ عبد الله السالم بياناً إلى الشعب يشرح فيه الأسباب التي أدت إلى القيام بهذه الإجراءات، ومن هذه الأسباب الإساءة إلى العلاقات بين الكويت وأصدقائها من العرب، وعدم المحافظة على المصلحة العامة.
مصادرة الحريات بهذا الأسلوب، إغلاق الأندية وإلغاء امتيازات الصحف المعبرة عن هيئات شعبية، تواصلت حتى إعلان استقلال الكويت في 19 يونيو 1961. ومع الاستقلال عادت جميع الأندية الثقافية وفتحت أبوابها وعادت الصحف إلى الصدور، وصدرت صحف جديدة، وتحول اسم النادي الثقافي القومي إلى «نادي الاستقلال الثقافي». وهو النادي نفسه الذي ستعود دائرة الشؤون الإجتماعية بعد أن أصبحت وزارة إلى إغلاقه وتصفية موجوداته وأمواله في أواخر سبعينات القرن الماضي.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 22-09-2011, 11:03 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة (12)
نقلت رسائل الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبدالعزيز شهاب بعد إعدامهم
في عام 1961ايضا، كنت حينها في المستشفى الأميري، وقعت محاولة اغتيال الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم في شارع الرشيد. وكان هناك ضباط قوميون في الجيش العراقي ضده من أمثال ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبد العزيز شهاب. وفي شهر مارس أعلن العقيد عبد الوهاب الشواف الثورة على حكم عبد الكريم قاسم من الموصل، فرد على هذه الثورة بالقوة. كان قائد الحركة ناظم الطبقجلي لكنه لم يوفق، وقتل الشواف في مقر قيادته في الموصل، واعتقل الطبقجلي وعبد العزيز شهاب وقدموا للمحاكمة سراً، وليس علناً كما كان يجري الأمر في محكمة نشأت مع قيام ثورة تموز 1958 وسميت محكمة الشعب، وترأسها ابن أخت عبد الكريم قاسم العقيد فاضل المهداوي لمحاكمة مسؤولي النظام الملكي.


وحكم على قادة ثورة الشواف الثلاثة وعلى مجموعة كبيرة أخرى بالإعدام. فاتصل بي جاسم القطامي وقال لي: «أريدك.. ضروري جداً».
ذهبت إلى بيته، فبادرني بالقول: «لدي ثلاث رسائل كانت مبلولة ووضعتها في الشمس لتجف. هذه الرسائل من ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبد العزيز شهاب، وتحمل وصاياهم قبل إعدامهم إلى أولادهم وإلى الأمة العربية، تحث على اعتناق مبدأ القومية العربية والوحدة العربية».
وسألني: «كيف نوصلها إلى الشام؟ هل تستطيع الذهاب بها إلى الشام؟»
قلت: «اعطني الرسائل، وسأخبر أهلي أنني ذاهب إلى البر».
أخذت الوصايا وحملت جواز سفري واتجهت إلى المطار، وهناك صادفت صديقا اسمه أنور الهنيدي في طريقه إلى الشام، فطلبت منه توصيل الأوراق في هذه الليلة، فوافق بلا تردد. اعطيته المغلف ورقم الهاتف الذي يجب أن يتصل به حين يصل. لم أقل له ما هي هذه الأوراق، لم أقل سوى أنها أوراق لتسجيل طلبة في الجامعة.
في الليلة نفسها أوصل الصديق الأوراق إلى هاني الهندي، فسلمها إلى عبد الحميد السراج، وحولها هذا إلى المسجد الأموي لتقرأ هناك، واتصل بالقاهرة وأرسل نسخا منها لتقرأ في مسجد الحسين.

على منبر الجمعة

وجلسنا في انتظار الاستماع إلى إذاعتي دمشق والقاهرة، وإذا بخطيب الجمعة في كلا المسجدين يتلو الوصايا. كانت عملية سريعة. وأحدثت قراءة وصايا قوميين في طريقهم إلى الإعدام اثراً واسعاً في العالم العربي. كانت مناشدة مؤثرة من رجال قوميين مؤمنين بوحدة أمتهم ومصيرها الواحد ضد دكتاتور بطش بالشعب العراقي اسمه عبد الكريم قاسم.
كانـت للقوميـين علاقات واسعـة ومتينـة على صعيد قـومي، وكانت لهم مراكز حساسـة. وأذكر أن خبر أول اغتيال سياسي يقع عـلى أرض الكويـت، وصلني قبل أيام قليلة من وقـوعه عن طريق أحد القوميين في سـوريا من الذين عملوا في رئاسة الجمهورية عند عبد الناصر التقيت بـه. فذكر لي أن حردان التكريتي سيقتل خـلال أيام. وبعد أقل من أسبوع شهدت إحـدى ردهات المستشفى الأميري عملية اغتياله في صباح يوم 13/3/1971، وعلى مسافـة قريبة من السفارة الأميركية.

مع الفلسطينيين

لم تكـن علاقتـي بالفلسطينيـين عـلاقة تبعيـة عمياء، كنت أتعـاطـف معهـم وأقـدر خدماتهم لنا في الكويت، ولكنني حافظت على موقف نقـدي كان ضروريـاً لمصلحة الشعـب الفلسطيني ذاته، وبخـاصة تجاه الظواهر السلبية التي اعتـرت العمل السياسي الفلسطيني منذ ان بدأ الكفاح المسلح.
لقد تسنت لي معرفة الشخصيات الفلسطينية المؤثرة منذ البداية، فهم كما قلت عاشوا وعملوا هنا، وكان بعضهم قريباً في وزارة الصحة وبعضهم سألتقي به في سياق مسؤولياتي في وكالة الأنباء الكويتية ثم الهلال الأحمر الكويتي.
أبدأ بأبو عمار الذي كان في عام 1970 قد أصبح رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحد معارفه عمل سكرتيراً في وزارة الصحة هو فريد أبو بكر، رحمه الله، أحد مؤسسي فتح، وعن طريقه التقيت بأبو عمار حين جاء الى الكويت ذات يوم.
كنت أتابع القضية الفلسطينية. ومن خلال متابعتي لاحظت بعض التحركات في الأردن. وفي ضوء معلومات تكونت لدي تشير الى أن الوضع في الأردن غير مستقر، وأن هناك استفزازات ترتكبها المنظمات الفلسطينية ضد الأردنيين، والملك حسين بخاصة، ارتأيت ان أقوم باتصالات لتجنيب الأخوة الفلسطينيين أي كوارث محتملة.

لقاء ابو عمار

وما أن جاءت فرصة وجود أبو عمار في الكويت حتى أبديت رغبتي بلقائه، وذهبت مع فريد أبو بكر الى مكان اقامته في السالمية.
كان هذا هو اللقاء الأول، ولم أتردد في تحذيره. قلت له:
«سوف تكون هجمة عليكم في الأردن. أنتم تتدخلون في شؤون أردنية، ومن الواجب أن تتجنبوا الاحتكاك بالأردنيين»
ضحك أبو عمار، وقال بصوت الواثق :
«لاتخف علينا، نحن قوة ضاربة، ولدينا قيادات تستطيع فعل أشياء كثيرة»
قلت :
«سيعتدون عليكم»
فقال بلهجة معتدا بنفسه:
«لا اطمئن.. أنا اعرف هذه الأمور أكثر منك»
أمام مثل هذه الردود، لم أجد ما أقول سوى:
«وفقكم الله»
اللقاء الثاني جاء خلال محاضرة في مدرسة الشعب الثانوية، وأمام حضور كبير، تحدث فيها أبو عمار عن دور منظمة التحرير الفلسطينية. وعندما انتهى طلبت الكلمة، وكررت تحذيري، وهذ المرة حول الظهور الاعلامي المبالغ فيه:
«يا أخ أبو عمار.. أريد أن اقول كلمة؛ أنت الآن رئيس تنظيم ثوري، ولكنك تتنقل من مكان الى مكان، ومن قصر الى آخر، ومن طيارة الى طيارة، هذه ليست مواصفات قائد ثوري مثل «الجنرال جياب». في فيتنام لم تظهر صورة له خلال الحرب على الفرنسيين، وحين سألوه ماذا يضايقك؟ أجاب «القردة والفئران، لقد أكلت كتبي»! لم ير أحد صورة له، وأنت تظهر في كل وسائل الاعلام مع أنك مستهدف أنت وجماعتك».
وأيضاً ضحك أبو عمار، ورفع من سقف ثقته بنفسه:
«أريد أن أطمئنك.. ورائي ثلاثة صفوف لا يظهر أشخاصها».

أخطاء وتجاوزات

هذه الاجابات وأمثالها شعرت أنها تحمل استخفافاً بـأي متحدث او محـذر أو حتى بمن لديه معلومات، وبدل أن تطمئنني زادت من قلقي على مصير الثورة الفلسطينية وهي تكاد تتحول الى ظاهرة اعلامية لفظية تخفي تحتها سيولا من الأخطاء والتجاوزات، والأهم أنها ترفض النقد حتى وان جاء من حريصين عليها. وتساءلت هل هناك شيء لا أفهمه وراء هذا الاستهتار في تناول قضايا بمثل هذه الخطورة؟ ولم يطل الزمن حتى كدت أقترب من الجواب. حدث هذا في لقـاء لي بأبو عمار بصفتي الاعلامية وكمسؤول عن الوكالة «كونـا» بعد أحـداث أيلـول الأسود الدامية بسنوات. رأيته في قصر دسمان، فذهبت لأسلم عليه، واذكر أن قضية ما كانت مثارة في ذلك الوقت لم أعد أتذكر ما هي تحديداً. أردت ان أنصحـه، فلم يعد لأي تحذير من معنى بعد ما سمعته يواجـه التحذيرات بالضحك وبعبارات طمأنة يثبت بعد ذلك أنها لا تقوم على أساس، قلت بلهجة الخبير العارف:
«أنت لا تعمل كما يجب. كل الذين حولك لا يقولون لك سوى أنك تسير في المسار الصحيح ولا أحد يعارضك»
وتجاهل أبو عمار جوهر ما قلت أو تغابى بالأحرى، ورد بقصة لاعلاقة لها باتهام صريح وجهته له:
«اتصلت بي امرأة لتخبرني أن بيتها دمر، فأمرت باعادة بنائه»!
قلت:
«هذا لا شيء.. يفترض أن تخفي نفسك وتعمل» كنت أتحدث من منطلق تجربة كل حركات التحرير في العالم، ولكن بدا لي انني كنت أمام شيء مختلف نهجاً وغاية وأنا أسمعه يرد: «لا.. من الضروري أن نشهر فلسطين».
وأصررت: «الثورية ليست بحمل السلاح ولكنها أسلوب عمل».
فقال بفظاظة: «شكراً.. ومع السلامة».
بهذه العقلية في الحوار، وفي طريقة إنهائه بأسلوب مهين، شعرت أن الرجل غارق في ذاته إلى درجة مخيفة. هو لا يجادل بقدر ما يتهرب ويراوغ، ولا يتلقى بقدر ما يهوى إصدار الأوامر حتى أوامر فرض طمأنينة لا محل لها في خضم كوارث بدأت تلم بالثورة الفلسطينية.
في السنوات اللاحقة أعطاني أبو عمار شهادة تكريم تسلمها ابني محمد بالنيابة عني في عام 1987. وحتى الآن لا أدري على أي شيء كان التكريم، اللهم إلا إذا كانت الغاية منها أن أكف عن التفكير بالقضية الفلسطينية محذراً أو ناصحاً، أو أتوقف عن إزعاجه بملاحظاتي أو أخبار وكالة «كونا» المستقلة وتحليلاتها بعد أن بدأنا نرى السفينة الفلسطينية ترتطم بصخور القاع أو تلقيها الرياح في مسارات غامضة وقبطانها مشغول بمشروعات غامضة لا أحد يعرفها أو يرسمها سواه.

أبو إياد والسوفيت

عرفت أيضاً أبو إياد، عن طريق فريد أبو بكر، حين طلب مني هذا الأخير إن كان بإمكاني ترتيب لقاء بينه وبين مسؤول في السفارة السوفييتية في الكويت لأنه بحاجة إلى المساعدة.
ومن دون أن أسأل عن طبيعة هذه المساعدة التي يطلبها أبو إياد رتبت اللقاء.
كنت على معرفة بجراح عظام اسمه تريبنكوف يسكن في مساكن الأطباء في الشويخ، واعتدت حين أزوره على رؤية أحد الدبلوماسيين من السفارة عنده. فطلبت منه ان يأتي إلى مكتب والدي بجوار فندق الشيراتون لأن صلاح خلف يريد أن يلتقي به.
اجتمعنا سوية. ودارت أحاديث متنوعة كان جوهرها طلب الأسلحة.
سأله الدبلوماسي مباشرة: «كم عدد الفدائيين الذين يتدربون في الكويت؟».
رد صلاح خلف: «اولا، لا يوجد فدائيون في الكويـت، وثانياً، حتى لو كان لهـم وجـود فلن أجيبك عن هذا السـؤال».
وأضاف: «انا سأسألك بصفتـك من السفـارة السوفيتية. أنـا أطلب مساعدتك.. أريد ان تمدونا بالسلاح».
أومأ الدبلوماسي: «أنا موافق».
خرجنا بعد هذا اللقاء القصير، ثم تواصلت الاتصالات بين أبو اياد وبين السوفيت. وسمعت لاحقاً أن الروس أمدوهم بالسلاح عن طريق بولندا.
في آخر لقاء لي بأبو اياد، وكان في أواخر الثمانينات، قلت له: «أود ان أحدثك بموضوع سبق وأن حدثت به فاروق القدومي ولم يصغ الي».

حكومة ثانية

وبسطت الموضوع:
«لا تعتبروا أنفسكم في الكويت حكومة ثانية. أنتم ضائعون. أنظر ماذا حدث لكم في الأردن ولبنان وسوريا عندما ضربوا المخيمات. أنتم الآن وضعكم حساس، ويفترض ألا تتدخلوا في شؤون الغير. لقد قبلنا بوجود هلالين، هلال أحمر فلسطيني بجوار هلال أحمر كويتي، وأنا ساعدتكم، ولكن لن نقبل بحكومتين وتدخلات في أمور سياسية وأمنية. أن يلقى مثلا القبض على فلسطيني جراء قضية، فتتدخلون وتخرجونه من المخفر. هذا لا يجوز».
من يتذكر تلك الأيام يعرف أنني كنت في حديثي أضع يدي على ظاهرة غريبة رافقت العمل الفلسطيني الرسمي؛ استغلال العاطفة الشائعة تجاه القضية الفلسطينية ومكانتها في النفوس استغلالا خاطئاً، ستقود في النهاية الى تشويه صورة فلسطين في المحيط الشعبي العربي قبل المحيط الرسمي. وأتساءل الآن في ضوء مجريات الأحداث اللاحقة: هل كان ما يجري عفويا أم كان أمراً مخططاً له؟
كان رد أبو اياد: «كلامـك صحيـح، ونحن نشكر لك كل ما تفضلت به، وسـوف أتـابع الموضـوع بنفسـي».
ثـم فاتـح عـوني بطـاش مدير مكتب فتح في الكويـت، وطلب منه أن لا يتدخلوا في الشـؤون الداخلية.
لم أكن أتردد في قول ملاحظاتي، أو ابداء رأي أو اقتراح فكرة، حين التقي بأحد ممن كانوا في نظـرنا رجال ثورة نعتبرها جزءا من حركة تحرير عربيـة واسعة. بل وكنت أشعر بالسعادة حين ألتقي بأحـدهم كما حدث حين طلب أحمد جبريل بوساطة أحد الأصدقـاء لقائي. لم أكن على معرفـة به، ولكنني رحبت باللقاء. وجاء الي مع ثلاثة أشخاص من مباحث الكويت كحرس له.
قلـت منذ البداية:
«لن أتحدث بحضور مخـابرات»
فطلب من مرافقيه الخروج. وبدأنا نتحدث. وكان مما قلته له:
«أريـد أن أعرف رأيـك بصفتك رئيس الجبهـة الشعبيـة، القيادة العامـة، ولك مركزك الثـوري والتنظيمي والنفوذ في سوريا، لماذا لا تدعون الى مؤتمر قمـة عربي يعقد في أحد مخيمات اللاجئين؟»
فكر جبريل قليلا ثم قال:
«هذه فكرة جيدة، ولكنهم لن يوافقوا»
قلت:
«حتى لو لم يوافقوا، سوف تستفيدون من هذه الدعوة اعلاميا»
«ان شاء الله.. خير»
كان هذا آخر عهدي به، وخرج ولم أره بعدها.

أوائل الستينات

في أوائل الستينات عرفت شخصيات فلسطينية أخرى، وفي مناسبات وظروف مختلفة، وأبرزها حين بدأ ترحيل من له نشاط بعثي في الكويت، مثل فاروق القدومي الذي أبعد بسبب بعثيته وليس بسبب أنه من فتح كما قال بعد ذلك. ومنهم طبيب العيون من غزة المرحوم د. زهير عواد. كان يسكن في الشويخ، وتربطني به صداقة، وكذلك أخوه الصيدلي ماجد عواد. وهذا الأخير رحمه الله كان سليط اللسان ينتقد الحكومة والكويتيين، فقرروا ابعاده. وعندما علم أنهم سيأتون لأخذه من منزله الى وزارة الداخلية، طمأنته وقلت ألا يخشى شيئا، وأخفيته في منزلي، وقلت له أنني سأتولى الموضوع.
اتصلت بوزير الداخلية، وقلت له انه طبيب في وزارة الصحة، ولايجوز أن تأخذوه الى الداخلية، فنصحني بالاتصال بعبد اللطيف الثويني وكان وكيل الداخلية. اتصلت به ورويت له القصة كاملة، وأن الطبيب موجود في منزلي، ولايجوز أن يسحب من قبل المباحث لأن هذا أمر غير طيب ويسيء الى سمعة الكويت. فقال الثويني:
«وأنت ما دخلك بالموضوع؟»
قلت:
«عمل معي في وزارة الصحة، وهو صديقي، ولن أقبل بإهانته»
«هل أنت مستعد لتوصيله إلى المطار؟»
أبديت استعدادي بالطبع:
«نعم.. في أي وقت»
«غداً إذن.. على طائرة بعد الظهر»
«ألن يأتينا أحد؟»
«لا.. اطمئن»
وعاد زهير عواد إلى بيته ليستعد للسفر.
في مابعد، وقبل عام 1967، تحدث بعض الفلسطينيين في الإذاعة كما أخبرني د. الغلاييني، وكان منهم زهير عواد الذي روى قصة إبعاده كاملة، وأشاد بي ذاكراً أن لي علاقة قوية بالفلسطينيين، ويجب تقدير مواقفي.
قصة الدبلوماسي السوفيتي لم تتوقف عنـد اللقاء الذي رتبته بينه وبين أبو إياد. عادت هـذه القصة إلى الضوء مـرة أخـرى، ولكن مع حادث مثير هذه المرة لم تنشر عنه الصحافة الكويتية شيئاً، ولا أحد عرف طرفاً منها.
ذات ليلة، ومن بيـتـه، اتصل بي الطبيب تريبنكوف الـذي كان يتردد عليه الدبلوماسي ذاك، وقال : «أريد مقابلتك اليوم.. في هـذه الليلة.. ضروري جداً»
وذهبت إليه، فوجدت الدبلوماسي عنده، وما أن دخلت حتى بادرني بطلب مساعدتي في معرفة مصير موظف لديهم في السفارة:
«لدينا موظف اسمه زاخاروف، خرج ولم يعـد، ولانعـرف عنـه شيئا»ً.
فنصحته أن يذهب إلى وزارة الداخلية ويسأل عنه، لأنني لا أستطيع مساعدته في هذا الموضـوع.
وتوقف حديث تلك الليلة عند هذا الحد، إلا أنني عرفت بعد شهر حين التقيت بالطبيب تريبنكوف القصة كاملة. وهذه هي روايته:
كـان زاخاروف يعمـل عنـدنا في السفارة مسـؤولا عن الأمن، واتضح لدينـا أن المخابرات الاميركية جندته. وعنـدما اكتشفت هذه المخـابرات أننـا كشفناه، نبهته بطريقـة مسرحيـة؛ إذ رأى وهو خارج من السفارة سيارة فولكسفاغن تظهر وراء زجاجها الخلفي مزهرية، فهـذا بمثابة تحـذير له أن أمره انكشف وعليه أن يهرب. وحين خرج وشاهد التحـذير، عاد إلى السفارة وأخذ بعض الوثـائق وجواز سفره، ثم أخرجوه من الكويت. إلى أين؟ لا أحد يعلم. وترك زاخاروف زوجته وابنته في الكويت، وتم ترحيلهما بعد ذلـك. وبعد مرور شـهر على هذا الحـادث نشرت صحيفة لوفيغارو الفرنسية خبر هـروب زاخاروف من السفارة السوفيتيـة في الكويت إلى اميركا.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 22-09-2011, 11:04 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة (13)
جابر الأحمد عرض عليَّ إدارة مكتبه.. وجابر العلي تأسيس «كونا»
بعد استقالتي من وزارة الصحة منحني الشيخ جابر الأحمد ولي العهد آنذاك ثلاثة أشهر للراحة والتفكير بعد أن اعتذرت عن قبول العمل في مكتبه. ولكن هذه الأشهر الثلاثة كانت بمنزلة وقت أصبحت فيه سجين عرضين. فمن جهة هناك عرض العمل في مكتب ولي العهد، ومن جهة ثانية هناك العرض الذي طرحه عليّ الشيخ جابر العلي وزير الإعلام بأن أتولى تأسيس وكالة الأنباء الكويتية (كونا).
سـبق أن عرضت فكــــرة الوكالـة على مجلس الأمة فرفضها، إلا انها لم تغادر ذهن الشيخ جابر العلي. فما ان تم حل مجلس الأمة في عام 1976 حتى عاد إليها، واستدعاني إلى مكتبـه وقـال لي:
«أريدك أن تستلم وكالة الأنباء الكويتية. الفكرة ما زالت قائمة، ومجلس الأمة رفضها، والآن أريدك أن تعمل على هذا الموضوع والمجلس غائب».
قلت فوراً:
«هذا ليس مجال عملي».
فأصر على تسليمي مسؤولية تأسيس الوكالة:
«فكر بالأمر ملياً».

تأسيس «كونا»

مرت بضعة أيام، ولم أجد في ذهني سوى ما قلت منذ البداية. لا جواب لدي. وظل الحال هكذا إلى أن أرسل ولي العهد في طلبي للمرة الثانية، وهذه المرة ليس للعمل في مكتبه بل لتأسيس وكالة الأنباء. ومرة أخرى قلت هذا ليس مجال عملي، ولا خبرة لدي في هذا المجال، واضفت: أخشى أن أفشل وأكون سبباً في تضييع الوقت.
استمع إليّ ولي العهد وأنا أقدم حججي وأعذاري، ثم قال بهدوء:
«أريدك أنت بالتحديد.. وإذا فشلت فسأكون أنا المسؤول».
وتساءل محرضاً:
«ألا تستطيع القيام بواجبك الوطني؟».
هنا أحسست أن كل أعذاري تطايرت، ولم أجد ما أقول سوى:
«والله أنا مستعد!».
«إذن.. اقبل بتأسيس الوكالة».
جاء هذا الطلب الشبيه بالأمر استنتاجاً منطقيا، فما دمت مستعداً للقيام بواجبي، وهذا هو ما كرست له سنوات عمري، لماذا أرفض إذن؟ ومع ذلك ظل التهيب ملازما، ليس لأنني أرفض الخدمة، ولكن لأنني أود أن أخدم في المكان الصحيح الملائم لما جمعته من خبرات. وتحت ظل هذه الهواجس رتبت جوابي: «اعطني يومين للتفكير..».
«ولا يوم.. اعتبر الموضوع منتهياً».
حسم الأمر اذن ولا مجال الا للقليل من الوقت للتشاور مع من أعرف.

دعم معنوي

خرجت وأنا غارق في أفكاري، واتصلت بالمرحوم جاسم الصقر ويعقوب الحميضي كصديقين، ورويت على أسماعهما القصة، وكيف أنني لا أعرف ما أفعل. فكان جوابهما معاً:
«اذا لم تقبل أنت فسيقبل غيرك، وهذا مشروع مهم جداً لمصلحة البلد، وأنت أكفأ شخص لهذه المهمة، فاقبل بها».
في اليوم التالي اتصلت بالسكرتير عبد العزيز المشاري وقلت له مسلماً: «توكلنا على الله».
وعدت للقاء ولي العهد بطلب منه، وهنا، وقد أصبح الأمر منتهياً، تحدث إليّ طويلا عن أهمية الاعلام، وألقى ما يشبه محاضرة تثقيفية ألم فيها بأطراف من قصص أشهر الاعلاميين في التاريخ، وضرب مثلا بالدور الذي لعبه غوبلز خلال الحرب العالمية الثانية، وكيف كان اعلامه أقوى من السلاح الألماني، مشددا على دور الاعلام في نشاط الدول والبلدان المختلفة، وعلى ابراز دور الشعب في الرسالة الاعلامية.

وكالة مستقلة

لم أقاطعه خلال كل هذا، كنت أتلقى بانتباه كل كلمة وفكرة، وذهني مشغول بشيء آخر. وحانت الفرصة لقول ما فكرت فيه منذ البداية حين توقف عن حديثه وتطلع الي منتظرا ردة فعلي، فقلت: «يا طويل العمر.. لي طلبٌ واحد، هو مساعدة سموكم حتى أستطيع أن أعمل كل هذا. أتمنى على سموكم أن تكون وكالة الأنباء مستقلة، لديها حرية واستقلالية، ألا تكون تابعة لوزارة الاعلام، أن تكون مثل البي بي سي البريطانية».
وصدر المرسوم الأميري في 6 نوفمبر 1976 بتعييني رئيس مجلس ادارة ومدير عام وكالة الأنباء الكويتية، واعتبارها مؤسسة عامة ذات شخصية اعتبارية، يشرف عليها وزير الاعلام الشيخ جابر العلي.
وفي مكتب الوزير الذي طلبني بعد صدور المرسوم وجدته بدأ سلفاً بالتفكير بكيفية تنفيذ وظيفة الاشراف. قال منذ اللحظة الأولى: «سيكون مكتبك بجوار مكتبي».
قلت، وأيضاً منذ اللحظة الأولى: «لا أريد أن يكون مكتبي في وزارة الاعلام حتى لا أسبب ضيقاً لزملائي».
سألني:
«وأين تريده؟»
كان جوابي جاهزا وفكرت فيه منذ عدة أيام:
«استأجرنا الدور الأول في بناية النقيب».

دشتي وأبو بكر

هنا بدانا الاعداد. كان معي صديقي أحمد دشتي خريج اعلام وفريد أبو بكر. واشتريت كل ما يتعلق بالإعلام من كتب متوافرة. وجلست أقرأ طوال النهار، وفي ذهني تتزاحم الأفكار وترتسم معالم النهج المناسب لعمل جاد يتطور باستمرار، لايمت بصلة إلى منطق غوبلز، عماده تعلم اكثر ما نستطيع من فنون اعلامية من الآخرين.
قبل أن أباشر العمل كانت هناك اتصالات مع وكالة رويترز، وعملنا عن طريقها، لكنني أعدت النظر في موضوع التعاون، وقلت لنفسي انني لا أريد أن أكون تابعا لرويترز، لا أريد أن أدور في محيطها، أريد أن أبدأ صغيرا ثم أكبر. اجتمعنا مع مسؤولي رويترز وانفصلنا عنها. وبحثت عن وكالة أنباء صغيرة ولكن متقدمة، فوجدت أمامي وكالة تاس والأسوشيتد برس والفرنسية واليونايتد برس. ناقشت أمر هذه الوكالات مع أحمد دشتي، وذهبنا لزيارتها.
زرت وكالة الأنباء الفرنسية في لندن وفي ذهني وكالة نستفيد منها. سمعت عن وكالة الأنباء الألمانية، وذهبنا اليها، والتقينا بمديرها العام الذي كان يشغل منصب رئيس غرفة تجارة هامبورغ قبل أن ينتقل الى هذه الوكالة، فطلبت التعاون معه وتزويدنا بدراسة عن الوكالة لنعرف كيف نبدأ. وبالفعل أرسلت الوكالة الألمانية الينا أحد موظفيها وزارنا في الكويت، وشرحنا له الوضع، وجاءنا منهم بعد ذلك تقرير بكيفية البدء، وعينوا لدينا مستشارين براتب شهري ظلوا طيلة سنتين، ثم أوقفنا الاعتماد عليهم وبدأنا نطلب خطوطا ذات تردد عال، اذ لم تكن الصحون اللاقطة متوافرة آنذاك. وأحضرنا للعمل معنا عدلي بسيسو وضياء الفاهوم مسؤول الأخبار في وزارة الاعلام، وكذلك اقبال الأحمد وأمل الخالد والمسؤول عن التحرير ضياء الفاهوم ويوسف السيباني وداوود سليمان وعبد الرحمن الامام.

«كونا» أو «وفا»

وتكونت مجموعة العاملين من كوادر كويتية ولبنانية وسودانية، وأغلبية المحررين من الفلسطينيين، الى درجة قيل عني أنني ضد الكويتيين ومع الفلسطينيين، وأن الوكالة لم تعد «كونا» بل وكالة «وفا». ولكن هذه الأقاويل لم تغير من مبدئي وخطي، كنت حريصا على أن يتعلم أبناء بلدي ويأخذوا الخبرة من أهل الخبرة.
لم أكن في كل هذا بعيداً عن الحس الصحفي، أو امتلاك فكرة عما هو العمل الاعلامي، كما قد يخيل لمن يقرأ كيف بدأت جولتي للاستفادة من خبرة من هنا وخبرة من هناك، وتكوين مجموعة العمل.
الحقيقة أنني مارست الكتابة في الصحافة مبكراً، لم تنقطع صلتي بها ولا متابعاتي لأجوائها، اضافة الى اهتمامي بمتابعة ما يكتب وما ينشر حول عمل وزارة الصحة، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات. أي أنني كنت مهيأ فكرياً للعمل الصحفي وأمتلك خلفية ثقافية ضرورية في مجالات ثقافية وسياسية وتاريخية شتى لابد منها لكل من يدخل في هذا المجال. يضاف الى هذا أن تدريبي وممارستي لشؤون الادارة وفرت لي خلفية جعلتني أدير عملي وفق مبادئ الادارة العامة، أعني اعداد الكادر البشري والموارد اللازمة وتنظيمها. ما كنت بحاجة اليه فقط هو الالمام بالتقنيات الخاصة بمجال الاعلام، مجال عمل وكالة أنباء مستقلة تمتلك مساحة من الحرية تجعلها قادرة على المنافسة بحرفية ومهارة. وهذه أمور تعلمتها بالممارسة وحرصي على دقة العمل وتطويره دائماً.

أول مجلس إدارة

واجهت في البداية مسألة الحفاظ على استقلالية الوكالة الوظيفية، بالاضافة الى الاستقلالية في مضمار العمل بعيداً عن الروتين الحكومي. وبما أننا هيئة مستقلة كان من الواجب أن يكون الكادر الوظيفي مختلفاً حتى نوفر له الامكانيات والقدرات الفاعلة المناسبة. وأذكر أنني لهذا السبب نفسه لم أقبل عضوية جمعية الصحافيين حين عرضت عليّ، ولم أقبل أن ينتمي الى عضويتها أي من العاملين في الوكالة، لأنني اذا قبلت العضوية سيكون عدد كبير من العاملين في الوكالة أعضاء في الجمعية، وستكون لنا الأغلبية في الانتخابات، ولا نعلم متى تضع الحكومة يدها على جمعية الصحافيين. كنت مقتنعاً أننا يجب أن نحافظ على استقلاليتنا، ولا يجوز أن أنتخب لرئاسة جمعية الصحافيين وأنا مدير لوكالة أنباء مستقلة في الوقت نفسه.
من أجل هذا، اجتمع أعضاء مجلس ادارة «كونا» سعود العصيمي وعبدالله السابج وأحمد دشتي ود. فاروق العمر، وناقشنا منذ البداية قانون الكادر الوظيفي، واتصلنا بهيئة الفتوى والتشريع، فأصدروا لنا قانوناً أسوأ من قانون الكادر الوظيفي الحكومي. لم نسكت بالطبع، وذهبت مع أحمد دشتي الى هيئة الفتوى والتشريع وجلسنا مع الخبير هناك وقلنا له ان هذا القانون غير مقبول، فأصر على رأيه. أمام هذا لم أجد بداً من اخبار الشيخ جابر العلي وكان يحضر حفلا في قصر السلام، وتداولت بالموضوع مع حمد الجوعان الذي حضر الى مكاتب الوكالة، ثم عدنا الى الخبير في الفتوى والتشريع وقلت له:
«أمامك خياران، وأنا أعلم بمصلحة بلدي، فاذا أردت أن تحكم فاذهبْ واعلن هذا واحكم.. هذا القانون غير صالح».
تم رفع القانون الى مجلس الوزراء، وناقشته لجنة من المجلس معي، وقلت في نهاية النقاش انني لن أقبل الا بسلم الوظائف الذي اقترحته حتى تكون الوكالة ذات مستوى عالمي.
وأعيد القانون الى الفتوى والتشريع، وسألني الخبير:«ما الذي تريده؟».
شرحت له ما أريد، فوافق، وصدر القانون الخاص بالكادر الوظيفي للوكالة. وفوراً كتبت الى عبد الله الصانع رئيس البعثات في وزارة التربية أطلب منه أن يرسل إليّ الطلاب اليتامى الذين لا تؤهلهم درجاتهم لدخول الجامعة، كي أرسلهم الى الخارج على نفقة الوكالة. ولكن المؤسف أن الصانع نسي الموضوع، ولم يرسل إليّ أي طالب.
هكذا بدأت العمل معتاداً أن أكون على رأس عملي في الوكالة منذ السادسة صباحاً كي أبدأ متابعة الأخبار والتطورات الجارية في العالم. ولم يكن عملي من وراء مكتب فقط، بل كنت أشارك زملائي المحررين في العمل وأتعلم منهم، وبهذا استفدت من خبرة كل واحد منهم، وساعدني ولعي بالقراءة على التعلم بسرعة.

دهشة الإعلام

هناك أحداث بارزة تجلى فيها حسي الصحفي في منصبي الجديد، أشهرها الخبر الذي انفردت به «كونا» عن وفاة الرئيس السوفييتي ليونيد بريجنيف في 10 نوفمبر 1982. وأثار انفرادنا وقتها دهشة الأوساط الاعلامية العالمية والأوساط السياسية في وقت لم نكن فيه قد برزنا بما يكفي ليعرف العالم أن هناك وكالة أنباء كويتية حتى.
لهذا الحدث قصة تستحق أن تروى لتعلم من يأتي بعدنا أن العمل الصحفي ليس مجرد انتظار سقوط خبر بيد الصحافي، بل امتلاك أرضية فكرية تؤهل صاحبه للتحليل والاستنباط واصابة المرمى اعتماداً على أدلة ظرفية غير مباشرة أحيانا، أوفي غالب الأحيان.
بدأت القصة حين كنت أحضر مؤتمر قمة مجلس التعاون الخليجي في البحرين بعد الغزو الاسرائيلي للبنان ببضعة أشهر، وكان معروفاً آنذاك أن الزعيم السوفييتي على فراش المرض، فجاءني اتصال من وكالة كونا وأخبروني أن مندوبنا في موسكو يقول ان الاذاعات ومحطات التلفزة السوفييتية تبث موسيقى جنائزية، وأن المذيعات يظهرن على الشاشات بثياب سوداء!
طلبت منهم الاتصال بوكالة تاس ونوفوستي وجريدة البرافدا ومعرفة ما اذا كان لديها خبر عن وفاة أحد الزعماء السوفييت. وسأل مندوبنا هناك وتقصى وبحث لكنه لم يحصل على جواب. فطلبت منه بذل المزيد من الجهد واجراء المزيد من الاتصالات، وكان جوابه: «الناس كلهم هنا في حالة سكون، والموسيقى الجنائزية تتردد في أماكن كثيرة، والثياب السوداء تهيمن على ثياب المذيعات، ولكن لا خبر»
هنـا بدأت بتحليل معلومات ومشاهدات مندوبنا في موسكو، وتوصلت الى نتيجة مفادهــا:
«ليس هناك في الاتحاد السوفييتي أكبر من بريجنيف، وبريجنيف مريض.. اذن..!»
وتناولت سماعة الهاتف واتصلت بالمسؤول في الوكالة وقلت له: «اتصل بالمندوب في موسكو واطلب منه أن يرسل خبرا يعلن فيه وفاة بريجنيف» تحير المندوب وقال: «كيف؟»
قلت: «لا عليك.. ارسل والباقي علينا».
اتصلت بالوكالة وطلبت أن يعدوا الخبر، ويبثوه معلنين أن بريجنيف مات.
وبالفعل بثت كونا الخبر كما طلبت، ولم يكن هناك من قام ببث مثل هذا الخبر سوانا، فتحير العالم، وتحركت وكالات الأنباء، ولكنها لم تجد شيئا يفيد بأن بريجنيف مات.

..ومات بريجنيف

حين توجهت كعادتي خلال وجودي في البحرين إلى جناح سمو أمير البلاد في الفندق، وجدت عنده عبداللطيف الحمد، ورويت القصة على مسامعهما، فقال سمو الأمير مستغربا: «تبث خبر وفاة بريجنيف، وبريجنيف لم يمت؟!».
طمأنت سموه وقلت: «أنا استنتجت أنه مات».
«وإذا لم يكن ميتا.. لا.. هذا لا يصح».
ووجه لي لوما، فقلت: «أنا أتحمل المسؤولية في هذه الحالة.. إذا لم يكن ميتا سأقدم استقالتي من رئاسة تحرير كونا.. وأذهب».
وضحك سموه.
حين عدت إلى غرفتي، لم ألبث إلا وقتا قصيرا، وإذا بي أفاجأ بالنداء علي، فتوجهت إلى المنادي، وسألت: «خيرا؟».
قال: «الشيخ يريدك».
توجهت إلى جناح سموه:
«نعم.. طال عمرك».
كانت ملامحه هذه المرة منبسطة لا تحمل تأنيبا ولا لوماً. قال: «جاءنا الخبر اليقين.. أن بريجنيف مات».
كان هذا الحادث في الحقيقة سبقا صحفيا لوكالتنا تفوقت فيه حتى على وسائل الإعلام الأميركية التي كانت تراقب الاتحاد السوفيتي على مدار الساعة. وأذكر أن دبلوماسيا أميركيا متخصصا في جنوب شرق آسيا روى ما حدث لديهم من ارتباك بالقصة التالية:
«سمعنا خبرا منسوبا إلى وكالة اسمها كونا لا نعرف أين توجد ولا نعرف من اين حصلت على هذا الخبر، فاتصلنا بسفيرنا في موسكو وسألناه: «هل مات بريجنيف؟».
أجاب بلهجة قاطعة: «لا.. لم يمت».
«لدينا خبرٌ بثته وكالة اسمها كونا، لا ندري أين توجد.. ربما في أميركا الجنوبية».
وعاد السفير ليؤكد أن لا علم لديه بمثل هذا الخبر، ولم نحمل الخبر على محمد الجد، ولم نعره اهتماما. ولكن بعد ساعة، عاد سفيرنا في موسكو وقال: «الخبر صحيح.. مات بريجنيف».
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 22-09-2011, 11:04 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة (14) قلق خفي غامض يتحكم بحياة معظم زعماء العرب
لم يكن عملنا في الوكالة (كونا) مجرد تصيد للأخبار، بل كان في حقيقة الأمر أكثر من ذلك، كان استقصاء للعالم من حولنا وتعرفا على ما يحيط بنا، سواء تعلق الأمر بتغطية المؤتمرات أو متابعة تطورات القضايا والأحداث المحلية والعربية والعالمية أو لقاء رؤساء الدول من مختلف الجنسيات. وبسبب اهتمامي بالأمور السياسية، حرصت على إجراء المقابلات مع شخصيات عربية وأجنبية شخصياً، بصفتي مديرا لوكالة كونا، وكانت لي علاقات وصحبة مع الكثير من الشخصيات، واتخذت خلال ذلك قرارات صعبة أخذتها على مسؤوليتي بالكامل. ووجدت نفسي أتصادم مع رؤساء دول أحياناً كما سأروي.
بعض الناس ظن حين قبلت العمل في كونا أنني أصبحت في أحضان الحكومة. ولكن فكرة الوكالة التي رفضها مجلس الأمة حظيت باحترام الحكومة بالصيغة التي اقترحتها، وكانت تساعدني.

شخصيات ومصائر

الكثير من هذه التجارب، والشخصي منه بخاصة، لا يظهر في التقارير التي تبثها الوكالات عادة، ويظل في الذاكرة. وسأروي الآن قصصا هي بالنسبة لي أكثر كشفاً ودقة مما اعتاد الناس سماعه، فيها من الواقع ملامحه، ولكن فيها أيضاً من زاوية الرؤية الشخصية ملامح أكثر حيوية. هنا أجد نفسي في مكان الرسام الحامل لقماشة لوحته ليرسم ملامح شخصيات نشاهدها في المجال العام، ولكنه هنا يلتقط شيئا خاصا للشخصية وظروفها الزمانية والمكانية وسط عالم يموج كما عهدناه دائماً بالمتغيرات.
لم يكن مصادفة إذن أن التقي بشخصيات تقلبت مصائرها، بعضها مازال على قيد الحياة، وبعضها رحل عن عالمنا، بعضها يأسف الإنسان على غيابه وبعضها يتمنى لو لم يكن موجودا أصلا.

خلطة الإعلام

المكان الإعلامي العربي الذي وجدت نفسي فيه، عالمٌ ذو خصوصية، تختلط فيه عناصر سياسية ومخابراتية وتجارية ومعرفية، وبين كل هذا وذاك تجد نفسك في خضم الأمواج لا على الشاطئ، تستكشف ما حولك وما في نفسك، تمتحن خبرتك ومعرفتك، وتمتحن هذا العالم وتتعرف عليه.
وهو أيضاً عالم تواجه فيه واقعاً شاذا، تجد فيه الكثير من المرتزقة بأزياء الصحافيين حيث

تكتب غالبية هؤلاء، ونسبتها تقارب %65 كما قلت ذات يوم، في ضوء حجم المدفوعات، ولكل كلمة لديها سعر. وتجد فيه متعلمين يكتبون ولكنهم أميون إذا أردنا معرفة محتوى ما يكتبون. الأخطر من كل هؤلاء، ذلك النوع الذي يكتب ما لايؤمن به، فيظهر بلباس تقدمي بينما ممارساته عشائرية. ويكثر أمثال هؤلاء المرتزقة والأميين، ومن هناك لايقدمون جديداً لا في الفكر ولا في السياسة، بل يتحذلقون ويتلقطون ما يعود عليهم بالنفع ويبثونه بين الناس، يعزفون اللحن الذي يطلبه من يدفع، كما يقول مثل إنكليزي، وحين تكشفهم وتنتقدهم، يتطاولون عليك أنت الذي تعرف أن أسماءهم موجودة على قوائم دفع وزارات الإعلام الرسمية.

جولة آسيوية

لم يكن قد مرّ على تأسيس كونا سوى أربع سنوات حين سافرت مع سمو الأمير في جولة آسيوية في عام 1980. وهو عام لا ينسى مطلعه. فقد حفل بحروب وغزوات ستغير صورة منطقتنا والعالم من حولنا وسنعيش تداعياتها كما سنرى لعقود طويلة، مست محيطنا ومستنا مباشرة.
باكستان كانت محطتنا الأولى، وفي أول يوم وصلنا فيه إلى عاصمتها إسلام آباد أقاموا حفل عشاء على شرف الأمير الزائر. وخلال العشاء رويت للحاضرين من الباكستانيين أخباراً لم أكن أعرف أنها ستأخذني لألتقي وجها لوجه مع الجنرال ضياء الحق!
قلت لهم إن السوفيت حسب معلوماتي موجودون في أفغانستان، أدخلوا معهم ما لايقل عن 500 عنصر مخابراتي من الكي. جي. بي! واثارت هذه المعلومة اهتمام المضيفين، فسألوني كيف عرفت؟ قلت هي معلومات شخصية، ولــــم أزد على ذلك حرفـاً.
بعد العشاء ذهبنا إلى الفندق، فإذا بهاتف من مكتب الاستقبال يرنّ في غرفتي ويخبرني أن ضياء الحق يريد مقابلتي. دهشت بالطبع، وقلت لقريبي عبد الله السديراوي، وكان معي في الغرفة:

مع ضياء الحق

«ضياء الحق أرسل في طلبي، وأنـا لا معرفة لي بـه، ولا أعرف الموضوع الـذي يريدني من أجله!»
قال السديراوي:
«إنزل وشوف الموضوع»
نزلت من غرفتي، فوجدت ضابطاً في انتظاري. لم يكن الأمر مطمئناً، فالعسكر لا يؤمن جانبهم وبخاصة حين يحكمون بلداً تسمع عن غوامض تجري فيه وانقلابات لا أول لهــــا ولا آخر.
عدت إلى غرفتي وأخبرت السديراوي، وقلت له:
«اسمع.. أنا ذاهبٌ لمقابلة ضياء الحق وإذا لم أعد فأنت تعرف أين أنا»
ذهبت بصحبة الضابط إلى مقر الجنرال، وجلست في صالة لمدة ربع ساعة لا أعرف أين أنــــا ولمــــاذا جــــاءوا بي. ثم ظهر ضياء الحــــق من وراء حاجب وسلم عليّ وأنــــا مازلت مستغرباً. عندئذ قـــال بانكليزيـــة مبتورة باللهجـــة الباكستانيـــة:
«أخبرني أحد الوزراء أنك حدثته عن وجود عناصر الكي.جي. بي!»
أه.. فكرت بيني وبين نفسي، إذن وصله الخبر، هذا كل ما في الأمر.
قلت شاعراً بالارتياح:
«هل يعقل ياسيدي الرئيس أن يحتل السوفيت أفغانستان من دون أي تغطية من المخابرات؟»
هز رأسه وسألني:
«وكيف نأخذ معلومات عنهم؟»
«هذا ليس من شأني بل من شأنك أنت بصفتك رئيس المؤتمر الإسلامي.. أنت من يجب أن يتحرك»
هنا فاجأني بالقول:
هل تقبل تفويضاً مني لفتح الموضوع مع السوفيت؟
«بأي صفة؟»
لاذ الرئيس بالصمت ولم يرد، فتابعت:
«أنا لست بهذا المستوى، اعطني كتابا منكم.. وإلا فبأي صفة تريدني أن أذهب إليهم؟»
كان الجنرال خلال الحديث يفتح بين آونة وأخرى زراً من أزرار ردائه، كأنه يشعر بضيق في التنفس.
ثم انتقل إلى موضوع آخر:
«لدي خطاب سوف ألقيه في الأمم المتحدة، وأريد أن أعرف ما هي ملاحظاتك عن العالم الإسلامي»
قلت:
«أنا حاضر»
فمد يده إليّ ببطاقته الشخصية ورقم الفاكس الخاص به.
في اليوم التالي ذهبت مع الأمير لزيارة جبل يدعى ميريز، شديد البرودة يغطيه الضباب، وكنا في شهر سبتمبر. وهناك انتحى بي ضياء الحق جانباً، فملأتني الخشية من أن تظن جماعتي أن بيني وبينه شيئا خاصا.
قال وهو يشير إلى مناطق حولنا:
«أريد أن أهديك شيئاً»
شكرته وقلت:
«لا موجب للهدايا»
أصر:
«أريد أن أهديك أرضاً في ميريز»!
«لا أستطيع قبول هديتك حتى لا يظن في المستقبل أنني جاسوس لك»
ضحك، وقال:

رسالة إلى الأمير

«أطلب منك أن تخبر الأمير، بما أنه ذاهبٌ إلى الهند وسيلتقي بأنديرا غاندي، أن تذكره أن الهندوس يدخلون البقر إلى المساجد، ونحن لانستطيع اعتراض البقر لأنها مقدسة عندهم. إنهم يستفزوننا. يصلي المسلمون في المساجد وتدخل عليهم الأبقار والثيران..»
وعدته أن أحمل رسالته إلى الأمير، وقلت له:
«ولكنني لاأعلم إن كان الأمير سيتحدث حول هذا الموضوع أم لا»
وبالفعل نقلت الرسالة وما طلبه ضياء الحق، فوجدت لدى الأمير علما بالموضوع، وقال إنه سيناقشه مع أنديرا غاندي.
بعد ما يشبه هذه المغامرة الليلية في باكستان، التقيت بضياء الحق مرة أخرى في المؤتمر الإسلامي في الطائف. جاء اللقاء خلال الصلاة، وتصادف وجودي بجواره، ولاحظت أنه أطال الصلاة. حين انتهى سألته:
«لماذا أطلت الصلاة؟»
قال:
«أريد الجنة»
قلت مازحاً:
«الجنة.. دفعة واحدة!»

بذخ ملوك

ضحك، وربت على كتفي، وبعدها أرسل لي صورته وعليها إهداء «إلى صديقي العزيز».
واصلنا جولتنا، ودخلنا بنغلادش، وكانت هذه أول زيارة لي إلى بلد فيه هذا الفقر المدقع الذي يتجاوز خيال المتخيل. فقر واضح في العاصمة دكا، في طرقاتها وعلى ملامح الناس والأسواق. والغريب أن الرئيس مجيب الرحمن حين دعا جميع رؤساء التحرير وهبط ليستقبلنا، بدأت موسيقى الأبواق تعزف على إيقاع خطواته، وسار مبتهجاً كأنه إمبراطور من أيام زمان، يزهو وسط شعب يموت جوعاً فعلا لا مجازاً.
لم أنس هذا المشهد، ولذا ما إن اجتمع بنا مسؤول الإعلام مع بقية رؤساء التحرير، بادرته بالقول:
«ألاحظ أن نظامكم اشتراكي، ومع ذلك الناس يموتون من الجوع! أرجو المعذرة، فأنا أرى بذخا من فعل الملوك وليس من فعل قادة شعب فقير!»

تغيرت ملامح المسؤول الإعلامي، وسارع يقول بارتباك واضح:
«نتحدث في هذا الموضوع لاحقاً»
ولم يأت هذا الوقت اللاحق، فقد غادرنا إلى ماليزيا، وهناك في أول يوم دعانا السفيرالسعودي، وعرض علينا فيلماً وثائقيا عن الملك عبد العزيز بن سعود. بعد انتهاء الفيلم، ونحن على مائدة العشاء، جاءني محمد درويش العرادة وقال لي:
«الشيخ يريدك لأمر ضروري»
ذهبت إليه أستطلع الأمر، فقال لي ما أن شاهدني:
«علمت الآن أن العراق هجم على جزر إيرانية واحتلها، والوضع هناك ليس طبيعياً.. تحر الموضوع»
رجعت إلى الفندق وتحريت الموضوع، فقالوا لي أن هناك اشتباكات على الحدود العراقية- الإيرانية. أخبرت عبد اللطيف الحمد الذي كان معنا على مائدة العشاء، وطلبت أن ينقل الأخبار إلى الأمير. كان هذا في سبتمبر 1980، بداية الحرب العراقية- الإيرانية التي تواصلت طوال عقد كامل.
محطتنا الأخرى كانت جاكرتا في أندونيسيا. وخلال وجودنا على متن الطائرة، وكانت من نوع بوينغ 707، شاهدت رؤساء التحرير وبينهم فيصل المرزوق، ضابط يذهب مسرعا إلى حجرة الطيار ويخرج مسرعاً، وأحسست أن وضع الطائرة لم يكن طبيعياً. قال المرزوق:
«هناك شيء يحدث للطائرة.. ونحن برفقة الأمير»
ولم يكد يتم كلامه حتى هوت الطائرة، ثم عادت إلى الارتفاع، وظلت الحال هكذا بين هبوط وارتفاع إلى أن وصلنا مطار جاكرتا، وهناك كانت في انتظارنا سيارات الإسعاف والإطفاء، وكل هذا ونحن لانعلم مايحدث.
وواصلنا رحيلنا إلى سنغافورة، وهناك وجدنا طائرة كويتية جامبو جيت. وعدنا من رحلتنا الآسيوية ونحن مرتاحون، ولكن لنواجه عواصف أخرى بدأت تلم بمحيطنا القريب.

في العالم العربي

سانتقل الآن إلى قصص من عالمنا العربي، عالم تصيبني الدهشة الان، وأنا اتذكره في الثمانينات، وأتذكر معه كم كان زعماؤه يتماثلون مع زعماء رحلتنا الآسيوية، رغم اختلاف اللغة والبعد وخصوصية الجغرافية السياسية.
أربعة رؤساء التقيت بهم، أو أربعة مصائر، تكاد تلخص أوضاعنا إذا أردنا تلخيصاً بخطوط بسيطة. وكانت هذه اللقاءات في ظروف مختلفة، وتحت هاجس قضايا مختلفة. وكلها أعطتني تجربة ذات مغزى في تعامل رؤساء العالم الثالث عموما مع وسائل الإعلام. أنت لدى هؤلاء مرحبٌ بك إذا كنت من حملة المباخر والطبول، أما إذا كنت من حملة الرأي الآخر، فالنجوم أقرب إليك من المسؤولين الكبار في هذا العالم.
لست خبيراً نفسياً، ولكن لفت نظري تفضيل هؤلاء للإعلام الغربي رغم أنه لا يخدم إلا مصالح الأسياد القدامى، ولا يتوانى عن غرس بذور الفتنة والشقاق عندما تتاح له الفرصة. بينما نجدهم يحتفظون بنظرة شك إلى الإعلام في بلدانهم.

قلق خفي

إن ما أتذكره كسمة دائمة على وجوه هؤلاء الرؤساء هو القلق الذي يُخفى وراء شتى المظاهر الدبلوماسية، أو وراء التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، قلق خفي غامض لا يجد تعبيره في كلماتهم، بل في حياة متقلبة راكدة تحيط بهم ويحيطونها بشتى التمويهات، ويستطيع أي إعلامي يمتلك أدنى حد من الحس السليم اكتشافها.
في عام 1980 ذاته حدثت مواجهة بيني وبين الرئيس السوداني جعفر نميري تصرف فيها تصرفا غامضا غير مفهوم، حين رفض الحديث إلا في موضوع واحد حدده هو، وأمام عدسات التلفزيون لا مع رئيس وكالة كونا، الذي يبدو أن فكرة مسبقة كانت لديه عن استقلاليتها عن أي تأثير رسمي.
كان في زيارة للكويت قادماً من باكستان، وهو يومها رئيس لجنة التضامن العربي. فأحببت أن أجري معه لقاء صحفياً، مع أنني شخصياً لا أتفق مع توجهاته السياسية،
ذهبت إلى مقر إقامته الرسمي في قصر السلام في الموعد المحدد وفي ذهني أن تتمحور الأسئلة التي سأوجهها حول عمل اللجنة التي يرأسها في رأب الصدع العربي وإصلاح العلاقات المتدهورة بين العديد من الدول العربية.

مع النميري

دخلت الحجرة المخصصة، فإذا بها تحتشد باستعدادات كاملة لتصوير المقابلة تلفزيونياً.
حضر الرئيس وصافحني، وأول سؤاله كان:
«ما هي طبيعة الأسئلة؟»
قلت:
«في ذهني إجراء مقابلة لوكالة الأنباء الكويتية، ولم أعلم أنه سيتم تصويرها تلفزيونياً».
وأعاد السؤال:
«ماهي طبيعة الأسئلة؟».
«يدور معظمها حول عمل لجنة التضامن..».
قاطعني: فاجأني ولم يترك لي فرصة إكمال جملتي:
«أنا أرفض الإجابة عن هذه الأسئلة»!
استغربت وقلت:
«يا سيـادة الرئيس، إن كنـت لست مرتــــاحـــاً للمقابلــــة، فيمكنك إلقـــاء بيـان عـن عمــل اللجنـــة التي ترأسها»
«ومن يضمن نشر ما أقوله؟»
نظرت حولي مشيراً إلى مسجلات الصوت وعدسات التصوير:
«هذه كلها تشهد أنني لن أضيف حرفاً واحداً ولن أشطب حرفاً مما ستقوله!».
توقعت أن يقبل العرض، إلا أن رد فعله ضاعف دهشتي:
«الآن لست مستعداً للحديث في موضوع التضامن العربي، لن أتحدث إلا عن العلاقات الكويتية- السودانية».
فشرحت:
«اسمح لي.. جئت لأسألك بصفتك مسؤول لجنة التضامن العربي، العلاقات الأخوية الجيدة بين الكويت والسودان بخير والحمد لله ولا يحتاج القــارئ أو المشاهد إلى معرفـــة أكثر مما هو ظاهر، ويمكن أن نتحدث عنها، ولكن المهم الآن التضامن العربي، توضيح من رئيس اللجنة حول ما وصلت إليه في عملها وإنجازاتها إن كانت أنجزت شيئاً»
رد النميري:
«أنا أقول ما في غير العلاقات الكويتية- السودانية»!
وأضاف بإصرار:
«أنا أرفض، ولن أتحدث إلا مع التلفزيون»!
هنا شعرت بأنه متوتر الأعصاب، واصبح الجو كله متوترا تبعاً لذلك، فقلت:
«لا.. هذا كلام لا يقال لي، أنا لست مندوب تلفزيون الكويت، هذا مندوب تلفزيون الكويت هناك وهو من يسألك عن العلاقات الكويتية- السودانية.. تعال يا أحمد عبد العال..».
اقترب عبد العال وجلس، وطلبت منه أن يمضي قدما في إجراء المقابلة معه، وخرجت، وأنا أردد بيني وبين نفسي «خليه يولي».
في الخارج التقيت ببعض مرافقي النميري، وبينهم الملحق الصحفي في السفارة السودانية الذي يبدو أنه سمع طرفاً مما جرى، فسألني:
«بو خالد.. أنت زعلان؟».
«والله.. لا أستطيع مقابلته، صعبٌ عليّ أن أقابله، خل التلفزيون يجري معه اللقاء. نحن وكالة أنباء حرة.. لا قيود عليها».
اعتذر الملحق الصحفي عن عدم تجاوب رئيسه ورفضه إجراء المقابلة حسب الاتفاق الأصلي، ورجاني ألا أعتبر الموضوع شخصياً، فأكدت له أن الموضوع ليس شخصياً إطلاقاً. ثم طلبت منه إذا أراد أن يخدمني توصيل رسالة إلى رئيسه.
سألني:
«ماهي؟»
قلت مشدداً على كل كلمة:
«أرجوك أن تبلغ الرئيس أو السفير على الأقل، قل له إن بو خالد يقول لك، أنت جئت هنا خادماً للشعب السوداني، وليس شعب السودان خادما لك»
رد الملحق الصحافي:
«والله العظيم سأقول له».
وبالفعل قام بإبلاغ رسالتي إلى أحد المسؤولين في الوفد، وأوصلها هذا إلى رئيسه، ولكن لم يمض على هذا الحادث أكثر من عشرة أيام، حتى نقلوا الملحق الصحفي من السفارة!.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 22-09-2011, 11:05 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة (15)
أمزجة الرؤساء مختلفة.. ويتفقون على كره الصحافة والمعلومة
تختلف أمزجة الرؤساء من واحد إلى آخر، إلا أن المزاج الأكثر شيوعاً هو أنك تجدهم يستشيطون غضبا حين يتجرأ الصحافي على مقاربة ما يعتبرونه من المحرمات، لكنهم يكبتون غضبهم، ويصطنعون هدوءاً وثقة بالنفس، بينما تشعر من نظراتهم الجامدة أو ضحكاتهم المفتعلة أنهم يغلون من الداخل. هؤلاء يتعاملون مع الإعلام بسطوتهم نفسها التي اعتادوا عليها مع شعوبهم، وربما بالخوف ذاته الذي يشعرون به في أعماقهم أحياناً. إلا أن أعجبهم ذاك الذي تشعر أنه سجين أوهام خاصة به، فلا تجد عنده سوى نفي كل واقعة أو معلومة تذكرها لأنها لا تلائم تصوراته.

نموذج صدام

يحضرني هنا نموذج صدام حسين حين التقيت به مع زملائي وإخواني رؤساء تحرير الصحف الكويتية في مدينة فاس حين احتضنت أحد مؤتمرات القمم العربية في عام 1982.
من عادتي في هكذا لقاءات، بصفتي رئيساً لمجلس إدارة كونا، أن لا أكون أول المتحدثين، بل أترك الحديث أولا لرؤساء التحرير، ثم يأتي دوري بعد ذلك.
ناقش رؤساء التحرير صدام في كل شيء، وفي العديد من القضايا، وغطوا جوانب كثيرة بحضور آخرين معه، طه ياسين رمضان وسعدون حمادي وطارق عزيز، هؤلاء الذين يحضرون في أغلب هذه المناسبات، إما للمصادقة على ما يقول، وإما لتزويده بما يجهله من معلومات كما تبين في ما بعد.
بعد أن اكتفى رؤساء التحرير، تقدمت للسؤال.
قلت له: «سيدي الرئيس.. أود أن أسألك سؤالا صريحاً. ومع أنك قد تتأثر منه قليلا، فإنني أود طرحه عليك؛ أريد أن أسأل، لماذا كل الصحف العراقية ووسائل الإعلام العراقي، تعتبر أنه لا يوجد في العراق سوى صدام حسين؟ أي أن الشعب العراقي لا دور له.. أريد أن أفهم لماذا؟».
أزعجه هذا السؤال بالطبع، ولكن إنزعاجه ظل في داخله، فمن طبيعته ألا ينفعل أبداً.. هادئ الأعصاب ولكنه يغلي من الداخل.
وجاء جوابه على سؤالي هكذا: «والله أنا في الحقيقة حين كنت نائباً للرئيس أحمد حسن البكر، كنت أتجول في المحافظات، وعندما أعود إلى بغداد تخرج تظاهرات ترحيب.. وكنت أقول، لا تقيموا تظاهرات لاستقبالي..».
وتابع موجها حديثه إلى طارق عزيز.. وسأله: «ألم أكن أقول لكم لا يوجد داع لهذه الجماهير، لا يوجد داع لهذه التظاهرات؟».
فرد طارق بجواب جاهز: «نعم سيدي».
لا أحد يستطيع أن يقول لا.. وإلا طار رأسه.

مع مبارك

النموذج الآخر الذي التقيت بـه، وايضاً وجدته يستاء من انتقاد قناعاته، ويسقط كأس الماء من يده، حتى لو كان النقد مجرد ملاحظات ننقلها إليه نيابة عن الناس، كان الرئيس حسني مبارك.
كان قد التقيت به مرتين، مرة خلال مؤتمر القمة في مسقط العمانية، ومرة وهو يلعب الاسكواش في ملعب في الكويت.
في مسقط، ألحّ عليّ وكيل وزارة الإعلام الشيخ ناصر المحمد، وكان موجودا هناك، على أن أجري مقابلة مع مبارك، فطلبت موعداً، وذهبت إليه. وجاء سؤالي الأول مستمداً من موضوع كامب ديفيد الذي كان أخطر تحول في الصف العربي من مقاومة المحتل الصهيوني إلى عقد المعاهدات معه: «أريد أن أسألك حول موضوع كامب ديفيد، وهو موضوع وضع في يد العرب قيوداً؛ الاعتراف بإسرائيل.. هذا وضع يضرّ بالعرب».
قال:
«وايه كمان؟».
قلت: «هذه العملية مسيئة للأمة العربية».
قال: «ما فيش حاجة تانية؟».
قلت: «نعم.. ووضعوا قوات دولية في سيناء حتى يضمنوا عدم تحرك مصر ضد اسرائيل».
قال: «خلصت؟ الكلام كله دا مالوش معنى! وانت يا ابني بتقول كلام كله غلط. كامب ديفيد خدمت مصر، وحترجع سينا لمصر، كل الأراضي اللي سلبتها اسرائيل رجعناها.. أين الخطأ في الاتفاقية؟».
قلت: «لم أقرأ نص الاتفاقية، ولكن الناس مستاؤون من الاتفاقية».
قال: «هذا الكلام غير صحيح، واستغرب كيف أن الناس تفكر هكذا!».
وأشارت ملامح مبارك وحركة عينيه الى أنه استاء من هذا الحديث، وسقط كأس الماء من يده على الأرض، فأشار الى رجال المباحث اليقظين حوله أن يبتعدوا قليلا.
وزدت من استيائه كما يبدو حين أضفت:
«هذه الاتفاقية مصيبة على العرب».
فسكت، وبدا أنه يدير فكرة ما في رأسه، ثم هتف وكأنه وجدها:
«اسمع.. أنا أعرف من الذي قال لك هذا الكلام، هذا كلام بتاع خالد محيي الدين الذي يشتري له القذافي الورق لصحيفته».
قلت: «أنا لا علاقة لي بخالد محيي الدين ولا على اتصال به، أنا التقيت به في وكالة كونا، ولكننا لم نناقش هذا الموضوع».
وعاد الى فكرته: «هل تعرف أن ورق صحيفة الأهالي من القذافي؟».
قلت: «هذا لا يعني لي شيئا سيدي الرئيس، ولا علاقـــة له بما أقول.. أرجوك اعذرني اذا أسأت!».
لم أخرج من اللقاء معه بشيء. بدأنا بالحديث عن اتفاقية كامب ديفيد، وانتهينا بأن ورق صحيفة الأهالي يأتي من القذافي.
أما حين جاء إلى الكويت، فلأنه أصبح يعرفني جيداً، فضلت ألا أوجه إليه السؤال مباشرة، واعطيت سؤالي إلى مندوب الوكالة، وطرحه عليه، وكان أيضا عن كامب ديفيد. فانتبه وسأله:
من أعطاك هذا السؤال؟
«قال المندوب: أنا من وكالة كونا».
لم يعلق، ولكنه أجاب باقتضاب وجفاف مكررا الكلام نفسه الذي سمعته منه في مسقط.
كان برفقته د. عبد الرحمن العوضي، وذهب بعدها إلى فندق الشيراتون لممارسة لعبة الإسكواش، وهناك رأيته، وسلمت عليه. قال كأنه فوجئ: هو أنت هنا!
وعقبَ بلهجة من يعيد عبارات ألقيت على سمعه: أنت توجهاتك يسارية.
قلت له وقد غلبتني روح الدعابة:
«ماركس لا أعرفه ولا يعرفني، ومات الله يرحمه»!
فالتفت إلى عبد الرحمن العوضي مبتسماً كأنه يستكمل حديثا دار بينهما:
«اسمع.. عاوز الله يرحمه كمان!»

الجزائر ليست هي

بعض الأحداث تمر بها الذاكرة مروراً عابراً، وبعضها تتعلق به أو يتعلق بها، وفي كلا الحالين وجدت أن طبيعة حياتك العملية هي التي تقرر ما الذي يبقى حاداً ولامعاً، وما الذي يبهت مع مرور الزمن. وتضيف حياة مثل الحياة الإعلامية التي عشتها في وكالة «كونا» لمدة خمسة عشر عاماً زحاما لا نظير له، فهي ليست حياة ساكنة على شاطئ بل هي حركة متواصلة في خضم أكثر قضايا العصر سخونة، ومعايشة للجغرافيا بكل تنوعاتها. وأضيف أيضا ان طبيعة الجغرافيا التي تزورها في زمن معين والشخصيات التي تلتقي بها قد تتغير أيضاً، وتتغير معها الألوان ووزن المكان والشخصيات، تبعاً لذلك.
حين ذهبنا إلى الجزائر عشية الاستقلال مع البعثة الطبية كان كل شيء مثيراً، أشبه بمغامرة اختلطت فيها المشاعر، مشاعر أن فجراً جديدا يبزغ، ليس على الجزائر بالذات كبلد عربي، بل علينا جميعا، نحن أصحاب المصير المشترك. واحتلت شخصيات تلك السنوات مكانة متميزة في الذاكرة.
لكن زيارتي خلال عملي في «كونا»، ورافقني فيها حسن الصايغ الذي عمل معنا في الكويت وهو حالياً في مكتب سمو رئيس مجلس الوزراء، جاءت في ظروف مختلفة.
ذهبنا هذه المرة، لا لنلتقي بثوار لوحت وجوههم الشموس في طريقهم إلى عاصمة بلدهم بعد تحريرها، بل برئيس مستقر في سدة الحكم طيلة ما يقارب عشر سنوات. كان الرئيس هو الشاذلي بن جديد، وكان الظرف باهت الملامح، فلا شيء يوحي بأنه يتقدم ويبشر بما كان يحلم به اولئك الثوار الذين شاهدناهم خلال زيارتنا لمقابر الشهداء، أو التقينا بهم وهم يضعون مسدساتهم أمامنا على الطاولة بدل الأقلام والأوراق.

مع الشاذلي بن جديد

ذهبنا للقاء الرئيس الذي لا أذكر أني لمحته آنذاك في زيارتي الأولى، فتعرفت عليه، وتناقشنا حول الأوضاع في الجزائر، وحول الحركات والقوى العمالية، وكان واضحا أن الرئيس العسكري النشأة لا يعيرها أي اهتمام. ومع ذلك استمع إلى ما طرحناه وتجاوب مع اقتراحاتنا وذكرياتنا عن جزائر واعدة قبل سبعة عشر عاماً. وجدنا لديه طموحات كثيرة. ولكنه لم يتحدث عن المجموعة التي تنشط ضده في قلب النظام. ولم يتضح الأمر إلا بعد هذا اللقاء، ومع متابعتنا للأخبار. لم يتقدم شيء، وبدأت الانقلابات، وبرزت الأحزاب الدينية رغم وجود حركات عمالية تعتبر من أقوى الحركات.
في هذا الوقت بالذات، كانت الاتهامات بالشيوعية هي الرائجة، ويتلقطها الرؤساء كما يتلقطها صغار الصحافيين، وكما يتلقطها موظفون طامعون في وظيفتك وإزاحتك، ويهمسون بها في آذان المسؤولين كما حدث معي منذ أن كنت وكيلا لوزارة الصحة.
في الجزائر، كانت الشيوعية تهمة توجه إلى رئيسة الحركة العمالية لويزة بن حنون، تلك الشخصية القيادية التي قرأت عنها كثيراً رغم أنني لم ألتق بها. وهي ذاتها التي رشحت نفسها أخيراً لرئاسة الجمهورية في مواجهة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة.

ومع كرايسكي

ليس لدي ما أتذكره من هذا اللقاء سوى هذه الصفحة العابرة. لكن بعض الشخصيات لاتسمح لك بأن تخرج خالي الوفاض من اللقاء بها. وقد تترك فيك عبارة مرت أثراً لا ينسى. وسيكون من المناسب أن نرى على أرضية ما سبق من قصص رؤساء مثل ضياء الحق ونميري وصدام ومبارك، كيف تبرز شخصية مغايرة، صريحة وواضحة تحاور الآخر، سواء التقى معها أو اختلف. تلك هي شخصية المستشار النمساوي برونو كرايسكي الذي كنت أجده الأكثر تفهماً للوضع العربي بين السياسيين الأوروبيين.
توثقت علاقتي الشخصية بكرايسكي إلى درجة كبيرة منذ أن بدأت معرفتي به خلال الندوة الأولى للحوار بين وكالات الأنباء الأوروبية والعربية في فيينا في نوفمبر 1977. كانت هذه الندوة حلقة في سلسلة بدأتها بعد أن انتخبت رئيساً لاتحاد وكالات الأنباء العربية، وحرصت خلال ثماني سنوات من رئاستي على الحوار والتعاون المثمر بين وكالات الأنباء العربية والأوروبية، لخلق حوار اعلامي عربي- اوروبي، هذا الحوار الجاد لتطوير الاعلام العربي بالاستفادة من خبرات الاعلام الأوروبي الذي لم يستمر مع الأسف حين تركت «كونا» في عام 1992.
اثناء هذه الندوة الأولى جاءت زيارة السادات للقدس وبدأ قلب مفاهيم الصراع مع عدونا التاريخي، واتخذت كل قضايانا مسارات متشعبة، تتباعد فيها أهداف ووسائل كل الأطراف العربية بعضها عن بعض، ولكنها تكاد تلتقي حول أمر واحد، هو الانحراف باتجاه العجز عن مواجهة الهيمنة الصهيونية.
في اليوم التالي على هذا الحدث أقام كرايسكي مأدبة غداء تكريماً للوفود المشاركة في الحوار. وهنا دار بيني وبينه حديث طويل عن الزيارة، عن دوافعها وأهدافها والآثار التي ستتركها في العالم العربي. وكان مما قلته أنه لا يمكن أن تقام أي جسور بين اسرائيل وأي دولة عربية لأن الشعب العربي بشكل عام، والمصري بشكل خاص، يرفض هذا بقوة. وتابعت:
«قد تنجح اسرائيل في عقد معاهدة صلح رسمية بينها وبين أي حكومة عربية، وهو ما حدث لاحقاً بينها وبين مصر، ولكنها ستلاقي الفشل الذريع في كافة محاولاتها جعل العرب يقبلون بوجودها أو تطبيع العلاقات على الصعيد الشعبي معها».
قبل ذلك، وحين التقيت بكرايسكي في الكويت، وزرته في قصر السلام وتناقشنا في موضوع اسرائيل اتضح لي من كلامه أنه ضد اسرائيل، والآن وجدته يصغي لحديثي بجدية تامة، ولم تغير وجهة نظره حتى الانقلابات العربية على طريق هذا الصراع.
اللافت للنظر أنني حين رأيته بعد ذلك بسنوات، في عام 1985، اثناء مشاركتي في ندوة الصداقة العربية في بادن، وجدته يتحدث عن العلاقات العربية - الاسرائيلية، ويشرح للحضور ما يراه ممارسات خاطئة للأحزاب الاسرائيلية، ثم يفاجئ الحضور بالقول:
«لدي معلومات أظنها لا تخفى عليكم، بأن لدى اسرائيل قنبلة ذرية».
واثارت هذه المعلومة ضجة بين الحاضرين. وطلبت التعقيب على كلمته، فقلت:
«ان لدينا نحن العرب امكانية صناعة قنبلة ذرية، ولكننا غير متفقين للأسف الشديد».
فقال كرايسكي:
«ولكن هذا السلاح غير انساني».
قلت:
«لا أقصد القنبلة الذرية التي تنتجها المصانع العسكرية، بل امكانية أقوى تأثيراً من تلك الاسرائيلية، ولكنها لم تدخل حيز التنفيذ».
وبدت الدهشة على وجوه الحاضرين، فتابعت موضحاً:
«القنبلة التي ستفجر العالم العربي يوماً، وسيغطي تأثيرها على القنبلة الإسرائيلية هي غياب الديموقراطية عن عالمنا العربي. الديموقراطية هي ذلك السلاح الذي لو مارسه العرب في إطاره الصحيح، لأخذت كل الشعوب العربية دورها الرائد في المنطقة، الدور الكفيل بإرجاع إسرائيل وكل من يدعمها إلى حجمهم الطبيعي».
وعلق كرايسكي: «إذا كان هذا القصد بالقنبلة فأنا أتفق معكم».

في مواجهة الإعلام الأميركي

لا يكتمل هذا الفصل من المواجهات واللقاءات والجولات الإعلامية في الجغرافية السياسية من دون ذكر مواجهاتي مع الأميركيين، وبخاصة الإعلام الأميركي، خلال إدارتي للوكالة. وفي هذا السياق هناك قصص وقصص تختفي وراءها الكثير من الالتباسات.
لقد دعيت عدة مرات للقيام بزيارة للولايات المتحدة، إلا انني كنت أتردد في القبول وأضع يدي على قلبي، لأن الصورة التي تكونت لدي عن تلك الدولة آنذاك هي أنها عالم قائم بذاته ولا تربطه بعالمنا أي صلة، وأنها مجتمع ليس بوسع الإنسان أن يعيش فيه عيشة طبيعية وبراحة نفسية. كما كانت تتملكني في كل مرة أتلقى فيها دعوة مشاعر تخوف بسبب الممارسات الأميركية ضد شعبنا العربي، وعلى وجه الخصوص موقفها المؤيد بشكل دائم للكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
في عام 1980، وقبل موعد افتتاح مكتب «كونا» في واشنطن، زارني مسؤولون من السفارة الأميركية وجددوا لمرة ثالثة دعوتي لزيارة بلادهم ضيفاً على وزارة الخارجية.
قبلت الدعوة من ناحية المبدأ، إلا انني اشترطت أن لا تكون على نفقة وزارة الخارجية. واتصلت بالشيخ جابر العلي، وزير الإعلام، المشرف على عمل الوكالة، وأخبرته بقبول الدعوة مشروطة بما ذكرت، فلم يعارض، وقال: «اذهب على حساب الحكومة».

ممنوع من الدخول

وعندما اقترب موعد افتتاح مكتب «كونا»، قررت أن الوقت مناسب للقيام بهذه الزيارة، وأبلغت السفارة الأميركية انني سأتوجه إلى واشنطن بعد اسبوع فطلبوا جواز سفري لوضع تأشيرة الدخول. فأرسلته مع مندوب، وذهب المندوب وغاب طويلا، وظل جالساً كما علمت حتى أغلقت السفارة أبوابها من دون أن يحصل على جواز السفر، وعاد ليبلغني أن سبب التأخير هو جهاز الكمبيوتر، أو هكذا فهم من مسؤول السفارة.
لم اقتنع، وتضايقت، واتصلت بالسفارة أسأل عن حقيقة الأمر، فقالوا بصراحة ان اسمي وارد ضمن قائمة الممنوعين من دخول الولايات المتحدة!
لم أفاجأ، وابتسمت، وأخذت الموضوع بنية حسنة، وقلت لنفسي، هذه سفارة تعمل في خدمة مصلحة بلدها. ولكن ما أثار استغرابي وتساؤلاتي هو أنني لم أفعل شيئا بامكاناتي المتواضعة يهدد المصالح الأميركية. وتبادر الى ذهني أن هناك، حتى بالنسبة للولايات المتحدة من ينقل اليها معلومات مشوهة.
قلت للمندوب:
«عد واحضر جوازسفري، ولاتخرج من السفارة من دونه»
ماطلت القنصلية في ارجاع جواز سفري، فقلت لهم ، لم أعد راغباً في الذهاب الى أميركا.
بعد يومين تسلمت رسالة من السفير الأميركي يعتذر فيها عما أسماه سوء فهم؛ لقد تم وضع اسمي على قائمة الممنوعين عن طريق الخطأ، وعمم الأمر على سفاراتهم في كل أنحاء العالم. وقال السفير إن اسمي رفع من القائمة، ويمكنني الحصول على تأشيرة دخول في أي وقت. بالطبع لم تعد الدعوة الأميركية الرسمية قائمة، فسافرت بصفتي رئيس مجلس ادارة كونا الى واشنطن لحضور حفل افتتاح مكتبنا هناك.
في تلك الزيارة تأكدت نظرتي الى أميركا؛ رغم أنني قابلت العديد من الأميركيين، لكنني لم أستطع حينها القول ان لي صديقاً بينهم. كان صديقي الوحيد خلال تلك الزيارة هو ابني الذي يدرس هناك.
بعض الأصدقاء الذين علموا بقصتي مع السفارة الأميركية، سألوني:
»هل عانيت المشكلة نفسها مع الاتحاد السوفيتي الذي زرته عدة مرات»؟
أجبت بالنفي، وفسرت السبب على شكل دعابة:
»قد يكون السبب أن السوفيت يعانون من تخلف في تقانة الكمبيوتر، ولذا هم يؤمنون بقيمة التعامل الانساني بعيداً عن التعامل بالوسائط الصناعية»!
ولكن هذا التفسير لم يكن دقيقا في ما يتعلق بالجانب الأميركي على الأقل. وقد برهن تدفق الصحافيين الأميركيين على الكويت في عام 1983، عندما وقعت تفجيرات ضد السفارتين الأميركية والفرنسية، وفي المقهيين الشعبيين، على أن ما يبدو تقانة صناعية، تقف وراءه أجهزة يعمل وراءها بشر بوجوه وملامح، لامجرد روبوتات صناعية. القليل من هؤلاء الصحافيين جاء لتغطية الانفجارات في المنشآت الكويتية، وانصرفت الأغلبية الى جمع معلومات لأجهزة معينة يعملون لديها، ولم يكن الهدف تزويد الرأي العام الأميركي بالمعلومات الدقيقة.
وحدث في وسائط الاعلام الغربية في تلك الأيام تشويش مقصود. من جهة تضخيم ما جرى في الكويت، رغم أنه تكاد تكون أمثاله أحداثا يومية في أميركا نفسها وفي معظم دول أوروبا، ومن جهة ثانية إبعاد المشاهد الأميركي عن معرفة أن التفجيرات التي تعرضت لها الكويت كانت موجهة ضد سياساتها المتوازنة والمستقلة، والى نظامها الديموقراطي ودستورها وبرلمانها المنتخب، ولتعطيل دورها في مجموعة دول عدم الانحياز.
والعجيب أن شبكة سي. بي. اس التي أجرى فريقها مقابلة معي في يوليو 1985، ورغــــم علمها أنها تستضيف رئيس مجلس ادارة وكالـــــة أنبــــاء كويتيـــــة، بثت من المقابلـــــة الجـــــزء الذي قلت فيـــــه ان الكويت لن تساوم على أمنها ولن تخضع للارهاب، وربطت فيه بين حرية الرهائن الأميركيين في لبنــــان وبـــين 17 سجيناً أدينــــوا بجرائم تفجيرات في الكويت في عــــام 1983. ولم تبث معظم مـــا قلتـــه حــــين حملت الولايات المتحــــدة مسؤولية مــــا يحصل لمواطنيها ومؤسساتها في المنطقة العربية. وأن الـرأي العربي يعتبر مـــا يحصل للرعـايا الأميركيين نتيجـة طبيعيــة لسياسات الحكومـة الأميركيـة.
لم تكن أجهزة الاعلام الأميركية تتحمل حتى توصيل حقيقة أن الغزو الاسرائيلي للبنان، وقتـل وتهجير الالاف من المدنيين اللبنانيـين الأبرياء، لم يكن ليتم لولا دعم الولايات المتحـدة المتواصل والكامل لاسرائيـل.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #16  
قديم 22-09-2011, 11:05 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة (16)
التعتيم على الأخبار يشجع انتشار المدسوسة والملغومة
لقاء أجراه معي تلفزيون الكويت في أوائل عام 1984، قلت إن غياب الديموقراطية هو مشكلة عالمنا العربي. وكنت أعني في ما أعنيه، الحرية الإعلامية، حرية الرأي، واذكر أنني قلت يومها: «إن نكساتنا في الأمة العربية مصدرها غياب حرية الإعلام، فإن تكلمنا بالغنا، وإن سكتنا عشنا في ظلام، ولا أفضل من العيش في نور».
وفي عالم تسوده حرب وكالات الأنباء والأخبار المدسوسة والملغومة، تتضح أهمية سرعة نقل الأخبار، وعدم التعتيم عليها، والحرص على المصداقية من دون تهويل أو استفزاز أحد. ومن هنا كان توجهي منذ تسلمت مسؤولية تأسيس كونا، أن الإعلام الحر أفضل من الإعلام الموجه، وكانت استقلالية الوكالة أيضاً أول مطلب خطر ببالي، حين واجهت هذا التحدي وسط إعلام عربي نجده يخضع في بعض البلدان للتوجيه الرسمي، فيضطر المواطن إلى اللجوء إلى إذاعات أجنبية معادية، ليسمع شيئاً من أخبار بلده هو، فيصدق ما يقال مضطراً لأنه يفتقر إلى الخبر، ويفتقد حرية الإعلام داخل البلاد العربية.

تجربة رائدة
تجربتنا في الكويت إذن كانت رائدة. ولن أكون مبالغاً إذا قلت ما كررته مراراً خلال عمل كونا وفي ذروة نشاطها، إننا في الحقيقة كنا في نعمة، وعبرت في أكثر من مناسبة عن تقديري واحترامي للمسؤولين والحكومة، لأنها لم تتدخل يوماً في توجيه الوكالة في ما يتعلق بالأخبار، فنحن نخرج بالخبر ونتحمل مسؤوليته، فإذا كان هناك خطأ يتم لفت نظرنا، أو يقال بأن الخبر غير صحيح، وعندها ندقق فيه. بالطبع وقعنا في أخطاء في البداية، إلا أنها لم تكن نتيجة إهمال، لأن الإهمال يواجه بالعقوبة.
كان رائدنا أن الإعلام الحر هو الذي ينبع من الشعب، ويعبر عن الرأي الصحيح، وحاجتنا هي إلى إعلام يدخل كل بيت، ولسنا بحاجة إلى إعلام رسمي. نحن بحاجة إلى إعلام موضوعي يمثل الشعب ووجهة نظره. بالطبع من المطلوب توافر الرقابة الذاتية لا الرقابة المفروضة. وسأضرب مثلا دالا.
حين تسلمت كونا لم تكن هناك رقابة على الإطلاق. جمعت زملائي رؤوساء الأقسام والمحررين، وقلت لهم:
«ليكتب كل واحد خبراً ويوقع عليه باسمه، لو حدث خطأ أنا أتحمل المسؤولية وحدي، وأنا أحاسبكم عليه، ولكنني أتحمل المسؤولية أمام الدولة. أرجوكم أن تكونوا حذرين.. لابد من فرض رقابة ذاتية».
وهكذا اعتمدنا بالدرجة الأولى على مراسلينا دائما، وعلى التدقيق في ما يصلنا عبر الوكالات المختلفة، من أميركية أو أوروبية أو من العالم الثالث. لقد كنا في سباق دائم مع الوكالات الأخرى، وكان الزملاء حريصين بالفعل على مصلحة البلد وأمنه القومي. ويشعر الجميع أنه مسؤول لأن سياستنا كانت العمل الجماعي، فلا رئيس ولا مرؤوس. بالطبع هناك هيكل تنظيمي، لكن العلاقات داخل كونا كانت علاقات عائلة واحدة متعاونة.

اعتداء على سفارتين
وتجربة تغطية الاعتداء على السفارتين الأميركية والفرنسية في عام 1983 مثال بارز على طبيعة عملنا. حين حدث الاعتداء نشرنا الخبر مباشرة كما هو. وجاء الصحافيون ورجال الإعلام ووكالات الأنباء من كل الأنحاء، ولم يجدوا شيئاً ينقلونه إلى صحفهم أو إلى وكالات أنبائهم التي يعملون فيها أكثر مما نشرنا. صحيح حاول بعض المسؤولين وقف بث وكالة كونا، إلا أنني شرحت لهم وجهة نظري، وملخصها، إننا ننشر أخبار الحدث كما هي، حتى يرى العالم كل شيء واضحاً، ولا يستطيع أحد تحريفه، لانزيد ولا ننقص، وبالتالي تصبح لنا مصداقية إعلامية.

..وفي المقاهي الشعبية
وهناك تجربة أخرى مررنا بها خلال تغطيتنا لأخبار تفجيرات المقاهي الشعبية تغطية كاملة، وكان هناك دعم من المسؤولين. سارعنا يومها إلى توزيع مندوبينا على المواقع، ودققنا في كل الأخبار التي بثتها الوكالة، مما ساعد على سرعة الوصول إلى الخبر وبثه الذي انفردنا به، ووفر طمأنينة للمواطن الذي رفض الاستماع إلى الاشاعات بوجود الخبر الصحيح. وكان هناك مواطنون اتصلوا بنا مباشرة، وانشغل 46 خطا هاتفيا لدينا انشغالا دائما، وانهالت علينا الاتصالات من الداخل والخارج، لأننا كنا المصدر الوحيد لخبر التفجيرات، وتحركنا بسرعة وكفاءة.
لقد حصلنا على الخبر قبل وكالات الأنباء التي نقلت عنا، ووجدت تغطيتنا صدى جيداً في الصحف العالمية، وشعرنا بالسعادة ونحن نرى الخبر يتصدر الصحف الأجنبية مسنوداً إلى وكالتنا الوطنية. وحين كانت بعض الوكالات تشوه الخبر، كنا نتصل بها ونخبرها الخبر الصحيح، ونطلب منها نشر ما تشاء.
وفق هذا النهج، وفي سياق الإصرار على الاستقلالية، سارت كونا، ليس في مجال الأخبار فقط بل في مجال الدراسات والأبحاث أيضاً. كان لدينا قسم للأبحاث والمعلومات يصدر كتيبات في كل مناسبة، مثل مناسبات المؤتمرات الإسلامية أو القمم العربية أو مؤتمرات مجلس التعاون الخليجي أو دول عدم الانحياز، أو مناسبة زيارات سمو الأمير أو ولي العهد لبلد من البلدان، بالإضافة إلى الدراسات الخاصة بالسياسات المحلية مثل السياسة السكانية.

ملفات خاصة
أطلقنا على هذه الكتيبات اسم الملفات الخاصة، وحاولنا تقديم الموضوعات مختصرة قدر الإمكان ليتمكن المواطن من الاطلاع عليها بسهولة، ويقرأها في يوم واحد، وتحفظ كمراجع يمكن العودة اليها. ونجحت هذه الملفات، بدليل تزايد الطلب عليها من داخل الكويت وخارجها. واستفادت منها جهات متعددة، صحفية وجامعية وبحثية.
بفعل هذا الانتشار الذي تحقق لاسم الوكالة على الأرضية التي ذكرت، رؤية ونهجا، أصبح المواطنون يعرفونها، وصار لهم رأي في تقييم مدى نجاحها من عدمه، فهم الذين ينتقدون أو يقترحون، ونحاول من جانبنا تنفيذ مقترحاتهم.
• هل حاولت كونا تحقيق مبدأ ديموقراطية الاعلام؟
ــــ من واقع الخبرة والتجربة أستطيع الاجابة بنعم. وأقول انها حاولت، لأن لا طريق سوى هذا، أي التدرج الممكن. ولست مع تلك النظرية التي يزعم أصحابها أن الديموقراطية لدى الشعوب المتخلفة تعني حكم الأغلبية الغوغائية، هذا غير صحيح، أنا انسان حر، ولدت حرا ويجب أن أعيش حرا، وهذه أرضي، وهي الأرض التي أعيش وأموت عليها، وأنا أحبها وأخدمها واشعر بالمسؤولية بغض النظر عن المكان الذي أشغله أو نوع العمل الذي أقوم به. المهم أن يكون لي رأي في شؤوني وشؤون بلدي، أو هناك على الأقل من يمثلني في ورشة صناعة القرار.

كسبت الرهان
يبدو أنني كسبت الرهان، رهان النهج ورهان المسيرة. سواء في مواصلة تعميق فكرة الاعلام الذي لا يمكن أن يقدم أجل الخدمات لوطنه، الا اذا كان حرا، أو في الوصول بهذا النهج الى نهايته القصوى، حتى وان اقتضى الأمر الاستقالة والتخلي عن المنصب. لا مساومة حين يتعلق الأمر بما تلمس وما ترى عيانا أنه الصواب، أو ما يتعلق بمبادئ نشأت عليها فأصبحت توحد بين الفكر والسلوك بلا انقسام بين ما تفكر فيه وبين ما تفعله.
هذا هو الجو الذي واجهت فيه، كما واجه الوطن كله، أزمة الخيار بين أن تواصل نقل الخبر الصحيح، او تتوقف أمام حسابات المكسب والخسارة الشخصيتين فتختار نقل الخبر الملفق.
واخترت ما رأيت أنه الأصوب لي وللوطن، لماضيه ومستقبله، نقل الخبر الصحيح، وتحملت تبعاته.
حدث هذا في غمار عام 1990، وكان قد مر على حل مجلس الأمة وتعليق الدستور ما يقارب الأربع سنوات، وبدأ الاعداد لاجراء انتخابات ما سمي آنذاك المجلس الوطني ليحل محل مجلس الأمة. لم تكن فكرة هذا المجلس، بالقيود التي جاء بها مرسوم تأسيسه وخفضت سقف التمثيل الشعبي فيه، مقبولة لدى غالبية الشعب الكويتي. وبصفتي مديرا لكونا، واحساسي أنها موضع أنظار وكالات الأنباء، وموضع ثقة المواطنين، تابعت شخصيا نتائج تلك الانتخابات.
وزعت المندوبين على الدوائر الانتخابية، وشددت عليهم أن يأتوا بالنتائج النهائية من وزارة العدل. وخلال المراقبة والمتابعة لاحظنا أن نسبة اقبال الناخبين على صناديق الاقتراع كانت متدنية جداً، فنشرت هذا الخبر محلياً وخارجياً لأنه واقعة حقيقية لا تقبل تحريفاً، ولأن قول عكس ذلك يعني أن الوكالة تمارس خداع الناس.
بعد نشر هذه المعلومات الأولية اتصل بي حمد الجوعان ليسألني عن حقيقة موقف الناخبين ومدى اقبالهم على التصويت وعن النتائج، ثم سألني:
«هل أنت بخير؟ هل حدث معك شيء؟»
استغربت السؤال، وطمأنته:
«أنا بخير»
قال:
«سأزورك في الوكالة»
وما أن وصل حتى أعلمني بسبب قلقه؛ أخبرني أنه سمع خبر اعتقالي بسبب نشري خبر قلة الاقبال على التصويت، وبسبب النتائج التي نشرتها، وكانت تعاكس النتائج الرسمية التي أعلنتها الحكومة. وبعد دقائق اتصلت بي ابنتي مها وسألتني:
«أبي .. هل أنت في الوكالة؟»
قلت:
«نعم.. ماذا يحدث؟»
«سمعت أنك معتقل!»
«أنا قادم الى البيت»

تردد حكومي
حدث هذا يوم 10 يونيو 1990، في وقت كانت تبث فيه كونا أن نسبة التصويت بلغت 26.3%، بينما تعلن أخبار منسوبة الى مصادر رسمية حكومية أن نسبة المقترعين وصلت الى 41%. كانت الحكومة منزعجة جداً من قلة نسبة المقترعين، وظلت مترددة في اعلان النتائج النهائية الرسمية طيلة 48 ساعة. والحقيقة هي أن النتائج أعلنتها الحكومة في مساء اليوم التالي، وأكدت نجاح الانتخابات، ومشاركة 62.3% من الناخبين في التصويت من دون أن تعلن النتائج التفصيلية لما حصل عليه كل مرشح.
لقـــد جــــاءت انتخابات المجلس الوطني في جـــو معارضة قويـــة لاجرائها ومقاطعة عبرت عن نفسها في تـــــدني نسبـــة المقترعــــين. ومـــــا كان لنــــــا الا أن أن نعكس هــــذا الواقــــع في أخبارنا انسجاماً مــــع مبــــدأ نهضت عليــــه كونـــا، وبسببه اكتسبت مكانتها المتميزة، ألا وهـــو مبــــدأ الاستقلال عن التدخــــل الرسمي، وخاصة اذا كان هذا التدخــــل سيفقدها مصداقيتها في نظر المواطنين وفي نظر العالم الخارجي.
في البيت، ومع كثرة الاتصالات الهاتفية التي وصلتني، إما للاطمئنان الى انني بخير ولم يعتقلني أحد بسبب صدق أخبارنا، أو للشد على يدي وتثمين الموقف الذي وقفته «كونا» لمصلحة الحقيقة، سمعت أن هناك تحركات ضدي. وبالفعل نشرت إحدى الصحف خبر استقالة رئيس وكالة الأنباء الكويتية بدفع من أحد المسؤولين. لم يواجهني أحد، بل اتخذت التحركات ضدي طريقاً ملتوياً. تم إقرار قانون الإحالة إلى التقاعد بسرعة لكل من أمضى في الخدمة ثلاثين سنة، وبما انني من الذين أمضوا في الخدمة ثلاثين سنة، تمت إحالتي على التقاعد، أو الخلاص مني بطريقة مهذبة بالاحرى، وعلمت أن نقاشا دار في مجلس الوزراء، وطالب بعضهم بالتحقيق معي، إلا أن الشيخ جابر العلي، وزير الإعلام، نصح لهم باتخاذ قرار الإحالة على التقاعد. وعندما تأكد لي أنهم في سبيلهم لاتخاذ مثل هذا القرار، لم أرغب بإحراج الحكومة أكثر مما أحرجت بسبب أرقامها الرسمية عن الانتخابات، والتي ظهر أنها غير واقعية، فقمت بكتابة استقالتي. ولكن ما أدهشني أن تنشر إحدى الصحف على صدر صفحتها الأولى خبر استقالة رئيس وكالة الأنباء الكويتية في صباح اليوم التالي، مع انني لم أكن عرضت الاستقالة بعد على مجلس الوزراء!
لم أفعل شيئاً سوى إرسال رسالة عتب، أعاتب فيها من سرب خبر استقالتي، وأخذت إجازة لمدة ثلاثة أشهر، وسافرت مع أسرتي إلى لندن، ومن هناك ذهبت مع زوجتي إلى مقاطعة البحيرة Lake District شمالي غرب انكلترا.

في مقاطعة البحيرة
هنا خلال وجودي في مقاطعة البحيرة، بدأت الأزمة بين الكويت والعراق، وبدأ تبادل الرسائل عبر الجامعة العربية؛ وزير الخارجية العراقي طارق عزيز يرسل رسالة إلى الجامعة العربية يتهم فيها الكويت بسرقة النفط وتجويع العراق، ووزير خارجيتنا الشيخ صباح الأحمد يرد عليه ويفند ادعاءاته، من دون أن يخطر ببال أحد أن افتعال هذه الأزمة سيجر الخراب على المنطقة العربية. وظهرت في الجو غيوم منذرة بالأسوأ. ومن مكاني هناك في فندق ساحل شاوربيل، بدأت أتواصل مع الوكالة عبر الفاكس. وكتبت رسالة موجهة إلى صدام حسين كانت مناشدة من أجل العودة إلى العقل والحكمة. وجاء في نصها الذي ما زلت أحتفظ به:
«.. إن الخلاف الطارى‍ء بين العراق والكويت أحدث ألماً عميقاً لدى كل مواطن عربي، فقد جاء في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى وحدة الموقف والصف».
وقلت مذكراً:
«.. أعلنتم ميثاق التضامن العربي الذي يدين استخدام القوة والعنف في حل الخلافات
العربية، وقلتم في إحدى المناسبات، نحن نحتفظ بأسرارنا كعرب حتى لا نختلف، كما أنه لا توجد حواجز نفسية أو فعلية مع أشقائنا.. فما الذي حدث ليغير هذه القناعات وليكشف ظهورنا لأعداء أمتنا العربية؟
أنتم تعلمون أن أي حملة معادية للعرب أو أي خلاف جانبي بينهم يهدف أساساً إلى تشتيت الطاقات والجهود التي يجب أن توظف من أجل العمل الجاد لاستعادة الحقوق العربية المغتصبة، وللدفاع عن قضية فلسطين التي أخذت تتراجع إعلامياً وسياسياً إلى الخطوط الخلفية من الاهتمام العالمي، وسط الانشغال بقضية الخلاف العراقي مع الكويت والإمارات بينما يتعرض شعب فلسطين إلى حرب إبادة على أيدي العدو الصهيوني، كما تتعرض أرضه إلى غزو بشري من قطعان المهاجرين اليهود، وما يشكل ذلك من تهديد خطير للأمن العربي».
واستبعدت الأوساط الإعلامية والتحليلات السياسية، على قاعدة معايير عقلانية، أن يكون وراء هذه التحرشات والاتهامات إعداد لغزو عسكري، ووضعت كل هذه الإثارة في إطار محاولة ابتزاز المزيد من الأموال الكويتية، أو الحصول على مكاسب في الأراضي الكويتية.

حول رقعة الشطرنج
كان الرأي السائد تقريبا أن من المستبعد أن تكافأ الكويت بعد سنوات من وقوفها ماليا وسياسيا مع العراق في حربه على إيران بهجوم من هذا النوع. ولكن يبدو أن كواليس السياسات الدولية كانت تخطط لشيء آخر، فتفتح الطريق للنظام العراقي لارتكاب حماقة خطيرة تتجاوز أي عقلانية سياسية. ليس من المعروف حتى الآن ماذا كانت أهداف المتحلقين حول رقعة الشطرنج آنذاك، ومن منهم كانت نقلاته محسوبة ومن منهم كانت نقلاته تعبر عن جهل وغباء، ولكن ما أظهرته الأحداث بعد ذلك، وما تكشف، أثبت أن اللاعب الأميركي كان ينقل أحجاره بخطوات محسوبة، بينما كان النظام العراقي يندفع وراء نقلات غبية ستدمره في النهاية، وكانت الكويت ضحية هذه اللعبة التي أورثتها مأساة غزو لا منطق له ولا حجة.
في جو هذه الهواجس والتوقعات انتقلت إلى لندن لأكون أكثر قرباً من الأحداث، ولأستطيع متابعة مجريات التحركات السياسية، وليكون لي دور شعرت أننا كلنا مطالبون به. وبعد ثلاثة أيام اتصل بي خال زوجتي، خالد الحميضي، رحمه الله، وحمل لي خبراً غريباً؛ هناك إطلاق نار في شارع فهد السالم، والتفاصيل غير معروفة. كانت محادثات جدة التي عقدت مساء الثاني من أغسطس 1990 بين وفد يرأسه ولي العهد الشيخ سعد العبد الله ووفد عراقي يرأسه نائب الرئيس العراقي عزت الدوري قد انهارت، ولم تخرج بأي حل، وتبين أن مطالب العراق المبالغ فيها لم تستهدف التوصل إلى حل، بل تقديم الذريعة لما هو مخطط له سلفاً. وفي الساعات اللاحقة التي تلت مغادرة الوفدين جدة، بدأت شاشات وأخبار الوسائط الدولية تتحدث عن اختراق طوابير الدبابات العراقية للحدود الكويتية، والتقدم في الأراضي الكويتية، وأن هدفها الكويت كلها! كانت الأخبار أشبه بصواعق تنهال على الاسماع، ولا أكاد أصدق ما أسمع وما أرى. لماذا؟ ولمصلحة من؟

كارثة الغزو
أبعد كل ما قدمنا نكافأ بالقتل والتشريد؟ أسئلة ظلت تدور في رأسي، ولا أجد جواباً معقولا، فأمسك بسماعة الهاتف وأتصل بمكاتب وكالة كونا في الكويت لاستطلع ما يجري في الثالثة والنصف فجراً، ولا أجد هناك غير عامل البدالة وداوود سليمان المحرر المناوب في قسم التحرير، فيخبرني بأنهم علموا بوجود الجيش العراقي على الحدود الكويتية. طلبت منه أن يتأكد ويتصل بي. وانتظرت حتى السابعة والنصف صباحاً بتوقيت الكويت من دون أن يهدأ لي بال. وجاءني الاتصال، وأخبروني أن الجيش العراقي دخل الكويت.
قال داوود بصوت قلق:
«أنا أبحث عن مسؤول لآخذ منه تصريحا ولا أجد أحداً!»
قلت وأنا أكثر قلقاً:
«زودني بأي معلومات فور وصولها»
اتصلت بالمنزل، وتحدثت مع ابنتي مها، فسألتني:
«هل أذهب إلى العمل أم لا؟»
«القرار لك»
ولم تذهب إلى عملها بالطبع. لم يكن الوضع جلياً، لا لمن في الكويت ولا لمن خارجها، وكان الذهاب إلى العمل في مثل هذه الوضعية يعني مسايرة الاحتلال، ولم يكن أحد منا مستعداً لارتكاب هذه الجريمة ومسايرة المحتلين. ولكن كان لدي ما أعمله، ولابد أن أعمله، وخاصة بعد أن انقطعت الاتصالات بيني وبين الوكالة في الكويت.
ذهبت إلى سفارتنا في لندن، والتقيت بالسفير غازي الريس ود. أحمد الخطيب وجاسم القطامي، وتحدثنا وتبادلنا الآراء حول ما يجري. وكان مما قاله د. الخطيب:
«صدام حسين مجرم، ولن يتردد أبداً، وسيبطش بالشعب».
غادرت السفارة إلى مكتب كونا في لندن، في الطابق السادس من البناية رقم 150، شارع ساوثهمبتون، والتقيت هناك بمدير المكتب حسني إمام والسكرتيرة، ووجدتهما في حيرة من أمرهما لا يعرفان ما يفعلان شأنهما شأن الجميع. كانت الصدمة أبرز ما تلمسه على الوجوه، وما تسمعه من تساؤلات، ولكن تفكيري تركز على ما يجب أن أفعله. وفكرت، بما أن الجيش العراقي دخل الكويت، إذن ستنتهي وكالة كونا بمرسوم عراقي فوراً، ولن يسمح لها بأن تتنفس. فما العمل؟.
في هـــــذه الاثناء اتصل بي مصادفة عدلي بسيسو، الذي عمل معنا في الوكالة قبل أن يهاجر إلى كندا، يستفسر ويسأل، فطلبت منه أن يأتي إلى لندن بأسرع وقت، وطلبت من إحدى المحررات، وكانت موجودة في لندن، أن تلتحق بنا في المكتب، وكذلك فعلت مع كل من اتصل بي من الكويت: «تعالوا إلى لندن لنرى ما سنفعل»
بعد مرور ثلاثة أيام على احتلال الكويت أعلنا من مكتب كونا في لندن الخبر. وأعلمنا جميع الوكالات العربية والعالمية أن المقر الرئيس لوكالة الأنباء الكويتية أصبح في لندن، ومنه سنباشر نشاطنا. لم تكن لدينا الإمكانات لنعمل كمكتب رئيسي، إلا أن علاقاتي الطيبة مع بعض الوكالات العالميـة وفرت إمكانية مساعدتنا عن طريق فتح خطوط اتصالات لنا. وأرسل لنا الإخوان في قطر والسعودية أجهزة Teleprinter، وعن طريقها بدأت الوكالات العالمية تأخذ منَّـا الأخبار وتبثها.
في اليوم الرابع اتصل بي الشيخ ناصر المحمد من الطائف، وطلب مني القيام بكل مسؤولياتي من مكتب كونا في لندن، فأخبرته أنني بدأت فعلا. وأرسلت خطابا إلى وزير الإعلام الشيخ جابر المبارك أطلب فيه تزويدي بتكليف رسمي لإدارة مكتب كونا في لندن، ولتكون لي صفة قانونية واستمر في العمل، لأنني قدمت استقالتي من قبل وأنا بحاجة لهذا التكليف الآن. وتلقيت التكليف الرسمي.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 22-09-2011, 11:06 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة(17)
«جبلاوي» من زودنا بأخبار الكويت.. وأعتقد أنه سليمان الفهد
في العاشر من أغسطس1990، ووسط أكوام الصحف والملفات في قاعة مكتب كونا الرئيسية في لندن، اتخذنا قرار استئناف ارسال الوكالة، ووضعنا آلية تنفيذ على مراحل، تقوم على اعادة بناء جهاز فني وبشري قادر على القيام بالعمل الاخباري في وقت فقدت فيه الكويت وسائطها الاعلامية. وبدأت خطواتنا بتزويد مشتركي كونا بالأخبار عن طريق الفاكس، واعادة نسج شبكة المكاتب الخارجية واعادة الفعالية واللحمة الى مديريها ومراسليها الذين أفقدتهم الصدمة الاحساس باليقين عما سيحدث غداً، وعما يجب أن يفعلوه في ظل حالة شبه ضياع بدأ يعانيها العاملون معنا. وكان ضرورياً توفير كوادر ادارية وفنية ومهنية للوكالة خارج الكويت.

التأسيس الثاني

يمكن أن أسمي هذا الجهد الذي بذلناه في لندن باسم التأسيس الثاني لوكالة الأنباء الكويتية. وكنت خلاله المسؤول عن المكتب، أذهب اليه يوميا وأعود الى المنزل مشيا على قدمي لمدة ساعة، لم تكن لدينا ميزانية كافية. واتصالاتنا بالكويت متقطعة، الى أن أصبحت تأتينا الأخبار من هناك عن طريق الفاكس من شخص يطلق على نفسه اسم «جبلاوي»، أي من سكان منطقة جبلة، أعتقد أنه سليمان الفهد. واتصل بي شخص من باكستان من هواة اللاسلكي، كان عمل لدينا في وزارة المواصلات وكان مسؤولا عن الفاكس في كونا، وبدأ يزودنا بأخبار تصله عن طريق شخص من آل معرفي في الكويت، ونقوم من جانبنا ببثها.
لم يقتصر نشاطي على العمل في الوكالة، بل اتسع عبر الاتصالات السياسية في لندن وخارجها.

رسائل إلى عرفات

في لندن التقيت بمدير مكتب منظمة التحرير الفلسطينية عفيف صافية مرتين، واستهدفت منهما إيصال رسالة إلى عرفات أقول فيها ان الكويتيين والنصف مليون فلسطيني في الكويت هم أول المتضررين من الاحتلال العراقي. لم أكن على يقين حتى تلك اللحظة أن هذا الرجل الذي وقعت نصائحي وتحذيراتي له في لقاءاتي معه في الماضي على أذن صماء، وكان يستقبلها باستخفاف أحيانا وسخرية في أحيان أخرى، لديه حسابات أخرى في وقوفه مع المحتلين، لا علاقة لها بمصير الفلسطينيين لا في الكويت ولا في غيرها. على العكس من قيادات فلسطينية أخرى، مثل صلاح خلف الذي وقف علنا وبشدة ضد الاحتلال، وواجه صدام حسين مباشرة وطلب منه سحب قواته من الكويت، وأنه لا يوافق على احتلال دولة عربية لأخرى، فكان مصيره الاغتيال ذات صباح شتائي في تونس مع اثنين من القادة اتخذا موقفه نفسه.

خدام عاتب

وفي سبتمبر ذهبت إلى دمشق للقاء نائب الرئيس السوري آنذاك عبد الحليم خدام بناء على موافقة من سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، والأخ الشيخ ناصر المحمد فوجدت لديه عتباً على بعض المسؤولين الكويتيين خلال فترة وجود مجلس الأمة، ومواقف بعض أعضائه من السياسة السورية. وعنى بذلك الموقف من الدعم المالي لسوريا، إضافة إلى هجوم بعض الصحف الكويتية المتواصل. ولكنه أنهى عتابه بالقول ان هذا ليس بوقت عتاب، بل هو وقت عمل.
كان هذا العتاب يواجهنا في أماكن كثيرة، ولكنه كان أخف من الهجوم الضاري الذي واجهته الكويت من عدة اتجاهات ظلماً وعدواناً في عدة ساحات عربية، وقف وراءها مسؤولون حكوميون ومخابراتيون في هذه الدولة أو تلك لتأجيج المشاعر المعادية للكويت، وانتصاراً للمحتل، إما انتهازاً لفرصة كسب مالي أو استجابة لأدوار مرسومة، كما كان الحال بالنسبة للأردن وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي أذهل موقفها الفلسطينيين أنفسهم، وبخاصة من كانوا يعيشون في الكويت ويشهدون بأم أعينهم كيف يتم تقويض وجودهم الاقتصادي والإعلامي وتشريدهم في حالة ذكرت بعضهم بأحوال نكبة 1948.

أين المعارضة؟

بعد العتاب، انتقل نائب الرئيس السوري إلى لومنا على التقصير تجاه الكويت، فنحن كما رأى لم نتحرك شعبياً لاستقطاب التنظيمات الشعبية والنقابات المهنية، ولم نعقد المؤتمرات لمناقشة الوضع في الكويت. ومضى إلى القول ان هناك مؤتمرات تعقد الآن تصور الظالم على أنه صاحب الحق والمعتدى عليه، أما الكويت، المعتدى عليها، فليس هناك من يقول كلمة الحق بالنيابة عنها. وتساءل: «أين تنظيماتكم الشعبية؟ أين المعارضة؟ لماذا لا تتوجهون إلى الجزائر وإلى عدد كبير من الفلسطينيين المناوئين لسياسة عرفات، وهم مستعدون لإصدار بيانات مضادة؟».
بالطبع وعدت برفع هذه الاقتراحات الى المسؤولين الكويتيين، وهذا ما حدث، ولكني اقترحت في ما يخص سوريا تعاوناً اعلامياً بيننا، وتم وضع خطة بث اذاعي لنا من دمشق.

في موسكو

في اكتوبر من العام نفسه تحركت الى موسكو التي لي علاقـات جيدة بمثقفين فيها وأكاديميين، لأتعرف على انطباعات المبعوث السوفياتي الى الرئيس العراقي يفغيني بريماكوف، وكنت التقيت بـه مراراً. وخرجت بنتيجة أن الرئيس العراقي يمعن في ضلاله، أو غبائه بالأحرى، ربما لحسابات شخصية لديه خاطئة بالتأكيد وفق كل التقييمات التي سمعتها، حتى انـه لم يكن يستجيب لنصائح سياسيين عريقين في لعبة الشطرنج الدولية من وزن بريماكوف أو غيره. وقال بريماكوف انه طلب منا تعهداً بأن جيشه لن يضرب من قبل القوات الاميركية اذا انسحب من الكويت.

المؤتمر الشعبي

بعد الاعلان عن نية عقد مؤتمر شعبي كويتي في جدة في 13 اكتوبر، قررنا أن تبدأ «كونا» من لندن ارسالها الكامل عبر شبكتها الجديدة، وان يتزامن هذا الارسال مع انعقاد المؤتمر. وصلت الى جدة قبل موعد الانعقاد بأيام، بعد أن وضعت خطة التحرك الاعلامي: مواكبة نشاط الحكومة الكويتية ومسؤوليها، ومتابعة تحركات الوفود الشعبية والنيابية والاعلامية في مختلف أنحاء العالم، ومتابعة مواقف الدول والهيئات الدولية من الاحتلال متابعة دقيقة، وتغطية وتحليل كافة القرارات المتعلقة برفض وادانة الاحتلال.
وفي جدة وصلني من لندن البيان الذي أعددناه ليكون مفتتح اعلان انطلاقة «كونا» الى العالم، لمراجعته مراجعة نهائية، فسلمني اياه زميلنا يحيى مطر معتمدنا لتغطية أنشطة الحكومة الكويتية في مقرها المؤقت في الطائف، فقرأته بعناية عدة مرات وأنا على طرف سريري في الفندق، ثم قلت له:
«بلغ الزملاء في لندن أن يتوكلوا على الله».
أذيع البيان، أو صوت الكويت بالأحرى، في الساعة التاسعة بتوقيت غرينتش من صباح الثالث عشر من اكتوبر، وكان تحية من «كونا» الى العالم واعلانا عن استئناف ارسالها المعتاد من مقرها المؤقت، باسم الوطن الذي دنست أعراضه وحرماته على أيدي سفاحي العقد الأخير من القرن العشرين، وباسم شهداء هذه البقعة الغالية من وطننا العربي، وباسم الأطفال الذين يتّمهم جيش العروبة الجرار، وباسم حرائر العرب الكويتيات اللواتي أثكلهن جيش القادسية.. وباسم مئات الالاف من الكويتيين والعرب الذين شردهم سيف العراق العربي.. وباسم الشرعية التي حاول المحتلون مصادرتها، وباسم وحدة الصف واللحمة والالتفاف الشعبي الكويتي الذي يتبلور اليوم بأبهى صوره، وباسم كل مبادئ العروبة والإسلام التي استند اليها وجود الوطن الكويتي وعطاؤه الدافق منذ بدايته، باسم كل هذا، وباسم حرية الكلمة والتعبير للصحافة الكويتية التي حاول دعاة الوحدة خنقها.

الثوابت والمواقف

وقدم البيان صياغة لسياسة كونا الإخبارية في إطار الثوابت والمواقف التي جاء مؤتمر جدة الشعبي معبرا عنها، وأهمها رفض الاحتلال ومطالبة شعوب العالم بإدانته وشجب ممارساته اللاإنسانية في الكويت المحتلة، ورص الصفوف خلف القيادة الشرعية وتأكيد الوحدة الوطنية، وبذل كل الجهود لتحرير الوطن ودعم الصامدين على أرضه، والرفض القاطع للمساومة على سيادة الكويت واستقلالها ووحدة أراضيها، ومطالبة مجلس الأمن باتخاذ قرار يجيز استخدام القوة لإزالة الاحتلال، ومطالبة العرب الذين خرجوا على الإجماع العربي في قمة القاهرة بمراجعة مواقفهم بما يتفق وتعاليم الدين الاسلامي الحنيف والمبادئ القومية والقيم الإنسانية، والتأكيد أن موقف بعض القيادات الفلسطينية لن يؤثر على تضامننا مع الشعب الفلسطيني في كفاحه العادل من أجل تحرير وطنه، واعتبار ذلك الموقف مسيئا بالدرجة الأولى إلى القضية الفلسطينية ومصداقية النضال الفلسطيني ومصالح الشعب الفلسطيني ذاته. كما أكد التوجه الإعلامي والسياسي على نقطتين مهمتين، الأولى على أن الكويت لا تضمر شراً ولا تحمل حقداً للشعب العراقي لأنه مغلوب على أمره ينتظر ساعة الخلاص، والثانية، التأكيد على أن بناء كويت ما بعد التحرير سيتم على أسس راسخة من وحدتنا الوطنية ونظامنا الشرعي، معززين الشورى والديموقراطية والمشاركة الشعبية في ظل دستورنا الصادر عام 1962. في المؤتمر الشعبي وجدت حشداً إعلاميا منقطع النظير من مختلف أنحاء العالم، مع حضور لمندوبي كونا في الخارج، فقمت بتزويد الوكالات العربية والعالمية بأخبار ونشاطات المؤتمرين، وبنص خطاب الشيخ جابر، رحمه الله، وخطاب عبدالعزيز الصقر، رحمه الله، وأبرز هذا التحرك الإعلامي دور مؤتمر جدة وأهميته التاريخية.

التأسيس الثالث

وعدت إلى لندن لمتابعة العمل في الوكالة، ولم أعد إلى الكويت مع زوجتي إلا بعد تحرير الكويت. وهنا بدأت مرحلة جديدة أعطيتها عنوان التأسيس الثالث لوكالة الأنباء الكويتية. وبالفعل كان الأمر تأسيساً من الصفر، وهالني ما رأيت من خراب ودمار واشعال للحرائق في آبار النفط، ولم يكن ما نال مكاتب كونا أقل تدميراً وتخريبا. كانت في حالة يرثى لها، تعمها الفوضى بعد ما تعرضت له من سرقة ونهب عصي على الوصف. في كل زاوية من زوايا الكويت كنت تجد علامات بارزة على تخريب متعمد وتدمير لكل معلم من معالم الكويت، في الشوارع والبيوت والمناطق الصناعية والواجهة البحرية، وكانت سحب حرائق آبار النفط السوداء تظلل سماء الكويت وتحيل نهارها ليلا.
وأمام استحالة اسئناف عمل الوكالة من الكويت في ضوء انعدام اي امكانية، عدت الى لندن. وهناك طلبت حضور بعض الأشخاص وبدأنا نوسع عملنا. بعد ذلك بثلاثة أشهر بدأنا العمل الجاد لاعادة الحياة الى مكاتبنا في الكويت، فرجعت وأرسلت شخصين الى دبي لاحضار أثاث، وطلبت من الأخ أحمد القطامي مساعدتهما. ومع الوقت تكثف عمل كونا في الكويت، وقلصنا العمل في لندن، وعادت الأمور الى مجراها الطبيعي كما كانت قبل الغزو.

وقت الراحة

خلال انشغالي بتجهيز مقر الوكالة في الكويت، عاد قرار التخلص من هذه الشخصية الاعلامية الى التداول. كان بعضهم قد قالها بصراحة حين اعلان نتائج انتخابات المجلس الوطني الذي لم يعد الى الحياة بعد تحرير الكويت:
«آن أوان التخلص من برجس البرجس»
ووجد هؤلاء الحل الأمثل للتخلص مني في المقولة المهذبة الخالية من الفظاظة ظاهريا: «أنت خدمت بما يكفي.. لم تقصر.. وآن لك أن ترتاح وتنعم بالتقاعد.. الله معك»!
كنت أعرف هذا الذي يصلني عن طريق مصادري الخاصة، وبسببه قدمت استقالتي الأولى، ولم أرجع الى العمل الا في وقت الشدة، ولمقاومة الاحتلال، وبتكليف رسمي، أما الآن وبعد أن انجزت واجبي، صار علي أن أقرر.
اتخذت طريقي الى سمو الشيخ جابر الأحمد الصباح، وقدمت له نص الاستقالة، فوضعها جانبا، وأجل النظر فيها. فذهبت الى وزير الاعلام بعد التحرير بدر جاسم يعقوب، وأخبرته أنني مستقيل، ولديهم كتاب استقالتي، فقال: «لماذا الاستعجال؟»
قلت: «لأنني حسب القانون خدمت لأكثر من ثلاثين سنة».
لم يقل شيئا، وكان عليهم أن يجدوا شخصا آخر. وخلال ذلك واظبت على الذهاب الى الوكالة لفترة مؤقتة ريثما يتم تعيين رئيس جديد.
خلال هذه الفترة اتصل بي يوسف السميط وأخبرني أنه أصبح مديرا لوكالة الأنباء الكويتية، فباركت له منصبه، وسألني: «متى أحضر لاستلام الوكالة؟».
«الآن .. فورا».
لم يأت الا في اليوم التالي، فقمت بشرح أوضاع الوكالة له، وسلمته كل شيء بما في ذلك الملفات السرية، وكانت آخر كلماتي له: «أولا أنا على استعداد لخدمتك في أي وقت، وثانيا أطلب منك من منطلق الأخوة الحفاظ على استقلالية الوكالة لأنني قمت بتأسيسها، وتعبت عليها حتى وصلت الى هذا المستوى».
وأضفت: «استقلالية الوكالة مظهر حضاري وقـوة للكويت، فاذا أتاك خبر، أنت صاحب القرار لأن الرقابة لدينا ذاتية، والرقابة الذاتية أقوى من القانون المكتوب، واذا قمت بمراجعة الحكومة سيتأخر الخبر ويحترق، ولن تكون له أهمية. أرجوك أن تحافظ على هذه الاستقلالية، وسأكون في خدمتك في أي شيء».
وخرجت من الوكالة مودعا بعد خمسة عشر عاما بدأت في عام 1976 وانتهت في عام 1992، ولم يتصل بي يوسف السميط بعدها، ولم يسألني عن أي شيء. وهيمنت الحكومة على الوكالة.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 22-09-2011, 11:06 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة(18)
18 شخصية من أهل الخير أسست الهلال الأحمر
مع خروجي من وكالة الأنباء الكويتية، وبعد أن بنيتها ثلاث مرات، هل وصلت إلى نهاية الطريق إذن؟ بالتأكيد لا.. ليس لأنني لم أكن أبداً مستعداً للراحة والتقاعد فقط، بل لسبب جوهري مختلف قد يبدو غريباً عن عالم الوظائف والمناصب، عالم ينتهي فيه دور الإنسان حين يتخلى عن الوظيفة أو تتخلى عنه. السبب هو أن الوظيفة لم تكن بالنسبة الي مهمة أقوم بها مصادفة أو اتفاقاً، وأغادرها بالطريقة نفسها، بل كانت أسلوب حياة.

في الوظيفة، سواء كانت في وزارة الصحة أو في عالم الإعلام، تكامل جانبان؛ الجانب الشخصي وجانب طبيعة العمل، وشكّلا وسيلة وهدف حياتي ذاتها. في ضوء هذا أعتبر أن راحة الإنسان نهائيا من عمله تعني أنه أصبح عاطلا بلا مستقبل له، أو أنه أعطي شهادة وفاة. لم أكن بحاجة للتقاعد، لأنني بكلمة مختصرة رجل أحب العمل والتفاعل اليومي مع الناس. ولأن لي قضية؛ هذا هو الجوهر.
الحياة بين الأسرة البيضاء وبين آلات استقبال الأخبار وبثها، ومراقبة ما يحدث حولنا في هذا العالم، لم تكن حياة وظيفية، بل كانت قضية، وانشغالا لا يغادرني، سواء كنت في الوظيفة أو خارجها. الانشغال بما هو إنساني وحضاري، وبما يخدم بلدي أولا. هذا هو معنى أن أنتقل من مكان إلى مكان ويظل لي أسلوب الحياة هذا نفسه.

في الهلال الأحمر

كنت مفعماً بهذه الأفكار، بل وتعمقت في نفسي، وأنا أعود إلى الكويت بعد تحريرها من الغزو، وأنا أكتب بمناسبة أول عيد وطني نستقبله بعد التحرير والسحب السوداء تغطي السماء، وآثار الخراب لا تزال ماثلة:
«.. هذا هو الاستقلال نفسه الذي حاول المحتلون مصادرته من قلوب شعبنا، وهو ذلك الاستقلال الذي مكن الكويت وشعبها من المكانة التي وصلتها، والتي دفعت العالم بأسره ليهب لنجدتها.. الاستقلال الذي حاول المحتلون مصادرته هو الحرية التي عشناها.. وهو دولة الأمن والأمان والاستقرار لا المطاردة والقمع والبوليس.. وهو حرية الكلمة التي نمت وترعرعت في الحضن الكويتي لتغني العالم العربي بأسره، وهو واحة الديموقراطية والحوار التي مكنت سواعد أبناء الوطن من التلاقي والتعاضد في وضع أسس متينة لبناء حضاري وإنساني شامخ..»
هي قضية وجودنا في وطن إذن وليس وجودنا في وظيفة تنتهي علاقتنا بها حين نغادر مكاتبنا. وسيظل لهذا الوجود معنى، وسنظل نجد فيه المعنى، أينما ذهبنا والتفتنا.
هنا يكمن المعنى الحقيقي لوجودي في جمعية الهلال الأحمر الكويتي منذ تأسيسها، أي خلال وجودي في وزارة الصحة، ثم خلال وجودي في كونا، وأخيراً مع انتخابي لرئاسة الجمعية في عام 1992. لقد تخلل هذا العمل التطوعي في الجمعية مسار حياتي، ولذا لم يكن تفرغي له أخيراً، بعد أن قيل لي ببساطة «ما قصرت في كونا.. الله معك» هبوطا عليه من الخارج، بل إنضاجاً لتجربة عشتها بكل ما أملك من حماس ورغبة منذ البداية، ربما منذ بداية تثقيفي صغيراً على قيم العمل الإنساني في بيت العائلة.

الاجتماع التأسيسي

منذ العام 1965 كانت فكرة تأسيس جمعية هلال أحمر كويتي موجودة في ذهني، وفي ذهن عبد العزيز الصقر والملا يوسف الحجي وسعد الناهض. وفي ديسمبر من العام ذاته، عقدت ثماني عشرة شخصية من أهل الخير أول اجتماع تأسيسي لهذه الغاية، ووضعت النظام الأساس. والشخصيات هي:
د. ابراهيم المهلهل، برجس حمود البرجس، خالد يوسف المطوع، سعد الناهض، سليمان خالد المطوع، د. عبد الرحمن العوضي، عبد الرحمن سالم العتيقي، عبد الرزاق العدواني، عبد العزيز حمد الصقر، عبد العزيز محمد الشايع، عبد الله سلطان الكليب، عبد الله علي المطوع، عبد المحسن سعود الزبن، علي محمد الروضان، محمد يوسف النصف، يوسف ابراهيم الغانم، يوسف جاسم الحجي، يوسف عبد العزيز الفليج.
وتقدمت هذه الشخصيات بطلب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، فوافقت على إنشاء الجمعيــــة، بعــــد وقت لم يدم طويــــلا، وتم إشهارهـــا في ينــــاير 1966. وتم انتخـــــاب مجلس الإدارة وتشكل مــن:

مجلس الإدارة

عبد العزيز الصقر، محمد النصف عبد المحسن الزبن، الملا يوسف الحجي، يوسف الفليج، سعد الناهض، برجس حمود البرجس.
وأذكر أنني حصلت وسعد الناهض في الانتخابات على أصوات متساوية، وبإجراء القرعة فاز سعد الناهض بعضوية مجلس الإدارة.
إثر ذلك، بدأنا البحث عن مقر، فاستقر الرأي على ديوانية الجسار في «جبلة» مؤقتا لمدة سنتين. بعد ذلك انتقلنا إلى المقر الثاني في منطقة «الشويخ» مقابل قصر الشيخ ناصر المحمد. وخلال هذه الفترة تم انتخابي عضوا في مجلس الادارة مرتين، وفي عام 1970 ترشحت لمنصب نائب الرئيس حتى عام 1975، وهو العام الذي أصبح فيه د. العوضي أمين عام الجمعية وزيراً للصحة، فتنازلت له عن منصبي كنائب للرئيس.

أرض المقر

حين بدأنا بالبحث عن أرض تصلح لتكون مقراً دائما للجمعية، وجدنا أرضاً مناسبة في «الوطية». ولكن عبد العزيز الصقر رئيس الجمعية ومحمد النصف قالا إنهما تحدثا إلى الشيخ جابر الأحمد الصباح رئيس الوزراء بخصوص أرض للجمعية فلم يجدا منه قبولا، واقترح عليّ رئيس الجمعية الذهاب إلى الشيخ جابر بنفسي وطرح الموضوع مجدداً:
«من الأفضل أن تذهب اليه».
وذهبت بالفعل، وطرحت عليه الموضوع بهذه الصيغة:
«أطال الله عمرك.. جئتك بالنيابة عن مجلس إدارة الهلال الأحمر الكويتي، وأنت تعلم أهمية هذه الجمعية بالنسبة للكويت حضاريا وإنسانياً. نحن بحاجة إلى مقر لها».
فقال:
«خذوا الأرض بجانب عقاب الخطيب في شرق».
قلت:
«ياطويل العمر، ما يصير.. نريد مكانا غير هذا.. بعد أمرك».
«لماذا ؟ شرق زين.. وموقع زين!».
«أريد الإنصاف من سموكم.. قصر السيف في شرق.. ودسمان في شرق، والمستشفى الأميري في شرق.. كله في شرق.. نريد شيئاً من أجل جبلة».
ضحك الأمير الراحل، وقال:
«اختاروا لكم أرضاً».
وقد قام الأخ يوسف عبدالله الشاهين بالبحث مع البلدية حتى اخترنا الأرض التي عليها الجمعية. وبدأنا بوضع التصاميم والمواصفات، وقام المهندسون بالتنفيذ؛ وتم البناء على حساب الجمعية، وعلى أرض ممنوحة من الحكومة.

عضوية الاتحاد الدولي

وبدأت الجمعية اتصالاتها للانتماء إلى عضوية الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وسهل توقيع الحكومة الكويتية على اتفاقيات جنيف لعام 1949 قبول عضويتنا في هذا الاتحاد الدولي في عام 1968. صحيح أن حماسنا للرد على المذكرات التي كانت تردنا من الاتحاد الدولي لم يكن كبيرا في البداية، بسبب تعدد الانشغالات وقلة الإمكانات، إلا أننا ثابرنا على الحضور في المؤتمرات الدولية، ونشطنا في التحرك من أجل تأسيس الأمانة العامة لمنظمة جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر العربية خلال حضورنا مؤتمرا في فيينا، ولم تتم ولادة هذا المشروع إلا في عام 1975 مع عقد الاجتماع السابع في الرياض في المملكة العربية السعودية. واختيرت جدة لتكون مقرا دائما لهذه الأمانة العامة الجامعة، وتم انتخاب الشيخ عبد الغني محمود آشتي أمينا عاما لها. ومع ذلك لم يكن لدينا متحدث دولي باسمنا في المحافل الدولية، فقدمت اقتراحاً؛ أن يصار إلى تولي الدولة الرئيسية التي تستضيف دوراتنا مهمة تمثيلنا في المحافل الدولية، وتكون هي من يقدم الاقتراحات ويتولى النقاش ونحن نتبع لها، ولكن اقتراحي لم يجد قبولا لدى بعض الدول العربية. كانت المشكلة أن جمعيتنا هي الوحيدة التي ينتخب مجلس ادارتها، أما بقية الجمعيات العربية فيتم تعيينه.

استقطاب المتطوعين

تزايد نشاطنا تدريجيا، وبذلنا جهودا لاستقطاب المتطوعين. في البداية عمل معنا ما يقارب 24 متطوعا ومتطوعة مقارنة بالعدد الذي يبلغ الآن 1800 متطوع ومتطوعة. وحين أقمنا غرف عمليات اغاثة خلال حرب 1967 وحرب 1973 استعنا بأطباء ومدرسين وهيئة تمريضية من وزارة الصحة مع منحهم مكافآت بسيطة.
المؤسف أن العمل التطوعي كمبادرة انسانية وحضارية غير منظم في البلاد العربية بشكل عام. هناك مشاعر طيبة وأحاسيس تعاطف انساني، الا أن الوعي والثقافة بطبيعة هذا العمل ينقصان الفرد العربي، ولا يزال الخلط بين العمل التطوعي ( الانساني) والعمل الوظيفي (المعيشي) قائما.

صعوبات مع الصحة

أضف الى ذلك ما واجهناه طيلة عملنا في العقود الماضية من غياب اعلامي يكاد يكون تاما عن تغطية أنشطتنا سواء المحلية أو العربية والدولية، وما واجهناه من ابتعاد لوزارة الصحة عن التعاون معنا أوتجاهلنا أحيانا رغم الحاحنا ربما بسبب اعتبارنا جهة منافسة. وتحضرني حكايات تستحق الذكر حول ما واجهناه من صعوبات وعراقــيل مع هذين المجالين.
للهلال الأحمر الكويتي دور فاعل، ليس على صعيد الكويت فقط، بل وعلى صعيد دولي، وتجاربنا في الأوقات الحرجة، مثل أيام العدوان على الكويت في عام 1990 دليل على الجهود التي بذلها الشبان والشابات تحت مظلة الهلال الأحمر، ويحق لنا أن نعتز ونفتخر بها. ففي تلك الأيام دخل عدد من المقاومين الكويتيين تحت مظلة الهلال الأحمر، وبدأوا بمساعدة العائلات، ومنهم من عمل في المخابز لاعداد الخبز، ومنهم من ذهب الى المستشفيات لنقل المرضى. ولنا تجاربنا ومبادراتنا الانسانية في المنطقة العربية والعالم وهي حقائق تستحق أن يلتفت اليها اعلامنا الداخلي والخارجي على حد سواء. فما الذي نجده؟

مكتب في السجن

في مناسبة لا تنسى، اتفقت جمعيتنا مع وزارة الداخلية وادارة السجون على افتتاح مكتب لنا داخل السجن المركزي، وهو حدث مهم اعلاميا يبرز دور الكويت الحضاري أمام بقية دول العالم المتقدم. واستدعينا كونا، فحضرت وقامت بتغطية اعلامية جيدة تناولتها الصحف المحلية بالتفصيل تقديرا منها لأهميتها، وقبل ذلك كنا قد اتصلنا بتلفزيون الكويت، فأرسل لنا امكانات تغطية محدودة جداً. ولدى رجوعي من افتتاح هذا المكتب الصغير حجما والكبير أهمية، ظل يشغلني سر هذه اللامبالاة من قبل جهاز التلفزيون الرسمي، فاتصلت شخصيا بوزارة الاعلام على أمل أن أجد تعاونا من أجل ابراز هذا الحدث الذي كنا سعداء به جداً. كان الاتصال الأول مع الوكيل المساعد لشؤون التلفزيون، فجاء الجواب أنه مشغول، واتصلت بالرجل الثاني، وجاء الجواب أن ليس لديه وقت للرد على الهاتف. عندها اتصلت بالوكيل، فاذا به غير موجود في الكويت، فطلبت الرجل الثاني، واذا بهاتفه لايجيب. وهنا لم أجد بدا من الاتصال بالوزير، ولم يأت الاتصال بنتيجة أفضل، اذ لم يكن الوزير موجوداً!
طلبت المسؤول عن مكتب الوزير، فرد شخص لطيف ومتعاون، وسألني:
«ماذا تريد؟»
شرحـــت لــــه ما نريـــــده للكويــــت، ومـــــا نريــــــده من التعـــــامل مــــع الخبـــر نظــــراً لأهميتــــه الاعــــلاميــــة، وقلـــت:
«أرجو أن تتكرم بابلاغ الوزير»
ووعد بايصال الرسالة.
لا أعرف ان كانت الرسالة وصلت أم لا، ولكن الخبر ضاع كما ضاعت أخبار كثيرة كان يمكن الاستفادة منها في الرد على الألسنة والأبواق المسلطة والمكرسة للهجوم على الكويت. لم نكن في أي يوم من الأيام من أصحاب الحملات الدعائية والصراخ، بل كنا نريد من أعمالنا الانسانية أن تتحدث عنا. أردنا من التلفزيون والاذاعة أن يوليا الأخبار التي تهم الوطن اهتماماً، الأخبار التي نود أن يسمعها العالم عنا. وأن تتعاون هذه الأجهزة مع الجمعيات الانسانية، وألا يكون دورها تلميع صور بعض الأشخاص على حساب المصلحة الوطنية.

حادثة اخرى

ســــأروي حادثــــــة أخرى، وتتعلق هـــــذه المـــــرة بـــوزارة الصحـــــة. كنا دائمـــــا نؤكــــد أن دور الجمعيــــة مكمل لــــدور الوزارة، ويجب أن تكون العلاقـــــة بينهما علاقـــــة تعــــاون وتكامل كمـــا هــــو الأمــــر المعـــــروف عالميــــاً، ولا يتعلق هـــــذا الأمـــر فقــــط بفتــــح المجـــال أمــــام المتطوعـــــين لدينــــا لتقــــديم خدمــــاتهم للمرضى في المستشفيات حتى لو كانت بسيطة، بل بأمــــور أخـــــرى أيضاً مثل المشاركــــة في حملات التوعيــــة، وعمليات تقـــــديم الخدمات الانسانيــــة في حالات الكوارث أو تنظيم تبادل الخبرات والمساعـــدات.
وقد لمسنا مثلا الحاجة الى حملات توعية مكثفة من أجل التبرع بالدم، وطالبنا بانشاء فرع لبنك الدم في الجمعية، يجمع فيه الدم ويرسل الى البنك المركزي للتغلب على الكثير من المعوقات. وبعد أخذ ورد لم نتوصل الا الى حل وسط يقوم على أن تسجل الجمعية أسماء المتبرعين وفصائل دمهم، ثم ترسل أرقام هواتفهم الى البنك المركزي. مثل هذا الجهد هو أحد واجبات الوزارة، ومع ذلك لم نجدها تولي الأمر اهتماما كافياً. وقد حاولت التحدث شخصيا مع عدد من وكلاء الوزارة لكنني لم أنجح في تحقيق شيء من هذا، لم أنجح حتى في الاتصال بواحد منهم يكون مستعدا للرد على الهاتف!
هذه العلاقة الملتبسة بالوزارة جعلت جمعيتنا الساعية إلى تقديم خدماتها التطوعية تشعر بأن الوزارة ترفض أي مساعدة منا من حيث المبدأ، وكأنها تعيش في كوكب آخر، شأنها في ذلك شأن التلفزيون والإذاعة، وكذلك شأن مؤسسات رسمية أخرى تحاول جهدها إبعادنا عن أي مبادرة تعود للكويت.
حدث هذا حين تقرر في اجتماع مع النائب الأول لرئيس مجلس الورزاء ووزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الصباح في ابريل من عام 1995.
ولاحظت أن تعليماته كانت في الخط السليم لخدمة سمعة الكويت إنسانيا وحضارياً. كانت هذه التعليمات تقضي بتعاوننا مع مكتب ولي العهد ورئيس جمعية الإصلاح من أجل تحقيق هذه المبادرة وتجسيدها. وبالفعل بادرت واتصلت بمكتب ولي العهد وشرحت الموضوع لمدير المكتب مبارك الفيصل الصباح، إلا أنني فهمت من كلامه أن المطلوب من الجمعية هو إرسال متطوعين مع بعض الملصقات التي تحمل شعار جمعية الهلال الأحمر فقط. وهنا فصلت له ما دار في الإجتماع، وطلبت منه الاتصال بوزير الدولة ليتأكد أن لنا دورا أكبر من ذلك، فقال عليّ أنا الاتصال به وهذا رقم هاتفه! واتصلت بوزير الدولة وأعلمته بما دار من حديث، فوعد بتوضيح الأمور للإخوة في مكتب ولي العهد على أن يتصلوا بنا. ولم يصلنا شيء من مبارك فيصل سعود الصباح، وبدا لي أنه اتخذ قراراً بابعاد الجمعية عن هذه المبادرة ومن اتصل بنا كان إبراهيم الفودري، وأفهمته بما تم الإتفاق عليه، وكان رده أنه لايملك أي صلاحية بهذا الخصوص. وكل مالديه من تعليمات أن على الهلال الأحمر تقديم متطوعين فقط، فأبلغته أننا على أتم استعداد لتقديم أي خدمة يطلبونها لأننا في خدمة مصلحة الكويت.
ومر يوم كامل من دون رد، فقررت الاتصال بالفودري لمعرفة ماذا تم، وجاء الجواب:
«كل شيء انتهى.. وليس هناك وقت»!
قلت:
«لعله خير.. نحن موجودون لأي خدمة تطلبونها».
من المؤكد أن ترك الخدمة في موقع ذي صلة بطبيعتك الإنسانية والعاطفية، سواء كان وزارة الصحة أو مجال العمل الإعلامي، سيترك فراغاً في حياتك، وسيجعلك تتساءل عن جدوى العيش عاطلا عن العمل وبلا مستقبل. ولهذا سينصب تفكيرك منذ اللحظة الأولى على إيجاد وسيلة للبقاء على قيد الحياة. أعني البقاء على صلة بطبيعتك وجهد حياتك الذي لايغادرك لهذا السبب أوذاك. فما بالك إذا جاء كل هذا بعد تجربة إحتلال الوطن العاصفة، وبعد أن بدا أن مهمة جديدة أصبحت مطلوبة منك، مهمة المشاركة في البناء؟
حين تتطلع حولك ستجد هناك أكثر من مكان في الكويت يستدعيك ويطالبك بأن لاتغيب. ويزداد هذا الشعور الحاحاً مع تراكم ونضج خبرتك في مجال العمل العام، واكتشافك وسط الاشتباك مع المعوقات والصعوبات أنك مازلت قادرا على العمل، ولو بالكلمة والرأي والنصيحة والاقتراح.
قلت منذ البداية اننا من جيل البحر والسفر، أي من جيل لايتوقف في ميناء إلا ليرحل إلى سواه، ولا يبتعد إلا ليعود. جيل أطل على مشهد الكويت بقضاياها السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وشمل بنظرته جوانب الحياة، فلم يترك لهذه الزاوية فرصة أن تحتجزه، أو لهذا المنصب فرصة أن يختصره.
تنويه
وقع خطأ مطبعي في الكتاب، سبب خطأ في الحلقة 18 المنشورة في «القبس» يوم الثلاثاء، حيث ورد من ضمن الشخصيات الــ18 المؤسسة للهلال الأحمر علي محمد الروضان، والصحيح انه علي محمد الرضوان، لذا اقتضى التنويه، وكذلك الشكر لخالد علي محمد الرضوان الذي لفت نظرنا إلى الخطأ المطبعي.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 22-09-2011, 11:07 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة (19)
1992 ترشحت لمجلس الأمة عن الدائرة الثالثة

بعد تحرير الكويت اتجه النظر الى اعادة البناء وترسيخ الأسس التي قامت عليها ومن أجلها جهود أجيالنا، ومن أجلها قدمنا أعمارنا وتفانينا في عملنا، ومن أجلها تقدم الشهداء وعمل العاملون كل في مجاله، ولكن في اطار الوطن الأوسع.
هذا الشعور هو الذي انتابني فور أن غادرت موقعي في كونا، وخرجت مودعا لا لأذهب الى الراحة كما يقال عادة، بل لأواصل ما خلق الانسان من أجله، عمل الصالحات، لما فيه خير الكويت وأهلها، ونصرة أمتها ودينها، ولأشتبك أيضا في ميدان آخر مع مشهد الكويت بعد التحرير.

مرشحاً لمجلس الأمة

في هذا الجو، وتحت هذا الهاجس، قررت في عام 1992 ترشيح نفسي لعضوية مجلس الأمة عن الدائرة الانتخابية الثالثة. وبوصلتي هي أن حب الوطن طاقة عطاء لا تنضب، وجهد صادق لا يتعب، ولأن خدمة الوطن اسمى وسائل التعبير، ليس عن هذا الحب فقط، بل عن ما تؤمن به وتراه الأسلوب الأمثل لحياة تتخطى الفردية الى حياة الجماعة.
لم يكن قراري كما قلت في برنامجي الانتخابي، نزولا عند رغبة أحد، ولا تجاوبا مع دعوة جهة أو جماعة، بل جاء انسجاما مع ما آنسته في نفسي من قدرة على مواصلة خدمة وطني وأهلي وأمتي في اطار ديموقراطي ومسؤولية نيابية.
كنت قد قضيت اكثر من ثلاثين عاما في الخدمة العامة في مواقع متعددة، وحصلت على تجارب متنوعة ومعرفة ثرية، وكان أملي أن أوظف كل هذا في خدمة مجلس الأمة، أن أساهم في جعل الحوار في جنباته اكثر حرية وموضوعية، والقرار في قاعاته قائما على المعرفة والاستقامة، والتعبير فيه عن ضمير الشعب وأكثريته الصامتة أكثر صدقا والتزاما.
وهذه هي حكاية تجربتي، او حكاية ما فكرت فيه في مطلع التسعينات فور أن اصبحت خارج كونا، ولكن ليس خارج كينونتي كانسان.
كان أقرب شخص لي هو عبدالعزيز الصقر، فعبرت له عن رغبتي في الترشح، وقلت: «لاأرى أحدا في الساحة، وأود ترشيح نفسي للانتخابات، وأريد أن أعرف رأيك».
واذكر أنه قال لي يومها: «ليس لدينا أحد.. توكل على الله».
وذهبت الى جاسم القطامي أطلب مشورته ورأيه. فلم أجد عنده اعتراضا، وقال أيضا توكل على الله، الا أنه نبهني الى أمر واحد: «من الصعب أن ترشح نفسك من دون أن يكون وراءك أحد».
فصممت: «أعلم هذا، وما أريده هو التجربة».
قيل لي يومها أن علي زيارة الدواوين، ولكنني كنت أعرف النتيجة سلفا، ولهذا لم أزر الا بعضها. وحصلت على اصوات قليلة كما توقعت، ولتنتهي تجربتي مع الانتخابات عند هذا الحد.

دنيا لا تتوقف

كما اعتدت دائما، وكما تعلمت من خبرتي، لا تتوقف الدنيا ولا يتوقف الإنسان عن هذا المنعطف أو ذاك، بل تواصل الحياة مسيرتها، وعلى الإنسان، مادام دافعه مختلفا عن الدوافع الشائعة، أن يواصل مسيرته على هدى طبيعته وعاطفته، وسيجد أن لديه ما يبذله وما يعطيه في أي مكان يكون فيه، سواء كان في أكثر المناصب علوا أو اكثرها تواضعاً. لهذا جاء تفرغي لعمل وأنشطة جمعية الهلال الأحمر الكويتي، وأنا أحد مؤسسيها، متطابقا مع هذه الطبيعة التي لم تفارقني، وأشعرني بسعادة كبيرة. هذه السعادة هي التي وفرت لي طاقة وقدرة على بذل الجهد والنشاط في سبيل العطاء والخير عبر الجمعية، ولم أكن أظن أن لدي مثل هذه الطاقة في عمري المتقدم.
ما أعنيه بالتطابق هو أن هدف حياتي منذ البداية لم يكن يخرج في الحقيقة عن أهداف الأماكن التي شغلتها، سواء كان مكان العمل بين الأسرة البيضاء أو بين ملفات وكالة الأنباء، او في غمار حركة الهلال الأحمر داخل الكويت وخارجها. في كل هذه الأمكنة عمل اجتماعي وإنساني تتشابك فيه تلبية حاجة المرضى والمحتاجين مع حاجتنا إلى نشر الحقيقة والمعرفة وإنقاذ الناس من الكوارث التي تسببها اضاليل البشر أو تسببها ثورات الطبيعة. في كل مكان يمكن أن نقدم مساهمتنا وعملنا الصالح.
ولا يحتاج الإنسان منا إلى كثير من التأمل ليكتشف أن جوانب عديدة، سواء في داخل مجتمعنا أو في العالم من حولنا، تحتاج منا إلى المساهمة في هذا الجهد الإنساني.

حياة أقل قلقا

في كويت الستينات، وقبل ذلك بزمن طويل، يقول لك كل من تتحدث معه ان الحياة كانت أقل قلقاً مما هي عليه الآن، وكان هناك جو من التعاون والانفتاح بدأنا نفتقده الآن. كل هذا صحيح بالطبع، ولكن هناك قضايا جديدة استجدت، وأحوال تغيرت بحكم حركة الحياة ذاتها. هناك أكثر من مليون وافد، معظمهم من العزاب أو البعيدين عن أسرهم، وهناك قضية البدون المحرومين من كل شيء بما فيه التعليم والخدمة الصحية والعمل، هناك الأسر المتعففة التي تفتقر إلى معيل. كل هذه الأمور جعلتنا نتخذ قرارا في الجمعية لتقديم المساعدة لهؤلاء المحرومين لنحمي مجتمعنا من آثار هذه الأوضاع الجانبية.
لقد وجدنا أنفسنا بعد التحرير أمام دمار وخراب أمام زيادة كبيرة في أعداد المحتاجين، 4000 أسرة تقريبا من البدون، فتحملنا مسؤوليتنا، وبدأنا مع المعاقين والعجزة وكبار السن. وواصلت تعاطفي مع الأيتام واللقطاء والعجزة أيضاً الذين كانوا موضع عنايتي عندما كنت في وزارة الصحة. فأرسلنا متطوعين إلى مقراتهم في دور الشؤون الاجتماعية، يوزعون الهدايا ويقيمون الحفلات الترفيهية ويدخلون عليهم أجواء المرح والتعاطف.

في المحيط العربي

إذا انطلقت خارجاً، إلى محيطنا العربي، ستجد لهلالنا الأحمر أكثر من قصة حدثت وتحدث في أمكنة متعددة. فعلى أرض الكويت نشأ بمساعدتنا أول هلال أحمر فلسطيني، في وقت لم يكن فيه أحد مستعداً في هذا المحيط العربي لمد يده لهذه الجمعية، ناهيك عن السعي لنيل اعتراف دولي بها.
حين بدأت تبرز حركة فتح الفلسطينية، كان اكثر الأطباء في الكويت من الفلسطينيين، وتحمسوا للتطوع وتقديم المساعدات والخدمات عبر مكتبها في الكويت، في وقت لم يكن لديهم هلال أحمر لا في الأردن ولا في لبنان. وأذكر أننا حين ذهبنا إلى مؤتمر في تونس، كان هناك خلاف بين جمعية الصليب الأحمر اللبناني والهلال الأحمر الفلسطيني الذي فرض نفسه هناك بالقوة.

هيئتان للعمل الإنساني

حين سألوني في تونس عن حل، قدمت اقتراحا بالعمل كما هو جار في الاتحاد السوفيتي، أي أن يكون لدينا في لبنان جمعية صليب أحمر لبناني وجمعية هلال أحمر فلسطيني حتى تتوقف الحساسيات عن إثارة الخلافات، فقيل لي من قبل الوفود المشاركة تقدم بهذا الإقتراح ونحن معك.
كان معي يومها يوسف ابراهيم الغانم، وتقدمنا باقتراحنا، فثار غضب رئيسة الوفد اللبناني السيدة تيريزا، وانفعلت انفعالا شديداً، وانسحب من أيدني في تقديم الاقتراح، وصرت وحيداً، وتحدثت مخاطباً رئيسة الوفد اللبناني، وقلت:
«لامانع لديّ أن أقلب الهلال إلى صليب أحمر»
ومع ذلك لم يقبل الاقتراح.
أما هنا في الكويت، فحين أرادت منظمة التحرير الفلسطينية إنشاء هلال أحمر، وكانت قد بدأت تجمع التبرعات والأدوية، تقدمت للمساعدة، ولم أتأخر أو أتردد. وكان هذا أول هلال أحمر فلسطيني ينشأ في منطقة الجابرية. واستمر وجوده إلى أن توقف بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي.
كنت من أشد المتحمسين لمد يد العون، وكان لي موقع خاص لدى الفلسطينيين.
الآن وبسبب التطورات التي مرت بها القضية الفلسطينية، لم نعد نتعامل مع الهلال الأحمر الفلسطيني التابع للسلطة الفلسطينية في رام الله، لأنه يأخذ المساعدات منا ويعطيها للموالين لهذه السلطة، ونحن ضد هذا الأسلوب. نحن نريد مساعدة المحتاجين والفقراء كافة، بغض النظر عن مؤيد ومعارض، فلا دخل للسياسة في مساعداتنا الإنسانية. لهذا تم الاتفاق مع د. حيدر عبد الشافي رحمه الله على إنشاء هلال أحمر في غزة، واصبح هناك هلالان في بلد واحد، أحدهما تحت سلطة رام الله والآخر تحت إشراف عبد الشافي الرجل الفذ والأمين والوطني. وعلى هذا الأساس قمنا بتحويل التبرعات لفلسطين الى غزة عن طريق البنك العربي، وهناك توزع على المحتاجين، وتصلنا الإيصالات. وبعد وفاة د. عبد الشافي استمر الوضع هكذا.

مساعدات إلى القدس

من جانب آخر، وأمام وجود محتاجين في القدس، بدأنا شراء مواد غذائية من الكويت وارسالها إلى الضفة الغربية عن طريق الصليب الأحمر الدولي، فكانت تخزن في عمان لمدة شهر أو شهرين إلى أن تأذن السلطات الإسرائيلية بادخالها، فتنقل بسيارات الصليب الأحمر إلى داخل الأراضي المحتلة، وهناك يتم توزيعها. واستمر هذا التعاون مع الصليب الأحمر الدولي طيلة سنتين، وكلفنا الشحن من عمان إلى الضفة ما يقارب 500 ألف يورو، فاتفقنا مع سيدة تدعى «رضا خضر» على أن تكون مندوبتنا هناك، وعن طريقها يتم تقديم مشروع إفطار الصائم، ومساعدة الايتام والعجزة بحدود 400 شخص لمدة شهر، وندفع لما يقارب 500 عائلة ليس لها معيل 100 دولار شهرياً، بالإضافة إلى توفير احتياجات الطلبة الايتام من الأدوات المدرسية (7000 حقيبة مدرسية وملابس ومواد غذائية).
وقد نوه د. عبد الشافي حين زار الكويت في يوليو من عام 2004 بجهود جمعيتنا، فذكر لصحيفة «القبس»:
«إن الهلال الأحمر الكويتي استطاع أن يكسر الحواجز والجدران سعيا إلى إيصال الكثير من المساعدات إلى الشعب الفلسطيني عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر»
ويبدو أن نشاطنا هذا أثار شهية بعض من رجالات السلطة الفلسطينية فدخلوا على الخط، وأنشأوا مركزا باسم المركز الفلسطيني للاتصال الجماهيري ومجموعة العمل الأهلي طالبين أن نحول اليهم أيضاً مبالغ كبيرة كمساعدات. من ذلك رسالة وصلتني بصفتي رئيس الجمعية في 26/8/2007 من نبيل عمرو تطلب تمويل ميزانية بمبلغ 1,060,000 لتوفير متطلبات العام الدراسي بحجة مساعدة الطلبة المحتاجين للرسوم الجامعية والمنح الدراسية. فكان جوابي ان مثل هذه المساعدات غير مدرجة ضمن ميزانيتنا التقديرية، وخارج نطاق اختصاصنا، ونحن نعطي الأولوية لمساعدة ورعاية الايتام والعجزة والأرامل والمعوقين وإعانة المرضى، ومستعدون للتعامل في ما يتعلق بهذه الأمور. ثم ذكرت له أننا خصصنا لمندوبتنا رضا خضر عدة مبالغ تصرف ضمن معايير ومقاييس محددة.

..والى غزة

ولم تتوقف تدخلاتهم عند هذا الحد، بل أرسل الهلال الأحمر الفلسطيني التابع للسلطة في رام الله كتابا لنا يتساءل فيه بلهجة استنكار: كيف توجد في فلسطين جمعيتان للهلال الأحمر الفلسطيني في بلد واحد؟! فقلت في ردي عليه:
«نحن لم ننشئ هلالا أحمر في فلسطين، بل لدينا ممثل هناك».
حتى الآن ما زلنا نرفض التعامل مع هؤلاء بسبب أسلوبهم في توزيع المساعدات. وأذكر أن السيد أحمد قريع اتصل بي يسأل عن سبب هذا الموقف، فذكرت له الأسباب واقتنع بموقفنا.
أسلوبنا هذا لم ينقطع في التواصل مع المحتاجين، وخلال العدوان الأخير على غزة في أواخر 2008 وأوائل عام 2009، ذهبنا الى غزة، فوجدنا الهلال الأحمر المصري هناك، فقررنا شراء الاحتياجات من مصر، وأعددنا 10 شاحنات دخلت عن طريق معبر رفح. ومع أننا كنا طلبنا تسليم الشاحنات الى الهلال الأحمر في غزة، لكنه لم يتسلم شيئاً منها، وقيل إن «حماس» أخذتها ووضعتها في المخازن. وما زلنا نرسل المساعدات الى غزة عن طريق رفح بمساعدة الهلال الأحمر المصري، ثم يستلمها ممثل عن وزارة الصحة والشؤون الاجتماعية، ويتم توزيعها، ولكننا لا نعرف كيفية التوزيع.
ولم نتوقف عند هذه الحدود، بل مضيت الى الطلب من الأمين العام للجامعة العربية عقد اجتماع لوزراء الصحة العرب لمناقشة كيفية دعم الشعب الفلسطيني على المستويين الطبي والانساني، ولكن لا أحد رد على طلبنا هذا.

.. ولبنان

وخاضت جمعيتنا حرباً انسانية حقيقية في مواجهة العدوان الاسرائيلي على لبنان واللبنانيين في صيف عام 2006. وشهدت الساحة اللبنانية الشبان الكويتيين يواجهون المخاطر والتحديات ويصرون على البقاء هناك من أجل تقديم المساعدات واغاثة اخوانهم اللبنانيين. ولم يتوقف جسر المساعدات الذي أقمناه، وأوصل ما يقارب 1142 طنا من المساعدات معظمها أدوية. وفضل الكثير من متطوعي الهلال الأحمر الكويتي البقاء في لبنان للعمل على تقديم المساعدات الى المحتاجين بأنفسهم الى جانب الاشراف على التوزيع.
ما افتقدناه في معاركنا الانسانية هذه هو دور الاعلام الكويتي الخارجي في ابراز دورنا، ليس في الساحة اللبنانية فقط، بل جميع دول العالم. وأعني بذلك دور شباننا الذين يقبلون على العمل التطوعي بأعداد كبيرة، ولا يترددون في الذهاب الى أي مكان لأداء الواجب الانساني، بينما تقف الجهات الحكومية من عملهم موقف اللامبالاة، وكأن الأمر لا يعنيها.

صفحة مجهولة

سأنتقل الآن الى رواية صفحة، ربما هي صفحة مجهولة من صفحات جهودنا لتقديم المساعدات الإنسانية للشعب العراقي داخل العراق وخارجه على حد سواء، متجاوزين حتى العقبات التي كان يقيمها النظام العراقي أمامنا في التسعينات.
بدأنا بتقديم المساعدات أثناء الحرب العراقية - الإيرانية وبعدها، وواصلنا تقديم مساعداتنا بعد تحرير الكويت إلى اللاجئين العراقيين في أماكن مختلفة، بل وحاولنا الذهاب إلى العراق أثناء فرض العقوبات الدولية على نظامه.
حين وردنا من الخارجية الإيرانية خبر عن وجود نازحين من العراق على الحدود الإيرانية بحاجة إلى المساعدة، طلب منا الشيخ صباح الأحمد إرسال مساعدات إليهم، فقلت إن علينا التنسيق مع الهلال الأحمر الإيراني.
وتم التنسيق مع الهلال الأحمر الإيراني، وأرسلنا مساعداتنا عن طريق ميناء بوشهر.
وأذكر يومذاك أن باقر الحكيم، أحد الزعماء العراقيين، زارني في الديوانية وطلب منا إرسال كتب باللغة العربية إلى المدارس، لأن الإيرانيين يدرسون الأطفال هناك باللغة الفارسية. فأحضرنا كتباً من وزارة التربية وأرسلناها.
وفي لندن، اتصلت بي إيما نيكلسون، عضو البرلمان البريطاني، وكان لديها نشاط إنساني في العراق، فطلبت مقابلتي، وعبرت عن رغبتها في أن نساعدها في نشاطها، فأخبرتها أننا نواصل إرسال المساعدات.
ومن جانبها، أشادت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بلسان رئيسها د. مصطفى عمر، بالمساعدات التي يقدمها الهلال الأحمر الكويتي للعراقيين، خصوصا اللاجئين منهم في مخيمات إيرانية، وأشار إلى امكان التعاون والتنسيق بيننا وبين المفوضية، وعرض علينا المساهمة في المجالات التي نراها مناسبة ويتم الاتفاق عليها. وعلمت منه أن المفوضية توفر المعونات الإنسانية لللاجئين العراقيين في سوريا ولبنان والأردن أيضاً.
وفي أيار من عام 1998 بادرت إلى الإعلان عن استعدادنا لتقديم المساعدات الطبية والغذائية الإنسانية للشعب العراقي داخل العراق إذا طلبت منا جمعية الهلال الأحمر العراقية ذلك. وقلت إن تقديم هذه المساعدات سيتم بالترتيب مع الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وتحت إشرافه كي نضمن سرعة وصول هذه المساعدات الى المحتاجين. وأضفت، ان هذا الاستعداد ليس جديداً، فنحن قدمنا وما زلنا نقدم المساعدات للعراقيين اللاجئين في إيران، وتبحث جمعيتنا اقتراح مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأن نوسع عملياتنا لتشمل اللاجئين الذين يعيشون في بعض الدول العربية.
كانت مراسلاتنا مع الهلال الأحمر العراقي تتم عبر المنظمة العربية لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر، وعن طريق هذه المنظمة تلقينا ردًّا متأخرا من رئيس جمعية الهلال الأحمر العراقي صادق أحمد علوش، يرحب بمبادرتي ترحيباً حذراً، ويطلب أن تكون زيارة من جمعيتنا للعراق، ويشترط أن يكون هدف الزيارة «الإطلاع على آثار الحصار المدمر المفروض على الشعب العراقي حتى يضموا أصواتهم إلى الأصوات الحرة التي تنادي برفع الحصار». وانتقد الرد ما جاء في مبادرتي من ذكر لمساعداتنا للاجئين العراقيين عند الحدود الإيرانية، وأنكر وجود هؤلاء اللاجئين، معتبراً هذا الموضوع مختلقاً، وهو «تهويش دعائي رخيص» على حد تعبيره.
ولم أرغب بالدخول في جدل حول هذا الرد الذي اتضح أنه مجرد مبرر للتهرب من مبادرتي، وتمنيت ألا يحاول البعض تجيير معاناة الشعب العراقي المنكوب لتحقيق مكاسب سياسية.
كان التهرب والتنكر حتى لوجود لاجئين عراقيين محتاجين، وانتقاد أي عمل إنساني تقوم به جمعيتنا أو أي جمعية أخرى غريباً.
في 5 ديسمبر من عام 1998 وصلتنا رسالة من الهلال الأحمر العراقي يدعونا فيها لزيارة بغداد وحضور حفل افتتاح المخيم الشبابي لمتطوعي جمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر العربية. فوجدت في هذه الدعوة فرصة لإعادة التأكيد على استعدادنا لتقديم ما يحتاجه الشعب العراقي من مساعدات، وذكرتهم بما سبق أن عرضناه من تقديم المساعدات في داخل العراق تحت مظلة اللجنة الدولية للصليب الأحمر والاتحاد الدولي. وقلت في ردي بعد أن شكرناهم على دعوتهم، إن هذه المساعدات سيشارك في توزيعها أبناء شهدائنا وأسرانا، وسيكون لهذا العمل الإنساني مردود إيجابي على المواطن وعائلته. وذكرتهم بأن أبناء أسرانا قاموا بتوزيع المساعدات على الإخوة العراقيين اللاجئين في الأراضي الإيرانية طيلة الأعوام الماضية، وما زالوا يقومون بهذا العمل.
وكانت المفاجأة أن يصلنا رد يقول «إن القيادة العراقية قررت عدم قبول المساعدات» وحجتهم أنها لا تحل مشكلة الشعب العراقي التي لا يتم حلها إلا برفع الحصار، وكرر الرد إنكار وجود أسرى كويتيين في العراق، وزعم أنهم مفقودون شأنهم في ذلك شأن مفقودين عراقيين!
إزاء إخفاق محاولاتنا مد نطاق مساعداتنا الإنسانية إلى داخل العراق بسبب هذا التعنت، طرحت في أغسطس من عام 1999 اقتراحاً بتشكيل لجنة دولية تزور بغداد لمتابعة ملف الأسرى والمحتجزين لدى العراق لإنهاء هذه القضية الإنسانية، على أن تضم اللجنة كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، وعصمت عبد المجيد، الأمين العام للجامعة العربية، وعز الدين العراقي، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، بالإضافة إلى شخصيات دولية مثل نلسون مانديلا ورئيس البرلمان الأوروبي ورئيس اتحاد جمعيات الصليب والهلال الدولية. ورفض الاقتراح إلا إذا اقتصر حضور اجتماع هذه اللجنة على ممثلين عن الكويت والسعودية والصليب الأحمر.
كل هذه المواقف لم تؤثر في قليل أو كثير على إحساسنا بأن واجبنا الإنساني الذي وضعناه نصب أعيننا يجب أن يستمر. ولهذا كنا أول من دخل مدينة صفوان الحدودية لتقديم المساعدات في عام 2003. قبل ذلك ذهبت إلى جنيف لحضور اجتماع للدول المحيطة بالعراق للبحث في كيفية إرسال المساعدات، وقدمت اقتراحاً بضرورة الاستعداد منذ الآن، وفي حالة حدوث هجوم عسكري على العراق، نكون جاهزين للدخول وتوزيع المساعدات حتى لا ينزح العراقيون عن بلدهم ويصبحوا لاجئين، وهذه مصيبة، ولدينا تجربة مع الفلسطينيين. وتم الاتصال بالمندوب العراقي، وسجلت كل ما يريدون من مساعدات، وبخاصة في مجال الأدوية التي كانت شحيحة لديهم، ولم يتوفر منها سوى الأنواع البسيطة.
رفض الاقتراح، وتحول إلى مجرد توصية.
ولكن حين بدأت الحرب، اتصلت بالصليب الأحمر الدولي، وطلبت منهم أن نرافقهم في دخولهم إلى العراق، فأخبروني أنهم لن يدخلوا الآن، وطلبوا منا عدم الدخول، لأن اتفاقية اشبيلية تمنح الصليب الأحمر وحده حق الدخول في ساحات الحرب.
قلت:
«لن أقف مكتوف اليدين بسبب اتفاقية اشبيلية»
ودخلنا بدفعة أولى من ثماني باصات مليئة بالإعلاميين إلى صفوان. وتدافع حولنا الناس يطلبون الإعانات والمساعدات والأدوية. وعدنا وأرسلنا دفعة ثانية في وضع عمته الفوضى. وشاهد الشيخ صباح الأحمد هذا المشهد على شاشة سكاي نيوز، فاتصل بي وقال:
«الهلال الأحمرالكويتي يرمي المساعدات على الناس رميا.. ما هذه الفوضى؟»
قلت:
«بل هم ضربوا أفراد الحملة في البداية.. نحن ذاهبون إلى صفوان والناس لا يعرفون النظام وخائفون وفيهم من المخابرات العراقية».
بعد ذلك شكل الأميركيون لجنة إغاثة بالتعاون معنا، ورشحوني مسؤولا عنها، فاعتذرت، ورشحت محمد البدر، فاعتذر ورشح آخر، ولم يأخذوا بترشيحه. وأخيرا وضعوا علي المؤمن مسؤولا عن الإغاثة.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 22-09-2011, 11:08 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة (20)
الدستور والديموقراطية يتعرضان الآن إلى مخاطر
يبدو انني سأواصل فتح صفحات مجهولة من أنشطة جمعيتنا، أوانشطة الكويت بالأحرى في مضمار العمل الإنساني، لم يذكر عنها إلا القليل في وسائل الإعلام، وإن ذكر جاء مختصراً وعابراً. وأعود إلى الوراء، إلى جهودنا خلال الحرب في البوسنة والهرسك مع بدايات تمزيق دولة الاتحاد اليوغسلافي في عام 1992.

كانت المأساة الإنسانية التي تولدت من حرب التمزيق صارخة تستصرخ كل ضمير. مشردون في كل مكان نساء وأطفالا ورجالا، وقرى تحرق، ومجازر يتعرض لها المدنيون من مختلف الأعراق والديانات.
في هذا الجو قمت بجولة تفقدية شملت المركز الإسلامي ومخازن تموين اللاجئين من البوسنة والهرسك في زغرب عاصمة كرواتيا، وبعض مخيمات اللاجئين في ضواحيها، وفي المناطق القريبة من حدود البوسنة والهرسك، من بينها معسكر فازردين الذي ضم 1000 لاجئ تقريباً. وتحدثت مع غالبية اللاجئين، من النساء والأطفال، في هذا المعسكر الأخير، فوجدت لديهم تقديرا وامتنانا لما تقدمه الكويت حكومة وشعبا وجمعيات خيرية لهم في محنتهم. وهو ما كنا نقدمه بتعليمات من سمو الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله.

رسالة هاتفية

جاءت زيارتي هذه لتقديم تبرعات جمعيتنا للاجئين إلى كرواتيا لأن الوضع الأمني والعسكري لم يكن يسمح بدخول العاصمة ساراييفو المحاصرة من كل الجهات. وهنا عقدت اجتماعاً مع نائب رئيس جمهورية البوسنة والهرسك، سالم شابيتش، وخلال اجتماعي به نقل إلي رسالة هاتفية من ساراييفو، من رئيس الجمهورية علي عزت بيغوفيتش موجهة إلى أمير الكويت والشعب الكويتي وحكومته تشكرهم على تضامنهم ودعمهم المالي والسياسي.
وتحدثت أمام ممثلي جمعية الهلال الأحمر البوسني والمنظمات الإنسانية الأخرى، مؤكداً لهم أن الشعب الكويتي يدرك أكثر من غيره معنى الاحتلال والتشرد، ولذا من الطبيعي أن يقف إلى جانب شعب البوسنة والهرسك في محنته الحالية. ثم قدمت إلى نائب الرئيس شيكاً بتبرعات جمعيتنا كمساعدة إنسانية لحوالي مليون مسلم شردهم العدوان الصربي.

مبادرة الأمير

وفي يونيو من العام نفسه، قدمت، في لقاء مع وفد رسمي يمثل رئاسة وحكومة البوسنة والهرسك، وضم سالم شابيتش وحسن شنقيتش ود.عزت آغا نوفتش رئيس مؤسسة المرحمة الاسلامية الخيرية، مبادرة أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، باقامة مشروع خيري لمساعدة ضحايا ومنكوبي البوسنة والهرسك من الأرامل والأطفال. ويقتضي المشروع اقامة مخيم أو معسكر يحمل اسم الكويت لايواء واحتضان عدد من الأرامل والأيتام.
لم يكن هذا المشروع بدعا في مضمار المساعدات الكويتية، فكل مشاريعنا تقريبا نحرص على أن تكون نوعا من العمل الانساني الذي يواصل عطاءه وخيره ولا يتوقف عند حد تقديم وجبة غذاء لمحتاج، بل يتجاوزها الى تقديم وسائل تحصيل العيش، أو شبكة صيد بتعبير المثل الصيني، لا سمكة.

عام التسونامي

وهذا ما حدث على نطاق واسع في عام 2001، عام التسونامي الشهير. لم أكن اعرف معنى هذه الكلمة، وسألت خالد محمد الخالد الزيد، زوج ابنتي، فأخبرني أنه زلزال في البحر. واتصلت بالأخ الشيخ ناصر المحمد ورويت له ما حدث. كانت أكثر المناطق تضررا من هذه الكارثة هي أندونيسيا وتايلند وسريلانكا والهند. وتم تحويل مبلغ 400 ألف دولار كمساعدة للهند، أما بالنسبة لتايلند، فقد ذهبت مع سعد الناهض ود. هلال الساير الى سنغافورة، وهناك طلبوا منا معدات لفتح الطرق الى 150 قرية دمرهـا الزلزال، واشترينا معدات نقل وجرافات وشحناها. وفي سومطرة حيث وصلنا، رأينا مشاهد دمار مخيفة جدا، مثل مشهد يخت ألقت به الأمواج على الطابق الثاني من بناية، وطلبوا منا توفير المياه فاتفقنا مع شركة سنغافورية ووزعنا المياه على امتداد الطريق. والتقينا بسفيرنا في العاصمة الأندونيسية لمناقشة تفاصيل مشروع المساعدة الاغاثية قررنا بناء قرية باسم سمو الأمير جابر الأحمد رحمة الله عليه، كما أنشأنا محطة تقطير مياه للشرب.

عمل طويل الأمد

كان تفكيرنا، كما هـــو دائما، ارساء عمل اغاثي طويل الأمد يقوم على الانتاج وليس على تقديم مواد غذائية فقط، وستكون استفادة اللاجئين من هذه القرى مستمرة، بل وستتوارثها أجيال وأجيال. اضافة الى ما سيرسله مشروع الخير هذا الفريد من نوعه من أصداء ايجابية، سواء في الكويت أو أندونيسيا أو العالم، وسيخلد اسم الكويت في مجال الاغاثة ومساعدة الدول المنكوبة.
تجربتنا مع البوسنة والهرسك ثم مع كارثة تسونامي لم تكن هي الأولى بالطبع، فقد كان لنا حضور في مناطق الكوارث الطبيعية والانسانية على امتداد السنوات الماضية. أذكر من ذلك دورنا في كوسوفو الذي لم يبرزه الاعلام رغم أنه كان دورا بارزا، فهناك أنشأنا منازل بتكلفة 600 ألف دولار، وكذلك فعلنا في تركيا بعد الزلزال الذي حل في بعض مناطقها. ولم نغفل نداءات الصليب الأحمر الدولي ومنظمات الاغاثة الانسانية الى مساعدة أهالي دارفور السودانية، وتقدمنا عن طريق الهلال الأحمر السوداني، ولكن خشيتنا من ذهاب المساعدات الى جانب دون آخر، دفعتنا الى ارسال مساعداتنا عن طريق تشاد، وكانت مساعدات لا نعرف هل وصلت الى مستحقيها أم ضاعت في طريق مكتظ بالقبائل والعصابات. ولم نستطع ارسال مساعداتنا الى دارفور مباشرة حتى بعد أن أرسلنا وفداً وشاهد المأساة هناك على الطبيعة. ووصلنا حتى الى الولايات المتحدة في أعقاب اعصار كاترينا.
لقد وصلنا الى أقصى الأرض شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، ولا توجد بقعة في العالم لم نصل اليها.

تجاوز الحساسيات

في هذا المسلسل الطويل المتواصل من تثبيت وترسيخ صورة الكويت الانسانية، سيلاحظ أي قارىء أننا كنا نتجاوز الكثير من الحساسيات السياسية والشخصية، ونصل الى من يحتاج الى اغاثة ومساعدة بغض النظر عن جنسيته ومذهبه ودينه وبلده، بل وحتى حتى لو اعترض طريقنا معترض أو منتهز فرصة من الذين ينكرون على الكويت مكانتها، ولايتركون فرصة دون الطعن في مواقفها أو تشويه صورتها.
كنا نحرص على دورنا الانساني أولا، وعلى وصول مساعداتنا الى من يستحقها، ونبذل جهــدنا حتى لا تقــع مساعداتنا بيـــد منتهزي فرص للاثراء على حساب المحتاجين والضعفاء والمساكين، في العــراق وفلسطين ولبــنان والسودان.. وفي كل البلدان التي سارعنا الى واجبنا تجاه محتاجيها.

ضجة في الأردن

لقد كانت جمعيتنا المبادرة دائما للقيام بواجبها الانساني في أي مكان سواء داخل الكويت أو خارجها. ولعل قصة الضجة التي أثارتها صحف أردنية وأعضاء في المجلس التشريعي الفلسطيني في فبراير من عام 1997، وزعمت فيها أن هناك اساءة معاملة للسجناء الأردنيين في السجون الكويتية، هي قصة من القصص التي تستحق أن تروى، لأن دور جمعيتنا في جلاء الصورة واظهار الحقائق وفصلها عن المزاعم المختلقة للاثارة والتشويه كان دورا مهماً، وسيحفظ لنا وللكويت تصرفاً انسانيا قل نظيره في بلدان عربية أخرى.
حين بدأت تتصاعد هذه الحملة التي لانشك أنها مدبرة ضد الكويت لأسباب بعضها يتعلق بموقفها من رفض ابتزازها مالياً، ورفض التعامل مع جهات بعينها في السلطة الفلسطينية والأردن، قامت جمعية الهلال الأحمر الكويتي بتحري الحقيقة وأثبتت مجدداً ما تحظى به من مكانة في بلدها وخارجها. وطلبت من السلطات الكويتية السماح لوفد منها بزيارة السجن المركزي للتحقق من صحة ما يثار من تقارير صحفية. وبالفعل سارعت السلطات الى تلبية الطلب وفتحت الأبواب أمامنا لمعرفة حقيقة ما جرى ويجري ونقل حقيقة الأمر الى العالم والى ذوي السجناء.
كنت أنا على رأس وفد الجمعية، واستمعت إلى حقيقة الأوضاع من المساجين الأردنيين أنفسهم، فوجدتهم يثنون على حسن المعاملة التي يلقونها في السجن، وأكدوا أن ما أثارته الصحافة الأردنية من أنهم تعرضوا للضرب على يد القوات الخاصة لايمت الى الحقيقة بصلة. وعلمت من أحد السجناء، الذي التقى به وفدنا، أن رجال الأمن الذين كانوا يفتشون، كما هي العادة، عنابر السجن بحثا ً عن المخدرات والممنوعات، اصطدموا ببعض من كان يحاول عرقلة التفتيش، وتمت الاستعانة بالقوات الخاصة لفرض الأمن ومنع حدوث فوضى، مما أدى إلى وقوع صدامات بسيطة أصابت بعض السجناء من دون قصد.
هؤلاء السجناء، الذين نشرت الصحف الأردنية مزاعم تعرضهم للضرب، هم في الحقيقة سجناء محكومون بقضايا أمن دولة، وقد خصصت لهم عنابر بعيدة عن عنابر المحكومين بتهم جنائية، ويتراوح عددهم بين 70 إلى 90 سجيناً، بينهم 35 أردنياً. وتمت إدانتهم بعد محاكمات بتهم العمل في صحيفة النداء التي أصدرتها القوات العراقية إبان احتلالها للكويت، والانضمام إلى ما يعرف بجبهة التحرير العربية العراقية المنشأ والتمويل، والتعاون والتخابر مع القوات العراقية. وكان هؤلاء قد أعلنوا إضراباً عن الطعام في عام 1995مطالبين بإعادة محاكمتهم وتحديد ما إذا كانوا سجناء رأي أو سجناء قضايا جنائية. ودخلت إدارة السجن يومذاك في مفاوضات طويلة معهم، وزارهم نواب من مجلس الأمة من لجنة حقوق الإنسان للوقوف على مطالبهم. وبعدها عادوا عن إضرابهم لاقتناعهم بعدم إمكانية تنفيذ مطالبهم.
كل هذا كتبته وأرسلته إلى صحيفة الدستور الأردنية التي تصدرت الحملة على الكويت وسجونها، وشرحت فيه شرحا وافيا ما قامت به جمعيتنا وما توصلت إليه بعد التحقيق. وأكدت أن جمعية الهلال الأحمر الكويتي قامت بدورها الإنساني في تفقد أحوال السجناء انطلاقاً من احترامها لحقوق الإنسان، ومن حملها لرسالة إنسانية، تطبيقا لشعار الهلال الأحمر والصليب الأحمر الدوليين عملا وقولا، في رفع المعاناة عن أي كائن كان ومن دون عراقيل. وقامت الصحيفة بنشر نتائج تحقيقنا على صدر صفحتها الأولى، وذهبت الحملة ومروجيها أدراج الرياح.

في هذه الأيام

حين يصل أي قارئ إلى السطور الأخيرة من هذه الذكريات، لا أظن أنه سيضعها جانبا من دون أن يسأل نفسه السؤال المعتاد؛ بعد كل هذه المشاهد والفصول التي قدمها إلينا الكاتب في ما يشبه الدراما الحياتية الصاخبة، وبعد هذه الواقعية الكاشفة في أكثر من مجال من مجالات حياتنا، ما الذي يراه الآن وما الذي خلص إليه من اختلاف الآراء الذي كان شاهداً عليه، ومن الصراعات التي كان طرفا فيها مرة، ومراقبا وراصداً مرات؟
لهذا القارئ، أود القول وأنا أضع القلم جانبا، وأتوقف عند كلمة الآن، إن هذه المشاهد والفصول التي حفلت بها ذكرياتي كانت مؤشرات على ما نشهده الآن ويبرز في كل المجالات، في الصحة ووكالة كونا وجمعية الهلال الأحمر الكويتي. أي أن الماضي وتجربته لم يكونا قطعة منفصلة من حياتنا، بل عنصراً مساهماً في تشكيل حاضرنا، وسيكون الاثنان معاً، الماضي والحاضر، عنصري تشكيل مقبل الأيام.
لهذا السبب، ورغم تواضع هذه الذكريات، فالكثير مما تحدثت عنه من صعوبات واجهتنا، لا يعرفها الكثيرون، ولا يعرفون ما حفلت به من مواقف كان طابعها شخصيا في أغلب الأحيان، تغلبت فيها عواطف الأنانية والحسد على القيم الجماعية، قيم المصلحة العامة المشتركة.
كنتُ أتمنى أن يتاح لي مجال أوسع لقول أشياء لم أستطع ذكرها مع أنها حاضرة في الذهن، بل وحية تنبض حتى الآن بمشاهدها، سواء كانت مؤلمة أو مفرحة، وكنتُ أتمنى أن تصل إلى القراء الكرام بألوانها وأشخاصها وظروفها الواقعية وليس المتخيلة، لولا ما قد تسببه من إحراجات في وسط ما زال حتى الآن يفسر ما يقال أو يذكر بدوافع شخصية، لا بدوافع موضوعية لا تعلق لها بهذا الفرد أو ذاك تحديداً، بل بظواهر عامة يراها المراقب بمعزل عن رغبته أو ميوله.
لدي الكثير أقوله، وسيبقى دينا عليّ ووعداً مني، ما مد الله في أعمارنا وسمحت الظروف، أن أقوله بدافع واحد هو إفـادة القارئ. وحين أقول إفادة القارئ، فالمعنى هو أن نتجنب معاً، أفراداً وجماعات، الأخطاء التي مررنا بها، وهي كثيرة، ونتجه بأنظارنا إلى استخلاص العبر حتى لو كنا موضع النقد والتقصير، والانحراف أحياناً.
بالطبع تمنيتُ أيضاً أن أكتب عما يدور في الساحة الكويتية الآن، حيث يتعرض الدستور الذي نفتخر به والديموقراطية التي نعتز بها إلى مخاطر، وقد سبق لي أن تحدثت مع أكثر من مسؤول حول هذه الأمور، وكنتُ صريحاً وقاسياً جداً لما فيه مصلحة الكويت، إلا أن هذا الموضوع لا يكتب عنه هنا، فالهدف هو إيصال الرسالة إلى الجهات المعنية وليس استعراض القدرات في الكشف والتحليل. وهذا هو النهج الذي اتخذته، وأطالب كل المخلصين والمنتمين الى هذا البلد باتباعه؛ أن يأخذوا الحقيقة إلى القيادات المسؤولة من دون خشية على مصالحهم الشخصية، على الوجاهة والمال، فكل هذه تسقط أمام مصلحة الكويت العليا.
أكتفي هنا بالقول أن المخاطر التي ألمحتُ إليها في ما يتعلق بالدستور والحياة الديموقراطية، إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، ستكون سببا لأزمات عديدة يتعرض لها وطننا، وبخاصة أن وضعنا من الناحية الجغرافية حساس جداً.
وأضيف، لو نظرنا إلى جيراننا واستعملنا عقولنا، سيكون حتماً علينا أن نفكر ونتروى قليلا كي تتضح الرؤية، ونتبين طريقنا. والمهم الان هو أن نتمسك بدستورنا ونظام حياتنا الديموقراطي، وأن نبعد عنهما من لا يجيد التعامل مع الدستور ولا التعايش في ظل النظام الديموقراطي، ولا إدارة هذا النوع من الحياة العصرية.
هناك ممارسات خاطئة في هذين المجالين تتجه نحو هدم الكويت والإضرار بأهلها، ولا يجب أن يستمر هذا من أي جهة جاء وتحت أي شعار مضلل جرى.
(انتهى )
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بعد 72 سنة.. مازالت السدرة وحيدة وثابتة في الصحراء AHMAD الصور والأفلام الوثائقية التاريخية 16 22-03-2011 12:28 AM
السيرة الذاتية للنائب مرزوق الغانم ... بنت الزواوي المعلومات العامة 4 02-08-2009 04:33 PM


الساعة الآن 05:32 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024
جميع الحقوق محفوظة لموقع تاريخ الكويت