راسل ادارة الموقع جديد المشاركات التسجيل الرئيسية

 
 
        

اخر المواضيع

 
 

 
 
العودة   تاريخ الكويت > منتدى تاريخ الكويت > البحوث والمؤلفات
 
 

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 22-09-2011, 10:56 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي السدرة بين أزهار النوير


السدرة: بين أزهار النوير (1)
ذكريات برجس حمود البرجس
ما كان لهذه الذكريات ان ترى النور، لولا طلب عدد من الاصدقاء والزملاء، ولولا الحاحهم المستمر على ضرورة ان ادون شيئا منها، واسرد خلال ذلك تجربة عمر امتدت ما يقارب الاربعين عاما في ثلاثة مجالات، وزارة الصحة، ووكالة كونا، والهلال الأحمر الكويتي، بالاضافة الى مجال الحياة العامة سياسيا وثقافيا في اكثر الفترات اهمية من حياة الكويت، واعني بذلك فترة نشوء الكويت الحديثة بنظامها الديموقراطي الدستوري، وما تخللها من حلاوة ومرارة.
قد يبدو هذا الاستهلال اضفاء للاهمية على هذه الذكريات وصاحبها، ولكنه في الحقيقة مجرد اشارة الى اهمية ما مرت به حياتنا الجماعية تحت هذه السدرة الوارفة التي سميتها الكويت، اما نصيبي من هذا، فهو هذه المذكرات المتواضعة جدا، والتي بلغ احساسي بتواضعها حد تسميتها ذكريات.
هي ليست مذكرات اذن، ولا أدعي اني ادون مذكرات هي من نصيب كبار القادة والشخصيات البطولية، ولانني لست من هؤلاء، ولانني مجرد مواطن في بلد شهد أطوارا من حياته وشارك فيها، ارتضيتُ تسجيل ما حفظته ذاكرتي من احداث ومواقف، وتقديمها الى القارئ الكريم.
والى هذا القارئ، أتقدم منذ البداية باعتذاري ان أخطأت هنا أو هناك، أو نسيت كثيرا من الاسماء والاحداث، فما لدي هو ما توارد على ذهني عفو الخاطر والنية الصادقة في قول ما رأيت، وتسجيل ما اعتقد انه جدير بالذكرى.
ولا يسعني في ختام هذه الملحوظة سوى تقديم شكري وتقديري لكل من حفزني من الاصدقاء والزملاء، وكل من احسن الظن بقيمة هذه التجربة، وساهم في اعداد هذه الذكريات، لما بذلوه من جهد معي، واخص بالذكر ابنتي العزيزة مها، التي حفظت كثيرا من الوثائق، واعتنت بجمع القصاصات والصحف، وقدمت لي مساعدة لا تقدر بثمن، سواء في مرافقتي خلال سردي لهذه الذكريات، أو في تذكيري بما طواه النسيان وتوالي الايام.
برجس حمود البرجس
الكويت 1/11/2009

جيل البحر والسفر، هذه العبارة تراودني دائما كلما نظرت حولي، كلما اصغيت، وكلما عدت الى الغوص في داخلي، وحاولت ان افهم ما يتغير من جيل الى جيل في نفسي وفي من حولي على حد سواء.
لست فرداً من اول جيل ظهر على سطح هذه الارض بالطبع، ولست فردا من اخر جيل ايضا، وانما انا موجة ارتفعت بين امواج متلاطمة في هذا الوجود منذ كان، موجة تعلو غيرها احيانا وتتقاصر دونها في احيان اخرى. انا من جيل انطبع بطوابع بريئة، يتذكر ما ترك بين العاب طفولته على الاقل، فهل تمتلك الاجيال اللاحقة ما تتركه في عجلتها للفوز بهذا المكسب وذاك المغنم؟
يرتبط السفر والجهد الجسدي بالبحر دائما، ولا يغادرني مشهد ابي العائد من الهند بعد احتجاز طويل استمر عدة اشهر، كان ذلك في عام 1943، في خضم موجات السفن الكويتية المسافرة بين الكويت والهند وسواحل شرقي افريقيا جيئة وذهابا، وقد تكاثرت بسبب انشغال وسائل النقل البحرية بميادين الحرب العالمية الثانية، وتكاثرت معها حوادث تهريب الذهب الى الهند. كان ابي احد العاملين على احدى هذه السفن، لم يكن نوخذة ولا تاجراً، حين اوقفوا سفينته واوقفوا ركابها، بل كان مجرد نوخذة شراع لا شأن له بتهريب الذهب وتجاره.

عندما تأخر الوالد
تأخر الوالد كثيراً، وفكرت: هو في الهند، ونحن هنا يجب ان نحصل على قوتنا اليومي، بعنا بعض ممتلكاتنا المنزلية لسد حاجاتنا مثلما كانت تفعل بقية العائ‍لات الكويتية، فلماذا لا اعمل؟
كانت عطلة الصيف المدرسية، ولدي ثلاثة اشهر، فقدمت انا الصغير الذي لم يكن عمره يتجاوز الثانية عشرة، طلبا للعمل محصلا في البلدية، مسؤول البلدية آنذاك كان عبدالله العسعوسي، وبعده جاء حمد صالح الحميضي. وخلال ثلاثة اشهر، هي مدة عملي، واجهت صعوبات متعددة بسبب صغر سني حتى ان بعضهم كان يرفض ان يدفع ما عليه من رسوم بحجة انني ما زلت صغيرا على هذا العمل، او انه كان لا يصدق انني المحصل فعلا، اضافة الى انني كنت مسؤولا عن التحصيل في اماكن غير مألوفة بالنسبة لتلميذ مدرسة مثل الكراجات والقصاصيب واماكن بيع الاسماك وسوق واجف والمقاهي والدكاكين، اماكن تضج بأصوات وضحكات واجساد الكبار، فأبدو في وسطها صغيرا ضائعا يحمل هم والد غائب وبيت ينتظر من يخفف عنه ثقل الغياب وهم تحصيل قوته.
كان عليّ جمع الرسوم من هذه الاماكن وتسليمها للبلدية لقاء راتب مجز بالنسبة لسني، 100 روبية شهريا بهذا الراتب اشتريت احتياجات المنزل وحسنت اوضاعنا المعيشية.

الوالد يبكي
حين عاد والدي من الهند بعد أن أفرجوا عن سفينته، ذهبت لاستقباله مع ابن عمي، وهناك، وما أن هبط الى البر آتيا من المياه البعيدة وصياح النوارس، حتى سارعت مسرورا وأخبرته بقصة عملي اثناء غيابه. ربما كنت فخورا بما قمت به، وربما كنت أنتظر ثناء، الا انني فوجئت بذلك المشهد الذي لا أنساه، رأيت الدموع تنهمر من عينيه، والدي يبكي متأثرا ويسألني بلهجة حانية:
«لماذا فعلت هذا؟»
قلت من كل قلبي:
«رغبت ان أساعدك، وأتمنى أن أعمل بدلا منك وأريحك من هذا التعب»
قال وهو يلتفت جانبا ثم يتطلع الى السماء متنهدا:
«حسنا فعلت، ولكن لا تكررها مرة أخرى، اريدك أن تهتم بالدراسة».

غوص وماء
كان والدي مكافحا تحمل المسؤولية وعمره ثماني سنوات اثر وفاة والده، وما أن بلغ الثالثة عشر حتى دفعه اعمامه ال‍ى الحلول محل ابيه في «بوم» العائلة، عائلة البرجس، البوم الذي توارثته ابا عن جد، وظل يعمل في جلب الماء من شط العرب الى الكويت. كان قصدهم ان يتعلم والدي مهنة البحر، ان يصبح نوخذة. كل افراد عائلتنا بلا استثناء عملوا في الغوص وجلب الماء، وامتلكوا بالاضافة الى سفينة نقل الماء، سفينتي غوص. وانهمك والدي في هذا العمل الى ان ترك مهنة جلب المياه واختار طريق السفر الى الهند مع السفن الكويتية بعد ان نشأت شركة للماء وصارت تتحرك على الخط سفن أفضل.

قسوة الحياة
كنت أراه متعبا ومرهقا دائما تحت ثقل المسؤوليات وقسوة الحياة آنذاك في زمن الحرب، زمن الامكانات الضئيلة في الكويت حيث امكانات الناس بسيطة ومحدودة. في مثل هذا الزمن جاهد وكافح ليضمن لنا معيشة كريمة مثل حياة بقية العائلات الكويتية، وفي مثل هذا الزمن كنت اتمنى ان اعمل ولو حارسا لأساعده. ولا اذكر انني اغضبته يوما او اغضبت والدتي الى درجة انه ظل يخشى عليّ من هذه العاطفة المرهقة التي أحملها تجاهه وتجاه من حولي بشكل عام حتى آخر أيامه. كان والدي وحيد أبويه. وليس له سوى شقيقة كبرى. وخلال غيابه عن المنزل طيلة اشهر في السفر، كنت أنا من يتحمل المسؤولية، فأنا مثله كنت وحيد الأبوين، وتحملت المسؤولية صغيرا.

..وبكيت أنا
قبل يوم من وفاته في عام 1985 في المستشفى الاميري، دخلت لعيادته والطبيب يحاول اقناعه بتناول الطعام، فقال للطبيب انه لا يخشى شيئا، سواء أكل او لم يأكل، وان خشيته الوحيدة عليّ، استغرب الطبيب، وقال له:
«ابنك رجل كبير وذو مركز، فلماذا أنت خائف عليه؟»
قال والدي:
«اخشى عليه لانه عاطفي جدا، لم يغضبني او يغضب والدته منذ صغره».
في هذا المشهد الثاني الذي يفصله عن المشهد الاول عند مرسى السفن اثنان وستون عاما، غلبتني دموعي انا هذه المرة، فقبّلت والدي وخرجت، ربما حتى لا تفيض عواطفي وتستثير المزيد من مخاوفه وهو في ايامه الاخيرة.

بين النوير والبحر
انا من عائلة البرجس، اي من اسم محمل بعدة دلالات. فاذا لفظتها برجيس عنيت بها اسم نجم، واذا لفظتها برجس عنيت بها شجرا شائكا ذا ازهار حمراء، اما اذا ذهبت بها الى برجاس، فقد عنيت ما يرفع على رأس رمح او نحوه في ملاعب الخيل. في هذه الدائرة الدلالية او ما يمكن ان تفضي اليه اذا توسعت، اصداء آتية من ماض بعيد ربما تأخذنا الى الصحراء، الا اننا الآن عائلة تسكن بجوار البحر، وسيكون عليها ان تتصادى مع مقتضياته، مع مدينته الساحلية، اعني الكويت، ومع مدينته الابعد على رابية، اعني الجهراء حيث ولدت في عام 1931 لام جهراوية اسمها طرفة عثمان الموسى، ولاب تسكن عائلته في كويت الثلاثينات المتأرجحة بين ميول تشدها الى ماضيها القبلي وميول تشدها الى حاضر يتحرك نحو الحياة المعاصرة بكل ما فيها من ارتباكات ونزاعات مستجدة.
أورثني مكان الميلاد صورة مدينة تشبه حقل نوير وربيعا وبرّا أرتاده طفلا يستمتع في اجوائه كلما رحلت العائلة اليه شتاء، واورثني مكان النشأة واللهو على شاطئ البحر صيفا صورة بيت من ثلاثة اقسام، البيت والحوطة والجاخور في فريج البدر في منطقة جبلة.

الصيف والشتاء
هذا التردد بين مكانين، بين صيف وشتاء، كان سمة شبه عامة في تلك الايام حيث تملك العائلات بيتا هنا وبيتا هناك في الجهراء، او بيتا في قرى نائية بمقياس ذلك الزمن، مثل الفنطاس او الفنيطيس او الدمنة التي اصبح اسمها السالمية. لهذا لم يغادر الربيع طفولتي، واظنه لم يغادر طفولة الكثيرين منا حتى اليوم، فنحن ما زلنا نرمز لهذا التوق بالخروج الى البر، اي الى الطبيعة التي نتلمس بقاياها.
كنت اتردد على الجهراء كثيرا في ايام العطل المدرسية، بل وكنت اهرب احيانا من المدرسة لاعيش اياما ناعم البال مبتهجا ومرتاحا في حدائق ومزارع لم نرها الا في الجهراء. البرسيم والنخيل والرطب. كان كل هذا رائعا، والاروع في تلك الايام البيئة والطقس المختلفان عما هما عليه الآن، فالمطر غزير، والزهور عالية تخفينا وتغمرنا حين نجلس بينها. لم يكن النخيل غابات، وكان بلحه صغيرا جدا بحجم حبات الفستق، والسوق في الجهراء صغير ومحدود لا يتجاوز
بضعة دكاكين، ومع ذلك كنا صغارا نجد في كل هذا عالما متكاملا لا ينقصه شيء ونحن نبتهج في سوقه ومزارعه ونصطاد طيوره ونتمدد فوق أعشابه الخضراء. وما زلت أذكر تلك اللحظات التي كنا نسمع فيها من ينادي: صلاة.. صلاة.. صلاة، فنرى الناس يتحركون ويتخذون طريقهم إلى المسجد.

في فريج البدر
هذه الفترة من أجمل فترات حياتي، وجدت فيها ما لم أكن أجده في الكويت، في بيت أهلي الشبيه بمعسكر، كل شيء فيه ثابت في موعده: الأكل، الخروج، الزيارات، فالدخول، معسكر للصغار فيه نصيب أقل مما للكبار الذين نراهم عن بعد على ساحل البحر، أو في الطرقات حين يكون علينا -احتراما لهم- أن نبتعد ونتوارى.
ومع ذلك، هنا في بيتنا في الكويت، كان لنا الجيران والأصدقاء، وكل شيء مألوف. الناس يعرف بعضهم بعضا، تماما كما يعرف الإنسان راحة يده. هؤلاء هم أهل الفريج، فريج البدر المعروف، حيث نشأت، تكتل اجتماعي سيقل نظيره ويتلاشى في ما بعد، تجد فيه هذه الأسماء، عوائل: البدر والصقر والرشيد والتمار وحليمة وبيت وضحة المشاري وبيت المزيد والسمحان وعائلة الحمد والتويجري وفلاح الخرافي والنمش والحميضي والسابج ويوسف العمر وعبدالله الصانع والصبيح والدويش والسعدون واليحيى والعواد، والعبدالجادر. أسماء.. أسماء يتخطى بعضها الزمن الماضي ويعيش بيننا، وأسماء تغلّب على بعضها الزمن فلم تعد تمثل أو تذكر إلا حين تعود بنا الذاكرة الى تلك الأيام، فننقذها من النسيان، أو تنقذنا من النسيان، نحن طامحون دائما إلى أن نكون كلا كبيراً يعيش فيه ما مضى وما سيأتي.
كان في الفريج ما يقارب 12 ديوانا، هي حلقة الوصل بين عائلاته، وموضع اجتماع شمل أهله المشغولين بحديث الرزق في أغلب الأحيان، ولا تكاد تسمع فيه حديثا في السياسة أو أخبارا خارج عالم يتكامل ويتسع بمقدار ما تتسع رحلات سفنه ويصل تجاره وبحارته.
إذا أردت تحديد مساحة هذا الفريج، فستجده عند ديوانية البدر الحالية عند البحر شمالاً، بين المتحف الوطني ومسجد العثمان، وجنوبا الى حيث يقوم مبنى غرفة التجارة سابقا. مساحة مكتفية بذاتها، بصنائعها ونقعتها وأحاديثها ومصادر مياهها المجلوبة.
من المؤكد ان كل هذا ظل قائما بعد ان غادرناه وانتقلنا منه إلى بيت العم يوسف الحميضي مؤقتا في عام 1943. فحتى ذلك الوقت كانت تتغير البيوت ولكن لا تتغير التكتلات الاجتماعية. وهكذا لم نغترب حين اشترينا أرضا وبنينا بيتا في حوطة السديراوي بجوار مسجد النفيسي الحالي وسوق الصالحية، ثم انتقلنا الى الشامية، وعدنا الى شراء بيت في الشويخ الجنوبية وبنينا هناك بيتا. ما زلنا في الإطار نفسه، أو ما زلت أنا الذي يتذكر، لم أغادر فريج البدر ولا بساتين الجهراء ولا حكمة العمة التي تركت أثرا في نفسي، عمتي التي لا تُنسى.

سر العمة
كانت هذه العمة بركة البيت، امرأة عطوفا الى حد بالغ، حكيمة وعاقلة، ولا اجد كلمة تصفها سوى انها قديسة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، في التزامها ونقائها الديني، كانت محافظة جدا الى درجة انها لم تذهب الى السوق يوما، شهيرة بجمالها واناقة ملبسها، حريصة على النظافة دائما، تنظف الثلاجة بنفسها، وتغسل الصحون بيديها، ولو دخلت ذبابة الى البيت أعلنت حالة الطوارئ بلا مبالغة.
وكان لها سرّها ايضا، سر لا تبوح به لاحد، فبين تارة واخرى كان يتردد على بيتنا غرباء يرتدون ملابس توحي بفقر حالهم، نراهم يدخلون حجرة العمة مباشرة، وبعد وقت قصير نراهم يخرجون وهم يرددون آيات الشكر والدعاء لها، ولسنوات طويلة ظلت لدينا عن زيارات هؤلاء فكرة غامضة.
لهذه الانسانة مكانة وحب كبيران في نفسي، فقد اولتني حيث نشأت في بيت العائلة اهتماما لاحد له، كانت توجهني وتنصحني جنبا الى جنب مع امي، وكنت الاقرب اليها، لم تغضبني يوما ولا أزعجت والدي، وكانت مستعدة للتضحية بكل شيء من اجلي.
لدي شقيقة اصغر مني، ولدي الوالد المتعب، والوالدة التي تلازم اسمها ازهار النوير، الا انني عشت في اجواء عمتي حتى وفاتها في 24 نوفمبر 1965 في اليوم نفسه الذي توفي فيه الشيخ عبد الله السالم.
حين دخلنا حجرتها بعد الوفاة، وجدناها مرتبة بدقة، والطيب يفوح من ملابسها، واذكر حكمتها التي دأبت على ترديدها على مسامعي منذ الصغر، «اكثر من الأصدقاء لان الاعداء اكثر».
كانت تستخدم الحكم والامثال في تربيتي وتعليمي، حجرتها وحكمتها في مشهد واحد معا، وقبل كل شيء اثرها الكبير في تشكيلي نفسيا، في توجيهي منذ سن السابعة نحو حب العمل الانساني والتعاطف مع الفقير والمريض، هذه العاطفة ورثتها عن امي، الا انني تأثرت بعمتي، واظن ان اتجاهي نحو العمل في الهلال الأحمر جاء بتأثير هذا التشكيل الوجداني الذي ترسخ في نفسي.
فما هو سر العمة الذي حرصت على كتمانه، وسر تردد الغرباء على حجرتها من دون بقية حجرات البيت؟
آنذاك، وحين كانت تحدث هذه الزيارات بين الحين والآخر، لم اكن لا انا ولا اي فرد من افراد العائلة نعرف شيئا عن هؤلاء، لم تكن العمة تتحدث عنهم ابداً، ولكننا فهمنا ضمنا انهم فقراء تتصدق عليهم العمة الطيبة، وتساعدهم في امور معاشهم، لم تتحدث مرة عن هذه الصدقات، ولا نطقت بأسماء هؤلاء الفقراء.. كانت تؤمن ان الصدقة يجب ان تبقى سراً في القلب.
وحين دخلت العائلة الى حجرتها بعد وفاتها، لم تجد فيها أي اوراق أو سجلات بأسماء الزوار الغرباء، الذين كانت تساعدهم، وانقطع هؤلاء من جانبهم عن زيارة بيتنا بعد رحيل العمة، وآسفنا كثيرا لاننا لم نستطع مواصلة تقديم المساعدة الى هؤلاء الفقراء، فنحن لم نعرفهم ابدا.
حكمة الاكثار من الاصدقاء، والصدقة المكتومة هما اكثر المبادئ التي تعلمتها من هذه العمة النقية، عمقا في الروح، وكم وددت لو كان في استطاعتي بعد رحيلها اصدار كتاب عنها تعبيرا عن حبي ووفائي لها.

برجس حمود البرجس
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 22-09-2011, 10:57 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة بين أزهار النوير (2)
في هذه الحلقة الثانية من السدرة، يتابع برجس البرجس رواية ما يتذكره من ذكرياته.
وقد روى في الحلقة الاولى الولادة، والنشأة بين الكويت والجهراء والعمل مبكراً لاعالة العائلة، والانتقال من فريج البدر حتى الاستقرار في الشويخ.

لا أذكر في أي سنة دخلت المدرسة، وكانت مدرسة أهلية، ولكن لا بد أن عمري كان سبع سنوات تقريباً حسب العادة التي ظلت متبعة في تلك الأيام، وستظل كذلك في مدارسنا لسنوات طويلـة. في تلك المدرسة قضيت سنة واحدة عند الشيخ أحمد الخميس الذي خاله هو الشيخ عبدالله الخلف الدحيان، ومعلمه واستاذه في الوقت نفسه.
عمل هذا الشيخ مع عبد الملك الصالح في مدرسة الأيتام التي أنشأها شـملان بن علي آل سيف في كشك الصقر، جبلـة. ما أذكره من هـذه المدرسة الأولى، أننا كنا نتلقى، أنا والكثير من الزملاء والأصدقاء من فريج البـدر مثـل أولاد الرشـيد والبـدر، دروساً دينيـة وشيئاً بسيطاً من الحساب، ولاشيء آخر. ولا أذكر بالضبط كم كنا ندفع رسوما، ربما روبيتان أو ثلاث شهرياً.

في المعارف

بعد تلك السنة قالوا لي عليك أن تذهب الى مدارس المعارف، أي التعليم النظامي، ولكنك لا تستطيع الالتحاق بالتعليم النظامي الا اذا ذهبت لرؤية الشيخ يوسف بن عيسى القناعي. تذهب وتقول له أنا فلان ابن فلان فيسأل ويعرف.
كان الشيخ يوسف هو المشرف على التعليم النظـامي منذ أن نشأ، أي منذ أن أرسى هذا الشيخ أول مدرسة نظامية في الكويت في عام 1912، بعـد افتتاحه أول مدرسة أهلية في عام 1907. وفي مدرسته النظامية الأولى، أي المباركية، تلقى أبناء الكويت العلوم والتربية على أساس نظامي، ومضى الشيخ في نظـره بعيداً، فأراد ادخال اللغة الأجنبية في المناهـج الدراسيـة، لولا أن عارضه كثيـرون.
اذن كان على كل طـالب يود الدخول، سواء في المباركية أو الأحمديـة أو الشرقية، أن يذهب الى الشيخ يوسف حتى يعرفوا أنه من أولاد البلد وأنـه راغب بالدراسة. فذهبت اليه بنفسي في تلك السن، وسأل عن اسمي واسم عائلتي، ثم أعطاني ورقة وقـال خذها الى ناظر المدرسة المباركية، وكان يومها الأستاذ أحمد شهاب الدين، وابنـه عدنان هو من تـولى رئاسة معهد الكويت للابحاث العلمية.
ذهبت بورقتي الى ناظر المباركية وأنا لا أعرف شيئا عما يدور حولي، فقال لي أنت من سكان جبلة، فقلت نعم، فقال اذهب الى الأحمدية. وهي المدرسة ذاتها التي درس فيها والدي بعد انشائها في عام 1921 في جبلة والتي تم جمع مبالغ مالية للمساهمة فيها بين 10 آلاف روبية و15 ألف روبية كان منهم الأمير وتجار الكويت وعين الشيخ يوسف بن عيسى ناظراً لها. وسميت هذه المدرسة النظامية الثانية في تاريخ الكويت بعد المباركية باسم الشيخ أحمد الجابر الصباح.

..وفي الصالحية

وفي الأحمدية دخلت، ودرست اولى روضة يسمونها «تمهيدي»، ومنها انتقلت إلى الصف الأول. إلا أن بقائي لم يطل هناك كثيراً، فقد انتقلنا من بيت العائلة ولكثرة العدد والشبيه بمعسكر بأقسامه الثلاثة، إلى بيت آخر في الصالحية، وصارت المدرسة القبلية، المدرسة الثالثة التي أنشأها مجلس المعارف في أحد البيوت التي تملكها عائلة العصفور بعد الإقبال الشديد على التعليم، أقرب إلي من الأحمدية، فكان لابد من الانتقال إليها.
كل هذا حدث، الانتقال من مدرسة إلى أخرى، ومن مرحلة دراسية إلى أخرى، والحرب العالمية الثانية تدق أصداؤها نوافذ الكبار، ويصل منها النزر اليسير عبر مذياع أو فيلم أو ذاكرة كبار السن الذين شهدوا حروبا قريبة تشبهها. وكان من الطبيعي أن نلمس آثارها حتى على مناهجنا المدرسية وعلى معيشتنا.

مساعدة من دون مقابل

كان التقشف سمة عامة فرضت نفسها على المدرسة، فلا كتب إلا في النادر من الأحيان. الحصول على كتب تعليم الانكليزية كان الأصعب، وأذكر أستاذاً مصرياً كان اسمه سعيد هادي يجتهد ليحصل لنا من دائرة المعارف على كتب نقرأها. ولم تكن هناك طباعة كتب في الكويت، كل ما لدينا إما من بغداد أو من مكان آخر، وكلها توزع علينا مجاناً، مثلما كانت الدراسة مجانية. ولم يشعر أي طالب بالضغوط، فقد كان الزملاء والأساتذة يهبون لمساعدة الطالب الفقير ويسألون عن أسرته، وقد ساعد الاستاذ صالح شهاب كثيرين في المدرسة القبلية ومد يده حتى إلى أسرهم. هذا الرجل ظلم كثيراً في تقديري ولم يعط حقه ولا تم تقدير حسناته. كان الأكثر نشاطاً في مضمار الحركة الكشفية والرياضية، وهو الذي تولى مسؤولية التربية البدنية وأنشأ فريقا لكرة القدم والطائرة والسلة، بل وجاء برياضيين هنود من شركة نفط الكويت التي بدأت بالعمل في عام 1946 لتدريبنا. وحتى بعد أن خرجنا من المدرسة القبلية كان يساعد من يود أن يعمل في شركة النفط. كان في فريجنا أكبر ملعب في الكويت يسمى شبان الوطن، واسع تقام فيه المهرجانات السنوية وتشارك فيها كل المدارس.

أساتذة علموني

في هذه المدرسة، وهي آخـر عهدي بالتعليم النظـامي إذ أنني غـادرتها بعـد أن أنهيت الصف السادس، كان من أساتذتنا، بالاضافـة إلى صالح شهاب، خـالد عبـد اللطيـف المسلم وبدر سيد رجب وابراهيـم عبد الملك ويوسف المشاري وعبد الرحمن الدعيج والمـلا عثمـان مشهور ومحمد ابراهيم الفـوزان وإبراهيم المقهـوي وسـعود الخـرجي وعبد العزيز جعفر، وكلهم من أهل الكويت. أما نـاظر المدرسة المربي الفاضل وصاحب الخط الجميـل فكان عبد الملك الصالح. ولدي شهادة في الصف الثالث الابتدائي بخط يـده تظهر كم كان خطه جميلا. لقد كان كاتباً في الأصل عند المرزوق في الهند، وجاء وعمل في التعليم وأصبح ناظر القبلية. وكان ابنـه ناظراً للأحمديـة ووكيلا لوزارة الارشـاد ووزيراً للتربيـة. ومن أبنائه الذين عملوا في القبلية إبراهيم.
كان لدينا من المربين محمد زكريا الأنصاري وراشد السيف وجابر أفندي، وهو أستاذ كان قاسياً جداً يضرب بعنف، وجاء بعده الأستاذ إبراهيم عيد. وهؤلاء بدأ مجيئهم إلى الكويت في عام 1936، وتكاثروا في مجال التربية والتعليم، ثم عرفنا بعد ذلك الأساتذة المصريين مع مجيء بعثة تعليمية من مصر، وعرفت من مصادر رسمية في ما بعد أن الحكومة المصرية قبل الثورة كانت تدفع نصف رواتبهم.

حادثة لافتة

في هـذا الجو وقعت حادثـة لافتـة للنظر. جرت العادة أن يأتي من البحـرين مفتش انكليزي اسمه بيل غريف مكلف بالتفتيـش عـلى المـدارس والمدرسـين ومناهج التعليم، وعندما علم رئيس البعثة المصرية حمدي بيك بأنه قادم للتفتيش على البعثة المصرية أبلغ الشيخ عبد الله الجـابر رئيس دائرة المعـارف آنذاك، وقال انه سيسحب البعثـة المصرية إذا تدخـل بيل غريف، وهـو لا يرضى أن يفتش بعثته أي مسؤول انكليزي. ولكن الشيخ عبد الله الجابر طلب منه أن يقبل لمرة واحدة فقط، وبعدها لن يرجع بيل غريف. وبالفعل لم يعد بعـد سنـة، وانقطـع منذ ذلك الوقـت.
ووقعت حادثة أخرى في المسار التعليمي، كانت مشكلة بين البعثة التعليمية المصرية ودائرة المعارف هذه المرة. أرسل رئيس البعثة الذي لا أذكر اسمه شكوى من الكويت، فتأثرت الكويت لأنه لم يكن هناك سبب للشكوى، وتقرر في عام 1951 أو 1952 أن يرأس البعثة التعليمية فلسطيني. وذهب نصف اليوسف وعبد الحميد الصانع إلى الشام ولبنان بحثا عن رئيس للبعثة. وتم ترشيح اثنين من الجامعة الأميركية في بيروت، د. نقولا زيادة ود. قسطنطين زريق، فارتأى د. زيادة أن يكون رئيس البعثة مسلماً، ورشح أقرب شخص لديه، فكان الأستاذ درويش المقدادي الذي يحمل الجنسية الفلسطينية. وأصبح هذا رئيس البعثة التعليمية في الكويت أو مدير المعارف حسب التسمية الوظيفية، وظل في وظيفته هذه إلى أن تسلمها عبد العزيز حسين.

البيت المعسكر

تحدثت عن بيت البرجس الشبيه بمعسكر، وعن ضيقي بحياة الشتاء في الكويت وانتظاري اليوم الذي أنطلق فيه إلى الجهراء، وعلي أن أتحدث الآن عن رؤيتي لسجن حقيقي لأول مرة، ورؤيتي لسجناء في غرف متعددة. كنت في العاشرة تقريباً حين اعتاد والدي أخذي معه في زيارة لسجناء لم أكن أعرف عنهم شيئاً، فيسلم عليهم ويجلس معهم قليلا ثم نخرج. ولا اذكر الا أننا كنا ننزل الدرج حين نذهب اليهم، أي كانوا في سرداب. كان هذا في عام 1939 أو 1940، لانهم أطلقوا سراحهم في عام 1944، أي بعد خمس سنوات.

.. أول مرة في السجن

كان هؤلاء السجناء هم، سليمان خالد العدساني وسيد علي سيد سليمان الرفاعي ومشعان الخضير الخالد وعبداللطيف الثنيان الغانم ويوسف مرزوق المرزوق وصالح العثمان. أي بعض أعضاء أول مجلس تشريعي منتخب تشكل في الكويت في 29 يونيو 1938 في عهد الشيخ أحمد الجابر الصباح. انتخبهم 320 شخصا من بين 20 مرشحاً اجتمعوا في ديوان الصقر، وترأس مجلسهم الشيخ عبدالله السالم الصباح. وبدأ المجلس يعقد اجتماعاته بالقرب من كشك الصقر، أي بالقرب منا، وكنا نراهم في ساحة الصفاة. وحدثت ما سميناها الضربة، أي حل المجلس، بعد ستة أشهر وضع خلالها المجلس القانون الأساس لنظام الحكم في فترة قصيرة. وأخذنا أهلنا أنا وأولاد عمي الى الجهراء ليبعدونا عن هذا الجو لأنه حدث قتل كما علمنا. وبعد اسبوعين تقريبا رجعنا من الجهراء، وقالوا لنا انتهت العملية الآن وسجنا الجماعة. لم أشاهد أحداث الشنق في الصفاة ولكنني سمعت عنها، وسمعت أن السجناء تعرضوا للتعذيب في البداية، الا أنه بدا لي أن وضعهم أفضل.

.. واندلعت الحرب

ترافقت أيام تعليمي الابتدائي كما قلت مع أيام الحرب، ومثلما كان هناك تقشف في أحوالنا المدرسية سيطر التقشف على أحوالنا المعيشية، فأكلنا خبز الشعير بدل خبز القمح، خبز شائك يجرح البلعوم عاشت عليه الكويت كلها تقريباً. وحتى الملابس لم يكن سهلا الحصول عليها، فكانت تأتينا ملابس مستعملة من الجيش البريطاني. ومع تزايد صعوبة الحصول على المـواد الغذائية صار التموين بالبطاقة، تشتري المواد المدعومة من الحكومة حسب عـدد أفراد العائلة. وفي هـذا الجو اتصلنا بالعالم عن طريقين: طريق الأخبـار التي تصل عبر الراديـو، والقليل من أهل الكويت من امتلك راديـو خاصاً به، ومن امتلك كان يستمع الى الأخبار ثم يذيعها بين الناس ليتناقلوها. أما الطريق الثاني فكان شاشة السينما التي جاءت بها الينا ضرورات الدعاية الحربيـة البريطانيـة. كانوا يقيمون شاشة العرض السينمائي في ساحة الصفاة، ويجلس أهل الكويت على الأرض ويستمعون ويشاهدون تشرشل خطيباً، أو يشاهدون صور الجيوش البريطانية وهي تتحرك، ويصلهم صوت مذيع معلق باللغة العربية اسمه عزيز العزاوي يبدأ كلامه بعبارة «لكم التحية من لندن» ثم تعرض الشاشة مشاهد من ساحات المعارك.
بالطبع لم يكن هنـاك شيء عن نشاط ألمانيا وحلفائها، سوى طلعة تشرشل رافعاً يديه وجيشـه في أغلب الأحيان. ولا يصلنـا شيء أكثر من ذلك، أي أن التفاصيل ظلت غائبة؛ تحولنا إلى عيون تشاهد الشاشة وآذان تسمع تعليقـات مذيع لندن ذاك، لا نملك كتبا للقراءة ولا صحفاً.. لا شيء من هذا.

السفن الشراعية

ومع ذلك تميزت الكويت بشيء واحد وهو أنها بدأت تكثر من بناء السفن الشراعية، لسببين، الأول انتهاء مهنة الغوص التي تضاءلت تضاؤلا ملموساً بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي الياباني المزروع واجتياحه للأسواق، ومنافسته للؤلؤ الطبيعي من حيث الجودة والسعر، وبهذا قضي على مهنة وصناعة الغوص في الخليج العربي كله، فنشطت حركة السفر إلى الهند وسواحل أفريقيا، والسبب الثاني، انشغال السفن التي تنقل المواد الغذائية في ميادين القتال.
وكانت السفن الشراعية الكويتية تبنى بأيد كويتية ويعمل عليها أبناء الكويت، وترحل بالتمور إلى الهند، وتأتي بالأرز والخشب والسكر إلى العراق والسعودية. وصنعت السفن بأعداد كبيرة في منطقة جبلة وشرق لحساب عائلات تجارية ثرية مثل الصقر والثنيان والمرزوق والعثمان. أما نصيب العاملين على هذه السفن فكان يتفاوت، فمنهم من كانوا يفقدون مع سفنهم إذا غرقت، ومنهم من كان يتم إنقاذهم.

حياة البحر

المسألة المهمة في كل هذا الذي لا ينطبق عليه إلا وصف حياة البحر والدموع، إذا تذكرنا من كانوا ينتظرون على الشاطئ عودة البحارة الغائبين، ثم تأتي سفنهم لتخبر عن فقدانهم في البحر، أو تأتي سفن تخبر عن غرق سفينة بكل ما فيها، هو اعتزاز العامل الكويتي بنفسه وكرامته. لم يكن البحار يذهب بنفسه إلى المجدمي ويطلب السفر معه، بل كان يظل في بيته، ويأتي النوخذة بنفسه إلى بيته ويدق الباب على البحار ويسأله إن كان يحب السفر معه، فيرد عليه البحار«حاضر.. إن شاء الله». لم يكن البحار يذهب ليطلب حتى لو مات جوعاً.
فقدنا الكثيرين في تلك الأيام، كنا نسمع أخبار غرق السفينـة الفلانيـة ومعهـا من كان على ظهرها، وغرق فلان من الناس، أو قد يـأتي خبـر عـن غرق سفينـة ولكن بحارتها تم إنقـاذهم.
هذا جـانب من جـوانـب حياة البحر، أما الجانب الآخر الذي تعرفت عليه فكان مصير العاملين في الغوص. كنت أحب الجلوس والاستماع إلى أحاديث الكبار وقصصهم عن الغوص. وأكثر هذه الأحاديث كان يدور حول الديون.
تبدأ القصة بسلفة يعطيها صاحب السفينة للغواص، 20 روبية مثلا، ويذهب على ظهر سفينة الغوص مع حظه بين يديه. فإذا حصل على لؤلؤة وبيعت أو حصل على شيء آخر يسقط عنه الدين، ويحصل على القليل مما تبقى من ثمن اللؤلؤة، حصته بعد خصم الدين ورسم صاحب السفينة. أما إذا لم يحصل على شيء، فسيظل مدينا، ويأخذه صاحب السفينة في السنة التالية ويمكن أن يعطيه سلفة أخرى تضاف الى الأولى. كان هناك من يعجز عن سداد ديونه المتراكمة، ولا يواتيه الحظ بصيد ثمين يعوض جهده ويسدد دينه، وعندها يمكن أن يأخذ صاحب السفينة بيته لقاء الدين.
كان هذا الظلم يحدث أحياناً. يطالبه صاحب السفينة بالسداد وهو لا حيلة له إذ لم يحصل على شيء من أعماق البحر، قد يتراوح الدين ما بين 30 أو 40 أو 50 روبية لا يستطيع دفعها، ولأنه لا يملك سوى بيته، يطالبه بعض النواخذة بالخروج من بيته وتسجيله باسمه. وهكذا تنتقل ملكية البيت إلى صاحب السفينة. بعضهم كان يطلب رهن بيته حتى يتمكن من السفر وتحصيل قوته، فيستغل مالكو زمام الغوص حاجته اشنع استغلال.
لقد رأيت، وانا صغير السن، مشهد عودة البحارة من الهند، وقد جلبوا معهم هدايا متواضعة لأسرهم في صندوق خشبي كبير. ورأيت كيف تأتي بهم القوارب مع صناديقهم إلى الشاطئ، فيطلب البحار من ابنه أن يأتي بحمال يحمل الصندوق الثقيل. إنه يقوم بكل الأعمال على ظهر السفينة من تحميل وتنظيف وكل ما تستلزمه وظيفة البحار من أعمال، لكنه يملك نفسا أبية تمنعه أن يكون كذلك على البر. يترك لحمال أن يعود بأشيائه إلى البيت، ويعود إلى البوم ليحمل التمر والخشب متقطع الأنفاس قبل أن يرتاح أو يرى بيتاً أو زوجة.
تلك الأجـواء لمستهـا في قصيدة عنـوانهـا :
«عسر الدهر كابح زنودي بكمبار»
قيلت اثناء كساد الغوص عام 1929.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 22-09-2011, 10:57 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة بين أزهار النوير (3)
في الحلقة الثالثة من «السدرة» يحكي برجس البرجس قصة كفاحه في التعليم بعدما ترك المدرسة واعتمد التثقيف الذاتي، كما يروي قصة سفرته الاولى الى بغداد ولقائه الاول مع الرجل الذي سيصبح لاحقا أحد اصدقاء العمر، وهو صالح العجيري الذي كان ذاهبا الى العاصمة العراقية كي يطبع روزنامته، حيث لم تكن المطبعة قد دخلت الكويت بعد.

مع عام 1946، أي مع نهاية الحرب، بدأت تتغير أشياء كثيرة، ربما أبرزها بداية عمل شركة نفط الكويت KOC، ووصولي الى المحطة الأخيرة في المدرسة القبلية. في هذه السنة بدأ تصدير النفط، مع أنه كان مكتشفاً منذ الثلاثينات في منطقة بحرة وراء كاظمة، وبعد ذلك في برقان، ولكن العمل في هذه الحقول توقف بسبب الحرب.
كانت الحياة قاسية على الجميع، لذا اضطررت الى ترك الدراسة ومباشرة حياة العمل في شركة النفط، حياة العمل التي ظلت متواصلة منذ ذلك الوقت، وظل قلبي على الدراسة في الوقت نفسه، جامعا بين التقلب في الوظائف وبين حرصي على تلقي دروس خصوصية.
في البداية، استطعت، بالقليل من المال الذي أوفره بين فترة وأخرى، الاستعانة بمدرس لغة انكليزية، ثم وسعت الدائرة الى تلقي دروس خصوصية في الرياضيات والتاريخ واللغة والأدب العربي والكيمياء والطبيعيات، بعد انتقالي الى العمل في وزارة الصحة، على يد مدرسين هنود وفلسطينيين أدفع لهم من جيبي الخاص.

تثقيف ذاتي
منذ تركي المدرسة القبلية لم أدخل امتحانا، وسيطر التعليم الذاتي على مسار حياتي وثقافتي. وربما كان عدم حصولي على شهادة جامعية في بداية حياتي العملية هو المحفز الأكبر لي لتأكيد قدراتي، فجاهدت لأحصل على أكبر قدر من العلم؛ كثفت القراءة، بالاضافة الى الدروس الخصوصية وسط حياتي العملية.
في البداية، تلخص عملي في تسجيل بيانات البضائع الخاصة بشركة النفط التي تنزلها البواخر؛ تسجيل علاماتها التجارية وأعدادها قبل أن يتم نقلها الى الأحمدي. تقف البواخر على مبعدة من الشاطئ مقابل دسمان من ناحية البحر، وتنزل بضائعها في ناقلات صغيرة تسحب الى ميناء الشويخ، وهناك تنزلها الرافعات.
على رصيف التفريغ هذا، عملت لمدة تقارب الشهرين، ثم نقلوني للعمل في محطة تجميع البنزين في الشويخ. هناك حيث تجيء دائما الباخرة «تسيلا» قادمة من عبادان الى الكويت محملة بالبنزين، فنستقبلها وهي تفرغه في الخزانات، ومن ثم تنقله الشاحنات المخصصة لنقل البترول الى الأحمدي أيضاً.
ويبدأ عملي، وعمل زملاء معي من بينهم علي المتروك، بعد أن تصل الباخرة الى الميناء وتقوم بتفريغ شحنتها في الخزانات، فنعتلي الخزانات ليلا ونقوم بقياس العداد والهواء البارد يهب علينا. أما رائحة البنزين والهواء المتصاعد من قلب الخزانات حين نفتح أغطيتها فكان يورثنا الدوار. ولا نستطيع شيئا بالطبع، هذا هو عملنا. كنا نسعى وراء لقمة العيش.

الراتب الشهري
كان راتبي في البداية ككاتب يسجل بيانات البضائع 157 روبية ونصف الروبية، والأهم هو نصف الروبية هذا. كم كانت عزيزة هذه الروبيات بعد شهر من الوقوف يومياً على رصيف الميناء والتحديق بعلامات البضائع وعدها، والحرص على أن يكون التسجيل دقيقاً والعدد صحيحاً.
بالنسبة لي كان الراتـب جيداً، وكذلك رواتب وأوضاع العاملين في الشركة، وقد توزعوا على وظائف مختلفة بين حرفيين وموظفين منهم الصغير ومنهم الكبير. وعمل معنا أولاد عائلات غنية.
والحقيقة أن أعداداً لا بأس بها من أهل الكويت عملوا في الشركة في هجرة شبه جماعية من أعمالهم التقليدية نحو حياة أكثر حداثة حملت وعوداً بالتغيير في أكثر من جانب من جوانب الحياة، فكان منهم العمال والنواخذة. وأذكر من هؤلاء عبدالرحمن العتيقي، وكان مسؤولا عن تعيين الموظفين، وسعود الفوزان وبدر السالم.

مَنْ استفاد؟
والحقيقة أن شركة النفط أخذت كل أهل البحر تقريباً خلال السنوات 1948 و1949، أعني الذين كانت مهنتهم الغوص والسفر، واعطوهم أعمالا في البواخر، فمن لم يكن نوخذة اشتغل عاملا، ولهذا كانت غالبية اليد العاملة من الكويتيين.
ولكن لابد من القول انهم لم ينصفوا اليد العاملة الكويتيـة آنذاك، فكانت الرواتب متدنية. ولم يستفد من العمل في شركة النفط استفادة ملحوظة سوى أفراد معينين، أناس لهم أسلوب خاص حصلوا على مراكز واستفادوا مالياً، أما بقية العاملين فلم يكن من نصيبهم سوى رواتبهم.
ومع ذلك كانت الوعود مثمرة في بعض النواحي، فبدأ نوع من الرخاء يتسرب الى الحياة في الكويت شيئاً فشيئاً بعد سنوات التقشف والحرمان التي فرضتها ظروف الحرب، وفرضها انتهاء زمن الغوص على اللؤلؤ الذي كسرته مزارع اللؤلؤ اليابانية، وتضاؤل فرص تشغيل سفن التجارة البحرية.
بـدأ الأكل يتحسن مـع توافـد المـواد الغـذائية وتنفرج الأسارير في ضوء الدخل المضمون على قلته في يد البعض. وتحسنت أيضاً لغتي الانجليزية خلال عملي مع تزايد حضور المتحدثين بهذه اللغة.

بيوت الأحمدي
والظاهرة الأكثر لفتاً للنظر كان حضور الانكليز المتزايد مع توسع أعمال الشركة، لكنهم لم يختلطوا بالجو الاجتماعي الكويتي بعامة، وصنعوا لهم جوا خاصا تجمعوا تحت مظلته في الأحمدي، فكان لهم نادي حبارى الخاص بهم، ولهم بيوتهم الشبيهة ببيوت المنتجعات الريفية ذات الطابق الأرضي الواحد بحدائقها الأمامية الصغيرة، ولهم ملاعبهم الخضراء التي مارسوا فيها هواياتهم المفضلة، الغولف والسباق والاسترخاء في الأماكن الخلوية.
ومع ذلك حملت طبيعة الحياة التي بدأت تمثل أمام أعيننا مع حركة تصدير البترول وهجرتنا إلى الأعمال الجديدة منافذ ومداخل لنا إلى العالم المعاصر.
قبـل ذلك كان العـالم يصلنا عبر راديـو أو حكايات بحـارة ونواخـذة وتجار، وتـدور أخباره بيننا كما تدور الاشاعات، أمـا الآن فها هو يقترب منـا ويأتي إلينا بناقلاته وأشخاصه وصـوره الحيـة.

حياة تتغير
بدأت الحياة تتغير، بدأت تظهر سيارات في الشوارع، وتظهر شركات مقاولات تعمل مع شركة النفط، وتستخدم عمالا كويتيين وغير كويتيين، وحظي أصحاب هذه الشركات بأوضاع مالية جيدة. ولكن عادة السير على الأقدام لم تغادرنا في بعض الأحيان، وحتى بعد أن غادرتنا ظلت أحداثها الطريفة تعود إلى الذاكرة.
كان عملنا في محطة البنزين في الشويخ مناوبة، فيبدأ دوامك مثلا في الواحدة ظهراً وحتى الحاديـة عشر ليلا. وكثيراً ما كنا نعـود إلى الكويت سيراً عـلى أقدامنا، فنجد كل البوابـات مغلقة. كانت هـذه البوابات نوافـذ السور الكبير المحيط بالكويـت، والذي ظل قائماً منـذ بنائه في عام 1920 حتى عام 1957، فالكويت حالها حال المدن القديمـة تغلق أبوابها مساء لتحمي أهلها وتصونهم.
هـذه البوابـات هي البريعصي والشامية والجهراء والمقصب وبنيـد القار وشرق. والساعـة الحادية عشر هي موعد الإغلاق، وتكون سيارات الشركة قد أنهت أعمالها ودخلت من بوابة الجهراء قبل هذا الموعد، ويندر أن يستجيب الحارس لنداء المشاة المتأخرين من أمثالنا فيفتح البوابة.
ويزيد الأمر سوء أن عشيشا، أي أكواخاً سكنية بدائية، كانت تنتشر في منطقة المحطة، ويقيم بدو مع كلابهم، مما كان يحول رحلة العودة إلى نزهة محفوفة بالخطر، وكم من مرة فوجئنا بالكلاب تركض وراءنا وأمامنا البوابات مغلقة!

عبر المسلخ إلى البيت
في هذه الأوقات العصيبة كنت وزميلي المرحوم إبراهيم المضف نقدم رجلا ونؤخر أخرى، فأقول له أن يتقدمني، وإذا لم يحدث شيء مفاجئ، كنت أتقدم. وحين يعيرنا حارس البوابة أذنا صماء، نضطر إلى الهرولة إلى المقصب أي المسلخ على شاطئ البحر، ونهبط ونخوض والماء يغطي نصف الجسم، ثم نعتلي صخور الشاطئ متسللين. لولا هذه الطريقة ما كنا نستطيع الوصول الى بيوتنا.

ما بعد النفط
من الواضح أن طبيعة الحياة، الحياة التي بدأنا نطلق عليها تسمية مابعد النفط، تختلف عما قبلها. ليس لأن التغير بدأ يلم بالموجودات من حولنا فقط، بل لأن هذه التغيرات بدأت تلم بنفوسنا أيضا وان بدت طفيفة في البداية. كل مايتغير حولك يؤثر فيك والعكس صحيح. أنت جزء من كلّ حتى، وان كنت لاتعي هذا، والكل أوسع من فريج الصغر وبساتين الجهراء وهذه المسافة بين محطة البنزين في الشويخ وبوابة الجهراء، انه يمتد الى عوالم تظل دائما وراء الأفق حتى وان اقترب بعضها وتكشف.
كل ما يتغير من حولك هو نافذة ومدخل الى عالم آخر. صحيح ان البحـر واسع بما يكفي لتخيل شواطيء ومدن صاخبة وأجناس بشرية مختلفة، وصحيح ان الطرق البرية تأكيد لوجود بساتين ومدن أخرى، الا أنك ان لم تخط خطواتك الأولى، سـواء على الطرق البحرية أو البرية، ستظل حبيس تخيلاتك، أو ما يصوره الوهم لك. وستظل حبيس ماضيك تقيس المسافات بمسطرتـه، وتتعرف على الجديد من نوافذه. ولم أكن من هذا الصنف. كنت تواقـا للتجربة والمعرفـة والعلم بما لم أعـلم.

اول سفر
وهكذا ما أن سنحت لي أول فرصة في عام 1951 للسفر في عطلة الأعياد حتى انطلقت في أول رحلة لي خارج الكويت، الرحيل الى البصرة، بصرة النخيل والأشجار والشوارع التي لم نألف مثيلا لها في الكويت. بصرة المياه والأنهار والخضرة، وكلها مما يمتلك جمالا كان آنذاك تجربة جديدة، أو مشهدا أود أن أقرأ كل حرف فيه.
كان عـدد من تجار الكويـت يقيم في البصرة اثناء الحـرب العالميـة الثانيـة، فهي مركز تجـاري، والكويت مركز لصناعة السفن الشراعيـة، وللتجار هناك بساتين نخيل كثيرة تنتج التمور، وتصدر هـذه التمور الى الهند بوساطة السفن الكويتية. من هؤلاء التجار المقيمين، في البصرة عبدالله الصقر وجاسم الصقر لرعاية مصالحهم وأملاكهم ومحمد الغانم وآخرون، ولديهم مكاتب، وقد شكلوا طبقة لم نختلط بها وان كنا نراهـا من بعيـد وهي مشغولة بشؤونهـا ومسؤولياتهـا.
بالاضافة الى هذا كانت للكويتيين بالبصرة علاقات وثيقة عبر الارتباطات العائلية، مثلما كانت لهم علاقات وثيقة بأهالي الزبير على مبعدة 20 كيلو مترا جنوب البصرة. ومع ندرة وجود عائلات كويتية في الزبير الا أن علاقات المصاهرة مع سكان هذه البلدة الذين ترجع أصولهم الى نجد كانت متواصلة.

طريق السكة
طريقنا إلى البصرة كان يسمى طريق السكة، وفي كل عام بعد موسم الأمطار ومجيء الربيع، يذهب إليه مشرفون مع عمال لإصلاحه، وكان جدي عثمان الموسى أحد هؤلاء المشرفين، وكذلك بوعبدالرزاق العبدالجليل.
على هذا الطريق انطلقت إلى البصرة بالسيارة مع أصدقائي، ومنهم محمد البدر بن حمد الناصر البدر، فنزلنا معا فندق سميراميس. كان الطعام شهيا ومنوعاً، وقدموا لنا في مطعم العصري التشريب كإفطار، والقوزي مع التمن على الغداء، وكل هذه مأكولات نفيسة. وهناك عرفنا الساندويشات التي كانوا يسمونها «لفة».
في نظرنا كانت البصرة جميلة جداً، وبخاصة ذلك الجزء الشمالي منها على ضفاف شط العرب المسمى العشار، والذي يعد مركزها التجاري بشارعه الطويل الممتد بضعة كيلومترات على طول الشط. في ذلك الزمن ازدهرت هذه المنطقة بالأشجار والشوارع والحركة التجارية والمكتبات وصالات السينما والمقاهي، وهو ما لم يكن متوافرا في الكويت. وأذكر أن سينما الوطني هناك كانت تعرض آنذاك فيلم عنترة وعبلة، وكان مبنى الفندق الذي نزلناه ممتازاً، وفي غرفه مرش استحمام صادفناه لأول مرة. أما طريقة تكييف الهواء فكانت مما نصادفه لأول مرة أيضا. تغطى النوافذ من الخارج بإطار شبكي مصنوع من جريد النخيل محشو بنبات شوكي أظنه العرفج، ويصب عليه الماء بين فترة وأخرى، فيتخلله هواء الصيف الساخن وينساب إلى الغرف باردا ورطباً.
في عام 1952 عدت إلى البصرة ثانية، ولكن مع فريق كرة السلة في النادي الأهلي، وهو نواة نادي الكويت الحالي، وقد تأسس في أوائل الخمسينات ليكون أول ناد رياضي كويتي قام لمنافسة الفرق الأجنبية. من أعضاء الفريق كان معي فهد الساير وعبدالمحسن الفرحان وخالد الحمد وخضير مشعان وفهد الصرعاوي وعبدالله مقهوي. ودخل فريقنا بلاعبيه هؤلاء مباراة ضد نادي الميناء البصراوي لكننا خسرناها.

الرحلة الثالثة
رحلتي الأولى خارج عالمي بدأت بمشهد فندق سميراميس وغرفه ومرشاته وتشريب المطعم العصري، وانتهت الثانية بخسارة مباراة، إلا أن رحلتي الثالثة بدأت بمصادفات مختلفة واتصلت بمدى أبعد مما ذهبت إليه في البداية.
كانت الرحلة هذه المرة إلى العاصمة بغداد، وفي عطلة الأعياد أيضاً، ومعي ابن عمي عبدالله ومحمد نصف السليمان النصف وداود العتيقي. كانت وسيلتنا قطارا يبدأ رحلته من محطة المعقل شمالي البصرة مساء، ويجر وراءه طيلة الليل عددا من القاطرات بمقاعدها الخشبية العارية، ببطء حينا وبتسارع في أحيان أخرى. وفي القطار حشد من الناس الريفيين على الأغلب الذاهبين إلى قراهم المتناثرة على امتـداد الطريق، فما ان يتوقف في محطـة حتـى يهبط أناس ويصعـد إليه أناس آخرون، ويهرع الباعة إلى نوافـذ القاطـرات ليعرضوا بضاعتهم عـلى المسافرين، الخبز واللبن والقيمـر.

العجيري والروزنامة
في هذا القطار التقينا مصادفة بصالح العجيري، وكان ذاهباً لطباعة روزنامته في بغداد حيث لم نكن عرفنا المطابع بعد، فاستفدنا من خبرته بهذا الطريق الذي يبدو أنه كان يتردد عليه كثيراً، وبخاصة من خبرته بأنواع الأطعمة التي يعرضها الباعة. حين وصلنا السماوة مع تباشير الصباح الأولى ألقى إلينا بنصيحته الأولى: «عليكم بالقيمر»! أي بالقشدة الشهيرة التي ينتجها الريفيون هناك من حليب الجواميس والأبقار. وبالفعل كانت نصيحته في محلها، فالقيمر مع الخبز الساخن فطور فاخر لا ينسى طعمه. وكانت النصيحة الثانية الذهاب إلى فندق تروكاديرو، والنوم على سطحه طلباً للبرودة والهواء الطلق! وظل العجيري دليلنا في شوارع وأماكن بغداد التي يعرفها، بينما كنا نهبط عليها لأول مرة.

مع زهور حسين
في أول ليلة لنا ذهبنا، وبناء على نصيحته أيضاً، إلى ملهى صيفي لرؤية مطربة مشهورة اسمها زهور حسين. واتخذنا مجلسنا في المقاعد العليا المشرفة على قاعة الملهى المكتظة برواد من مختلف المشارب والأزياء، ريفيون تميزهم الكوفية والعقال الضخم والشوارب الكثة، وسكان مدن من الموظفين والطلبة يرتدون الملابس الغربية، البنطلون والقميص، وعمال من المناطق الشعبية مفتولو العضلات تميل على رؤوسهم الفيصلية. كل هؤلاء كانوا يجلسون فرادى أو جماعات حول طاولات تتوسطها زجاجات العرق العراقي الشهير باسم أبو كلبشة وأمامهم المسرح الذي سيشهد ظهور المطربة.

هرج ومرج
كان الجو هادئا في البداية، ولكن مع مضي الوقت بدأ السكر يظهر على وجوه وتصرفات الشاربين، وما ان ظهرت زهور حسين وبدأت بالغناء حتى وقف عدد من لابسي العقال الضخم وقد استخفه الطرب، وبدأ كل يرمي عقاله على المسرح تحت قدمي المطربة وهم يترنحون، تعبيرا عن إعجابهم. بعد نصف ساعة بدأت معركة وسط هذا الحشد وتطايرت الزجاجات والشتائم والصرخات. وساد هرج ومرج لم نستطع معه الخروج وقد فوجئنا بانقلاب الموقف.
ولكن من حسن حظنا أن بجوار مجلسنا راقب المشهد معنا شاب وسيم يتمتع بحراسة ثلاثة مسلحين، فلاحظ ارتباكنا، ومن ملامحنا ولباسنا أدرك أننا لسنا من العراق، فقال لنا تعـالوا اخرجوا بصحبتنا. وسألنا عن هـذا الشـاب فقيل لنا انه أحد أبناء شمر. وعرض علينا مع مرافقيـه أن يصطحبنا إلى فندقنـا، إلا أننا لم نقبل، واتخـذنا طريقنا بسيارة أجرة. كانت هذه هي المرة الأولى والأخـيرة التي نغشى فيها أماكن مثل هـذه يختلط فيها الغناء الجميل بالشراب ومشاجرات السكارى.

.. في بيروت
في العام نفسه كانت رحلتي الرابعة الى العالم الخارجي، الى بيروت هذه المرة عبر دمشق، هناك ذهبت الى الجبل مباشرة، وفي فندق عبدالله مجاعص في بحمدون أقمنا لمدة ثماني ليال مع فطور وغداء وعشاء، وتحتنا مباشرة على منحدر ملهى طانيوس.
التقيت هناك بصديقي عبدالعزيز العتيبي الدائم التردد على بيروت بسبب حالة والده الصحية. وأصبح العتيبي دليلنا أيضا الى ساحات بيروت، الى ساحة البرج وساحة رياض الصلح، والشوارع الجانبية ومقاهيها، وشارع البحر والصخرة العالية الراسخة وسط الماء بتجويفها العجيب الذي جعلها أشبه بساقي عملاق بدين ضاع نصفه الأعلى وغاصت ساقاه حتى الركبتين في الماء. تلك هي صخرة الروشة كما تسمى، أو صخرة المنتحرين المفضلة للرحيل الى العالم الآخر، كما أصبحت في المشهور من القول.
كان الوقت صيفاً، ومع ذلك فالجو في الجبل كان يشيع البرودة المنعشة، وينتشر الضباب مساء فيغلف المنحدرات ويرف حولك وتحتك كأنه خيوط دخان تتموج في الرياح الخفيفة.
كل هذا كان أمراً باعثاً على الارتياح، سواء كانت الرحلة الى البصرة أو بغداد أو بيروت، وبخاصة حين لا تكون وحدك. فلكل مكان طابعه الخاص، لكنني كثيراً ما شعرت بالغربة حين يتصادف أن أسافر وحدي وأواجه الوجوه والأماكن كمن يصادف كتاباً يقرأه من دون مرشد أو دليل.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 22-09-2011, 10:58 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرةبين الأسرّة البيضاء (4)
في هذا الجو الخمسيني تفتحت طرقٌ على الصعيد العام والخاص، أي على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد الأفراد، في كويت جديدة بدأت تلوح آفاقها، كما قلت، مع بدايـة تصدير النفط، أضف إلى ذلك ما بـدأ يحـدث على الصعيد العربي حـولنا فيلقي بظلاله، إن خيراً أو شراً، على امتداد الخريطة العربية. وبدا أن منطقتنا، وبلدنا معها، ترحل إلى عصـر آخر، ونجد كأفـراد وجماعات أن علينا أن نتحرك أيضاً ونغادر نوافذنا وأبوابنا التقليدية إلى ساحات جديدة.

قبل الدستور
في 29 يناير 1950 توفي الشيخ أحمد الجابر، وكان ابن عمه الشيخ عبدالله السالم في الهند، فتولى إدارة شؤون البلاد الشيخ عبدالله المبارك الصباح حتى عودته من الهند.
آنذاك لم تكن توجد قواعد محددة لاختيار الحاكم، ولا وجود لدستور يمكن الرجوع إليه. فكان الاختيار يتم بناء على توافق آراء أفراد الأسرة الحاكمة. الشيخ عبدالله السالم كان الأكبر سنا وقد تجاوز الخمسين عاماً فحاز على موافقة أفراد الأسرة. وحين وصله خبر اختياره جاء بالباخرة إلى الكويت. وفي يوم التنصيب حدث ما يمكن أن يعتبر أول مبادرة على الروح الجديدة في كويت الخمسينات.

كويت جديدة
كان من المتبع أن يحضر يوم التنصيب المعتمد البريطاني في الخليج ومقره في مدينة بوشهر، فرتب الشيخ عبدالله السالم على ما أذكر أمراً جيداً في اعتقادي، وقد أكون مخطئاً، وهو أن يتأخر متعمداً عن الوصول إلى قصر نايف، حيث مكان الاحتفال، حتى لايصل إلى مكان الاحتفال قبل وصول المعتمد البريطاني فيبدو وكأنه هو من يستقبله. وهكذا أجبر المعتمد البريطاني على أن يكون هو من يستقبله وليس العكس. قد يكون هذا الأمر مقصوداً أو غير مقصود، إلا أنه كان مبادرة لطيفة دلت على احترام وتقدير للنفس وللكويت.
وكانت هذه المبـادرة فاتحة التغيير في عهد عبدالله السالم الذي شمل أحوالا متعددة. فمثلا كان يرفـع على سيارات أسرة الصباح، وهي بـلا أرقام، علم أحمر عليـه كلمة الكويت لتمييزها. هـذه السيارات المتميـزة كانـت تعيق المرور في غالب الأحيان، فاتخـذ الشـيخ عبدالله السالم أول خطوة بأن جعل لسيارات الشيوخ أرقاماً شأنها في ذلك شأن بقية سيارات خلق الله ومن دون أعلام.

قوانين وتنظيم
وجاءت الخطوة الثانية؛ وضع القوانين وحاول تنظيم الحياة في الكويت ونقلها من عهد القبيلة الى عهد المدنية الحديثة، وأصدر مجلة اسمها «الكويت» لنشر القرارات والاعلانات الرسمية، وهي المجلة التي أصبح اسمها «الكويت اليوم»، وبذلك وضع حداً لعهد متشدد بلا قوانين، كان فيه الشخص العابث أو الخارج على المألوف يتعرض للضرب من دون محاكمة، وكان فيه عبدالله المبارك أشبه ما يكون بوزير داخلية مسؤول يساعده عبد الله الأحمد الأبن الأكبر للشيخ أحمد الجابر، رئيسا لدائرة الأمن العام، الشهير بقسوته وصرامته في تطبيق القوانين الشرعية الاسلامية، وباستقامته وتدينه أيضاً، فكان العمل له والسمعة لعبد الله المبارك.

.. في الصحة
وفي هذا الجو جاء قراري الانتقال من شـركة النفط الى الوظيفـة الحكـوميـة في عام 1950.
تقدمت بعدة طلبات، الى المحاكم حيث كانوا بحاجة الى كتاب محاضر، والى دائرة المعارف التي توسعت وصارت تفتح فرصا لتوظيف كتاب المحاضر أيضاً. ولكنني وجدت طريقي الى دائرة الصحة بفضل مساعدة اثنين طلبا مني الانتقال الى هذه الدائرة، هما صالح شهاب والشيخ عبد الله النوري.
هذه الدائرة نشأت في عام 1936، وتولى رئاستها منذ تأسيسها وحتى استقلال الكويت في عام 1962 كل من الشيخ عبد الله السالم الصباح (1936-1952) فالشيخ فهد السالم الصباح (1952-1959) وأخيراً الشيخ صباح السالم الصباح (1959-1961). وكان مقرها في مبنى مجلس التخطيط الحالي ومقر المستودعات الطبية أيضاً.
وكان مجلس ادارة الدائرة آنذاك يتكون من مـدير الصحة نصـف يوسف النصف وعبدالحميد الصانع ومحمد عبد الرحمن البحر وعبد العزيز عبد الله الحميضي وأحمـد عبدالله الفهد. ويشغل وظيفة المحاسب عبد المحسن الزبن، يساعده يوسف العبد الرزاق، أما أمين الصندوق فكان جاسم ابراهيم المضف.

المقابلة
وبـالفعـل استدعاني المـديـر لاجراء مقابلة معي، وأحالني بعـد اللقـاء الى سكرتيره محمد الزعتـري ليمتحن لغتي الانكليزية، فأعطاني كتاباً من 500 صفحة تقريباً لأقرأه، فقلت له، لو كنت أعرف ثلاث صفحات من هذا الكتاب لمـا تقدمت للعمل هنا، وقلـت انني مازلت أواصـل الدراسة.
بالطبع لم أنجح في الامتحان المطلوب، فرفع تقريرا عني يقول إنني لست بالمستوى المطلوب لهذه الوظيفة. فأحالوني الى المستودعات الطبية المسؤول عنها الملا يوسف الحجي ومساعده ابراهيم جاسم المضف لأعمل بوظيفة مساعد مختص باستيراد الأدوية للدائرة.
بعد فترة قصيرة تقارب الشهر، طلب مني الملا الحجي الاتصال بالدكتور اوننغ، التابع للمعتمد البريطاني، وهو دكتور يتميز بهدوء الطبع والتواضع وكان مسؤولا عن المحجر الصحي. فذهبت اليه بعد اتصال مسبق في مسكنه القائم بالقرب من دائرة الصحة مقابل بيت صباح الناصر. كان معه خلال اللقاء شخص غير مؤهل اسمه السيد ميرزا يبلغ من العمر 68 عاماً. ناولني الدكتور اوننغ كتابا باللغة الانكليزية ليمتحنني، قائلا:

«اقـرأ» في يوم واحد
قرأت قراءة جيدة، الا أنني كنت مضطرباً أخشى أن يطلب مني ترجمة ما قرأت، مع علمي أنه لا يفقه من العربية شيئاً. ولكن يبدو أنه أعجب بقراءتي ظنا منه أنني فهمت ما قرأت، واقترح أن يقوم السيد ميرزا بتدريبي على التطعيم، فوافقت. وقام هذا بتدريبي لمدة يوم واحد، وفي اليوم الثاني صرت أتقن التطعيم. عندئذ طلب مني أن أستلم مركز المحجر الصحي في المطار القديم في ضاحية عبد الله السالم. كان المركز عبارة عن خيام مؤقتة أقيمت في انتظار الانتهاء من بناء مبنى جديد للمركز. وهناك تلخص عملي في التأكد من وجود شهادات تطعيم لدى المسافرين، وتطعيم من لم تتوفر معه شهادة.

المستشفى الاميري
قضيت في هذه الوظيفة مايقارب العام براتب مقداره 250 روبية، جيئة وذهابا بين بيتي والمركز، اما سيراً على الأقدام أو بوساطة دراجة أو بسيارة الاسعاف أحيانا اذا مرت بي مصادفة، قبل أن يطلب مني الانتقال الى المستشفى الأميري. وجاء هذا الطلب لأحل محل سعدون صالح المطوع المسؤول عن مخازن المواد الغذائية بعد أن نوى ترك عمله.
كانت الحكومة هي التي توفر الأدوية وتصرف للمستشفى الحكومي الوحيد آنذاك الواقع شرق الكويت مقابل ساحل البحر، والذي افتتح في أكتوبر 1949 تحت رعاية الشيخ أحمد الجابر الصباح، وكان يتكون من دور واحد يحتوي على 45 سريراً، وفيه غرفة عمليات ومختبر وصيدلية، ويعمل فيه 13 طبيبا وطبيبة تساعدهما ممرضتان.

.. والمستوصف «السوري»
قبل هذا كـان لدينا مستشفى الارسالية الأميركية منذ ما قبل الحـرب العالمية الأولى، وهـو مـن أدخل الطب الحديـث عندنا والطب الوقائي عبر حملات التطعيم. أما بالنسبة للمستوصفات، فلم يكن لدينا منها شيء باستثناء مستوصف حكومي متواضع يعالج الحالات العادية ولايجـري عمليات، كان الناس يطلقون عليه تسمية المستوصف السوري نسبـة الى الدكتـور يحيى الحديدي الذي قـدم اليه من سوريا في عام 1940، والدكتور صلاح الدين أبو الدهب الذي جاء بعده.
منذ انشاء المستشفى الأميري تولى ادارتـه نصف يوسف النصـف، وكـان لا يـزال هو المـدير حين وصلت في عـام 1952 أميناً للمستودعات الغذائية براتب 250 روبية أضعها بين يدي والدي، ففي تلك الأيام لم تكن لـدي التزامات من أي نوع. وبدأت هنا أستشعر لأول مرة ربما طبيعـة الحيـاة بين الأسرّة البيضاء، طبيعة النفوس البشريـة بما تحمله من تفان وإخلاص أحياناً، ومـا تحمله من طموحات شخصية وصغائر على حساب هذا العمل الإنسـاني في أحيان أخـرى.
قبل مجيئي، كانوا استقدموا طبيباً انكليزياً يدعى إريك بيري، رئيسا للأطباء منذ إنشاء المستشفى، بالإضافة إلى أطباء عرب، مثل نايف حسن من لبنان وسامي بشارة وعادل نسيبة وأحمد سلامة. وعرف المستشفى مع بداية عملي فيه أول طبيب كويتي مؤهل في الكويت ومنطقة الخليج بعامة، تخرج وبدأ بممارسة عمله، هو د. أحمد الخطيب.

خلافات
لا أعـرف ماذا كانت عليـه الأوضاع قبل وصولي، إلا أنني بـدأت ألمس حدوث مشكلات على أكثر من صعيد، بين الأطباء أنفسهم وبينهم وبـين رئيسهم بيري، وبين أعضاء مجلس الإدارة ورئيس دائرة الصحـة الشيخ فهـد السالم الصباح الـذي تسلم رئاستها في هـذا العـام وعقد أول اجتماع له مع أعضاء مجلس الإدارة، وفي الاجتماع الثاني حدثت الخلافات. لم يكن رئيس الدائرة كما بـدا ينوي الإبقاء على هذا المجلس ولا على مديره، فاستقال أعضاء المجلس والمدير نصف يوسف النصف.

.. واستقالة
ومن مكاني ذاك في المستودعات الغذائية عرفت أن الاستقالات كان سببها اختلاف وجهات النظر اختلافا جوهريا، فالشيخ فهد السالم الصباح يريد تنفيذ آرائه وأفكاره وفرضها بلا نقاش، بينما اعتاد أعضاء المجلس، وبخاصة مع تراكم تجارب مشاركة الكويتيين في اتخاذ القرارات في الشأن العام منذ العشرينات مرورا بالثلاثينات ووصولا إلى الخمسينات، عدم الموافقة على التفرد، والأخذ بمبدأ النقاش وممارسة الحقوق الديموقراطية والإطلاع على الأمور ظواهرها وبواطنها. وكان هذا جزءا من اتجاه عام بدأ يتخذ طريقه إلى حياة الكويتيين، واصبح الوقوف بوجهه نوعا من التعويق واحتجاز فاعليات التطور.
بعد أن استقال النصف، عينوا مكانه عبد الحميد الصانع بطلب من الشيخ فهد السالم، وكان الصانع على علاقة جيدة بالنصف، وكلاهما خطوطه مفتوحة مع الشيخ عبد الله السالم الذي شملهما بعطفه وثقته. ولم يلبث الصانع أن اصطدم بالشيخ فهد وترك دائرة الصحة، فقام بتعيين مدير جديد هو علي الداوود الحمود الذي ظل في هذا المنصب من عام 1952 إلى عام 1959. وصار الحمود، الذي يتمتع بمعرفة مسبقة وعلاقات من جهة العائلة بالشيخ فهد، هو المسؤول، واحتاجوا إلى مساعد مدير، فجاؤا بعبد المحسن المخيزيم، والد من يتولى الآن بيت التمويل الحالي، ولم يكن هناك انسجام بين الداوود والمخيزيم.

{موضة} الحذاء
أهم العاملين في المستشفى الأميري آنذاك في عامي 1951 و1952:
د. بيري رئيس الأطباء، الحاكم الفعلي للمستشفى، ومرسخ نظام الإدارة الإنكليزي ببيروقراطيتـه وروتينـه القاتل، واستطاع هـذا الطبيب، نظراً للجهـل بالإدارة آنذاك، مد نفوذه الى دائرة الصحة بعامة.
د. جون والتر نائب رئيس الأطباء، الاخصائي بالأمراض الباطنية من الدرجة الأولى، والحاد الطباع والسريع الانفعال، وأيضاً الميال الى الغطرسـة والبعد عن التواضع.
كلا هذين الطبيبين كان ذا عقلية استعمارية مستمدة من رواسب استعمار بريطانيا للهند، جمعت بين الخشونة والعنجهية. والغريب أنهما كانا يضربان الأطباء بل وحتى المرضى أحيانا. وقد رأيت د. بيري يضرب طبيبا هندياً متخصصا بطب العيون هو د. مستري من جوا (المستعمرة البرتغالية في الهند قبل تحريرها) بالحذاء.
كان هناك أيضاً مساعد لرئيس الأطباء هو د. جون فوبس اختصاصي التخدير الجاد في عمله رغم أنه لم يكن حاصلا على شهادة الزمالة في التخدير، ود. ماكريدي، ود. آلبن اخصائي العيون، والطبيبة كلارك المسؤولة عن قسم الولادة، ورئيسة الممرضات ملوي التي كنا نلقبها بلقب أم أحمـد، وتحل محلها أحياناً خلال غيابها زوجـة د. بيري. وتسلم قسم الأسنـان د. كاي. وتسلمت الآنسة سميث قسم التصوير بالأشعة. وهكذا تشكلت مجموعة انكليزية.
يضاف الى هؤلاء أطباء وعاملون عرب من جنسيات مختلفة، مثل د. نايف حسن مسؤول قسم الأطفال، ود. أحمد سلامة مسؤول قسم الأمراض الصدرية، ود. يوسف عيتاني. والمشرف على الصيدلية الصيدلي المؤهل يوسف أبو ضبة، والمشرف على المختبر هوفاكونيان. أما أمين المستشفى فكان كاظم قسطنطين يساعده محمد سليمان النصف، ويشرف على سجلات المرضى علي عبدالله الزيد.
وعمل طبيبان عموميان في المستوصف هما، د. سامي بشارة ود. عادل نسيبة.
في هاتين السنتين تكونت شركات المقاولات الأجنبية الخمس التي بنت مستشفى العظام الحالي المسمى في حينها ملحق المستشفى الأميري، واتجهت النية الى أن يكون خاصا بالانكليز فقط، الا أن هذه النية لم تتحقق. كان لدى شركة نفط الكويت مستشفى في المقوع، يستقبل المرضى الأوروبيين حسب اتفاق بين د. بيري وادارته، على أن يحول المرضى الآسيويون والأفارقة الى المستشفيات الحكومية!
في هـذه الفترة شهدت أهم مـا مر علي خلال عملي آنذاك حين أرسلت شركة نفط الكويت الينا شاحنة محملة بالمواد الغذائية المعلبة، وبعد البحث تبين أن الشركة أرسلتها أولا الى الشيخ عبدالله السالم، فقال: «لاأريدها.. ارسلوها الى المستشفى الأميري لنعـرف هـل هـي صالحة أم لا».
كان د. بيري رئيس الأطباء يقـوم أسبوعيا كل يـوم ثلاثاء بالتفتيش عـلى المستشفى، بما في ذلك المطبخ والمخازن، فسأل عن المعلبات، وأصدر تعليمات بأن لايستخدم أي شيء منها بعد أن تبين أن هذه البضاعة تالفة كلها الى درجة أن العلب كانت منفوخة.
وظلت هـذه الأغذيـة التالفـة التي تخص شركـة النفط عندنا في المخـازن طيلة مـا يقارب أربع سنوات، حتـى عام 1954، ثم تم رميها والتخلص منها، وانتهت القصة.
في هذه الفترة أيضـا استقدموا محاسبا فلسطينيا مـع عبـد المحسن الزبن اسمـه عبد الله السعدي بوساطة الشيخ فهد السالم، وكان الشاعر الفلسطيني كمال ناصر يعمل سكرتيرا خاصا لديـه في عام 1953، قبل أن يترك ويذهب الى ممارسة نشاطه السياسي في لبنان حيث قتل بعد سنوات اثـنـاء عملية عسكرية اسرائيلية استهدفت معـه أيضا كمال عـدوان ومحمد يوسف النجار.

الطب الوقائي
وسارت الأمور على هذا المنوال؛ لأشخاص معينين مكانة متميزة في المستشفى، مثل د. نايف حسن الذي لم يكن يرد له طلب بناء على تعليمات منذ أيام ادارة نصف يوسف النصف، وكذلك د. أحمد سلامة المسؤول عن علاج مرضى السل في الجناح الرابع في المستشفى الأميري، وهو من فتح مستشفى الأمراض الصدرية مع مساعد له لبناني اسمه كرنيك أغوصيبيان. أما د. بيري، فلم يكن يحظى باستلطاف الشيخ فهد، فاتخذ قرارا في عام 1955 باستقدام طبيب صحة عامة من مصر اسمه سعيد عبده صاحب زاوية في الصحافة المصرية عنوانها «خدعوك فقالوا..»، وكلفه بانشاء قسم الطب الوقائي ورعاية الأمومة والطفولة. وبدأ بالفعل تأسيس الطب الوقائي، مع أنه كان لدينا طبيب طب وقائي من لبنان اسمه زاهي حداد، ومعه شخص آخر مختص بالأمراض الجلدية، ولدينا عوني نمر وعادل نسيبة.

.. والاسنان
بدأ د. سعيد عبده بالتوسع، ولم يكن يأتي بطبيب أو طبيبـة الا من مصر، مما أثار حفيظـة واستياء د. بيري الذي أحنقه أن يؤخـذ منه الطب الوقائي، وحدثت احتكاكات بين الطبيبين، المصري والانكليزي. وازداد ابتعاد الشيخ فهد السالم عن د. بيري حين استقـدم من العراق صديقـه د. يوسـف ميرزا، وأوصى بمنحـه كل الصلاحيات، وجعله يحل محل د. كاي المختص بالأسنان. وهكذا تشكلت ثلاث قوى، واشتد التنافس بـين د. بيري ود. سعيد حين بدأ هـذا الأخيـر يتوسـع ويقيم مستوصفات لتنظيم الأسـرة والـولادة، واستقدم قابلات من مصر يذهـبن الى البيوت.
ومن خلال وظيفتي في المستشفى الأميري، وفي مستشفى العظام (الملحق) الذي تم تعييني أمينا عاما له أيضا في عام 1953 بعد افتتاحه مباشرة، شعرت بما كان يدور من تنافس واحتكاكات متزايدة. ومن منطلق عاطفي أو قومي كنت الى جانب د. سعيد عبده رغم اختلافي معه في الأسلوب. كانت مشاعري معه، فذهبت اليه والتقيت به، وقلت له:
«هناك تنظيم ضدك وضد نشاطاتك في الطب الوقائي، وأود أن تأخذ حذرك»
فضحك ضحكة قوية وقال:
«أتريد أن تعلّمني كيف أتصرف مع هذه المجموعة، واصغر أبنائي أكبر منك؟!»
وهنا اعتذرت وخرجت.
لم تنجح محاولتي، واستمر د. عبده على نهجـه واصطفافه الى جانب الأطباء المصريين، فيما احتفظ د. بيري بميوله وتعاطفه مـع الأطباء الأجانب والفلسطينيين خشية أن يتأثر الشارع العام بالمد الثوري والـقـومي الذي كانت تطلقـه ثورة يوليو، وايضا لخشيتـه من تزايد نفوذ الشيخ فهد السالم.
ودارت الأيـام، واختلف د.سعيد عبده مع الشيخ فهد السالم واستقال ورحل، وشغل منصبه د. كمال برعي. وفي طريقه الى مطار النزهة، لم يكن هناك أحد في وداعه سوى د. ايرك بيري.
وفي عام 1962 حين استقـال د. بيري واتخذ طريقه الى المطـار كنت أنـا من ذهـب يودعـه، وقلت له:
«اودعك بالنيابـة عن د. سعيد عبده.. مع السلامة!»
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 22-09-2011, 10:59 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة(5)
بين الأسرّة البيضاء
في هذا الجو الخمسيني تفتحت طرقٌ على الصعيد العام والخاص، أي على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد الأفراد، في كويت جديدة بدأت تلوح آفاقها، كما قلت، مع بدايـة تصدير النفط، أضف إلى ذلك ما بـدأ يحـدث على الصعيد العربي حـولنا فيلقي بظلاله، إن خيراً أو شراً، على امتداد الخريطة العربية. وبدا أن منطقتنا، وبلدنا معها، ترحل إلى عصـر آخر، ونجد كأفـراد وجماعات أن علينا أن نتحرك أيضاً ونغادر نوافذنا وأبوابنا التقليدية إلى ساحات جديدة.

على صعيد الطب الوقائي والطب العلاجي، تم نقل القسمين إلى دائرة الصحة، ونقلوا د. بيري من المستشفى الأميري إلى دائرة الصحة، وتسلم رئيس الأطباء القسم العلاجي، ونقل د. برعي ليكون مسؤولا عن الطب الوقائي، وظل في هذا المنصب فترة لا بأس بها.
وسط هذه التنقلات كنت أمارس عملي في المستشفيين، الأميري وملحقه الذي قمت بفرشه وتجهيزه بالكامل مع د. ماكريدي، ونقلت إليه عدداً من العيادات والأقسام. ولا أنسى تلك المطرة الشهيرة في عام 1954 حين حوصر في المستشفى ثمانية مرضى كانوا فيه بحاجة إلى الأكل، ولم تكن سيارة تستطيع الوصول إليه. فحملت الخبز والأكل على رأسي وخضت المياه التي وصلت إلى الركبتين بالقرب من الحجى ون (G1) ووصلت إلى المستشفى. كان د. ماكريدي موجودا، وسره عملي. لقد كان إنسانا اجتماعيا وطيباً.

محاولة تكتيكية

واستمر هطول المطر خمسة عشر يوما متصلة، مما اضطر الحكومة إلى توزيع بعض العائلات على بيوت ذوي الدخل المحدود قبل الانتهاء من بنائها. كانت أمطاراً فاقت أمطار السنة المعروفة باسم الهدامة، إذ بلغ عدد المتضررين 18 ألف نسمة وتهدم أكثر من 500 بيت.
كما لا أنسى حدثا مهماً مر بي في ذاك العام نفسه هو قيامي بمحاولة تكتيكية لإفشال عقد مؤتمر طبي كان يعقد في الكويت دائما، احتجاجاً على تسميته بـ «مؤتمر الخليج الفارسي» بدلا من مؤتمر الخليج العربي.
اعتاد المشاركة في هذا المؤتمر أطباء من دائرة الصحة وشركة نفط الكويت وأطباء من شركة النفط الإيرانية في عبادان، ومن شركة بابكو البحرينية.
حين تقرر عقد هذا المؤتمر كان الشيخ فهد السالم خارج الكويت، وكان علي الداوود مدير عام دائرة الصحة في حينها، أما د. بيري فكان من أشد المتحمسين لهذا المؤتمر. وفي الليلة التي سبقت الإنعقاد اتصلت بعلي الداوود ونقلت له احتجاجي على التسمية، وقلت له إنها تناقض قرار أمير البلاد الشيخ عبدالله السالم بأن تطلق على المؤتمر تسمية «مؤتمر الخليج العربي».
قال علي الداوود: «وما الحل؟»
قلت: «تظـاهر بالمرض حتى لا تضطر إلى افتتـاح المـؤتمر، وأنـا اذهب إلى د.بيري وأقول له إنك مريـض».
واتصلت في الليلة نفسها بجريدة «الفجر» وكتبت خبرا عن المؤتمر تضمن احتجاجا على تسميته لأنها تناقض القرار الأميري. وفي الساعة السادسة صباح اليوم التالي كنت في المستشفى الأميري وأخبرت د. بيري بمرض علي الداوود، وأضفت:
«اعتقـد أن سبب تغيبـه الحقيقي عن المؤتمـر هو اسمه الذي يعتبر ضد قرار الشيخ عبـد الله السـالم».
فاستشاط د. بيري غضباً. إلا أن غضبه لم ينفعه، فقد انعقد المؤتمر إلا أنه فشل، وكان آخر مؤتمر يعقد تحت تسمية «مؤتمر الخليج الفارسي».

صراع الأطباء

في هذه الفترة أصبح لدينا مستشفى المصح الصدري، المتخصص بالقلب الآن بجوار ثانوية الشويخ، مقر جامعة الكويت حالياً. وعمل في المصح الصدري د.أحمد سلامة ود. شعبان، وكرنيك اغصوبيان مسؤولا عن قسم السل النسائي.
واتضحت ملامح صراع بين فريقين من الأطباء، بين الفلسطينيين والمصريين، ليضاف هذا إلى الصراع مع جبهة د.بيري.
اذكر أن مجرد مجيء طبيب عربي جديد من أي مكان كان يثير استياء د.بيري، وبخاصة إذا لم يكن عن طريقه، كما حدث حين استقدم الشيخ فهد السالم د.أحمد مطاوع أول طبيب عربي يحمل شهادة في الجراحة مع شهادة زمالة.
في عـام 1959 حـل الشيـخ صباح السالم الصباح محـل الشيخ فهد بعد تنحيه عن منصبـه، واستعان الشيخ صباح بعبد الرحمن العتيقي الذي عمل معـه في دائرة الشرطة، فاستبدل به علي الداوود بعـد استقالته. وكان عبد المحسن المتروك مساعداً للعتيقي الذي ظل في منصبه حتى عام 1960.
وسيطر عبد الرحمن العتيقي على الوضع تقريباً، وصارت علاقته بدكتور بيري ممتازة وطيبة. كان دبلوماسياً والسلطة كلها للانجليز. أما الشيخ صباح فكان عطوفا يتميز بالطيبة. واذكر موقفا حدث لي معه ذات يوم حين زارني في مكتبي.

منشورات في مكتبي

كانوا يقومـون ببناء أقسام جديدة مسقوفـة في المستشفى الأميـري، فنقلنا مكاتبنـا الى بيت البسام المجاور للمستشفى في الزاويـة الشرقيـة الشمالية.
في هذا المكان دخل الشيخ صباح مكتبي مصادفة وعلى غير توقع، فنهضت وحييته ودعوته للجلوس الى مكتبي. جلس وبدأ يبادلني الحديث الا أنه خلال ذلك فتح أحد ادراج المكتب، فوجد فيه منشورات توعية وتأييد للتحركات الشعبية في البحرين. فسألني:
«ما هذا؟»
قلت:
«لا أعرف.. هذه منشورات أحضرها أحدهم»
فابتسم الشيخ وهو يتصفح المنشورات، ثم قال ببساطة:
«لا.. أنا اعرف الموضوع.. لاحاجة للف والدوران.. أنا أتفهم موضوع هذه المنشورات»
كنت في الحقيقة أقوم بتوزيع هذه المنشورات.
خرج الشيـخ، ورافقه الى مدير المستشفـى د. سامي بشارة. وفي طريقنـا صادفنـا د. عبد الرزاق العدواني، فمازحـه الشيخ وهو يشير الي:
«ضـع همـك في علمـك وتخصصك، ايـاك وسـماع كلام برجس البرجس، والا قادك الى داهية».
لم يكن يعني ما يقـول حرفياً، ولكنه كان قـد شغل منصب رئيس دائـرة الشرطـة، ولا بد أنـه كان لا يزال أسير حـذره في منصبـه ذاك حتى بعد أن أصبح رئيساً لدائـرة يتحرك فيها أطباء وممرضون لاشرطة ولا مخبرون. أناس لهم مشاكل من نوع مختلف، أو هم سبب مشاكل من هذا النـوع.
لقد طغت النزاعـات والمنافسات بالفعـل على المسائل الطبيـة بعامـة، سواء كان طباً وقائياً أو علاجياً، فسار التقدم فيها ببطء وعبر المنازعات والتداخل بين الوقائي والعلاجي. مثلا استقدموا في قسم الولادة د. علي التنير ود. عبـد المنعم أبـو ذكرى ود. أحمد نعيم ود. حسان حتحـوت ود. عبد اللطيـف علكـة العـراقي المختص بأمراض النساء والولادة، ثم استقدموا آخر اسمه د. ليـج مسؤولا عن المختبر، ولكن لم تكن هناك امكانات للتشخيص، وترسل الحالات الصعبة الى لندن للفحص والتشخيص والحصول على نتائج على حساب الحكومة وبوساطتها.

العـيـنـات

كانت الولادة تتم في مستشفى الأميري آنذاك، وكذلك كان فيه قسم الأطفال، ولم تنتقل الى مستشفى الصباح بعد افتتاحه الا في 20 يونيو 1962.

اختفى الضباب في لندن

في عام 1955 اقترح عليّ د. بيري الذهاب الى لندن للاطلاع على تجربة المستشفيات هناك، في دورة مركزة لمدة ثلاثة شهور رتبها المعهد البريطاني. وبالفعل ذهبت في شهر يونيو. كان الوضع في لندن آنذاك مختلفا عما هو عليه الآن. للمستشفيات نظام خاص مختلف، بمجلس ادارة وسكرتير. ويتكون مجلس الادارة من رئيس الشؤون المالية ورئيس الصيانة ورئيس التغذية ورئيسة الممرضات، وعضوين او ثلاثة من الخارج. هذا هو النظام الانكليزي. ويجري تحريكه عن طريق مجلس الادارة هذا الذي يقرر الميزانية والترقيات وصرف المواد الغذائية والأدوية. في ذلك الوقت كان للمستشفيات ميزانيات مستقلة.
يضاف الى هذا، تنتظم المستشفيات على شكل مجموعات، تضم كل مجموعة ثلاثة أو أربعة مستشفيات أحدها رئيسي والبقية تتبعه. مثلا هناك مجموعة «ذا ميدل سكس» ومجموعة «ذا مين هوسبيتال» ومجموعة « سانت هيليا». هذه مستشفيات رئيسية تتبعها مستشفيات أخرى، مستشفى للأطفال على سبيل المثال أو غيره. ولكن لا يوجد فيها أساتذة، فهؤلاء يكونون في «مستشفى التعليم».
المطاعم هناك منظمة ونظيفة، وعندما تنتهي من تناول الطعام ليس من المقبول أن تقدم «بقشيشا»، فماذا تفعل؟ تضع ستة بنسات تحت الطبق. لايجوز أن تمد يدك وتعطي العامل مباشرة، فهذا الأمر لايعتبر لطيفا ابدا. هناك شيء آخر؛ اذا أحضروا أدوات المائدة فعليك أن تقول شكرا أو أي شيء من هذا القبيل، والا نظروا اليك نظرتهم الى انسان غير متحضر.
الوضع مختلف الآن، فاذا لم تناول العامل بقشيشا فسينظر اليك نظرته الى شخص غير حضاري! بل أصبحوا يضعون ثمن الخدمة مقدما على الفاتورة. ويتساءل من يزور لندن الآن، أين تلك الكثرة الكاثرة من الناس، 90%، التي كنت تشاهدها تقرأ الصحف في القطارات والحافلات؟.
مررت برحلتي الى لندن في بيروت، ونمت فيها ليلة في فندق كارلتون، وفي اليوم التالي سافرت الى نيقوسيا ثم روما، ومن هناك الى لندن واستغرقت الرحلة 12 ساعة. وحين وصلت كان مطار لندن يشهد افتتاح ممر جديد.

سيارة اسعاف

كان هناك وكيل للكويت هو بوليجليز، وسبقتني اليه برقية أرسلها د. بيري تطلب منه استقبالي، فجـاء الى المطـار بسيارة اسعاف ظناً منـه أنني مريض قـادم من الكويت. كنت أول كويتي يرسل الى لندن للتدرب على نظـام المستشفيات، فأخـذني الى وكالـة الكويت، اذ لم تكن لدينا سفارة في ذلك الوقت، ومن هناك أرسلني بالسيارة مع سائق الى سكن داخلي يقـع في كولنجهام جاردن رقم 28. وفي هذا السكن لم أجد غرفـة فأنزلوني في غرفة المكانس حتى اليـوم الثاني. من وجد لي مسكنا بتكليف من بوليجليز صديقي محمد خلف كان مسؤولا عن مكتب الشؤون العسكرية، وهـو من أخـذني الى المعهد البريطاني لأبدأ التدرب، وحـدد لي المعهد مستشفى تابعـاً لمجموعة هوكني في منطقـة شعبيـة في شرق لندن. وفي طريقي اليه كنـت أستقل القطار يوميـاً من محطة جنوب كنستون الى محطـة ليفربول، ثم أستقـل حافلة الى المستشفى.

المكتب الصحي

المكتب الصحي في لندن كان مسؤولا عنه د. بيلي بالاضافة الى صفته كمسؤول ثقافي، ثم أصبح المسؤول فؤاد سمعان، وبعد ذلك أرسلت الكويت كويتيا هو رشدان المرشد ليكون مسؤولا عن المكتب الصحي، وتسلمه بعده حسن درويش، ثم العدساني. أما العمل وقتها فمرتجل يعتمد على اجتهاد الشخص نفسه. وتنقل المكتب بين ثلاث مناطق لندنية، الى ان استقر في مكان السفارة في شارع ديفونشاير.
هنـاك سكنت لمـدة يومين أو ثلاثـة، ثم بحثت عن مسكن آخر في ساوث كينغستون في آنسلو جـاردن، ووجدت غرفة ايجارها 8 جنيهات أسبوعياً. غرفة عادية. وكانت دورة الميـاه مشتركة بـين سكان الطابـق كله. لغتي الانكليزية متوسطة بحيث أستطيع بها تـدبير أموري، وشعرت في لندن أنني رأيت عالماً آخر. حتى ملابسي كانت صيفية والجو في لندن شتائي والأمطـار غزيرة. الآن أصبح المطـر أقل، بل واختفى الضباب واختفت معه صفة مدينـة الضباب. وطيلـة ثلاثـة أشهر قضيتها هناك، كانت الحياة بالنسبة لي غريبة شعرت معها بالحنين الى الكويـت.
في المستشفى لم يكن هناك أحد يعلمني اثناء عملي، ولم أعط أي انتباه، وتركت في الأقسام لأتعلم وحدي. لم يكن لدي خلال تلك الأيام ما يكفي من المال، فكنت آكل وجبة واحدة في اليوم وأشرب الكثير من الحليب. ولكن حظي كان جيداً اذ التقيت بعدد من الأصدقاء، ففي لندن آنذاك كان طلبة كويتيون يدرسون الطب مثل عبد الرزاق العدواني وعبد الرزاق العبد الرزاق، ويدرسون الأدب الانكليزي مثل سليمان المطوع. والتقيت هناك أيضاً بمعجب الدوسري ويوسف الشايجي وقاسم الياقوت السفير في باكستان وروما. كان لدينا طلبة في مانشستر وليفربول ومناطق أخرى، وكلهم مبتعثون.
بعد عودتي الى الكويت، عدت الى العمل في المستشفى الأميري وملحقه في الصليبخات، وحاولت ادخال بعض الاجراءات الادارية البسيطة على مستشفياتنا، مثل تنظيم المخازن والاعتمـاد على الصيانـة والشؤون الماليـة، أما بقيـة اقتراحاتي، مثل ايجاد مجلس ادارة يتكون من رئيس الشؤون المالية ورئيس قسم الصيانة ورئيس قسم الامـدادات الغذائية ومدير المستشفى كسكرتير، فلم يوافقوا عليها. وحتى د. بيري الذي اقترح علي التدرب على تنظيم المستشفيات عارض، وكذلك أعضاء مجلس الادارة لأنهم لم يستوعبوا الأمر واعتبروا هذا النظام تدخلا في شؤون دائرة الصحة.
كل شيء كان بحاجـة الى تنظيـم، فحتى شهادات الميـلاد لم تكن موجـودة، التسجيل غير منظم؛ تعطى شهادة من المستشفى أن فلانـاً أو فلانـة ولد أو بنت ويضعون الاسـم، ويعطون شهادة. لم يفكر أحد بقضايا الجنسيات وتبعات الميلاد. وكان المرضى يدخلـون ويطلبون العلاج. المهم أن يعرفوا أن فلانة كويتية فقـط، والكل مسموح له أن يأخذ دوره، سـواء كـان كويتيـاً أو غير كويتـي.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 22-09-2011, 10:59 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة بين الأسرّة البيضاء (6)
في هذا الجو الخمسيني تفتحت طرقٌ على الصعيد العام والخاص، أي على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد الأفراد، في كويت جديدة بدأت تلوح آفاقها، كما قلت، مع بدايـة تصدير النفط، أضف إلى ذلك ما بـدأ يحـدث على الصعيد العربي حـولنا فيلقي بظلاله، إن خيراً أو شراً، على امتداد الخريطة العربية. وبدا أن منطقتنا، وبلدنا معها، ترحل إلى عصـر آخر، ونجد كأفـراد وجماعات أن علينا أن نتحرك أيضاً ونغادر نوافذنا وأبوابنا التقليدية إلى ساحات جديدة.
في عام 1957 قررت المملكة العربية السعودية وضـع رسوم على قوافل الحجاج، إلا انها استثنت الكويت من دفع الرسوم قبل موسم الحج بمدة قصيرة، فبدأت الحملات بالاستعداد لأداء هذه الفريضة الدينية، وأمر الشيخ فهد السالم بإرسال بعثة طبية ترافق الحملات وتضم أطباء وممرضات ومضمدين وإداريين، وكلف عبدالله العسعوسي بالمهمة، إلا أن العسعوسي رحمه الله اعتذر:
«انا رجل مسن، ولا أستطيع القيـام بهـذه المهمة، فهلا كلفت أحـداً بمساعدتي من دائـرة الصحـة؟»
فسأله الشيخ:
«قل من تريد؟»
قال العسعوسي:
«أريد برجس البرجس».
واستدعاني الشيخ، ودار بيننا هذا الحوار:
«أريدك أن تذهب مع العسعوسي إلى الحج»
«ليست لدي نية بالحج، ثم.. أنا وحيد أهلي»
«هل ترفض أداء فريضة الحج؟.. يجب أن تذهب»
لم استطع الرفض بالطبع، فقلت:
«إن شاء الله»
بعـدها اتصـل بي عبد الله العسعوسي فذهبت إليه، واتفقنا، وسارت إجراءات إعداد الحملـة في مسارهـا الطبيعي، وتم تعيين أطباء وممرضين ومضمدين، وما يلزم مـن أدوية وما إلى ذلك.
كانت هذه ثاني حملة حج تشرف عليها دائرة الصحة، وعملت فيها مساعداً للعسعوسي يعاونني أخ عزيز يدعى عبد الله السعيد رحمه الله.
استغرقـت رحلتنا إلى مكـة سبعـة أيام، على الطريق نفسه الذي سارت عليه أول حملة كويتيـة.

إنفلونزا الصيف

في مكة وصلنا متأخرين، واستقبلونا بترحاب، فاعتمرنا، ثم ذهبنا إلى منى. وهناك أصيب أفراد حملتنا بالانفلونزا مع أننا كنا في شهر يوليو. لم يكن لدينا علاج سوى الثلج لخفض درجة حرارة المصابين، فمن أين لنا بالثلج؟
ذهبـت أنـا وعبد الله السعيد لشراء قوالـب ثلج كبيرة، وحملناها في سيارة نقل، وتحت رأس كل مصاب وضعنا قطعة من قالـب الثلج كوسادة. واستطعنا بهذه الطريقة تخفيـض درجة حرارته.
الانفلونزا الصيفية لم تكن هي الأعجوبة الوحيدة التي صادفتنا، فخلال السعي بين الصفا والمروة، وقد ذهبنا مع الذاهبين للسعي، صادفنا أعجوبة أخرى لم تكن لتخطر على بال أي واحد منا؛ شاهدنا سيارات تسعى متهادية بين الصفا والمروة، وسط حشد الحجاج الساعين من جانبهم جيئة وذهابا كما تقضي بذلك الشعائر. وحول السيارات حرس يحيطون بها ويتقدمونها يحملون العصي ويبعدون الناس عن السيارات بالضرب والصراخ. وعرفنا أن هذه السيارات خاصة بالعائلة الحاكمة تحمل من تحمل لتريحه ربما من عناء السعي مثلما تسعى بقية الناس وتتزاحم تحت الشمس اللاهبة.
أمام هـذا المشهـد، لم أجـد بداً من ترك السـعـي في ظـل هذا الوضع غير الطبيعي، وقلت للاطباء:
«يكفي أنكم اعتمرتم، فلنذهب في حال سبيلنا، إذ لا يجوز أن نتعرض للضرب بالعصي».. وبيني وبين نفسي أخذت المسؤولية على عاتقي أمام ربي.

متاعب العودة

بعدها تحركت الحملة إلى المدينة، ثم بدأت الاستعدادات للعودة إلى الكويت. العودة التي استغرقت ستة أيام، ولكن كان مقدراً لنا أن يكون ما لاقيناه من متاعب بسيطة حتى الآن لا شيء مقارنة بما سيصادفنا في طريق العودة والظلمة الحالكة ليلا من حولنا، وليس من متحرك إلا أضواء السيارات.
ضاعت بعض سياراتنا على طريق من الصعب تبين معالمه، وضعنا نحن أيضاً ونحن نحاول البحث عن السيارات الضائعة بلا جدوى.
ولأننا في صحراء، فكرت منذ اللحظة الأولى بذلك العنصر الثمين الذي يساوي فقدانه الموت، ويساوي العثور عليه الحياة، أعني الماء. علينا أن نجمع ق.رَب الماء ونغلق عليها في السيارات حتى لا نفقدها. كنا نضع الماء في «ق.رَب» من قماش تحمل على ظهور السيارات فيصبح ماؤها باردا حتى في المناطق الحارة. ولكن علينا الآن أن نحافظ عليها بأي ثمن.
في وسط كل هذا الدوران من مكان إلى آخر، ابتسم لنا الحظ فوجدنا بدوياً من أهل الصحراء يتطلع إلينا بفضول من فوق كثيب رمل، فسألناه إن كان رأى سيارات حملتنا الضائعة، فقال ببساطة، نعم.. هي وراء تلك التلة، وأشار باصبعه نحو مرتفع قريب. وبالفعل وجدنا بقية حملتنا الضائعة هناك وراء المرتفع، متوقفة بين الرمال لا يعرف ركابها هل يمضون يمينا أم شمالا، جنوبا أم شرقاً. من لا يألف الصحراء لا يستطيع أن يحدد اتجاه سيره، فما بالك إذا كان الوقت ليلا، ولست من الذين يجيدون الاهتداء بالنجوم أو معالم الكثبان والتلال التي يعرفها البدوي كما يعرف راحة يده.
حـين وصلنـا إلى أصحابنا، أكرمت البـدوي وأعطيتـه مائة ريـال، وظـل الرجل معنـا حتى الصباح. ومع بـزوغ أول ضوء واصلنا الرحيل بالاتجاه الذي اشار اليه البدوي قبـل أن يغـادرنا إلى أهله.

طرق وعرة

كانت الطرق كلها تزداد وعورة، ولا شيء غير الرمال تحيط بك أينما التفت، وفي بعض الأماكن صادفنا أشجاراً تدعى «الصريم». وبعدها وصلنا منطقة تدعى «رماح» شديدة الحرارة كأنها قطعة من جهنم في فصل الصيف، واضطررنا بسبب حاجتنا إلى الماء إلى سحبه من بئر عميقة جداً. كان أهل المنطقة وأجدادنا الذاهبون إلى الحج في رحلة شاقة تستغرق ثلاثة أشهر على ظهور الجمال، يستخرجون الماء بدلو مربوط بحبل يجره جمل يسير مسافـة طويلة، وعندما يأخذون الماء يقومون بتصفيته من الشوائب باستخدام الغترة. وفعلنا الأمر نفسه، مع فرق أننا استخدمنا سياراتنا ذات الدفع الرباعي لسحب الدلو من بئر لا تستطيع سماع طرطشـة المـاء فيـه بسبب غوره العميق.
ونحن نسير في «رماح» هذه، انحرفت السيارة التي تنقل الماء وبتنا تائهين لا نعرف الوجهة الصحيحة، فهرولت وراءها، وسقط إثنان من العمال تحت عجلاتها، فأصيب أحدهما في ظهره والآخر في بطنه. وخلق هذا الحادث مشكلة جديدة لم تكن في الحسبان. اقترحت على عبد الله العسعوسي أن يواصل طريقه مـع الحملة إلى الكويت، على أن أبقى أنـا مع بقية الأطبـاء للعنايـة بالجريحين، ومن هناك يطلبون من المملكة العربيـة السعوديـة إرسال طـائرة لإنقاذ المصاب بدلا من أن تتوقف الحمـلة وينفد الطعـام.

في الخيمة

وتهيأنا للإقامة، نصبنا خيمة ورششنا الأرض بالماء، وشغّلنا مروحة تعمل بوساطة مولد كهرباء، وكل ذلك لنخفف من حرارة المريض ونجري له عملية. وصار علي تدبير الطعام والماء لتمضية بقية وقت الانتظار، فكتبت رسالة الى أمير الرياض نطلب فيها دماً للمصاب، بالاضافة الى الماء والطعام. وأرسلتها اليه مع سيارة نقل الماء، ولم تلبث أن عادت السيارة بالماء والطعام من دون الدم للمصاب لأن فصائل الدم لم تكن متوافرة في تلك الأيام.
وهكذا جلسنا في انتظار وصول الحملة الى الكويت لتنقل أخبارنا كما اتفقنا الى الشيخ فهد السالم، وليتصل من جانبه بأمير الرياض ليرسل الينا طائرة. ولم يطل انتظارنا، وصلت طائرة من نوع داكوتا ذات محركين، وهبط منها أحد رجالات البدو الذي قادنا الى الحملة في «رماح» وأرشدنا الى الطريق. فطلبت منهم، وهم ينقلون العامل المصاب الى الطائرة، أن يأخذوا معهم أكبر عدد ممكن من الموجودين معنا لعدم توافر طعام وماء يكفي الجميع بقية رحلتنا الى الكويت. واقلعت الطائرة وعلى متنها، بالاضافة الى المصاب، الممرضات وأحد الأطباء، وبقي معي اطباء الحملة وعبدالله السعيد.
تم كل شيء عند السادسة مساء، وبقي علينا أن ننطلق من جانبنا على طريقنا الصحراوي.
قلت لمن تبقى من أفراد الحملة:
«لنمض»
فاعترضوا:
«كيف؟.. وليس معنا دليل!».. كان دليلنا شخص يدعى نصار ذهب بالطائرة مع عبدالله العسعوسي.
حينئذ اقترحـت عليهم أن نذهب الى أمير «رمـاح»، وانتحيت جانباً بأحد السائقين واتفقت معه على أن يجيب بكلمـة «نعم» حين أسأله أمام الأطباء «هل تعرف الطريق؟». ومضينا الى أمير «رماح»، وسألناه عن كيفية عبور طريق صحراء الدهناء الرملية وتلالها الثلاثـة، فوصف لنا الطريق قائـلا:
«سيروا والطريق الى يمينكم الى أول تل، وهناك تجمعوا، ثم الى الثاني، وواصلوا السير حتى التل الثالث فتكونون في منطقة «أم عقلة».
التفت الى الأطباء وقلت:
«لنذهب»
فاعترضوا للمرة الثانية قائلين:
«لا.. لا نريد الذهاب.. نخشى الضياع والموت»
كان معنـا من مصر الأطباء د. مصطفى عبدالتواب، ود. أحمد الجيار، والدكتور أحمد لطفي، ومـن لبنان د. توفيق الترك، ومن فلسطين د. نور الغصين طبيب الأسنان. فناديت السائق الذي اتفقت معه وسألته وهم يسمعون: «هل تعرف الطريق؟»، قال فوراً: «نعم أعرفـه، وسافرت عليـه عـدة مـرات.. إنـه طريق سهل».

في «أم عقلة»

وانطلقنا وأنا في المقدمة. وصلنا إلى أول تل، وتوقفت لأتأكد من أن كل السيارات معنا، ثم واصلنا المسير إلى التل الثاني، وهناك تجمعنا مرة أخرى، وما أن وصلنا إلى التل الثالث حتى كانت «أم عقلة» أمامنا. وتفقدت السيارات فـإذا بها تنقص واحـدة. ونظـرت حولي فـإذا بسائق السيارة المفقـودة يتجه بها مصادفة إلى الدهناء، فأسرعت ولحقت به بسيارة صالون مـع سائقها، ونبهناه قبـل أن يصل إلى منطقـة الرمـال الخطـرة، وأرجعناه إلى الجادة الصحيحـة، واتجهنـا إلى «أم عقلـة».
هنـا في هـذه المنطقة أصيبت إحـدى سياراتنـا وشاحنة بعطب، ومـع ذلك واصلنا طريقنا فوصلنا إلى«أم عقلة»، ووجدنا خزان ماء لم يكن ماء عذباً بل أشبه بالماء الصليبي الذي لا يصلح إلا لري المزروعات، ومع ذلك كـان الخزان نعمة من نعم الله علينا، فاغتسلنا قبل أن نمضي لرؤيـة أمير المنطقـة. وهناك وجدناه نائماً في بيـت من الطين، فأيقظناه وطلبنا منـه أن يسمح لنا بترك السيارتين المعطوبتين ريثما نرسـل من يـأتي بهما، وافـق وقـال: «أوقفوهما هنا». وهـذا ما فعلنـاه.
ثم واصلنا الرحيل إلى منطقة «جربة»، ولم يكن قد تبقى معنا من الطعام إلا أقله، وأسعفنا صاحب مقهى هناك مبني من سعف النخيل. سألناه:
ـ ماذا لديـك؟
ـ فـول وشاي وماء.
ـ هات كل ما عندك من الفول والخبز والماء.
أخذنا كل ما عنده بثمنه بالطبع، وسلمنا على أمير «جرية»، وسرنا في طريقنا إلى منطقة حدودية قريبة من الكويت تدعى «الصقعبي». هنا ثار خلاف بيننا وبين الموظف السعودي، وغضب د. مصطفى، رحمه الله، لأننا كنا بغنى عن أي مشكلة بعد المشاق التي تكبدناها، فكيف ونحن على مشارف الوصول إلى بلدنا.
قلت لمن معي: انتظروني هنا.
وعدت إلى «جربة»، ولم نكن قد ابتعدنا عنها كثيراً، واخبرت أميرها بقصة الموظف الذي اختلق مشكلة من لاشيء، فطلب اثنين من رجاله، ولحقا بي، وحين وصلنا قبضا على الموظف السعودي، وقالا لنا مودعين: ادخلوا.
دخلنا عابرين الحدود، ووصلنا بعد صلاة العشاء بقليل إلى «الصليبية».
كان أول ما فعلناه أننا ذهبنا لرؤية العامل المصاب الذي جاءت به الطائرة إلى المستشفى الأميري، وفي اليوم التالي علمنا أنه انتقل إلى رحمة الله.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 22-09-2011, 11:00 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة بين الأسرة البيضاء (7)
مـع عام 1962، أي عـام استقلال الكويت، بدأ يتضح التغيير الملموس عـلى عدة أصعدة، ذلك التغير الذي قلت إنه كان طابع الحياة في الخمسينات، ليس في دائرة الصحة فقـط وانما في الدوائر كافة.
كان الشارع الكويتي مشحوناً بقضايا وطنية وقومية وبرغبة عارمة في تحقيق المشاركة الشعبيـة في ادارة الدوائر. صحيح أن هذا التغير الملموس بدأ مع تشكيل المجلس التأسيسي الذي أعـد مشروع الدستور، الا أنـه سبقه وضع قوانين للوظائف العامة، وكان أول تشريع ينظم الخـدمة المدنية قد وضع في عـام 1955، وعرف بنظام الموظفين والتقاعد، ثم تغير مسماه في عام 1960 وصار «ديوان الموظفين»، وهي التسمية نفسها التي تغـيـرت في عام 1996 وصار اسمه «ديوان الخدمـة المدنية». ولهذا كان في هذه التشريعات التي وضعت قبل صدور الدستـور اجحاف بحق الكويتيين، لأن من وضع هـذه القوانـين السابقـة على الدستور اصحاب خبرات ومؤهـلات جاؤا من الخارج، من القـاهرة ولبـنان، بين عامي 1954 و1955، فوضعوا قوانـين تنصفهم وتم تطبيقها.

وزارة الصحة
كنت ما زلت أمينا لمستشفى الصباح حين تغيرت تسمية دائرة الصحة الى وزارة الصحة بعد الاستقلال وتسلمها عبد العزيز الصقر، فاستدعاني وطلب مني تسلم منصب مدير مكتبه. فتحفظت قليلا. لم أهضم فكرة الانتقال من وظيفة أمين عام الى مدير لمكتب وزير، وشعرت بثقل هكذا مسؤولية. الا انني قبلت المنصب بعد اصرار من الأخ الصديق يوسف ابراهيم الغانم الذي قال لي مشدداً على كل كلمة:
«يحتاجـك عبد العزيز الصقر، هـو بحـاجـة الى من يكون الى جانبـه الآن، ويجب عليـك قبـول هـذا المنصب».

بداية جديدة
هذه كانت البداية الجديدة لمسيرة تميزت بالتأكيد عن مسيرة الخمسينات في عدة جوانب، أكثرها أهمية أننا بدأنا برغبة الانجاز، أن ننجز شيئا لهذا القطاع الذي أعاقت تطويره صراعات الخمسينات ومنافسات الكتل المتعددة الجنسيات، والتعصب لمناهـج هذا النظام الطبـي أو ذاك وبالطبع تذكرت في منصبي الجديد كل الأفكار التي تعرضت للإجهاض في مجـال إعـادة تنظيـم إدارة المستشفيـات.
الفكرة الأولى التي بدأنا تحقيقها هي إنشاء سجل عام للمستشفيات والمستوصفات، حيث يحفظ لكل مريض ملف في هذا السجل. ولم يكن الأمر سهلا، أن تبدأ من ما يشبه الصفر، واستغرق منا إنجاز هذا السجل جهداً جباراً ووقتاً طويلا.
نبدأ عملنا في الثامنة صباحاً ونستمر حتى العاشرة ليلا، ونستريح لمدة ساعة فقط. وخلال ذلك يظل عبد العزيز الصقر حاضراً معنا دائماً، يجيء إلى العمل مستخدما سيارته الخاصة؛ فهو لم يطلب من الوزارة سيارة له.

حادثة مشهودة
استمر عملي مديراً لمكتب الوزير عاما كاملا، أنجزت خلاله سجلات المرضى العامة، وادخلنا تطويرات متعددة على إدارة مستشفيات، الأميري والصباح والصليبخات، إلى أن غادر د. إريك بيري رئيس الأطباء الذي كان يسيطر على كل شيء في شؤون المستشفيات بعد حادثة مشهودة تستحق أن تروى.
طلب د. بيري ذات يوم لقاء الوزير، وجاء إلى اللقاء حسب الموعد بلباس رياضي كأنه ذاهب إلى ملعب كرة، فأوقفته ولم أسمح له بالدخول للقاء الوزير بهذه الملابس، رغم أنه كان رئيسي سابقاً في عصر ما قبل الاستقلال.
قلت له:
«لو كنـت في بريطانيـا، هل ستذهب للقاء وزيـرك بهـذه الملابـس؟ يجب احـترام مقـام الوزيـر».
غضب د. بيري، أو صدم بالأحرى، وهو الـذي اعـتاد أن يعامل حتى زمـلاءه الأطباء بخشونة وعنجهية المستعمر القـديم، حاكم الامبراطوريـة التي لا تغيب عنها الشمس، وسارع إلى تقـديم استقالته. ربما إحساساً منه أنها لن تقبـل، وسيعود إلى منصبه مرتـدياً ملابس الملاعب الرياضية في حضرة أي كان، وربما إحساساً منه أن الزمن تغيـر، وأن دوام الحال من المحال، مـع أن هذا الأخير احتمال ضعيف في ضوء تجربتي مع أمثال هـؤلاء الذين كانوا يضعون نصب أعينهم خدمة ملكتهم لا خدمة الشعوب التي حـلوا بين ظهرانيها بقوة مدافع بوارجهم الحربية.
أطلعت الوزير الصقر على الاستقالة، فسألني:
«ما رأيك؟»
قلت:
«نقبلها فوراً»
لم تكن لـدي ضغينـة تجاه الطبيب البريطاني، ولكن كان لا بد للكويت أن تتجدد بعـد أن تـولى أمورها أبناؤها بالكامل، وآن لهـم الآن أن يشمروا عن ساعد الجـد.
كان د. بيري على علاقـة جيدة بالأمير عبدالله السالم قديمة، ويعـرف الوزير هذا الأمر، الا أنه بعد تفكير وتأمل، قال للأمير إنه سيوافق على الاستقالة. واعتبرت قبول استقالة د. بيري احد انجازات عبد العزيز الصقر.
لم يكن اتخاذ مثل هذا القرار الذي خلص وزارة الصحة من تركة ثقيلة الا حلقة في سلسلة من ممارسات الوزير الصقر جديرة بالذكر، وبخاصة أنها تندر هذه الأيام في وزارات الدولة. واذكر له موقفا آخر يثير الاعجاب.
كنا في المكتب ذات ظهيرة، فاتصل شخص من احد المستوصفات يشكو شخصا ذا نفوذ يهم بالاعتداء على أحد موظفي المستوصف. فغضب الوزير، واتصل فورا بالشيخ سعد رحمه الله وأخبره بالموضوع، وطلب اتخاذ اجراء سريع، وارسال سيارة شرطة للقبض على هذا المتنفذ، وسمعته يقول خلال الاتصال:
«اذا لم تفعلوا هذا فأقترح أن ترسلوا أحدا لاستلام وزارة الصحة»
فقاموا بالاجراءات اللازمة، وتم التحقيق مع هذا الشخص.
كان بو حمد دقيقا، وبحجم منصبه تماما.

مبادئ وتنظيم
يمكن وصف عملنا في أول وزارة بعد الاستقلال بصفتين؛ ارساء مبادئ وتنظيم وتطوير الخدمات الصحية وتأسيس ما يمكن أن أسميه قواعد لخلق كوادر كويتية قادرة على تولي المسؤولية. على سبيل المثال، وفي ضوء مسألة العلاج في الخارج التي أصبحت في السنوات الأخيرة مجال صراعات وتدخلات وواسطات، نظمنا هذه الخدمة على أساس مبدئي وعلمي. فعندما يوصي طبيب بارسال مريض للعلاج في الخارج، تتشكل لجنة طبيـة وتقرر ما اذا كان بحاجة الى علاج في الخارج أم لا. فاذا أقر الطلب، يعتمده وكيل وزارة الصحة مباشرة. ومن أجل أن تكون هذه الخدمـة فعالة افتتحنا مكاتب صحية في الخارج. والمهم أن أي وساطة لم تكن تقبل على الاطلاق في مكتب عبد العزيز الصقر. مقـابل بذل كل جهد ممكن لخدمة ذوي الحاجات المستعصية والجادة، وهو جهد كان الوزير يتابعه شخصيا في أحيان كثيرة حين يحتاج الأمر الى اجراء استثنائي. حدث مثل هذا حين جاءت امرأة تشكو من مرض كلوي، وكانت حالتها حسب التشخيص خطرة جدا ولا علاج لها في الكويت، ولابد من ارسالها الى لندن بسرعة. فأجرينا اتصالات سريعة للحصول على طائرة من الخطوط الجوية البريطانية، وتم علاج المرأة في لندن، ومازالت حية حتى الآن، ومازلت ألتقي بزوجها أحيانا وبيننا سلام، ولا ينسى موقف عبد العزيز الصقر وموقفي من علاج زوجه.

مع الأطباء
في ما يخصني كنت الموظف الكويتي الوحيد المرتبط بالأطباء ارتباطاً قويا، وعلاقاتي بهم وثيقة جداً بسبب أنهم كانوا مثقفين ومتعلمين، ومن مصلحتي أن أسمع منهم وأتعلم منهم. وفعلا استفدت من أطباء من أمثال د. مصطفى عبد التواب ود. أحمد لطفي ود. أحمد مطاوع ود. علي عطاونة ود. يوسف العمر. وكنت أقف مع الأطباء في مواجهة متاعبهم حتى العائلية، مثلما حدث حين وقفت أنا وابنتي مها مع د. عبد التواب حين مرّ بمتاعب من هذا النوع. هذا على صعيد ارساء المبادئ، أما على صعيد التأسيس، فقد شهد عام وجودي مديرا لمكتب الوزير منجزات مهمة، على رأسها تأسيس معهد التمريض وبنك الدم وقسم النظائر المشعة في مستشفى الصباح.

معهد التمريض
كان الوزير الصقر يريد خلق كوادر كويتية، فقرر انشاء معهد للتمريض. آنذاك اشتهر معهدان في هذا المجال، الأول المعهد العالي للتمريض في هايدلبرغ الألمانية، والثاني المعهد العالي للتمريض في الاسكندرية في مصر. وفكرنا بامكانية الطلب من مديرة المعهد الأخير، سعاد حسين، تأسيس معهد لنا للتمريض في الكويت. وسافرت لهذا الغرض الى مصر وقدمت لها العرض، فوافقت، وجاءت الى الكويت. وساعدتها من جانبي على انشاء المعهد مع وضع شرط أن تكون الملتحقـة به حاصلة على شهادة متوسطـة عـلى الأقل. ونشرنـا اعلاناً، وحصلنا عـلى سبع فتيات كويتيـات، بالاضافـة الى أربع فتيات غير كويتيات، وحملني أهلهن المسؤولية عنهن، فطمـأنتهم بأن الأمـور ستكون على ما يرام، وسنوفر لهن المواصلات من البيت الى المعهـد وبالعكس. وبالفعل خصصنا لهن مواصلات مناسبة ومرافقة اسمها «وضحة الحمـرة» ما زالـت على قيد الحياة.
كانت الدراسة لمدة أربع سنوات بالنسبة للممرضة، أما بالنسبة لمساعدة الممرضة فالدراسة تستغرق سنتين. وطلبنا اعفاء المتقدمات من شرط الشهادة المتوسطة، وان كانت عربية فمن الفتيات اليتيمات. وخصصت لكل طالبة مكافأة بمبلغ 40 ديناراً شهرياً. وبفضل السيدة الفاضلة سعاد السيد رجب زوجة د. نائل النقيب، بدأنا التعاون مع وزارة التربية.
بنك الدم
المنجز الثاني كان تأسيس بنك الدم. وهو مشروع رافقته عراقيل وصراعات لم نصادفها في غيره من مشروعات، فرغم الطابع الانساني الحساس لمثل هذا الخدمة، لم تكن تخلو من تدخلات أصحاب النفوذ والباحثين عن الأرباح المالية على حساب أرواح البشر. وكان علينا أن نصطدم في هذا المجال بكل ما يصادفه المرء في الأسواق من غش وتلاعب.
كان الـدم يصلنا من بيـروت. واكتشف د. علي أنسي، رئيس المختـبر، عدم صلاحيـة الدم الذي يصلنـا من هنـاك. وبدأنا. فكنت أجتمـع مع ستـة أطبـاء يوميـاً في المختبر، ومسؤول التثقيف الصحي يومذاك فريـد أبو غزالـة، ثم ننطلق لتوعية الناس بالأهميـة الإنسانية للتبرع بالدم. كان المتبرع يحصل على مكافأة مقـدارها 10 دنـانير وكـوب من العصير يسترد به قواه بعد تبرعـه. وبدأ النـاس يتـوافـدون للتبـرع.
لكن مشروع بنك الدم في الحقيقة كان موجوداً على الورق منذ أيام الشيخ صباح السالم الصباح، حين كان يرأس دائرة الصحة. ولم ينفذ المشروع بسبب بعض المتنفذين أو المنتفعين من لبنان الذين وقفـوا في وجه إنشاء بنـك دم محلي يحرمهم من المتاجرة بدم غير صالح كما اكتشفنا. هؤلاء هم الذين عـادوا إلى العرقلة فأبلغوا الأمير في ذلك الوقت أنني لست طبيباً، وأنني أتدخل في شأن لاعلاقة لي بـه، فاقنع المرضى بأخذ الدم الذي أوفـره لدائرة الصحة. وبتأثير هذه التدخلات واللغط الذي أثاره هؤلاء قـال لي محمد درويش العرادة ان الشيخ يطلبني ليتكلم معي حول موضوع الدم، فذهبت إليه ومعي تقرير د. علي أنسي حول الدم المستورد، وقلت لـه أنا شخص في منصب مسؤول، وأنا أقـدم خدمة للمرضى بمساعدة أطباء مختصين، ولا أتدخل في شؤون المرضى، بل أوفر ما هو صالح للمريض حسب رأي الطبيب، ويمكنك أن تسأل الأطباء في الـوزارة عـن ماهية الدم المستـورد من بيروت، إن كان مغشوشـاً أو صالحاً. قال الشيخ سأفكر بالموضوع.
وواصلنا عملنا، وأكملنا ما بدأنـاه إلى أن أصبح لدينا اكتفاء ذاتي وأنشأنا بنـك الدم. وكانوا يجلبون الدم من الولايات المتحدة الأمريكية ومصر في عهـد زينب السبكي مديرة بنك الدم في القاهرة.

النظائر المشعة
وفي هذا السياق، سياق اهتمامي بطلبات الفنيين والمختصين، وإرساء أسس متينة واستكمال تحديث الخدمات الطبية، عملت على تأسيس قسم النظائر المشعة في مستشفى الصباح. وضرورة وجود طبيب في هذا الاختصاص كان مطلباً من قبل الفنيين، فسافرت إلى لندن وبصحبتي طبيب اسمه ديفيد بيلي، عين لاحقاً ملحقا ثقافيا في لندن، بحثا عن طبيب متخصص بالنظائر المشعة أو مختص بالأمراض السرطانية والنظائر المشعة معاً. فعثرنا على طبيب بولندي الأصل مقيم في انجلترا منذ الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الطبيب هو زيليسكي، أول طبيب في الكويت بهذا الإختصاص. جاء إلى الكويت وأنشأ قسم النظائر المشعة. وبعد سنتين تولى منصبه د. يوسف عمر من مصر الذي توفي أخيرا في عام 2008، فاستلم القسم وصار اسمه مركز علاج الأمراض السرطانية. آنذاك كان مركز حسين مكي الجمعة في سرداب في مستشفى الصباح، قبل أن ينشأ مركز بهذا الاسم.

الأيتام واللقطاء
منذ الخمسينات، كان لدينـا في المستشفـى الأميـري جنـاح مخصـص لـلأيـتام واللقطاء، وحين زاد العدد نقلنا الجناح كلـه إلي بيت سلطـان السالم على مقربـة من المستشفى في منطقـة شرق.
وكنت مهتماً بالرعـايـة الإنسانية لهذا الجنـاح، ولكن حين فتـح الباب ما بـين العامين 1955 و1958 أمام بعض الأسر لتبني الأيتام واللقطـاء شعرت أن في العملية ظلماً لأن الدولة هي الأحـق برعـايتهم.
وأذكر أنه مع تشكيل دوائر الدولة، وصارت لدينا دائرة للشؤون الاجتماعية ترأسها الشيخ صباح الأحمد، وكان مديرها الأستاذ حمد الرجيب، وهو إنسان فاضل ومتواضع، ذهبت إلى الرجيب بصفة شخصية وعبرت له عن رغبتي في نقل الأيتام من المستشفى الأميري لتجنيبهم الإصابة بالأمراض، ووافقني الرأي، وتعاونت معي في البداية الأخت نورية الحميضي، وأعطى الرجيب الموضوع اهتماماً، فنقل الأطفال إلى اشراف دائرة الشؤون في عام 1958، واختير بيت الشيخ سالم العلي ليكون مأوى لهم في العديلية.

مأوى الأيتام
وواصلت التردد على هذا المأوى وتفقد أحوالهم، وحين تألفت لجنة الأيتام بعد تحول دائرة الشؤون إلى وزارة، أصبحت عضواً في هذه اللجنة، وقدمت أفكاراً عن أفضل السبل لمساعدتهم والنظر في مستقبلهم، وأهم هذه الأفكار أن تتم تسميتهم ويمنحوا شهادات ميلاد.
كان لوزير الشؤون آنذاك عبدالعزيز محمود بوشهري دور فاعل في هذا الاطار، وقد بقيت في اللجنة إلى الوقت الذي اتفق فيه على منحهم أسماء وشهادات ميلاد.
من جانب آخر، طرحت أنه حتى مع وجود فكرة التبني، فيجب على الوزارة أن تظل مسؤولة عنهم، وتظل على صلة بالعائلات التي تبنت هؤلاء الأطفال، وزيارتهم وتفقد أحوالهم، لنبقى على علم بظروف حياتهم، ويظل ضميرنا مرتاحاً، فهؤلاء في النهاية أبناؤنا.
هذه الفكرة الأخيرة طبقتها عملياً وأفتخر بها، فقد وفرت الحماية للأطفال من الأمراض، ومن الآثار التي تلحق بهم حين تتخلى العائلات عنهم، وما عملت له وتمنيته دائماً هو الاشراف الاجتماعي ومتابعة أوضاعهم الصحية والاجتماعية والتعليمية.

إلى الجزائر
في عهد وزارة عبد العزيز الصقر أيضاً، حدثت قصة بعثتنا الطبية إلى الجزائر التي كنت مسؤولا عنها بصفتي مديرا لمكتبه في عام 1962.
استقلت الجزائر، وبدأ الجزائريون يدخلون إلى المدن، الجزائر وسيدي بلعباس وعين تموشن.. إلخ، بعد حرب التحرير الطاحنة طيلة سنوات الخمسينات، وظهرت الحاجة إلى مد يد العون الإنساني لمجتمع عزله الاستعمارالفرنسي طويلا وعاث فيه فساداً وتخريباً، وها هو يقف الآن على مشارف بناء حياته الجديدة.
وطلب الوزير إرسال مساعدات إلى الجزائر تتضمن أدوية وأطباء وممرضين. فتشكلت البعثة وفيها معي د. محمد أبوستة ود. توفيق الترك ود. فؤاد ظريفة ورئيس مضمدي العمليات في المستشفى الأميري طاهر عبد الرحمن وعبد الله علي الصانع وممرضتان.
سافرت، وأنا على رأسها، بوساطة طيران عبر البلاد التي كان وكيلها الشيخ دعيج السلمان الصباح. كانت طائرة ذات أربعة محركات تحمل كامل معداتنا ظلت تشق الهواء طيلة أربع ساعات إلى القاهرة. حين وصلنا استقبلنا المرحوم عبد العزيز حسين سفير الكويت آنذاك في مصر بحفاوة، وعبر لنا عن سعادته البالغة بهذه المبادرة.
استرحنا ريثما يعيدون تزويد الطائرة بالوقود، ثم انطلقنا. حين وصلنا إلى تونس أخبرونا أن ليس لدينا تصريح بالهبوط في مطار تونس، أي أن علينا أن نقلع عائدين. طلبت منهم الاتصال بالهلال الأحمر الجزائري، وقلت لهم:
«سأبقى معكم في انتظار الجواب، على أن يذهب أفراد البعثة إلى فندق للاستراحة، وإذا ثبت أن ليس هناك اتفاق على قدومنا، فافعلوا ماتشاؤون».
ذهب أفراد البعثة للاستراحة في فنـدق غـراند في شارع بـورقيبة، وبقيت عندهم لكي أشعرهم بالإطمئنـان. لم يمض إلا وقت قصيـر حتى جاء ممثـل الهلال الأحمر الجزائـري وتحدث مع التونسيين. كان لهذه المؤسسة الجزائرية رهبـة في ذلك الوقـت والكـل يهابهـا ويخشاها.
صحيح أن الجزائر حصلت على استقلالها، إلا أن الحكومة المؤقتة برئاسة يوسف بن خدة لم تكن قد وصلت بعد. ومنحنا التونسيون تصريحا بكفالة الهلال الأحمر الجزائري، فالتحقت بأفراد البعثة في الفندق حيث أقمنا ليلتين ننتظرالطيران الفرنسي لنقل الأطباء والمعدات لأنه الطيران الوحيد المسموح له بدخول الجزائر. وتم ترتيب أمر الرحلة.
في اليوم الثـاني صادف أن وصلت الحكومـة الجزائرية المؤقتة في طريقها إلى طرابلس الغـرب لحضور المؤتمر الوطني، وكان بين أعضائها أحمد بن بيلا فأردنا الذهـاب والسلام عليهم، أنـا وأفراد البعثـة الطبية.
التقينا بـأعضاء الحكومـة في قـاعـة، فألقى بن خـدة كلمة ترحيب بالبعثة وشكر للكويت موقفها، وشكرته من جانبي، وعبرت له عن مشاعر الكويت تجـاه الجزائر، وأذكر أنني قلـت له :
«اسمح لي سيدي الرئيس بقول كلمة واحدة لك، أرجو أن تبقيها في خلدك دائماً؛ لن توجد دولة عربية مستقلة ما دامت إسرائيل موجودة».
فسألني بن خدة:
«مـاذا تقصد؟»
قلت :
«نحن سعـداء باسـتقـلال الجـزائـر، ولكنني لا أعتبره موجوداً ما دامت إسرائيل موجودة».
قال :
«بارك الله فيك».
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 22-09-2011, 11:00 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة بين الأسرّة البيضاء (8)
لقد ربطت بـين موضوع استقلال الجزائر ووجـود إسرائيل، لأن هـذه الأخيرة تشكل قـوة في المنطقـة، وأعطاها تفكك الحكومات العربية حرية الحركة، ولا يستطيع أحـد الوقوف بوجهها. تحدثت بهـذا قبل عـام 1967، قبل النكسة، وكان في ذهني دائماً أن هـذه الدولـة تتحكم بالمنطقة، وفكرت أن الدول العربية تقف ساكنة، وأن إسرائيل سوف تعمل ضد استقلال الجزائر.
عدنا إلى الفندق ورتبت مع البعثة رحلة الطيران الفرنسي من تونس إلى وهران. ثم سافرت إلى بروكسل بناء على تعليمات من وزارة الصحة تقضي بزيارة مكتب منظمة الصحة العالمية، لأن لدى المنظمة، بعد استقلال الكونغو، هيئة طبية من أطباء وممرضين يمكن الاستفادة منها في الكويت. واجتمعت بمسؤولي المكتب، وتم الاتفاق، ووعدوا بالاتصال بنا في الكويت. ووفق التعليمات أيضاً، واصلت سفري إلى لندن ورتبت هناك مع د. بيلي الملحق الثقافي أمر التعاقد مع مختص النظائر المشعة الذي تحدثت عنه واستقدامه إلى الكويت.

إلى وهران

خلال وجودي في لندن اتصل بي الوزير عبد العزيز الصقر وطلب مني الذهاب إلى وهران، لأن البعثة الطبية هناك بدأت تواجه مشكلة. فسافرت إلى باريس وهممت بركوب الطائرة إلى وهران بعد حجز مسبق من باريس إلى وهران، إلا أن الموظفين في مطار أورلي أوقفوني بحجة انني لا أحمل تأشيرة دخول إلى الجزائر! قلت لهم إن الجزائر مستقلة، فلم يبد عليهم أن فكرة استقلال الجزائر وصلتهم بعد. لم يوافقوا على صعودي إلى الطائرة من دون تأشيرة. وحاولت أن اشرح لهم انني ضمن بعثة طبية هناك تقـدم خدمات إنسانية، ولكن شروحي لاقت آذاناً صماء، واقتادتني شرطة المطار إلى غرفـة توقيـف، وأغلقـوا عليّ بابها، فلم أعرف ماذا أفعل. لا سفير لدينا في باريس، ولا أعـرف بمن أتصل، ولم يبق إذن إلا الانتظـار. بعـد ساعـة جاء شخص وقال لي:
«ليس لديك تأشيرة، ومع ذلك سنتركك تذهب إلى وهران»
شكرته، وقلت له أنهم أخذوا جواز سفري، فقال:
«تعال معي»
وأخـذني إلى سيارة شبه عسكريـة، صعـدت شاعـراً بالخوف لأنني لا أعـرف إلى أين يأخـذني، ولا أحـد يعرف أين أنا. ولم أشعـر بالارتيـاح إلا حين أوصلني إلى سلم الطائرة، فنزلت، وقال لي:
«تفضل»
لم أسأله شيئاً، أردت الخلاص فقط من هذه الورطة. وزاد اطمئناني وفارقني خوفي حين وجدت في الطائرة ركاباً. وما أن جلست في مقعدي حتى سارعت إلى طلب مضيفة الطائرة، وأخبرتها انني لم أتسلم جواز سفري ولا حقائبي، فطمأنتني:
«لا تقلق..كل شيء موجود على متن الطائرة» هبطنا في مرسيليا، ومكثنا لمدة ساعة، ثم أقلعت الطائرة الى وهران، وهناك استقبلتني البعثة وانضممت اليها.

أول زيارة

كانت هذه أول زيارة لي الى الجزائر، وسكنت مقابل المستشفى المركزي. في تلك الأيام كانت منظمة الجيش الفرنسي السرية لا تزال تعمل في الجزائر ووهران وعين تموشن، ولهذا أرسلوا معنا مرافقاً من قيادة الجيش الثوري في جولاتنا لرؤية المقاهي على البحر والمرسى الكبير بأنفاقه التي تعبر تحتها البواخر. جلسنا في أحد المقاهي وتناولنا قهوة. كان المشهد جميلا تشعر معه أنك في اوروبا. وفجأة دوى انفجار رهيب، وسألت عن ماهية الانفجار فقيل لي: لا يوجد شيء، هذا من أعمال المنظمة السرية.
وعدت مع الأطباء الى البيت. وبعد ذلك صدر قرار أن تنتقل البعثة الطبية الى أم سعيدة، فركبنا سيارة يرافقنا شخص من الجيش الجزائري، ومررنا بعين تموشن، وحين وصلنا الى بوعباس أوقفنا حاجز درك من سود فارعي الطول سألونا عن وجهتنا. فقلنا لهم اننا متوجهون الى أم سعيدة. وتحدث معهم د. توفيق الترك بالفرنسية وأفهمهم أننا بعثة طبية انسانية، فتركونا نمر.
وصلنا أم سعيدة، فاذا هي في منطقة صغيرة مهملة في أحد الوديان. واتفقنا مع أحد المسؤولين هناك على قيام البعثة بتقديم المساعدات لأهالي أم سعيدة، وقفلنا راجعين الى بوعباس، وهناك أوقفنا الدرك أنفسهم وسألونا للمرة الثانية عن وجهتنا، فقلنا هـذه المرة الى وهران.

نهاية المهمة

في وهران ودعت البعثة لأنني أنهيت مهمتي، ولكن قبل أن اغادر جوا الى الكويت عن طريق باريس فلندن، أخذوني في جولة استطلاعية لرؤية أماكن شهدت تعذيب الثوار وقتلهم على يد الفرقة الأجنبية Q.A.S. في أحد هذه الأماكن، وهو جبل مرتفع لا تزال الحبال موجودة بين صخوره، قالوا لي انهم كانوا يأتون بالثائر الى هذا المكان ويهددون بإلقاء أولاده من فوق الجبل اذا لم يعترف. واذا كان الثائر امرأة، يقيدونها في صندوق مكهرب فيه أسلاك موصولة بكل أعضاء الجسد، وما هي الا صعقة أو صعقتان وتموت المرأة. كانت ذاكرة هذه الأمكنة التي تحتفظ بقصص تعذيب وحشي من هذا النوع تبعث في النفس الخوف الشديد. لم أستطع مواصلة الجولة، وطلبت العودة الى البيت. وفي طريق العودة أوقفتنا سيارة مسلحة عن بعد، فتحدث مرافقي مع جنودها باللغة الفرنسية وهو منبطح على الأرض، الى أن أقنعهم بحقيقة هويتنا ومهمتنا. وواصلنا طريق العودة. وخلال مرورنا على طول الساحل، شاهدنا الكثير من السيارات الخالية التي هجرها أصحابها، وعلمنا أن هؤلاء من أعضاء المنظمة السرية الذين ارتكبوا فظائع القتل والتعذيب، وسارعوا الى الهرب الى فرنسا بعد استقلال الجزائر خوفا من انتقام الجزائريين منهم.

مشكلة جديدة

بعد عودتي الى الكويت بشهرين حدثت مشكلة أخرى في الجزائر، أرادوا نقل البعثة من أم سعيدة إلى عين تموشن التي تبعد ساعة عن وهران. وطلب مني الذهاب وحل هذه المشكلة. وصلت إلى وهران، ثم إلى عين تموشن للتفاوض مع المسؤولين هناك والسماح للبعثة الطبية بالعمل في هذه المنطقة. وحول طاولة التفاوض، أخرج المسؤولون مسدساتهم ووضعوها على الطاولة ترحيبا بنا بدل الأقلام والأوراق. لم يكونوا موظفي هيئة صحية بل ضباطا في الثورة. واتفقنا معهم، وعدت إلى الكويت.
هذه الزيارات المكوكية كانت في الأشهر الأولى من انتصار الثورة، ووسط غبار لم ينجل. بعد، وتسارع في التنظيم وضبط الأمـور بعـد رحيل الفرنسيين. إلا أن زيـارتي التي حدثـت في عام 1964 كانت فـي جو أكثر هدوءاً وتنظيمـاً، كانـت لحضـور حفـل ذكـرى استقـلال الجزائـر.

ذكرى الاستقلال

دُعي إلى الحفل رئيس مجلس الأمة آنذاك عبدالعزيز الصقر والشيخ صباح الأحمد الجابر وزير الخارجية، بالإضافة إلى عضوي مجلس الأمة جاسم القطامي ومحمد الرشيد، وحضرت ممثلا لوزارة الصحة. ونزلنا في فيلا تابعة للحكومة.
ذهبت للاطمئنان على البعثة الطبية في عين تموشن، ثم أخذونا منذ اليوم الأول لوصولنا لحضور الاحتفال الأول لقراءة الفاتحة على أرواح الشهداء، وكان الرئيس أحمد بن بيلا حاضراً، ويقف خلفه هواري بومدين. فملت على جاسم القطامي الذي كنت واقفاً بجواره وقلت له:
«أنظر في عيني بومدين.. كأنه يريد أن يخلع بن بيلا ليجلس مكانه!».
فاستبعد القطامي الفكرة:
«لا.. غير ممكن».
بعد انتهاء الاحتفال ذهبنا إلى مقبرة الشهداء تحت سماء غائمة وممطرة، فقرأنا الفاتحة، ثم أخذونا إلى حي من أحياء مدينة الجزائر شهد معارك ضارية في أيام الثورة مع المستعمرين الفرنسيين. كان هذا الحي ملجأ للثوار يتميز بأزقة ضيقة جداً، وكانت النسوة يطلقن زغاريد، كما أخبروني، حين يدخل الفرنسيون الحي لتنبيه كل البيوت إلى أن الفرنسيين دخلوا، وعندها كان الثوار يحاصرون الداخلين ويقتلونهم.

حرب 67

لم تكن مساهمتنا الطبية في الجزائر فريدة من نوعها، بل ظل هذا النهج ثابتا لدينا، وهو ما اعتبرناه دائما واجباً من منطلق إنساني ومن منطلق انتمائنا العربي أيضاً. فمع اندلاع حرب عام 1967 أنشأنا غرفة عمليات في مستوصف الشويخ، وبدأنا بجمع التبرعات وتشجيع الناس على التبرع بالدم لإرساله إلى سوريا ومصر والأردن. وخلال حرب اكتوبر 1973 حين أرسلت الكويت قوات للمشاركة في القتال، أقمنا غرفة عمليات استعدادا لأي طارئ يستوجب تقديم المساعدات. وتم إرسال أطباء إلى سوريا، لأن مصر لم تكن بحاجة إلى أطباء.
وظلت علاقاتي بالجزائر خاصة بالخدمات الطبية. وعرفت بعد ذلك شخصيات جـزائريـة مثل جميلة بوحريد حين زارت الكويت، وعرفت رئيس الـوزراء الشـاذلي بن جديد في السنوات اللاحقة.

تنافس غير شريف

قلت أنني لم أبق في منصب مدير مكتب الوزير الا سنة واحدة، ونقلت بعـدها الى وظيفة مدير اداري في وزارة الصحة. جزء من الأسباب، وهي متشابكة ومتعددة، يرجع الى جو المنافسات غير الشريفة التي عملت على اجهاض محاولات التطوير التي تواصلت منذ عام 1962 وحتى عام 1967، فالكل كان يسعى الى الوظيفة والمنصب والكل يريد أن يكون مسؤولا ويحصل على ترقية من دون أن يمتلك كفاءة تؤهله لشغل المنصب الذي يبحث عنه. أما السبب المباشر، فلم يكن له علاقة بأمور وزارة الصحة، وهنا المفارقة، بل بسبب موضوع سياسي ذي علاقة بمجريات انتخابات أول مجلس أمة في عام 1962.
في هـذه الانتخابات نجح عبـد العزيز الصقر عن منطقـة جبـلـة، وسقط عبداللطيف ثنيان الغانم في منطقـة كيفان. وتسلم الصقر رئاسة مجلس الأمـة. ولأن الغانم يعرف أنني أقـرب شخص الى عبدالعزيز الصقر، اقتنع أنني سبب سقوطـه في الانتخابات. صحيح أنني عملت معه لانجاحه، ولكن لم تكن لي يد في سقوط الغانم. ومـع ذلك ما أن تـولى وزارة الصحة بعد الانتخابات حتى لمح الى أنه لايريدني في مكتبه. كان يعتقد أنه بهذا يـؤذي الصقر عن طريق ايذائي.
لم أكن في أي يوم من الأيام من الطامحين الى تولي المناصب القيادية وسط التدافع والتزاحم والتنافس، بل فضلت حين عرض عليّ منصب معاون مدير دائرة الصحة في عام 1958 رفضت هذا المنصب آنذاك ادراكا مني أنني غير قادر على العمل بالشكل الذي يريده الآخرون، والانصراف الى تعزيز قدراتي الادارية بالالتحاق بدورات تدريبية خاصة في بريطانيا. وحين كنت مديرا لمكتب الوزير عبد العزيز الصقر، اقترح محمد النصف تعييني وكيلا للوزارة في وقت لم يكن فيها وكيل، وما أن علمت بها، ذهبت الى الوزير وقلت له:
«هناك شخص أكفأ مني يستحق هذا المنصب هو الملا يوسف الحجي»
وتم تعيين الحجي كأول وكيل لوزارة الصحة. ورغم وجود درجة في الميزانية لتعييني وكيلا مساعداً، ذهبت اليه مرة ثانيـة وأخبرته أن سعد الناهض أحق بهـذا المنصب مني. وتمسكت برأيي. وتم تعيينه.
على هذه الأرضية، وحين لمست من تلميحات الوزير الجديد عبد اللطيف ثنيان الغانم أنه يغلق الطريق أمامي، وإن درجـة الوكيل المساعـد التي استحقها حجبت عني ذهبت إليه وقلت له:
«لايهمني المنصب بل خدمة الوزارة ووطني»
ولكن، وهذه هي نقطة الإنقلاب في الموقف، جاءت لحظة درامية في عام 1968 قبل مغادرة عبد اللطيف ثنيان الغانم منصبه في الوزارة بشهر، حين أرسل خطاباً إلى مجلس الوزراء يطلب فيه تعييني وكيلا مساعداً للشؤون الصحية!
دهشت بالطبع، ولكن سروري بهذه المبادرة كان أكبر من الدهشة أو علامات الاستفهام، فذهبت إليه أشكره، وهنا نلت تقديراً يتجاوز ما يأمله أي صاحب ترقية عادية؛ كان الرجل رغم تلك الظنون العابرة في خضم الإنتخابات، والتي لاتعلق لها بحسن الأداء والكفاءة في العمل، رجلا يعرف الرجال جيداً، فقال لي بلهجة لاتحمل أي رنة عتاب حتى:
«أردت تعيينك لأنني رأيت عملك»
وكانت هذه العبارة كافية لكي تمحو كل شائبة من الشوائب في العلاقة بيننا، وتؤكد أن الصحيح يظل صحيحاً حتى وإن غيبته الظنون والهواجس وحتى الإشاعات أحياناً.
لاأعرف بالضبط سبب انقلاب موقف الغانم تجاهي، اللهم إلا إذا كانت الخلافات الشخصية بينه وبين عبد العزيز الصقر ظلت في مكانها وزمانها، ولم تتحول إلى محرك يعمل في كل اتجاه ويفقد الإنسان حس التمييز بين المصلحة العامة والخاصة. أو أن نضوج التجربة البرلمانية والظروف التي تلت الإنتخابات قاربت بين الرجلين، فقدما استقالتهما في أول مجلس أمة سوية، وكان سليمان المطوع متحمساً أيضاً لتقديم استقالته حين سقطت الوزارة.

تزوير الانتخابات

وجاء هـذا على خلفيـة موضوع تزوير الانتخابات. لم أكن طرفاً في الموضوع، ولكنني كنـت شاهـداً، وحضرت الإجتماعات الإحتجاجيـة على التزوير بـين كـل الأطراف الوطنية مثل د. أحمـد الخطيب وجاسم القطامي. وتم إصـدار بيـان رد فيه الحاضرون على التزوير وحددوا الأشخاص الذين شاركوا في التزوير، ومنهم الخبير العشماوي. ومن أعد البيـان ثلاثة، أنا وعبد الله النيبـاري وراشـد الفرحـان.
وأذكر أن اجتماعاتنا كانت في ديوانية يوسف إبراهيم الغانم في منطقة الشويخ، وهناك وصلتنا تهديدات من الحكومة بأنها ستقوم بالرد بالقـوة على أي تحركات، ولكنها تراجعـت، وتم تسريـح العشماوي من إدارة الفتـوى والتشريع. ولكن لم يتم حل المجلس، وأكمل دورته البرلمانية حتى عام 1967.
في هـذه الظروف كانت بداية صعودي في السلم الوظيفـي، وانهماكي في الحياة السياسية العامـة معاً، من دون أن يطغى جـانب عـلى آخـر، بل كانا يتكاملان في الحقيقـة. وانتقلت بعد ذلك إلى منصب وكيل مساعد للشؤون الإدارية والمالية حتى عام 1973. في هذا العام تقاعـد وكيل الوزارة الملا يوسف الحجي، واستقال سعد الناهض وذهب إلى البنك العقاري، وأصبح منصب الوكيل شاغراً، وبـدأ عـدد من الأشخاص يسعون إلى هذا المنصب. يومها كان الوزير هو عبد الرزاق العدواني، فقلت له أنني الأقـدم بين المتقدمـين والأكفـأ لهذا المنصب والأحق به وظيفياً ولن أتنازل عن حقي.
جـوبـه تقدمـي بـاعتراضـات مـن بعض الأطباء الكويتيين بحجة أن من يشغـل هـذا المنصب يجب أن يكون طبيباً! وقلت للوزير العـدواني رداً عـلى هذه الحجـة، إنني درسـت إدارة المستشفيات وتدربـت عليها في انكلترا، وأكملت عـدة دورات في هـذا المجال، وليس هناك شخص أحق منـي بهذا المنصب. أحـد الذين لم يوقعـوا على مذكرة الأطبـاء الإعتـراضيـة كان د. عبد الرحمن العوضي.
أمام هذا اللغط الذي اختلطت فيه دوافع غير مهنية بدوافع المطامح الشخصية، أوصلت رسالة إلى ولي العهد رئيس مجلس الوزراء آنذاك الشيخ الراحل جابر الأحمد الصباح، فتحدث مع الوزير وأصدر قراراً بتعييني وكيلا للوزارة. منصبي الأخير في جهاز الدولة حتى عام 1976، وهو عام استقالتي.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 22-09-2011, 11:01 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

كتاب السدرة بين الأسرّة البيضاء ( 9 )
لقد ربطت بـين موضوع استقلال الجزائر ووجـود إسرائيل، لأن هـذه الأخيرة تشكل قـوة في المنطقـة، وأعطاها تفكك الحكومات العربية حرية الحركة، ولا يستطيع أحـد الوقوف بوجهها. تحدثت بهـذا قبل عـام 1967، قبل النكسة، وكان في ذهني دائماً أن هـذه الدولـة تتحكم بالمنطقة، وفكرت أن الدول العربية تقف ساكنة، وأن إسرائيل سوف تعمل ضد استقلال الجزائر.

في أي منصب يشغله الانسان، وبخاصة اذا كان منصباً قيادياً، سيكتشف أنه منخرط، سواء أراد أم لا، في شبكة علاقات مع العالم المحلي والخارجي معاً. هذا درس يتعلمه كل من خدم في مؤسسات الدولة بوضوح أكثر من ذلك الذي يظل بعيدا عن نقط التقاطع. وقد خبرت جيدا معنى هذه النقط في عدة مناسبات، سواء كانت مناسبة الاصطدام بالواقع الاجتماعي الذي نعيش بين ظهرانيه، أو مناسبة الاصطدام بالعالم الخارجي الذي يعيش بين ظهرانينا، أو مناسبة الاصطدام بواقع مقلوب في مجال عملك يدفعك الى أن تعيد ايقافه على قدميه.
من المؤكـد أن عمـلا انسانياً مثل عملي في وزارة الصحـة ما كان لـه أن يكون متاخماً لمثل هذه الاصطدامات الا بشكل غير مباشر، الا أن عالمنا كما يبدو تتداخل فيه الأشياء بطرق لا يمكن احتسابها أو توقعها. أضف الى ذلك أن موقعك الوظيفي يحدد مدى هذا الاشتباك. فحين كنت أتولى الشؤون الصحية أو الادارية كوكيل مساعد كان مدى الاشتباك أضيق مما سيكون مع موقعي كوكيل وزارة. فهنا تصبح بطبيعة هذا الموقع على مشارف مسؤوليات أوسع، وتتساقط عليك سهام أكثر.

مفاجآت في المهنة

فكيف لك أن تتخيل مثلا أن تكون ذاهباً في مهمة تطعيم لحماية الناس من وباء، فتفاجأ بمن يشهر في وجهك مسدسه مهدداً؟ وكيف لك أن تتخيل أن سفراء بعض الدول يحاولون أن يفرضوا عليك ارادتهم ومصالحهم غير عابئين بك وبمصالحك؟ وكيف لك أن تلمس انعدام الكفاءة الادارية وعجز الأطباء في مجال تتعلق به مصائر وحياة الناس ولا تقدم على تصحيح الادارة وحل مشاكل الأطباء؟
هذه مجرد حالات نموذجية كان عليّ أن أختبرها في وقت تتراكم فيه محفـزات التطـوير من حولك وفيك، ولا تنتظر تأجيلا، أو لامبالاة أو اهمالا، مع كل ما توفر لك بعد جهد وصبر من وعي وقدرات على مر السنين.

مسدس في الوفرة

سأتحدث الآن عن تجربة مواجهة المسدس في الوفرة فجراً ونحن نقوم بعملنا لحماية الناس من وباء يمكن أن يحصد أرواح الالاف. بدأ الأمر مع ظهور حالتي جدري في منطقة صيهد العوازم، وهي منطقة يسكنها خليط من كويتيين ومقيمين في مساكن بدائية كانت تطلق عليها تسمية العشيش.
كان هذا في عام 1968. وحدد الأطباء المصدر في مناطق لم يشملها التطعيم ضد مرض الجدري، واقترحوا القيام بحملات تطعيم في المناطق الخارجية، وتقرر أن نذهب فجراً لتطويق هذه المناطق. نتجمع يوميا عند مستشفى العظام، أطباء وممرضين وممرضات، وأنا معهم، ثم ننطلق. وعند بزوغ ضوء الفجر نمسك بكل خارج من منزله ونقوم بتطعيمه.
كان الأمر أشبه بعملية صيد، لأن سكان هذه المناطق لم يكن التطعيم بالنسبة لهم أمراً مفهوماً كما أصبح مفهوما الآن، بل كان فعلا مشكوكا في دوافعه، ان لم يكن يعتبر اعتداء على الأفراد وانتهاكاً لخصوصياتهم.
ثم انتقلنا الى الوفرة، وهي في تلك الأيام منطقة حدودية نائية ومنعزلة. كان معي خالد الدهيم الذي عمل صيدلانياً قبل أن يصبـح مسؤولا عن المستوصفـات. وطلبت من العاملين معي أن يأخذوا حذرهم في هذه المنطقـة، فهي ليست مثـل الفروانية، وغالبية سكانها يدينـون بالفكـر الوهابي.
طوقنا المنطقة وبدأنـا بتطعيـم كل من يظهر. وبينما نحن مشغولون جـاء أحدهم واقتـرب منـا وسألني عن معنـى ما يحدث، فقلت اننـا نقـوم بحملـة تطعيـم، غـير ملـق بالا الى ما اذا كان قد فهم ما نقوم به بالضبـط. وفوجئت به يشهر مسدسه مهدداً ويعلن: «لن أسمح لكم بالتقدم، هذه المنطقة تتبع السعودية ولا شأن لكم بأهلها».
وتقـاطر علينا حشـد من الناس من الواضح أنه لـم يكن متفرجاً بل متضامنـاً مع صاحب المسـدس.
عقدت الدهشة لساني، ثم تداركت الأمر بتقديم ايضاح بسيط: «نحن جئنا للقيـام بعمل انساني وانقـاذ أهـل المنطقـة من مـرض الجدري.. كل الموضـوع هـو تطعيـم».
وأضفت وأنا أراه يشدد قبضته على مسدسه: «اذا أرت قتل أحد، فأنا أنوب عن جماعتي، فاقتلني».
توقعت أن يحرجه هذا المنطق البسيط، الا أنه ازداد غضباً كأنه وجد في قولي تحدياً. وهمهمَ الحشد من حوله.

{ابعد عن الشر}

لمعتْ في ذهني فكرة اللجوء الى أحد مخافر الشرطة الكويتية، الا أنني خشيت من وقوع صدام، فأوقفت حملة التطعيم.
حـدث هذا في منطقة الوفرة وليـس المنطقـة المحـايـدة، والذيـن تصـدوا لنا قالـوا إنهم سعوديـون!
رجعنا الى الكويـت ومعي خالد الدهيـم، وأبلغت الوزير عبدالعزيز الفليج بمـا حدث، وسألته: «ما هـو الحـل؟ ومـاذا نفعـل؟»، فكان جوابه: «ابعد عن الشر»!
قلت: «ولكن إذا استفحل مـرض الجدري في البلـد فسيقضي علينا، ولدينا حالتان حتى الآن، واتصلنا بمنظمـة الصحة العالمية وطلبنا خبيراً، فأرسلوه وشخّص الحالتين عـلى أنهما حالتا جدري!».
«ابعـد عن الشـر»!
وابتعدنا، أو ابتعد الشر عنا، لأننا لم نستطع دخول الوفرة، ولكننا احتوينا العدوى، فلم تتجاوز الاصابة الحالتين المذكورتين. وأصدر الوزير تعليماته بإنهاء الحملة.

مواجهة مع سفير

في مناسبة أخرى لم يكن من تصدى لنا ولعملنا في وزارة الصحة من سكان الوفرة أو صيهد العوازم، بل السفير البريطاني في الكويت. ولم يحدث هذا في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين حين كانت الشمس تغيب عن مستعمرات إمبراطوريته، بل في العام ذاته، عام حملة الجدري التي أوقفها تهديد بإشعال معركة بالمسدسات في منطقة نائية، أي في عام كانت فيه بريطانيا تسحب آخر ظلال أساطيلها عن منطقتنا الخليجية تحديداً.
من مكاني كوكيل مساعد للشؤون الصحية كنت أشجع وجود مدارس طبية متنوعة في الكويت تأتينا من أي دولة لديها خبرات صحية، بما في ذلك خبرات أطباء روس وتشيك وبولنديين، واشجع وجود تنافس بين القدرات والخبرات المختلفة لأن في كل هذا مصلحة للمرضى. ولم يخطر ببالي أن سعينا للحصول على الأفضل والأحدث في مجال الطب سيثير حساسية أحد في هذا العالم، إلا حين زارني في الوزارة السفير البريطاني ذات يوم ليسألني عن الهدف من إحضار أطباء روس إلى الكويت!
كان الأمر سيكون مفهوما لو جاء يسأل عن الهدف من استقدام أساطيل حربية أو سفن فضاء روسية في أجواء الحرب الباردة بين عملاقين يراقب أحدهما حركات الآخر على مدار الساعة والكرة الأرضية، ولكن سؤاله عن هدف استقدام أطباء يرفدون مستشفياتنا بخبراتهم بدا أشبه بمزحة ثقيلة.
كان جوابي: «لا يـوجـد أي هدف، فهـؤلاء أطباء بسـطـاء يذهـبـون الى أبعـد الأماكـن لعـلاج المـرضى».
استاء السفير من كلامي كما بدا من تعابير وجهه، ومن لهجته الجافة حين استأذن وخرج من دون تعليق.

مدارس متنوعة

كان أطباء أوروبا الشرقية يبرهنون على قدراتهم، ولم استطع آنذاك استقدام غير البولندي «زيليسكي». وأصبحنا نحضر أطباء من مصر، ولولا هذا التحرك نحو تنويع الطواقم الطبية لأصاب الخلل الخدمات الصحية في الكويت.
في هـذا العـام نفسه ذهبت مـع د. عبدالمنعم أبو ذكرى الى القاهرة وجئنا بعشرين طبيباً. ولم يزرني هذه المـرة سفير من أي نـوع كان، بل زارني نائـب كويتي محترم كبير السن متـدين لا علاقة لـه بالحرب البـاردة، بل بنوع آخر من الحـروب ربما هي الحروب الصليبية الغابرة. وسألني النائب: «لمـاذا تأتـون بأطباء مسيحيين أقبـاط؟».
قلت بلطف: «الطب مهنة انسانية لا نفرّ.ق بين من يمارسها».
قـال: «المسلم أحسن».
عندئذ سألته: «اذن قل لي كيف تتعالج في الخارج لدى أطباء كلهم مسيحيون؟».
لم يقل شيئاً، وأظنه لم يستطع الاجابة على سؤالي حتى اليوم، لأنـه لم يعـد الى زيارتي.
من عـاد الى زيـارتي مرة أخرى كان السفير البريطاني ذاتـه، وهذه المـرة ليسأل عن أمر سبّبَ له قلقاً أيضاً كما كان الحال في المرة الأولى حتى كدت احسبه سفيراً للشؤون الصحية في الكويت.

العوضي وزيراً

نحن الآن في عام 1975، وقد مضى عليّ في منصبي وقتٌ كاف ليصبح للأفق الذي فتحته في التنظيم والتطوير أصداء في عدة اتجاهات، داخل الوزارة وخارجها. وتسلم الوزارة د. عبدالرحمن العوضي الذي كنت وظيفيا أعلى منه درجة، وأشيع يومها أن صعود العوضي بهذه الطريقة قد خلق شيئا من الحساسية لدي، وأنني قد أنتقل الى وزارة أخرى. ولم يكن لهذه الاشاعة اساس من الصحة. أنا أدرك أن منصب الوزير منصب سياسي، وأنا موظف قيادي في هذه الوزارة وأنظر الى مصلحة بلدي قبل أي شيء آخر. ولم أفكر أبداً في يوم من الأيام أن يكون المركز هدفاً لي. وظل تفكيري منصباً على الطريقة المثلى لتحسين الأوضاع وخدمة المواطنين.
كان لدينا نظـام متفق عليه منـذ أيام د. ايريك بيري، أساسه أن المعـدات الطبيـة التي نستخدمها أو نستوردها يجب أن تكون بمواصفات انكليزية. وانسجاماً مع فكرة التنويع والاستفادة من مختلف المعدات المتطورة، ومن واقع مسؤوليتي، أصدرت قراراً الى قسم الامدادات باعتماد المواصفات الدولية.
طلب السفير مقابلتي، وجاء الى مكتبي، وقبـل أن يستقر به المقام بادرني بالسؤال:
«لماذا تم تغيير المـواصفات المتفق عليها منذ أيـام د. بيري، ولماذا تحولت الى مواصفات دولية؟».
لم يكن السؤال غريباً فقط، بل كان تدخلا من قبل سفير دولة جاء الي مباشرة كأني موظف بريطاني خاضع لسلطته، فقررت أن أكون أكثر حزماً.
وقلت له:
«أود ان أقول لك شيئاً بصفة شخصية، لأنني لا أقبل أن يسألني أحد من خارج بلدي لماذا قررت هذا أو ذاك، ولكن على مستوى شخصي أقول لك: أولا، توجد دول لديها امكانات ومعدات متطورة أكثر من بريطانيا. فاذا كانت المواصفات متوافرة في بريطانيا نأخذها منكم، ولكن أن أتقيد بمواصفات بريطانية.. اعذرني.. لا. ثانياً، لا يجوز أن تناقشني في هذا الشأن، يجب أن تتوجه الى وزارة الخارجية. لست مستعداً للاستماع الى أي شخص من خارج الكويت يأمرني، أو يعترض على قراراتي»
انزعج بالطبع، الا أني خففت ثقل الموقف عليه رغم أنه كان على خطأ بيّن وكنت على حق تماماً، فقدمت له الشاي والقهوة. فاكتفى بالشكر تأدبا وغادر.

من أراد إحراجي؟!

حتى الآن لم يغادرني الشعور بأن زيارة السفير البريطاني كان وراءها أحد ما. لا أريد أن أتهم أحداً، لكنني أدرك الآن، وفي ضوء ما سأرويه من تجارب مررت بها، أنّ من أرسل السفير ليس بعيداً عن موقع القرار. لقد أراد وضعي وهو من أعنيه في موقف محرج، لكنني لم أعر الأمر اهتماماً لأنني أعرف خفايا الموضوع. وواصلت العمل بنظام المواصفات الدولية القائم حتى الآن.
نحن نأخذ من المواصفات، سواء كانت سويدية أو دانمركية أو نرويجية أو ألمانية أو فرنسية، ما هو في مصلحة بلدنا. هكذا كان شعوري وتوجهي في منصبي، وكذلك كان الأمر بالنسبة الى الوكلاء الذين سبقوني. وامتد هذا التوجه ليشمل اقامة علاقات مع مدارس طبية مثل المدرسة الفرنسية والسوفيتية عبر الاتصالات المباشرة أو عقد المؤتمرات. وأخص بالذكر المؤتمر الطبي الفرنسي- الكويتي الذي عقد في الكويت في عام 1974، والذي توصلنا فيه إلى عدد من القرارات والتوصيات المفيدة لنا ولهم، وتابعناها بزيارة فرنسا. نحن لم نكن نريد القيام بتظاهرات سياسية فقط بل نسعى إلى تحقيق كل ما تعهدنا به.
قـد تكون وراء الاعتـراض عـلى المواصفـات الدوليـة أمـورٌ شخصية، ولكنني شعرت أن العوضي هـو من أرسل السفير. ربما سألـه السفير عن تغيير نظـام المواصفات، فقال له ان المسؤول هـو برجس البرجس، بينما كان من المفترض أن يتصـدى له بوصفه وزيراً. لقد كان يرمي عليّ أموراً كثيرة يـود التخلص منها. وأنـا لدي الكثير ليشغلني بعيداً عن هـذا النـوع من المناكفات.

عرقلة التطوير

كنت صريحاً منذ بداية تسلمي مهمة وكيل الوزارة في توضيح الصعوبات التي تواجهها وزارة الصحة كما بدأت ألمس تفاصيلها. قبل ذلك كانت محاولات التطوير تتعرض للإجهاض، بدءا من عام 1962 وحتى عام 1967. مثلا حين دعونا إلى ان يكون لكل مستشفى ميزانيته المستقلة، ولكل مركز عضوين من أهالي المنطقة في مجلس إدارة المستشفى، فيستمع إلى شكاوى المواطنين ويلبي احتياجاتهم ويعمل على تطوير الخدمات الصحية، لم يتحقق شيء من هذا وسط التنافس الشخصي، وبحث الكل عن المنصب والوظيفة.
هذه المرة، ومن موقعي، كنت مصمماً على عمل شيء جدي، فأوجدت نظاماً يربط وينسق العمل بين المستشفيات والمستوصفات، ويجعلها مكملة لبعضها البعض من أجل زيادة فعالياتها، وجاء هذا بعد جولة على الأرض انطلاقاً من مبدأ نؤمن به جميعاً، وهو أن المشاكل التي يعاني منها المواطنون في ما يتعلق بالصحة وقضايا المجمعات والمراكز والمستشفيات، لا تحل من وراء المكاتب إطلاقاً، وإنما في أماكنها وبالمواجهة الشخصية مباشرة.
إذا لم يعايش المسؤول المشاكل لا يمكنـه أن يضع لهـا حلولا جذريـة. لهـذا قـررنا أن ينتقل الجهاز التنفيذي والفنـي في الوزارة كله إلى الوحـدات والمستوصفات ليطلـع عن قـرب على ما يجري فيها.

نظام اللامركزية

ونتيجة لذلك جاء تطبيق نظـام اللامركزية خطوة سباقـة، فأصدرت تعميماً على مديري الإدارات والمستشفيات بوضعه موضع التنفيذ. ويقضي هـذا النظام بتخـويل مديـري الإدارات، كل في ما يخصه، صلاحية البت في جميع الأمـور التي ترفع إليهم من الأقسام التابعـة لهم، مـع استثناء ما يجب رفعه إلى الوكيل أو الوكيل المساعد المختص، أي مـا تعلق منـه بسياسات الوزارة العامة، وما يتطلب إقـرار مبدأ جديـد لم يسبق إقراره، ومـا يتطلب اتخـاذ قرار أو موافقة من الوزيـر أو الوكيل أو الوكيـل المساعد المختص.
وكانت رسالـة جميع العاملين في وزارة الصحـة، مـن فنيين وإداريـين، الإنسانية تقتضي حسن استقبال الجمهور ومعاملته، والعمل على توفير كل ما تتطلبه راحة المرضى ومرافقيهم، وهو ما يعني تلمس رغباتهم والتعرف على مقترحاتهم والعمل على تحقيقها، ما دامـت لا تتعارض مع القانون والأنظمة المرعية.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 22-09-2011, 11:01 AM
الصورة الرمزية bo3azeez
bo3azeez bo3azeez غير متواجد حالياً
عضو مشارك فعال
 
تاريخ التسجيل: Mar 2010
الدولة: ديرة بو سالم
المشاركات: 461
افتراضي

السدرة
(10) التفرقة بين الطبيب الكويتي والعربي ظاهرة عجيبة غريبة

لقد ربطت بـين موضوع استقلال الجزائر ووجـود إسرائيل، لأن هـذه الأخيرة تشكل قـوة في المنطقـة، وأعطاها تفكك الحكومات العربية حرية الحركة، ولا يستطيع أحـد الوقوف بوجهها. تحدثت بهـذا قبل عـام 1967، قبل النكسة، وكان في ذهني دائماً أن هـذه الدولـة تتحكم بالمنطقة، وفكرت أن الدول العربية تقف ساكنة، وأن إسرائيل سوف تعمل ضد استقلال الجزائر.
لاحظت منذ بداية عملي وكيلا أن الوضع في المستشفيات مقلوبٌ ويحتاج إلى تصحيح، وهو ما يعني إحداث انقلاب، هذا ما قررته في ضوء توجيهات ولي العهد الشيخ جابر الأحمد، وتعليمات الوزير عبد الرزاق العدواني، ونتيجة لإيماني بحق ذوي الدخل المحدود والفقراء بالحصول على العلاج المجاني وبمستويات جيدة.
وتبين لي، نتيجـة للإحصائيات التي أجرتها الـوزارة، أن أكثر المتـرددين عـلى العيـادات الخاصة هم من ذوي الدخل المحدود والفـقراء، أمـا الأغنياء والموسرون فهم يلجأون في حالة المـرض إلى أطبـاء الوزارة ومستشفياتها! وهـذه ظاهـرة لافتـة للنظـر وتستحق الدراسـة. فماذا كانت نتيجـة؟
تبين بعد الدراسة والاستطلاع الميداني أن الجهاز الإداري الذي يتولى مهمة تنظيم العلاقة بين الأطباء والمرضى غير كفؤ، وأنه يرضخ لعوامل كثيرة بسبب عدم تمتعه بالإمكانات اللازمة للقيام بمهمته، ومعاملته غير اللائقة للمراجعين، وهذا ما جعل المواطنين يحجمون عن الإقبال على أطباء الوزارة لتلقي العلاج.
واكتشفنا أيضاً أن الهيئة الطبية لم تعد قادرة على تحمل أعباء العمل بسبب سوء الإدارة والتنظيم وقلة الأعداد.

انقلاب صحي

وهكذا كان لابد من أن يشمل الإصلاح الجهاز الإداري بإعادة تأهيله عبر دورات تدريبية، وكل متدرب يفشل يتم نقله إلى مجال آخر، وتعزيز الهيئة الطبية بأعداد جديدة لكي يتمكن الطبيب من العناية بعدد محدد من المرضى يومياً.
كان هـذا انقلاباً بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكن كانت له تبعاته ومشاكله، الشخصية وغير الشخصيـة أيضاً. وربما كان مـا واجهته من عراقيـل لا يتعلق تحديداً بالصراحـة التي كنت أواجـه بها مشكلات الإدارة فقط، بل بالمنطلقات المبدئية أيضاً، الإيمان بالعـدالة والمساواة في مـا يتعلق بالخدمات الصحية والتطبيب وصرف الأدوية، بلا تفرقة بين منطقة وأخرى، ولا تمييز بين مواطـن وآخـر.
كنت أراقب وأتابع بعناية، الندوات الخاصة بعملنا في الوزارة، واسجل ملاحظـاتي، وأقارب الدورات التدريبية للإطباء والإداريين التي حرصت عليها دائماً كوسيلة عملية للنهوض بمستوى عملنا. والاهم من كل هذا انني كنت آخذ بأي ملحوظة أجدهـا جادة ومخلصة، وأعترف بالقصور أينمـا وجدته، كما حـدث في نـدوة الجمعيـة الطبية عن الخدمـات الصحيـة في عام 1974، ولا أتوانى عن تقديم الاقتراحـات التي من شأنها إضـاءة الطريـق أمام الجهات المسؤولـة.
كان العمـل وظل متشعباً في كـل اتجـاه، مـا تعلق مـنه بالجهاز الوظيفـي الذي ألتقـي بأفراده وأتباحـث معهـم في مشاكلهم وأحـوالهم، واطالب بإنصاف المظلومين منهـم، وما تعلـق منـه بنقـد الظواهر السلبية مثـل ظاهرة الواسطـة التي اعتبرتها عاملا مساعداً في تشكيك المواطنين في كفاءة العاملين في جهـاز الدولة، وبعضها يريد منا أصحابها أن نكون أداة لكسر القانون.

التفرقة بين الأطباء

وأخيراً مـا تعلق منها ببعض ما أطلقت عليه الظاهرة العجيبة الغريبة، وهي التفرقة التي لمستها بين الطبيب الكويتي والعربي، التفرقة الدخيلة على تقاليد الكويت العربية الأصيلة المتوارثة عن آبائنا وأجـدادنا في اعترافها بالخير والجميل والمحبـة.
وقد أعلنت صراحة بمناسبـة دورة تدريبيـة للأطـباء في أوائل عام 1976، ان الفروقـات الدخيلة في هذا البلد بين الطبيب وأخيه الطبيب يجب أن تـزول لأن لا فرق بينهما إلا بما يقدمه كل منهما من خير ومحبـة وعناية ورعايـة للمرضى.
كنت اجتهد لتقديم الحلول واقتراح سبل تضـع حداً للظواهر السلبية، وإنصـاف العاملين على اختلاف جنسياتهم، لأنني أعتبر هذا مـبدأ انسانياً، فما بالك إذا كان التمييز والظلـم وتقـديم المصالح الشخصية على المصلحة العامة يحـدث في مضمار عمل إنساني مثـل العمـل الطبـي؟

أمين عام

في أحد الأيام نقل إلي أحد أقارب د. عبد الرحمن العوضي أن الشيخ سعد رحمه الله حذره مني حين تسلم وزارة الصحة وقال له:
«خـذ حـذرك مـن بـرجـس البرجس فهـو الأمين العام للجنـة المركزية للحـزب الشيوعـي في الخليج»! وأنا استبعد أن يكون الشيخ سعد قال هذا الكلام.
لا أعرف إن كان الشيخ سعد مازحاً أم جاداً، إلا انني أعرف أن صحيفة باكستانية كتبت شيئا من هذا القبيل، فاتصلت بالسفير الباكستاني وأوضحت له أنني أعمل في مجال الصحة ولست سياسياً، وما زلت أستخدم سيارة من طراز قديم!
وفي ظني أن أمثال هذه الأقاويل في تلك الأيام كان يشيعها، ويحرص على إيصالها إلى آذان المسؤولين، أشخاص لا يعجبهم أن تصد وساطتهم غير المحقة لتمرير توظيف مقرب أو إرسال أحدهم لعلاج في الخارج، او تقف في وجه متضرر من تشكيل لجنة مناقصات. ولا شيء أسهل من الاتهام تطلقه أشباح لا تعرف لها وجها ولا مكاناً حريصة على شيء واحد فقط هو أن تزيحك عن منصبك وتحتل مكانك.

عام الاستقالة

وأصل إلى عام 1976، العام الذي تقدمت فيه باستقالتي. كان الانجاز هو الغاية طيلة مدة عملي، واكتسبت روحية السعي لتحقيق المزيد من الانجازات زخماً مع زيادة المتطلبات، ان على صعيد الحاجة الى تحديث الجهاز الاداري أو على صعيد تأسيس مستشفيات جديدة مثل مستشفى الأمراض السارية الوحيد من نوعه في الشرق الأوسط، أو على صعيد التطور الطبي مثل اجراء أول عملية زرع بطارية ذرية لتنظيم عمل القلب في الكويت، وكانت الأولى في منطقة الشرق الأوسط.
لم تكن المتاعب التي تنشأ من حولي: تخلف التشريعات عن ملاحقة متطلبات تأمين استقرار نفسي للعاملين، وتذمر الجهاز الوظيفي المتضخم من متطلبات التدريب واعتماد معايير الكفاءة والحاجة، وما جرى مجرى هذا، تعيق عملي أو تدفع بي الى اليأس من اصلاح الأحوال، ولكن متاعب جديدة بدأت تنشأ مع تعيين د. عبدالرحمن العوضي وزيراً مصدرها الوزير ذاته، لا أي جهة أخرى.
وهنا احتاج الأمر مني الى وقفة.
في هذا العام سافر الوزير العوضي الى جنيف لحضور مؤتمر الصحة العالمي. ونشر أحد الصحافيين في جريدة «الرأي العام» سلسلة مقالات موضوعها وزارة الصحة ووزيرها، وكانت هذه السلسلة هجوما نقديا عنيفاً. فأرسلت بطلب الصحافي كاتب المقالات وقلت له ان ماكتبته غير صحيح، ودافعت عن العوضي. وحين عاد الوزير من السفر فوجئت به يقول لي: «لماذا لم تتخذ موقفاً حازماً في الدفاع عن وزارة الصحة؟».
أجبت: «اتخذت موقفاً ودافعت عن الوزارة، ولم تكن بيدي حيلة، لأن صاحب الرأي العام عبدالعزيز المساعيد رجل ذو نفوذ».
لم يقنع جوابي العوضي، وأحس أنني تواطأت مع الصحافي، أو هكذا قيل له، الا أنني أدركت من لهجته وعدم رغبته بالاقتناع أن هناك من يعمل في الخفاء للايقاع بيني وبينه لابعادي عن منصب الوكيل.
في تلك الأيام كان معظم اصحاب شركات الأدوية ضدي، لأنني كنت أشدد على تشكيل لجنة للمناقصات تقدم عطاءاتها مختومة، وتناقش العطاءات وترسي المناقصة بحضوري في اللجنة، ولا توجد أي فرصة لتسريب أخبار المناقصة والعروض المقدمة.
وبعد فترة أصبح العوضي يتدخل ويتصل بالأطباء بنفسه. اعترضت بالطبع وقلت له أن هذا لا يجوز، فأنا المسؤول عن الجهاز الوظيفي في وزارة الصحة، أما أنت فمركزك سياسي. وأغضبه قولي، وحدث سوء تفاهم بيننا. وامتد سوء التفاهم في الأيام اللاحقة وبدأ يشمل جميع جوانب العمل تقريباً، حتى حين رشحت محمد الحساوي لمنصب وكيل مساعد لم يقبل به لأنني من رشحه. وصار التفاهم بيننا يكاد يكون معدوماً.
سافر العوضي، وتولى عمله بالانابة وزير العدل عبدالله المفرج، فقدمت له استقالتي في 12/6/1976 وطلبت منه ارسالها الى ولي العهد آنذاك الشيخ جابر الأحمد.
قلت في استقالتي الموجهة الى سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء: «لما كنت أعتبر نفسي مجنداً في خدمة المصلحة العامة لبلدي منذ أكثر من 25 عاماً، ولما كنت أمضيت طيلة تلك السنوات أعمل مع زملائي بروح ايجابية خالصة لا تشوبها أي مسائل شخصية، ولما كنت منذ عام ونصف العام قد حاولت بكل طاقتي أن أتعاون مع زميلي في العمل سعادة وزير الصحة الدكتور عبد الرحمن العوضي، ولما كنت قد وصلت الى قناعة نهائية بأن استمرار تعاوني معه لا يمكنني من متابعة الخدمة العامة بروح خالصة من أي دافع سوى دافع خدمة المصلحة العامة. لذلك كله فأرجو من سموكم أن تفتح لي مجالا آخر أخدم فيه بلدي بنفس الروح المخلصة المتفانية، وأن تأمر بنقلي الى موقع آخر من مواقع الخدمة العامة. لدي ايمان مسبق بأن نظرتكم الثاقبة للأمور سوف تفتح أمامي المجال الذي أريده».
أرسل الشيخ بطلبي وسألني عن سبب الاستقالة، فقلت: «بدأت تتولد خلافات في الوزارة، ويمكن ان يكون عبد الرحمن العوضي على صواب وأنا على خطأ. واستقالتي تفسح له المجال لقيادة الوزارة لأنه أكثر كفاءة مني».
لم يخف على الشيخ جابر الأحمد أن وراء هذه الحجج ما وراءها، فقال: «هذا كلام غير مقنع!».
قلت مواصلا اصراري على الاستقالة: «لم آت لأشكو أحداً، بل لاعفائي من المنصب. أريد عملا حراً يريحني».
هنا، وبعد أن لمس جديتي، قال الشيخ جابر: «أريدك عندي في المكتب».
وعدت معتذراً: «اطال الله عمرك.. رمضان على الأبواب ولا قدرة لي».
قال: «خذ شهرين راحة».
ولم يتم تعيين وكيل للوزارة لمدة عام كامل، ثم تم تعيين د. نائل النقيب وكيلا.
بعد رمضان أرسل ولي العهد يطلبني. فقلت بصراحة: «لا أستطيع العمل في مكتب ولي العهد».
هز رأسه وقال لي: «يبدو عليك الارهاق والتعب!».
«نعم، والله انني مرهق جداً ومتعب».
ومنحني فرصة أخرى للتفكير قائلا: «لك ثلاثة اشهر اجازة.. لترتاح».
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت
*****************
فان تولوا فبالاشرار تنقاد
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بعد 72 سنة.. مازالت السدرة وحيدة وثابتة في الصحراء AHMAD الصور والأفلام الوثائقية التاريخية 16 22-03-2011 12:28 AM
السيرة الذاتية للنائب مرزوق الغانم ... بنت الزواوي المعلومات العامة 4 02-08-2009 04:33 PM


الساعة الآن 09:12 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024
جميع الحقوق محفوظة لموقع تاريخ الكويت