السدرة بين الأسرّة البيضاء (6)
في هذا الجو الخمسيني تفتحت طرقٌ على الصعيد العام والخاص، أي على صعيد الدولة والمجتمع وعلى صعيد الأفراد، في كويت جديدة بدأت تلوح آفاقها، كما قلت، مع بدايـة تصدير النفط، أضف إلى ذلك ما بـدأ يحـدث على الصعيد العربي حـولنا فيلقي بظلاله، إن خيراً أو شراً، على امتداد الخريطة العربية. وبدا أن منطقتنا، وبلدنا معها، ترحل إلى عصـر آخر، ونجد كأفـراد وجماعات أن علينا أن نتحرك أيضاً ونغادر نوافذنا وأبوابنا التقليدية إلى ساحات جديدة.
في عام 1957 قررت المملكة العربية السعودية وضـع رسوم على قوافل الحجاج، إلا انها استثنت الكويت من دفع الرسوم قبل موسم الحج بمدة قصيرة، فبدأت الحملات بالاستعداد لأداء هذه الفريضة الدينية، وأمر الشيخ فهد السالم بإرسال بعثة طبية ترافق الحملات وتضم أطباء وممرضات ومضمدين وإداريين، وكلف عبدالله العسعوسي بالمهمة، إلا أن العسعوسي رحمه الله اعتذر:
«انا رجل مسن، ولا أستطيع القيـام بهـذه المهمة، فهلا كلفت أحـداً بمساعدتي من دائـرة الصحـة؟»
فسأله الشيخ:
«قل من تريد؟»
قال العسعوسي:
«أريد برجس البرجس».
واستدعاني الشيخ، ودار بيننا هذا الحوار:
«أريدك أن تذهب مع العسعوسي إلى الحج»
«ليست لدي نية بالحج، ثم.. أنا وحيد أهلي»
«هل ترفض أداء فريضة الحج؟.. يجب أن تذهب»
لم استطع الرفض بالطبع، فقلت:
«إن شاء الله»
بعـدها اتصـل بي عبد الله العسعوسي فذهبت إليه، واتفقنا، وسارت إجراءات إعداد الحملـة في مسارهـا الطبيعي، وتم تعيين أطباء وممرضين ومضمدين، وما يلزم مـن أدوية وما إلى ذلك.
كانت هذه ثاني حملة حج تشرف عليها دائرة الصحة، وعملت فيها مساعداً للعسعوسي يعاونني أخ عزيز يدعى عبد الله السعيد رحمه الله.
استغرقـت رحلتنا إلى مكـة سبعـة أيام، على الطريق نفسه الذي سارت عليه أول حملة كويتيـة.
إنفلونزا الصيف
في مكة وصلنا متأخرين، واستقبلونا بترحاب، فاعتمرنا، ثم ذهبنا إلى منى. وهناك أصيب أفراد حملتنا بالانفلونزا مع أننا كنا في شهر يوليو. لم يكن لدينا علاج سوى الثلج لخفض درجة حرارة المصابين، فمن أين لنا بالثلج؟
ذهبـت أنـا وعبد الله السعيد لشراء قوالـب ثلج كبيرة، وحملناها في سيارة نقل، وتحت رأس كل مصاب وضعنا قطعة من قالـب الثلج كوسادة. واستطعنا بهذه الطريقة تخفيـض درجة حرارته.
الانفلونزا الصيفية لم تكن هي الأعجوبة الوحيدة التي صادفتنا، فخلال السعي بين الصفا والمروة، وقد ذهبنا مع الذاهبين للسعي، صادفنا أعجوبة أخرى لم تكن لتخطر على بال أي واحد منا؛ شاهدنا سيارات تسعى متهادية بين الصفا والمروة، وسط حشد الحجاج الساعين من جانبهم جيئة وذهابا كما تقضي بذلك الشعائر. وحول السيارات حرس يحيطون بها ويتقدمونها يحملون العصي ويبعدون الناس عن السيارات بالضرب والصراخ. وعرفنا أن هذه السيارات خاصة بالعائلة الحاكمة تحمل من تحمل لتريحه ربما من عناء السعي مثلما تسعى بقية الناس وتتزاحم تحت الشمس اللاهبة.
أمام هـذا المشهـد، لم أجـد بداً من ترك السـعـي في ظـل هذا الوضع غير الطبيعي، وقلت للاطباء:
«يكفي أنكم اعتمرتم، فلنذهب في حال سبيلنا، إذ لا يجوز أن نتعرض للضرب بالعصي».. وبيني وبين نفسي أخذت المسؤولية على عاتقي أمام ربي.
متاعب العودة
بعدها تحركت الحملة إلى المدينة، ثم بدأت الاستعدادات للعودة إلى الكويت. العودة التي استغرقت ستة أيام، ولكن كان مقدراً لنا أن يكون ما لاقيناه من متاعب بسيطة حتى الآن لا شيء مقارنة بما سيصادفنا في طريق العودة والظلمة الحالكة ليلا من حولنا، وليس من متحرك إلا أضواء السيارات.
ضاعت بعض سياراتنا على طريق من الصعب تبين معالمه، وضعنا نحن أيضاً ونحن نحاول البحث عن السيارات الضائعة بلا جدوى.
ولأننا في صحراء، فكرت منذ اللحظة الأولى بذلك العنصر الثمين الذي يساوي فقدانه الموت، ويساوي العثور عليه الحياة، أعني الماء. علينا أن نجمع ق.رَب الماء ونغلق عليها في السيارات حتى لا نفقدها. كنا نضع الماء في «ق.رَب» من قماش تحمل على ظهور السيارات فيصبح ماؤها باردا حتى في المناطق الحارة. ولكن علينا الآن أن نحافظ عليها بأي ثمن.
في وسط كل هذا الدوران من مكان إلى آخر، ابتسم لنا الحظ فوجدنا بدوياً من أهل الصحراء يتطلع إلينا بفضول من فوق كثيب رمل، فسألناه إن كان رأى سيارات حملتنا الضائعة، فقال ببساطة، نعم.. هي وراء تلك التلة، وأشار باصبعه نحو مرتفع قريب. وبالفعل وجدنا بقية حملتنا الضائعة هناك وراء المرتفع، متوقفة بين الرمال لا يعرف ركابها هل يمضون يمينا أم شمالا، جنوبا أم شرقاً. من لا يألف الصحراء لا يستطيع أن يحدد اتجاه سيره، فما بالك إذا كان الوقت ليلا، ولست من الذين يجيدون الاهتداء بالنجوم أو معالم الكثبان والتلال التي يعرفها البدوي كما يعرف راحة يده.
حـين وصلنـا إلى أصحابنا، أكرمت البـدوي وأعطيتـه مائة ريـال، وظـل الرجل معنـا حتى الصباح. ومع بـزوغ أول ضوء واصلنا الرحيل بالاتجاه الذي اشار اليه البدوي قبـل أن يغـادرنا إلى أهله.
طرق وعرة
كانت الطرق كلها تزداد وعورة، ولا شيء غير الرمال تحيط بك أينما التفت، وفي بعض الأماكن صادفنا أشجاراً تدعى «الصريم». وبعدها وصلنا منطقة تدعى «رماح» شديدة الحرارة كأنها قطعة من جهنم في فصل الصيف، واضطررنا بسبب حاجتنا إلى الماء إلى سحبه من بئر عميقة جداً. كان أهل المنطقة وأجدادنا الذاهبون إلى الحج في رحلة شاقة تستغرق ثلاثة أشهر على ظهور الجمال، يستخرجون الماء بدلو مربوط بحبل يجره جمل يسير مسافـة طويلة، وعندما يأخذون الماء يقومون بتصفيته من الشوائب باستخدام الغترة. وفعلنا الأمر نفسه، مع فرق أننا استخدمنا سياراتنا ذات الدفع الرباعي لسحب الدلو من بئر لا تستطيع سماع طرطشـة المـاء فيـه بسبب غوره العميق.
ونحن نسير في «رماح» هذه، انحرفت السيارة التي تنقل الماء وبتنا تائهين لا نعرف الوجهة الصحيحة، فهرولت وراءها، وسقط إثنان من العمال تحت عجلاتها، فأصيب أحدهما في ظهره والآخر في بطنه. وخلق هذا الحادث مشكلة جديدة لم تكن في الحسبان. اقترحت على عبد الله العسعوسي أن يواصل طريقه مـع الحملة إلى الكويت، على أن أبقى أنـا مع بقية الأطبـاء للعنايـة بالجريحين، ومن هناك يطلبون من المملكة العربيـة السعوديـة إرسال طـائرة لإنقاذ المصاب بدلا من أن تتوقف الحمـلة وينفد الطعـام.
في الخيمة
وتهيأنا للإقامة، نصبنا خيمة ورششنا الأرض بالماء، وشغّلنا مروحة تعمل بوساطة مولد كهرباء، وكل ذلك لنخفف من حرارة المريض ونجري له عملية. وصار علي تدبير الطعام والماء لتمضية بقية وقت الانتظار، فكتبت رسالة الى أمير الرياض نطلب فيها دماً للمصاب، بالاضافة الى الماء والطعام. وأرسلتها اليه مع سيارة نقل الماء، ولم تلبث أن عادت السيارة بالماء والطعام من دون الدم للمصاب لأن فصائل الدم لم تكن متوافرة في تلك الأيام.
وهكذا جلسنا في انتظار وصول الحملة الى الكويت لتنقل أخبارنا كما اتفقنا الى الشيخ فهد السالم، وليتصل من جانبه بأمير الرياض ليرسل الينا طائرة. ولم يطل انتظارنا، وصلت طائرة من نوع داكوتا ذات محركين، وهبط منها أحد رجالات البدو الذي قادنا الى الحملة في «رماح» وأرشدنا الى الطريق. فطلبت منهم، وهم ينقلون العامل المصاب الى الطائرة، أن يأخذوا معهم أكبر عدد ممكن من الموجودين معنا لعدم توافر طعام وماء يكفي الجميع بقية رحلتنا الى الكويت. واقلعت الطائرة وعلى متنها، بالاضافة الى المصاب، الممرضات وأحد الأطباء، وبقي معي اطباء الحملة وعبدالله السعيد.
تم كل شيء عند السادسة مساء، وبقي علينا أن ننطلق من جانبنا على طريقنا الصحراوي.
قلت لمن تبقى من أفراد الحملة:
«لنمض»
فاعترضوا:
«كيف؟.. وليس معنا دليل!».. كان دليلنا شخص يدعى نصار ذهب بالطائرة مع عبدالله العسعوسي.
حينئذ اقترحـت عليهم أن نذهب الى أمير «رمـاح»، وانتحيت جانباً بأحد السائقين واتفقت معه على أن يجيب بكلمـة «نعم» حين أسأله أمام الأطباء «هل تعرف الطريق؟». ومضينا الى أمير «رماح»، وسألناه عن كيفية عبور طريق صحراء الدهناء الرملية وتلالها الثلاثـة، فوصف لنا الطريق قائـلا:
«سيروا والطريق الى يمينكم الى أول تل، وهناك تجمعوا، ثم الى الثاني، وواصلوا السير حتى التل الثالث فتكونون في منطقة «أم عقلة».
التفت الى الأطباء وقلت:
«لنذهب»
فاعترضوا للمرة الثانية قائلين:
«لا.. لا نريد الذهاب.. نخشى الضياع والموت»
كان معنـا من مصر الأطباء د. مصطفى عبدالتواب، ود. أحمد الجيار، والدكتور أحمد لطفي، ومـن لبنان د. توفيق الترك، ومن فلسطين د. نور الغصين طبيب الأسنان. فناديت السائق الذي اتفقت معه وسألته وهم يسمعون: «هل تعرف الطريق؟»، قال فوراً: «نعم أعرفـه، وسافرت عليـه عـدة مـرات.. إنـه طريق سهل».
في «أم عقلة»
وانطلقنا وأنا في المقدمة. وصلنا إلى أول تل، وتوقفت لأتأكد من أن كل السيارات معنا، ثم واصلنا المسير إلى التل الثاني، وهناك تجمعنا مرة أخرى، وما أن وصلنا إلى التل الثالث حتى كانت «أم عقلة» أمامنا. وتفقدت السيارات فـإذا بها تنقص واحـدة. ونظـرت حولي فـإذا بسائق السيارة المفقـودة يتجه بها مصادفة إلى الدهناء، فأسرعت ولحقت به بسيارة صالون مـع سائقها، ونبهناه قبـل أن يصل إلى منطقـة الرمـال الخطـرة، وأرجعناه إلى الجادة الصحيحـة، واتجهنـا إلى «أم عقلـة».
هنـا في هـذه المنطقة أصيبت إحـدى سياراتنـا وشاحنة بعطب، ومـع ذلك واصلنا طريقنا فوصلنا إلى«أم عقلة»، ووجدنا خزان ماء لم يكن ماء عذباً بل أشبه بالماء الصليبي الذي لا يصلح إلا لري المزروعات، ومع ذلك كـان الخزان نعمة من نعم الله علينا، فاغتسلنا قبل أن نمضي لرؤيـة أمير المنطقـة. وهناك وجدناه نائماً في بيـت من الطين، فأيقظناه وطلبنا منـه أن يسمح لنا بترك السيارتين المعطوبتين ريثما نرسـل من يـأتي بهما، وافـق وقـال: «أوقفوهما هنا». وهـذا ما فعلنـاه.
ثم واصلنا الرحيل إلى منطقة «جربة»، ولم يكن قد تبقى معنا من الطعام إلا أقله، وأسعفنا صاحب مقهى هناك مبني من سعف النخيل. سألناه:
ـ ماذا لديـك؟
ـ فـول وشاي وماء.
ـ هات كل ما عندك من الفول والخبز والماء.
أخذنا كل ما عنده بثمنه بالطبع، وسلمنا على أمير «جرية»، وسرنا في طريقنا إلى منطقة حدودية قريبة من الكويت تدعى «الصقعبي». هنا ثار خلاف بيننا وبين الموظف السعودي، وغضب د. مصطفى، رحمه الله، لأننا كنا بغنى عن أي مشكلة بعد المشاق التي تكبدناها، فكيف ونحن على مشارف الوصول إلى بلدنا.
قلت لمن معي: انتظروني هنا.
وعدت إلى «جربة»، ولم نكن قد ابتعدنا عنها كثيراً، واخبرت أميرها بقصة الموظف الذي اختلق مشكلة من لاشيء، فطلب اثنين من رجاله، ولحقا بي، وحين وصلنا قبضا على الموظف السعودي، وقالا لنا مودعين: ادخلوا.
دخلنا عابرين الحدود، ووصلنا بعد صلاة العشاء بقليل إلى «الصليبية».
كان أول ما فعلناه أننا ذهبنا لرؤية العامل المصاب الذي جاءت به الطائرة إلى المستشفى الأميري، وفي اليوم التالي علمنا أنه انتقل إلى رحمة الله.
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|