عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 07-03-2009, 06:08 PM
IE IE غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2008
الدولة: الكويت
المشاركات: 2,661
افتراضي

ظهر يوم الأربعاء الفائت الموافق لليوم الرابع من شهر مارس الجاري جاءني هاتف من أحد الأصدقاء، وسمعت صاحبي وهو يناديني بصوت فيه انفعال شديد قائلا: عندي لك خبر أعرف أنه يزعجك، ولكنه لابد وأن أخبرك به، لقد توفي صاحبك الشيخ أحمد الغنام. وجمت فترة ثم رددت عليه بصوت واهن، فقد لطمتني المفاجأة. كان الشيخ أحمد غنام الرشيد قد أدخل المستشفى قبل بضعة أيام ولم أتمكن من زيارته لأسباب خارجة عن إرادتي، ولكني كنت أسأل عنه يوميا، وتأتيني الأخبار أنه بخير، وأنه يتماثل للشفاء، وعن قريب سوف يغادر المستشفى إلى منزله، وكانت هذه المعلومات مطمئنة، ولذا كان خبر وفاته صاعقا، صحيح أن المرحوم قد تعرض لمرض شديد جراء مضاعفات السكر، وأصابه مرض الضغط، ولكن الأزمة التي كانت شديدة عليه وعلينا قد زالت وزرته في بيته وتكرم عليَّ بزيارتي في ديوانية الثلاثاء، وتبادلنا المكالمات الهاتفية بين وقت وآخر، وذلك إضافة إلى اللقاءات الكثيرة معه في مسجد المطير بضاحية عبدالله السالم عند صلاة الجمعة.

الذي ملأني خوفا عليه أنه بعد ذلك انقطع عن الحضور إلى المسجد الذي اعتاد الصلاة فيه معنا، وانقطع عن الاتصالات الهاتفية بل وعن الرد عليها. وقد أيقنت هنا أن صحته ليست على ما يرام، وأنه دخل طوراً من أطوار الضيق النفسي، لأنه أحس بأن المرض الذي شفي منه قد عاد ينهش من جسده، وبالفعل فإنه بعد فترة وجيزة من هذا الانقطاع تدهورت حالته الصحية فدخل المستشفى الذي انتقل فيه إلى رحمة الله تعالى في اليوم الذي أشرت إليه آنفا.

ولد الشيخ أحمد غنام الرشيد في سنة 1928م بمنطقة المرقاب الكويتية. وتعلم القراءة والكتابة في المدارس الأهلية، وفي سنة 1947م التحق بالمعهد الديني، وبقي فيه لمدة ثلاث سنوات، ولم يكن هذا المعهد آنذاك قد اتخذ النظام العلمي الذي سار عليه فيما بعد بحضور رجال من الأزهر الشريف على رأسهم الشيخ علي حسن البولاقي. وعندما خرج الشيخ أحمد من المعهد لم ينقطع عن الدراسة، بل استمر في تلقي العلم عن رجاله وكان من هؤلاء الشيخ عبدالوهاب العبدالله الفارس الذي درسه الفقه الحنبلي والشيخ محمد الأحمد الفارسي الذي درسه الحديث والتفسير. وكان إلى جانب ذلك يتدارس العلوم الدينية مع عدد من زملائه مما أكسبه دراية واسعة بهذا المجال العلمي الكريم، بالإضافة إلى إقباله الشديد على القراءة الحرة، وتكوين مكتبة لا مثيل لها بين كثير من أصحابه، وكان مع حبه للكتاب ورغبته في الحصول على كل ما يصدر من جديد من كتب الفقه والحديث والتفسير، بل والأدب والشعر؛ كان لا يبخل في إعارة كتبه إلى من يجد أنه من المقبلين على العلم والثقافية. بل كان يهدي منها الكثير، وقد أصابني منها وابل طيب سعدت به، فما أمدني به من كتب يسرني الآن أنه كان يكتب لي عليه إهداءات شعرية جميلة، فهو يقول الشعر المحبب إلى النفوس، ويمتع جلاسه بأشعاره وأشعار غيره، حتى لقد عددناه إلى جانب مقامه الديني رواية من رواة الأدب والشعر لا يفوته شيء من ذلك إلا أدركه.

في سنة 1957م اختارته دائرة الأوقاف العامة لكي يعمل إماماً في مسجد العجيري في منطقة الصالحية بالحي القبلي، وتولى بعد ذلك الخطابة في عدة مساجد وقد استمتعت بجلسات صباحية معه بحضور أستاذي الشيخ محمد صالح العدساني في مسجد البحر الشمالي حين كان إماما له وكانت جلسة الصباح هذه من أحلى الجلسات التي حضرتها في الكويت - آنذاك - إذ يتمتع كل من الرجلين بمقدرة فذة على الحديث في مختلف الشؤون من التاريخ إلى الطرائف الأدبية إلى الشعر. وقد انقطعت هذه المجالس بانتقال الشيخ أحمد الرشيد إلى مسجد آخر، وانتقال الشيخ محمد صالح العدساني بعدها بفترة قصيرة إلى رحمة الله.

ترجع معرفتي بالشيخ الغنام إلى فترة مضت كان في أوائل خمسينيات القرن الماضي يتردد على المعهد الديني حبا في العلم يسأل المشايخ، ويقابل شيخه القديم وشيخي كذلك عبدالعزيز قاسم حماده رحمه الله، وأراه في ساحة معهد الكويت الديني يتجول بين القدماء من أصحابه في فترات توقف الدرس. أعجبني اهتمام هؤلاء كلهم به، وأعجبني - أيضا - ما كان يدور بينهم من حديث، ولم أتمكن في هذه الفترة من عقد صلة مع أبي عبدالرحمن، ولكن ذلك تهيأ بعد عندما لقيته في جمعية الإرشاد الإسلامي التي نشأت في 24 مايو لسنة 1952م. وقد جمعني معه يومذاك أمران، هما: الجمعية المذكورة، وقرية الجهراء قبل أن تتحول إلى مدينة كبيرة.

كنت أتردد معه في الأماسي على الجهراء لنقضي وقتا ممتعا هناك مع أصحاب لنا هم الشيخ عبدالرحمن الكمالي وإخوانه وبعض أقاربه، ونعود في الصباح ونحن في غاية السعادة، وقد تكررت الزيارات وقويت الصلات ولم تقتصر معرفتي على الشيخ أحمد بل عرفت أخوته جميعا وكلهم كانوا أعضاء في جمعية الارشاد الاسلامي، وعرف أخَوَيَّ ووالدي. وعندما سافرت إلى مصر من أجل الدراسة كان كثير التردد عليهم يسألهم عني، وكان يراسلني وكنت أراسله، ولم تنقطع صلاتنا أبدا حتى في الفترات التي أشرت إليها فقد كان له فيها عذر وأي عذر.

في فترة الانقطاع التي صعب علي فيها الاتصال به، أرسل إلي فجأة قصيدة جميلة يبدو أنه كتبها على عجل، أرخها في اليوم السادس عشر من شهر مايو لسنة 1992م، وفيها يتذكر الأيام الماضية، ويحن إليها، ويبلغني أنه لم ينس علاقاتنا، وأنه ينبغي علي ألا أظن أنه جفاني، وأنه على العهد القديم دائما، يقول في مطلعها:



... فيا رعا الله زمانا مضى

القلب فيه قد خلا من لغُوبْ

إن طالت الفرقة ما بيننا

فالود في سويدا القلوبْ

أخي (أبا أوس) وُقيت الردى

لا زلت في جَهْري وسري تجوبْ

لا تحسب (الغنام) جافاكم

أو نسي المغنَى وتلك الدروبْ

إني على العهد محب لكم

لستُ (أبا أوس) بهذا كذوبْ

....

وقد رددت عليه حالا بهذه الأبيات:

أثارت الذكرى عروس أتت

رائعة الحسن بثوب قشيبْ

تمتلك النفس بإطلالة

فيها من الفتنة شيء عجيبْ

من لفتة نشوى ومن نظرة

أني تجلت ثمَّ سَهْم مُصيبْ

تبعث ماضينا وقد أوشكت

أيامه عن بالنا أن تغيبْ

عروس شعر زَفها شاعر

مُسدد النطق أريب أديبْ

ذكّر بالماضي وأيامه

وأشعل الوجد بذكرٍ حبيبْ

وأين مناما انقضى عهده

وإن دعوناه فهل يستجيبْ

يا أحمد الغنام يا صاحبا

إخلاصه لستُ به أستريبْ

أنت الذي ما زال في خاطري

وظَنّيَ الخيرَ به لا يخيبْ

حركت بالشّدْو جراحا لنا

تدمي وقلبا زاد منه الوجيبْ

في حين لا نأمل في رجعة

لما مضى أوفى لقاء قريبْ

فالأمس قد وَلى بأحلامه

وانشغل البال بحلم غريبْ

***

نفضت يدي صباح يوم الخميس من تراب قبره الكريم، والحزن يعتصرني اعتصاراً، وذهبت إلى التعزية، فكنت أولى بتقبّل العزاء لما أحس به من ألم الفقد، لم تكن يا أبا عبدالرحمن هيّناً علي ولا على أصحابك وأهلك. فرحمك الله، وأثابك بقدر ما عملت من خير في حياتك.

د. يعقوب يوسف الغنيم - جريدة الوطن 7/3/2009
__________________
"وَتِـــلـْــكَ الأيّـَــامُ نُـــدَاوِلـــُهَـــا بـَـيـْـنَ الـــنَّـــاسِ"
رد مع اقتباس