الموانئ الكويتية بين الأمس واليوم
الباحث محمد عبدالهادي جمال.
يتطرق الباحث محمد عبدالهادي جمال الى نشاط متخصص ابدع فيه رجال الكويت الاوائل، وتبعهم في النهج نفسه ابناؤهم الذين حملوا الراية من بعدهم الى طريق العمل الجاد المتواصل، والاستمرار في اداء الامانة.
وعلى الرغم من ان عمر ميناء الكويت - او «الفرضة» - لا يقل عن عمر الكويت نفسها الذي يزيد على ثلاثة قرون، الا ان الخطوة الاهم في عمر الميناء، والتي رسخت دوره في بناء نهضة الكويت الحديثة، كانت قد اتخذت في بداية القرن العشرين، من قبل احد ابرز قادة الكويت واكثرهم حنكة واقداما، وهو المرحوم الشيخ مبارك الصباح الذي جعل من الفرضة - وذلك من خلال قراراته السياسية الصائبة التي سنشير اليها في هذا اللقاء - اهم مرفأ في الخليج العربي، لاستقبال البضائع القادمة من الخارج، واكبر مركز لإعادة التصدير الى الدول المجاورة، مما نتج عنه تبوؤ الكويت موقعا تجاريا بين بلدان المنطقة، ظل لسنوات طويلة خلت مشهودا له بالريادة وحسن الاداء وعدم القبول بأقل من التربع في مركز الصدارة، بكل ما اتصل بذلك من جدارة في تحمل المسؤولية، واقتدار في مواجهة التبعات.
كما ان الخطوات التي كانت سابقة لزمنها، والتي اتخذها المرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، لبناء احدث ميناء في منطقة الخليج العربي، مستخدما احدث الوسائل المتوافرة آنذاك، والتي اعطت الكويت دفعة قوية الى الامام لعقود طويلة، مقارنة بما كان قائما في ذلك الوقت - سواء في منطقتنا العربية او في معظم الدول النامية - سجلت لهذا الرجل موقفا لن ينساه التاريخ في اطار مجموعة المواقف والقرارات التي اتخذها اثناء فترة حكمه التي لايزال الكويتيون يقطفون ثمارها، بعد اكثر من نصف قرن من الزمان.
يقول الباحث محمد جمال: من المعروف كانت أول دول من أوروبا التي عرفت طريق الهند عام 1498 عندما أوصلهم إليها البحار العربي أحمد بن ماجد. وقد أسس البرتغاليون نفوذهم في الخليج العربي في مطلع القرن السادس عشر الميلادي وبقوا كذلك دون منازع حتى القرن السابع عشر حينما بدأ نفوذهم بالضعف، حيث فقدوا سيطرتهم على البحرين عام 1602 وعلى هرمز عام 1622 وعمان عام 1651، وكان الخليج ميدانا للصراع بين البرتغاليين والدولة العثمانية آنذاك. وفي منتصف القرن السابع عشر تقريبا. زال الوجود السياسي للبرتغال بالرغم من استمرار سفنهم التجارية في الرسو في موانئ الخليج بقصد التجارة. وكان من أهم اسباب طرد البرتغاليين من الخليج تضامن القوتين الاوروبيتين الكبيرتين آنذاك وهما الانكليز والهولنديون ضدهم، والعمل على تقليص نفوذهم السياسي والتجاري. وكان يقود تلك الحملة كل من شركة الهند الشرقية الانكليزية وشركة الهند الشرقية الهولندية اللتين تأسستا عام 1600 و1602 على التوالي. وقد خاض الفريقان معركة مشتركة على البرتغاليين ونجحا في اقتلاع جذور النفوذ البرتغالي من الخليج في مطلع القرن السابع عشر.
ومع بداية القرن الثامن عشر اصبح الانكليز هم القوة المسيطرة الرئيسية الاولى في الخليج العربي بعد ان احتلوا المركز الاول في تجارة الخليج وتفوقوا على جميع البلدان الاوروبية المتاجرة معه، وقد ادى ذلك الى فتح مكاتب في كثير من بلدان الخليج لوكلاء شركة الهند الشرقية الانكليزية لرعاية مصالحها والاشراف على خطوط الاتصال بين الهند واوروبا، وقد تم افتتاح مكتب الشركة في البصرة عام 1643 م، وكانت المراكز التجارية التابعة لشركة الهند الشرقية الانكليزية في الخليج العربي تعتمد في مواصلاتها مع العالم الخارجي على زيارات سفن الشركة من الهند، وقد تمتعت البصرة منذ اوائل القرن الثامن عشر بميزة غير عادية من حيث الاتصال المباشر بأوروبا عن طريق حلب، وفي نهاية القرن الثامن عشر، وعندما انشئ اتصال كل اسبوعين بين بومباي والبصرة بواسطة سفن الشركة تم تنظيم خط من بريد الجمال بين البصرة وحلب تحت اشراف ممثل الشركة في البصرة واضيف اليه خط من بريد الخيل الى القسطنطينية، وكان طريق الخليج في ذلك الوقت هو اسرع طريق بين اوروبا والهند.
الفرضة
يقع ميناء الكويت القديم ــ وكان يشار اليه «بالفرضة» ــ غربي مبنى قصر السيف القديم مباشرة، وهو يتوسط مدينة الكويت القديمة يقابله من الجنوب مباشرة سوق التجار، وهو من اقدم الاسواق التي اتخذها تجار الجملة مقرا لهم لتوزيع ما يصلهم من بضائع عن طريق البحر الى بقية الاسواق. كما توزعت مخازن التجار خلف محلاتهم في ذلك السوق وكانت الخيول تقوم بنقل البضائع من المخازن الى دكاكين تجار التجزئة في الاسواق الاخرى. وقد بدأ ميناء الكويت منذ منتصف القرن السابع عشر يكتسب اهمية متزايدة نظرا لموقعه الجغرافي المتميز وبعده عن تأثيرات الدولة العثمانية والدولة الفارسية، وعدم خضوعه للضرائب المرتفعة التي كانت تفرضها تلك الدول وبعده عن الصراعات السياسية والعسكرية التي انتشرت داخل الدولة العثمانية بين الولاة والحكام في مختلف الولايات وكذلك بين الدولة العثمانية والانكليز على مناطق النفوذ، مما ادى الى نتائج سلبية على الدولة العثمانية من الناحية السياسية والاقتصادية.
وقد برزت الكويت كمركز تجاري مستقل لا يخضع لنفوذ الدول المتصارعة في المنطقة مع بداية القرن الثامن عشر، حيث شهدت تلك الفترة ازدياد نفوذ دول اوروبا في المنطقة بعد ان انتشرت مكاتبها التجارية في العديد من المدن العربية الخاضعة للدولة العثمانية بالاضافة الى المدن الفارسية في الخليج بهدف تنمية وتشجيع التجارة لدولها والشركات التابعة لها. وكانت البصرة تعتبر الميناء العثماني الرئيسي الذي تمر من خلاله القوافل التجارية التي كانت تنقل البضائع من الهند الى اوروبا وبالعكس، كما ان ميناء بوشهر كان من اهم المراكز التجارية لفارس في الخليج.
وفي بداية القرن الثامن عشر ايضا بدأت سفن الكويت بنقل البضائع بين البصرة والخليج العربي ومرافئ إيران والهند وسيلان وموانئ شبه الجزيرة العربية وشرقي أفريقيا. كما اكتسبت الكويت شهرة كبيرة كمحطة للقوافل المسافرة بين حلب وشرقي الجزيرة العربية منذ منتصف القرن الثامن عشر أو حتى قبل ذلك. وقد كانت القوافل المارة بالكويت تحمل معها بضائع الهند التي كانت تصل الى الكويت على السفن الكويتية، إضافة الى الركاب القادمين من الهند أو جنوبي الخليج والمسافرين إلى حلب. فقد روى د. آيفز، الذي كان قادما مع رفاقه من الهند عام 1758 في طريقه الى أوروبا، الذي رسا مركبه في جزيرة خرج ونزل في ضيافة رئيس الوكالة التجارية الهولندية هناك البارون كبنهاوزن، ان البارون كبنهاوزن أشار عليه ان يتوجه بأحد القوارب الى الكويت ومن هناك يستطيعون السفر بسرعة مع القوافل المتجهة الى حلب.
وأضاف البارون إن شيخ الكويت صديق عزيز عليه وان القافلة ستقطع المسافة بين الكويت وحلب في مدة تتراوح بين خمسة وعشرين أو ثلاثين يوماً وبذلك يختصرون زمنا يتراوح بين أسبوعين إلى أربعة عما لو أرادوا السفر عن طريق شط العرب، فالبصرة فبغداد فحلب(1).
وكانت صناعة بناء السفن الشراعية والزوارق قد ازدهرت حتى صارت الكويت تزود بلدان الخليج الأخرى بها في القرن التاسع عشر. واختلفت أنواع هذه السفن وحمولاتها، وقدر عددها الرحالة نيبور عندما زار الكويت عام 1765 بثمانمائة مركب(2). ويبدو ان سفن الكويت كانت ترسو في مسقط في طريقها إلى الهند في تلك الفترة، لكنها توقفت عن ذلك وأخذت تبحر مباشرة إلى الهند في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ومنها إلى موانئ الخليج الأخرى وذلك لتجنب دفع الإتاوات لسلطان مسقط. وكان أسطول الكويت آنذاك يعتبر ثاني أسطول لنقل التجارة في الخليج بعد مسقط. كما كانت السفن التجارية تنقل البضائع من البحرين والزبارة إلى الكويت لنقلها من هناك على ظهور الجمال إلى حلب أو بغداد، وذلك لتجنب «المكوس» الباهظة التي كانت تجبى عليها في البصرة. وعلى هذا فإنه يبدو أن النجاح التجاري للكويت - آنذاك - كان يعتمد إلى حد كبير على التجارة العابرة.
عوامل سياسية
استفادت الكويت من موقعها الجغرافي واستقرارها السياسي كبديل لموانئ المنطقة، كالبصرة وبوشهر التي كانت تشهد الكثير من الصراعات الداخلية والخارجية في الماضي. فقد أدت النزاعات والحروب التي شهدتها المنطقة في الفترة من 1775 - 1822 إلى انتقال مكاتب شركة الهند الشرقية الانكليزية من البصرة إلى الكويت ثلاث مرات، مما أعطى الكويت دورا مهما كمقر آمن ومركز تجاري كان يتم اللجوء إليه من قبل المؤسسات التجارية الدولية أثناء الأزمات.
وكان اول حدث يعطي الكويت اهمية دولية كميناء يعتمد عليه، وكمركز تجاري آمن، هو انتقال نشاط شركة الهند الشرقية الانكليزية من البصرة الى الكويت عام 1775 نتيجة للخلاف الذي نشأ بين الدولة العثمانية وفارس، ونتج عنه حصار القوات الايرانية واحتلالها للبصرة، فقد تأزمت العلاقة بين حاكم فارس والدولة العثمانية عام 1773، وقررت حكومة الهند الانكليزية نقل نشاطها من بوشهر الى البصرة، مما ادى الى انهيار تجارة بوشهر وازدهار الحركة التجارية في البصرة، فنتج عن ذلك ازدياد التوتر في العلاقات بين الدولتين.
وعلى اثر ذلك قام كريم خان حاكم فارس بهجوم على البصرة، حيث وصلها جيشه في مارس عام 1775، واستمر في حصارها فترة ثلاثة عشر شهرا استسلمت بعدها المدينة في ابريل عام 1776. وكان لقرار شركة الهند الشرقية نقل نشاطها من البصرة الى الكويت نتيجة لذلك اثر كبير على الاحوال التجارية في الكويت. فقد ادى ذلك اولا الى قيام علاقات مباشرة بين ممثلي شركة الهند الشرقية الانكليزية في الخليج وحاكم الكويت. كما اصبحت الكويت محطة رئيسية للقوافل الناقلة للبضائع من البصرة الى حلب طوال فترة الحصار والاحتلال الذي استمر الى عام 1779. كما ان سوء العلاقة بين الفرس والانكليز في ذلك الوقت ادى الى تفريغ البضائع المشحونة لحساب شركة الهند الشرقية الانكليزية من الهند الى حلب في الكويت بدلا من تفريغها في بوشهر فالبصرة. وكانت القوافل تشحنها من الكويت الى حلب متجنبة البصرة، مما نتج عنه ازدهار الاوضاع الاقتصادية في الكويت. وكان لهذا التطور وقع ممتاز على وكلاء الشركة في المنطقة. اذ كتب وكيلها في البصرة الى مجلس مديري.
جريدة القبس - 23/3/2011
__________________
"وَتِـــلـْــكَ الأيّـَــامُ نُـــدَاوِلـــُهَـــا بـَـيـْـنَ الـــنَّـــاسِ"
|