النوخذة فالح بن خضير وعلي بن سعد بن خضير
(جريدة الراي)
النوخذة فالح بن خضيَّر خاض عباب البحر وصارع أمواجه العاتية
إعداد : سعود الديحاني
ان تاريخ الكويت البحري زاخر بأعلامه العظام الذين طوعوا أمواجه العاتية وخاضوا ظلماته الموحشة وأتوا منه بالخيرات الوفيرة على ما كان به من أخطار، فلا ظل يقيهم حره، ولا مرسى يطمئن أنفسهم، بل سماء زرقاء وبحر متلاطم بأمواجه مخيف، وبسعت أفقه ناهيك عن الجو القايظ الملتهب، ان حكايات الغوص صفحات فخر واعتزاز لأهل الكويت ونحن اليوم مع سيرة أحد نواخذة الغوص فلنصف سيرته:
النشأة
ولد النوخذة فالح بن خضيَّر في منطقة الشرق في فريج العاقول القريب من المطبة، وفالح بن خضيَّر هو كأحد أبناء بلده الكويت الذين جعلوا البحر مصدر رزق لهم، فوالده خضيَّر بن فالح المطيري كان قد ركب البحر غيصا، وممن حضروا معركة الصريف سنة 1902م.
بداية
وقد بدأ النوخذة فالح حياته البحرية مثل غيره من الغاصة، ثم أخذ يجرب امكاناته في الغوص، مستخدماً في ذلك «ماشوة صغيرة» كان هو ربانها ويعاونه بعض البحرية، وظل عليها يزداد كل يوم خبرة بالبحر ومهنة الغوص وعلومها، حتى اكتسب الخبرة الكبيرة فأصبح مؤهلاً لأن يخوض عباب البحار، وأن يصارع البحر بأمواجه المتلاطمة العاتية، والجو القائظ، وقد نجح النوخذة فالح في هذه التجربة،
حتى انه استطاع أن يصل إلى أقصى أعماق الهيرات المتناثرة في الخليج، والتي لا تخلو بالطبع من المخاطر والصعاب، ولسان حاله يقول:
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
الملك
هذا، وقد امتلك النوخذة فالح بن خضيَّر سفينتين للغوص من نوع الشوعي، تنوخذ على إحداهما، وكانت الأكبر حجماً، وأطلق عليها اسم «المتعافي»، وكانت من السفن الكبيرة، التي تحتاج إلى أن يجدف عليها اثنا عشر بحارا ما بين غاصة واسيوب، أما السفينة الثانية التي كان يملكها، فقد فوض أمر قيادتها إلى «النوخذة» علي سعد بن خضيَّر، وهي أصغر حجما من الأولى.
وقد ظل النوخذة فالح بن خضيَّر ملازما للبحر ومصاحبا له، حتى بدأت مهنة الغوص وتجارة اللؤلؤ تضعف شيئاً فشيئاً، وبدأ أهلها يهجرونها، ووافقت تلك المرحلة تقدم النوخذة فالح بن خضيَّر في العمر.
إسهامات
ومن اسهامات النوخذة فالح بن خضيَّر الوطنية: مشاركته في بناء السور الثالث سنة (1919م)، وكذلك تلبيته نداء الدفاع عن الوطن في معركة الجهراء سنة (1920)، والتي توجه ليلاً إلى ساحتها يرافقه ناصر بن عيد البرازي وخالد المخلد الديحاني، وفارس الدبوس، وحمد بن زوير الهاجري، ومجموعة من أهالي الكويت، وقد جدوا في السير حتى إن نور الصبح لم يطلع عليهم إلا وهم في ساحة المعركة.
وما إن وصل فالح بن خضيَّر إلى ساحة المعركة، حتى أشهر سلاحه، وخاض غمارها بقلب ثابت شجاع، وغير متهيب الموت في سبيل الدفاع عن بلده ووطنه الكويت، وظل مشتبكا في المعركة إلى أن حل الظلام، ولجأ الناس إلى القصر الأحمر، وانسحبت الخيالة التي كانت خارج القصر إلى الكويت، وكان في صفوفها فالح بن خضيَّر، وقد أرهق المسير فرسه أثناء ذلك الانسحاب، فأشار عليه أحد الخيالة الكويتيين بأن يترك فرسه الذي أعياه المشي، وأن يكون رديفه على حصانه، ولكن النوخذة فالح أبى ذلك العرض ورفضه بشدة، قائلاً له: «لن أركب معك تاركا فرسي، ماذا يقول عني أهل الكويت، ترك فرسه؟!... سأذهب إلى ساحل البحر، وإذا لحقني أحد من الأعداء، نزلت في البحر، وقد رجع ذلك الخيال مرة أخرى إلى النوخذة فالح، مكررا عليه عرضه ومشورته بترك فرسه والركوب معه، ولكنه لم يجد ردا من النوخذة فالح سوى الرفض والإصرار على عدم ترك فرسه التي أرهقها المسير ولم تعد تقوى على السير.
الشمال
وقد توجه النوخذة فالح إلى الشمال، وحدث ما توقعه، فقد لحق به اثنان من المعتدين، فنزل سريعا إلى شجر الغردق، وسحب فرسه، وربطها بإحدى الشجيرات، وصوب نيران بندقيته نحو من لحقه من المعتدين، فقتل فرسا وحصانا كان يمتطيهما من لحقه، الأمر الذي جعل الرعب يدب في قلبيهما، ففرا هاربين، مؤثرين السلامة على (رقبتيهما).
وبعد أن انتهى النوخذة فالح من أمر هذين الرجلين، اتجه إلى فرسه ففوجئ برجل يمتطيها، وكاد من دهشته أن يصوب عليه نار بندقيته، ولكنه تراجع خوفا على فرسه، وعندما وصل هذا الرجل إلى الكويت ممتطيا فرس فالح بن خضيَّر، كان سعد بن خضيَّر متواجدا في الدروازة، فرأى فرس أخيه مع ذلك الرجل، فعرفها، وسأل الرجل: «من أين لك هذه الفرس؟» فرد عليه الرجل: «إنني قالعها»، فاتجه سعد بن خضيَّر إلى من كان حاضرا الموقف من أهل الكويت، وقال لهم: اشهدوا عليه يا جماعة»، وهنا ارتبك ذلك الرجل، وتلعثم في كلامه فظهرت الحقيقة، وعاد سعد إلى بيته يسوق فرس أخيه.
الصباح
وفي الصباح وصل النوخذة فالح إلى الكويت عائداً من الجهراء مشياً على الأقدام، وعندما علم بقصة رجوع فرسه، حمد الله وشكره، ونسجل هنا أن فرس فالح بن خضيَّر كانت صفراء اللون من مرابط الكحيلة، وهي من مرابط الخيل العربية الأصيلة.
الأعمال
أما بالنسبة للأعمال التي مارسها النوخذة فالح بن خضيَّر بعد تركه مهنة الغوص، أو تلك التي كان يمارسها وقت الشتاء في مدة عمله بالغوص، فقد كان يعمل بتجارة الأغنام والابل، والتي كان يملك الكثير منها، ومن بينها أنواع من الجيش الأصايل الأحرار التي كان لها شأن في ذلك الزمان، ويضرب بها المثل في أصالة النوع «غثيرة»، و«شقراء» وغيرها، إلا أن غالبية حلاله قد هلك ونفق في سنة السلاق الشهيرة، التي قضت على الكثير من ابل بادية الكويت، حتى إن ابل فالح بن خضيَّر لم يبق منها الا أربعة من الجيش، اشتراها الشيخ صباح الناصر - رحمه الله -.
أما أملاك فالح بن خضيَّر من العقار، فقد امتلك في الكويت وحدها أربعة بيوت في منطقة الشرق، الى جانب أملاك له في منطقة الشعيبة والدمنة «السالمية» التي استقر بها عدة سنين، وكان له أيضاً جليب ماء في منطقة مريطبة «الجهراء» يسقي منها حلاله.
العلاقات
وقد كان فالح بن خضيَّر صاحب علاقات اجتماعية واسعة وصلات حميمة مع أهل بلده الكويت، الخاصة منهم والعامة، فقد عرف بدماثة الخلق، وكرم اليد، ورحابة الصدر وبشاشة الوجه لكل من يلقاه، وكان ديوانه مدهالاً للناس على مدار اليوم، ومن مظاهر المكانة الاجتماعية العالية التي كان يتحلى بها فالح بن خضيَّر: أن تزكيته كانت معتمدة لدى الحكومة خصوصاً لمن يريد الالتحاق بالسلك العسكري الذي كان يعرف بالأمن العام سابقاً، فكان من يأتي بتزكية وشهادة من فالح بن خضيَّر، قبل والتحق بالأمن العام... وكما اكتسب فالح بن خضيَّر ثقة الحكومة اكتسب ايضاً ثقة تجار الكويت الذين كان الناس يأتون اليهم ليكتالوا منهم على مدار العام، وكانت الضمانة التي يقدمونها للتجار أنهم يقولون لهم: نحن في كفالة فالح بن خضيَّر، فيأخذون ما أرادوا من سلع وبضائع.
الصلة
كذلك كانت صلة فالح بن خضيَّر بالحاج هلال بن فجحان صلة وثيقة، يدل على قوتها ومتانتها وعمقها أنه في إحدى السنين جاء رهط من أهل البادية يزيد عددهم على 17 رجلاً، ومعهم بعض النسوة، راغبين في زكاة الحاج هلال المطيري، والتي لم يكن قد حان وقتها، ولكن فالح بن خضيَّر استقبل هذا الرهط القادمين من البادية، وأنزلهم في ضيافته، وأقام لهم بيت شعر، وذهب الى الحاج هلال بحاجة هؤلاء الرهط، طالباً منه تعجيل موعد اخراج زكاته، وما كان من الحاج هلال الا ان استجاب لطلب فالح بن خضيَّر، وقدم موعد زكاته، ووصل هؤلاء الرهط بما يحتاجون اليه، فعادوا الى موطنهم راضين، ولسان حالهم يلهج بالثناء والدعاء لكل من الحاج هلال والنوخذة فالح بن خضيَّر.
القوة
ومن طريف ما يؤثر عن شجاعة النوخذة فالح بن خضيَّر وفتوته في زهرة شبابه ومقتبل عمره: أن رجلاً سعودياً (أسمر اللون) ليس له نظير في القوة والفتوة، وكان مصارعاً جباراً، أخذ يصارع شباب الكويت في ساحة الصفاة، التي كانت مجتمع الناس للبيع والشراء وقتئذ، وقد استطاع هذا الرجل ان يصرع ويغلب كل من نازله وصارعه، وهنا وقف مختالاً مخاطباً أهل الكويت، ومتحدياً بشجاعته: إني على استعداد أن أصرع شباب الكويت ما عدا فالح بن خضيَّر، أقر وأعترف له.
الشعر
وهذه أبيات من الشعر قالها النوخذة فالح بن خضيَّر سنة (1954م)، في ولده سند:
جعل الشعيبة يجيها السيل
دار سند ساكن فيها
من مدلهن قبال الليل
جعل يسيل سواقيها
ينزاح نوه يمام سهيل
وبحار فاحس غرق فيها
الحج
وقد حج النوخذة فالح بن خضيَّر الى بيت الله الحرام على البعارين «الإبل»، وذلك قبل ظهور الطائرات والسيارات، وقد استغرقت حجته ثلاثة أشهر ذهاباً واياباً.
علي [بن سعد الخضير]
كانت ولادة النوخذة علي بن سعد بن خضيَّر ونشأته في فريج العاقول في منطقة الشرق، وقد التحق في صغره بأحد الكتاتيب فتعلم القراءة والكتابة وحفظ بعض سور القرآن الكريم، والكتّاب هو المدارس الأهلية والمكان الوحيد المتاح في ذلك الوقت للتعليم.
وكانت بداية قصته مع البحر والغوص أن ركب البحر تباباً صغيراً، على عادة أبناء النوخذة الذين كانوا يرفقون آباءهم في ركوبهم البحر للغوص.
كان علي بن سعد بن خضيَّر تباباً مع عمه النوخذة فالح بن خضيَّر.. حتى اذا اشتد عوده وزادت خبرته، ترك التبابة وأخذ يتدرج شيئاً فشيئاً حتى صار غيصاً ينزل الى قاع البحر «القوع»، لا تخيفه وحشة قعره، ولا الأخطار المحيطة به، وقد مكث علي بن خضيَّر سنين عديدة وهو غيص مع عمه النوخذة فالح بن خضيَّر، حتى تمرس بشؤون البحر، وتعمقت خبرته، وزادت معرفته بمهنة الغوص، أصبح بعد تلك المعطيات نوخذة في سفينة عمه النوخذة فالح بن خضيَّر، وهي سفينة يقوم بالتجديف عليها عشرة من البحارة في كل جانب، وتحمل على ظهرها نحو خمسين من البحرية ما بين غاصة وآسيوب.
ظل النوخذة علي بن خضيَّر نوخذة غوص يقارع البحر وهيراته «المغاصات» بحثا عن المحار واللآلئ حتى بدأت هذه المهنة في الانقراض، واصبحت سطرا في صفحة ذكريات الكويتيين، بعد ان كانت هي المصدر الاول لرزق أهالي الكويت وسكانها، وبعدها توجه النوخذة علي بن سعد إلى العمل بالتجارة والمقاولات، والمتاجرة في الحلال ما بين «الابل والاغنام» حيث انه كان يهوى اقتناءها والمتاجرة فيها.
وقد كان النوخذة علي بن خضيَّر كريما، معطاء، رقيق القلب، يحب المساكين ويعطف عليهم، وقد متعه الله بالسمعة الطيبة، وكان محل اجلال وتقدير من الناس، الخاصة منهم والعامة، لما عرف عنه من معرفة كبيرة ودراية عميقة بأهل الكويت وانسابهم.
الوالد
اما بالنسبة لسيرة والده سعد بن خضيَّر فلقد استشهد في معركة الدكاكة «شمال الكويت» التي حدثت بعد معركة الجهراء، وكان سبب استشهاده انه وقف مدافعا عن حلاله «الابل والغنم» في وجه المعتدين، ومعه ابنه علي الذي كان في ذلك الوقت صغيرا، لايستطيع الاشتراك في القتال، وعلى الرغم من ذلك فقد اصيب النوخذة علي بطعنة رمح، فتظاهر بالموت هو وابن عمه محمد بن فالح بن خضيَّر، حتى ظن المعتدين انهما قد ماتا بالفعل، فتركوهما وذهبوا عنهما، وكان ذلك سبب نجاتهما.
ووالد النوخذة علي بن خضيَّر (سعد) كان قد ركب البحر غيصا، وهو ممن قام بحراسة السور ودروازاته اثناء معركة الجهراء سنة 1920.
اما من ركب البحر من آل ابن خضيَّر المطيري. غير من ذكرنا آنفا، فمنهم سعد بن حزام بن خضيَّر، وقد ركب غيصا، ومحمد بن فالح بن خضيَّر، وفواز بن حزام بن خضيَّر، وجميعهم ركبوا غاصةً مع النوخذة فالح بن خضيَّر المطيري.
__________________
ومنطقي العذب للألباب مستلبٌ *** ومبسمي نضَّ فيه الدر والنضرُ لازم منادمتي وافهـم مناظرتي *** واسمع مكالمتي يفشو لك الخبرُ
|