مواقف في تاريخ الكويت - يعقوب الغنيم
مواقف في تاريخ الكويت
الوطن - اليوم
للكويت عبر تاريخها مواقف كريمة، تدل على الاعتزاز بالنفس، والحرص على حماية الوطن وصون كرامته.
وقد مرت بنا من خلال مقالات سابقة أحداث تدل كلها على هذه المواقف، وتعبر بطبيعتها عن اهتمام القيادة الكويتية. منذ البداية بكل ما يحفظ الوطن حدوداً ووجوداً، ولولا هذه العناية لما حافظ هذا الكيان على بقائه منذ سنة 1613م، ولما نال احترام الدول المجاورة وغير المجاورة.
ومن ذلك ما حدث في عهد الشيخ عبدالله بن صباح بن جابر الذي تولى حكم البلاد في سنة 1776م وتوفي في سنة 1814م، ونحن نشير بهذا إلى حادثة معركة الرقة التي سبق لنا أن فصلنا الحديث عنها، وكانت بين الكويت وحكام المحمرة من بني كعب، وكان النصر فيها للكويتيين.
وكانت الكويت – وهو ما أشرنا إليه فيما سبق- تستقبل اللائذين بها، وتبسط حمايتها عليهم، دون أن تعبأ بما قد يجره ذلك من غضب الآخرين، وقد حدث في سنة 1780م أن لجأ ثويني بن عبدالله أمير المنتفق بعد تعرضه لهجوم قاس من والي بغداد إثر استيلاء ثويني على البصرة، ولم يستطع هذا الصمود أمام القوة الكبيرة التي اتجهت إليه بغية إخضاعه ففر إلى الكويت ومعه شخص آخر هو مصطفى آغا الكردي حيث وجدا الحماية والأمان.
ومما ذكر عن هذه الحادثة أن الجهات العثمانية قد طلبت استراجاعهما أولا، وعندما رفض الشيخ هذا الطلب بدأت تقديم الهدايا على سبيل الرشوة المرفوضة من قبل الشيخ، وفي الأخير بدأت التهديد والوعيد، ولكن الشيخ ظل متمسكا بموقفه، رافضا تسليم من لجأ إليه معتبراً أن العادات العربية ترفض تسليم (الدخيل). وكان نتيجة ذلك أن اكتسب ثناء والي بغداد المكلف بمحاربة ثويني؛ سليمان باشا، وفي خطاب له قال بعد أن جرب كل أساليب الإغراء وأساليب الوعيد دون أن تفيده شيئا إزاء موقف الشيخ: (بعد كل هذا اعتبر أن من سعادتي العظيمة أن يكون على مقربة مني شخص في مثل طباع شيخ القرين).
هذا ومما يلفت النظر إلى موقف الشيخ عبدالله بن صباح أنه تلقى رسالة من ممثل الوكالة التجارية الإنجليزية في اليوم السابع عشر من شهر إبريل لسنة 1789م يخبره فيها بعزم الباشا على مهاجمة الكويت للقبض على الرجلين فما كان من الشيخ إلا أن رد بقوله: إنه على استعداد لقتال الباشا في سبيل حماية ضيوفه، إذا لم يكن هناك سبيل آخر غير الحرب.
وقد سمح لضيفيه بالاستعداد لمهاجمة سليمان باشا، واقاما بالفعل مركزا تجمع فيه عدد من الانصار في الجهراء تمهيدا للمهاجمة.
ولا يخفى أن شيخ القرين المذكور هنا هو الشيخ عبدالله بن صباح بن جابر الذي أشرنا إليه قبل قليل. وكانت الكويت في زمنه تسمى القرين.
وعندما توفي هذا الشيخ وتولى الحكم من بعده ابنه الشيخ جابر الأول تمت في عهده حادثتان تدلان على تمسك ا لكويت بمواقف ثابتة وهما:
أ – شاركت الكويت في عهده بأول مجهود حربي خارج حدودها، إذ أقدمت على إرسال جنودها إلى المحمرة لتأديب بني كعب بناءً على التماس من الحكومة العثمانية، بعد أن طرد الكعبيون جند العثمانيين من المحمرة. وقد كان هذا الاهتمام بالتدخل من أجل تحقيق رجاء العثمانيين من جهة، ومن أجل الرد على الإعتداء الكعبي الذي تم في السابق وأشرنا إليه في هذا المقال عند حديثنا عن معركة الرقة الشهيرة.
ب- وفي عهده حضر وفد إنجليزي، وبعد أن استقبله الشيخ ليعرف ما هو قصد هذا الوفد من الزيارة، وجدهم يطلبون عددا من التسهيلات في البلاد منها البناء في بعض المواقع الكويتية. و لم يقبل أن يلبي طلبهم، وهنا سألوه ان كان يسمح للحكومة العثمانية بالنزول إلى البلد، والبناء فيها أم يمنعها؟ فأجاب: (نمنعها من ذلك إذا كان فيه ضرر علينا وعلى بلدنا).
٭٭٭
وإذا انتقلنا إلى عهد حكم الشيخ مبارك الصباح للكويت (1915/1886م) وجدنا تاريخا حافلا بالأعمال الكبيرة والمبادرات المهمة، ويكفي منها ابرامه الاتفاق التعاقدي مع بريطانيا الذي تم ابرامه في سنة 1889م. ولم ينته العمل به إلا باتفاق آخر تم في عهد الشيخ عبدالله السالم الصباح يوم التاسع عشر من شهر يونيو لسنة 1961م.
ومما يعد موقفا مهما من مواقف الشيخ مبارك الصباح – بحق – حرصه على أن يحيط نفسه بالمعلومات من الجهات المجاورة له وعلى الأخص الدولة العثمانية التي يناصبه ولاتها العداء، وكانت له شبه دائرة معلومات أو استخبارات في العراق وفي دوائر الحكومة العثمانية ذاتها، فكانت تأتيه الأنباء حتى من اسطنبول ذاتها. وقد جاء في مجال من مجالات الحديث عن هذا الرجل ان مخابراته كانت الأولى في الجزيرة العربية، ولم يكن هناك شيء يمكن اخفاؤه عنه. ولقد كان تسلحه بالمعلومات سببا من الأسباب التي أحاطته بالحماية نتيجة للحذر. وسببا من أسباب اكتسابه احترام الأعداء قبل الأصدقاء.
٭٭٭
وتمضي الأيام ويأتي دور حكم الشيخ أحمد الجابر الصباح للكويت (1950-21)، وفي عهده جرت أحداث كثيرة وبخاصة ما يتصل بعلاقة الكويت بجارها الشمالي، وتعرضت خلال هذه الفترة إلى إشكالات حدودية وسياسية بل مائية وإعلامية، وقد بذل الجار كل جهده ليؤثر في الكويت ويسلب شيئا من حقوقها ولا سيما على الأراضي، وقد كانت مواقف الشيخ أحمد الجابر قوية ورادعة، أعلن من خلالها عدم التنازل، وعدم الخضوع للابتزاز مهما كانت المعاناة التي يُعانيها هو وشعبه. ولقد ذكرت كثيرا مما مر في هذه الفترة بكل تفصيل، مع تقديم الوثائق التي تدل على صدق ما قدمت، وذلك في كتابي: (الشيخ أحمد الجابر الصباح، ومسألة الحدود الكويتية). ومع وجود التفصيل المطلوب بهذا في هذا الكتاب فإنني أقدم نموذجين لما جاء في هذا الشأن أحدهما يتعلق بالأرض والآخر متصل بالإعلام، وذلك كما يلي:
يتعلق النموذج الأول بمقابلة تمت مع الشيخ أحمد الجابر في أواخر شهر مارس لسنة 1940م، وكان الطرف الثاني في المقابلة هو البريطاني تشارلي براير الذي وصف بأنه قائم بعمل الوكيل السياسي البريطاني في الكويت. وقد جاء يطرح على الشيخ مطامع العراقيين في جزيرتي وربة وبوبيان وقد رد الشيخ أحمد على الوكيل السياسي ردا أوضح عزمه القوي على التمسك بحقوق وطنه وكرامة شعبه، كما بين في رده تفهمه للدسائس البريطانية التي سبق لنا الإشارة إليها، وهي مؤشر على ميلهم – آنذاك – إلى الجانب الآخر. يقول الشيخ في رده وفق المحضر الذي كتبه (براير) وكتبه على لسانه: (وأوضح الشيخ أنه غير مستعد للتنازل عن أي شيء، وأن أرض بلاده ينبغي أن تكون بعيدة عن المساومات والدسائس التي كان يقوم بها بعض الإنجليز لمصلحة الجانب العراقي وأعرب الشيخ عن رغبته في أن يبتعد العراق عن الخوض في المسائل التي تخص الكويت ومنها الأراضي التي تسطر عليها بموجب الحقوق الثابتة التي اعترف بها العراق بموجب الرسائل المتبادلة في سنة 1932م. وقد جاءت خلاصة الحديث في هذا الموضوع كما كتبها محرر ما دار في المقابلة: كان للعناد الواضح الذي دافع به الشيخ أحمد عن كل بوصة من أرضه، أن أقنع الحكومة البريطانية أنه ليس لدى الكويت أي استعداد للتنازل عن وربة وبوبيان) أما النموذج الثاني فيتعلق بالسعار الإعلامي الذي أصاب الأجهزة الإعلامية العراقية، وجعل الملك غازي ينشئ إذاعة خاصة ليس لها عمل إلا الهجوم على الكويت وأميرها. أما الصحف فحدث ولا حرج. ولا شيء أدل على موقف الشيخ أحمد الجابر الصباح تجاه هذه الاستفزازات أكثر من الرسالة التي وجهها إلى الوكيل السياسي البريطاني في الكويت بصفته ممثلا للدولة التي كانت مسؤولة عن علاقات الكويت الخارجية، وفي الرسالة يقول: «بعده، نلفت نظر سعادتكم إلى أن الصحافة العراقية متخذة خطة حملة حيالنا أقل ما يقال فيها إنها تكاد أن تكون مدبرة بل مقصودة لأغراض لا أفهمها وبما أننا جدا حريصون على علاقات الود والولاء مع جيراننا عموما والعراق خصوصا أرجو أن تلفتوا نظر المسؤولين هناك لمثل هذه النشرات المخلة بروابط الود والصداقة بين الجيران إذ طالما نقرأ على صفحات تلك الصحف مقالات منمقة تحت عناوين ضخمة تلفت نظر القارئ وكلها من باب التهويل الذي لا طائل تحته ونحن لو كنا نعتقد أن هناك شيئاً أو شبه شيء من الأشياء المبحوث عنها لغضضنا النظر عن هذه المحاولات الكتابية ولكنها في عين الحقيقة والواقع تتنافى مع الواقع والحقيقة تمام المنافاة.
وإني لا أريد أن أتناول كل مقالة على حدة ولكني سأذكر لكم من باب النموذج المقالات التي نشرت على صفحات جريدة الأهالي البغدادية لمراسل مجهول يتعلق ببساتيننا وأملاكنا، ورسالتهم طمس للحقائق، وكذلك مقالة نشرت في موضوع واحد تحت ثلاثة عناوين مختلفة بقلم كاتب واحد وهو عمر الطيبي السوري الأصل والذي زار العراق أخيرا والمحرر في جريدة فتى العرب الدمشقية المقالة الأولى على صفحات فتى العرب الصادرة بتاريخ 14 شوال 1352 بعنوان لماذا لم تنضم الكويت إلى العراق والمقالة الثالثة على صفحات الثغر المصرية تحت عنوان بين الكويت والعراق عالج فيه الكاتب هذا الضم المزعوم بأسلوب ينم عن روح التواطؤ على النشر لغرض سيئ يراد منه تشويه الحقائق وبذر بذور التفرقة بين البلدان المجاورة. ولو كانت هذه الكتابات تأتينا من وراء البحار أو من أقطار نائية لما استغربنا كل هذا الاستغراب ولكن صدور مثل هذه المحاولات الخاطئة بصفة دائمة من الصحافة العراقية مما يحملنا على أن نستغرب الاستغراب كله كيف يترك الرجال المسؤولون في حكومة منظمة كحكومة العراق الحبل على الغارب لنفر لا يقدرون الحقائق حق قدرها لتشويه سمعة جيرانهم والنيل منهم بلا مسوغ، ولسنا في صدد التدليل على قيمة هذه الكتابات وماهيتها، بل جل قصدنا هو إظهار استنكارنا واستهجاننا لهذه الطريقة المتبعة التي لا يسعنا السكوت عليها مهما كان مصدرها.
ونؤكد لسعادتكم أن ظهور هذه الإشاعات الكاذبة طورا بقلم عراقي وطورا بقلم سوري مما يجعلنا نحتج بشدة على كاتبيها ونلح بالطلب أن تراجعوا المقامات المسؤولة لجعل حد لها يحفظ روح المناسبات الودية التي نرجو دوامها بين الجميع، هذا والباري يحفظكم).
ونتيجة لهذه الرسالة، وغيرها من اتصالات قام السفير البريطاني في بغداد السير موريس بيترسن بمقابلة غازي وأمره بالتوقف عن هذا العمل الصبياني، وكانت النتيجة غريبة، يقول السير بيترسن: (وكما توقعت، فقد انهار الملك تماما عندما ذكرت موضوع الكويت وقال صاحب الجلالة في حديثه غير المترابط بأنه لا يقصد مهاجمة الكويت، بل للضغط على حكامها للإذعان لإقامة المؤسسات اللبرالية. وتساءلت فيما إذا كان صاحب الجلالة يعتبر العراق حقا كمثل يقتدى به في الوقت الحاضر، وقد حذرت مرارا وتكرارا في الماضي من سوء استخدام المحطة الإذاعية الخاصة به لأغراض الدعاية أياً كان شكلها، إذ جاء استخدامها بشكل أصبح يزعجنا إن لم يكن يحرجنا).
وبذا نرى أن رد السفير على قول غازي بشأن المؤسسات الليبرالية رد يعبر عن واقع الحال في العراق آنذاك، وكأن سفير بريطانيا يقول له إن بيتك من زجاج.
ولا ننسى أنه في عهد الشيخ أحمد الجابر تم تأسيس دائرة بلدية الكويت، وافتتح أول بنك في الكويت سنة 1942م، وأنشأ بيت الكويت في القاهرة سنة 1945م ليرعى طلاب البعثات الكويتيين هناك، وتم في عهده – أيضا – تصدير أول شحنة نفط خام كويتي وذلك في اليوم الثلاثين من شهر يونيو لسنة 1946م، وتأسست أول مطبعة في البلاد خلال سنة 1947م.
وكل هذه مواقف جديرة بالاهتمام، وكانت لبنات مهمة في بناء تقدم الكويت وازدهارها.
٭٭٭
وفي سنة 1950م تولى حكم دولة الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح، وبقي في حكمها حتى سنة 1965م، وفي عهده تواترت أحداث كثيرة. وكانت قراراته مثلا في الجرأة، ودليلا على مقدرته القيادية. وعلى حبه للوطن والمواطنين. اتخذ إجراءات كثيرة بدأها باستغلال موارد النفط التي ازدادت في عهده، فصرفها في مصارف نافعة للبلاد، فعم الرخاء، واتسعت البلاد وكثر عدد سكانها، وبدأ عهدا جديدا من التعمير في المباني والطرق، ومن التوسع في خدمات الصحة والتعليم. واعتنى بتكوين الدوائر الحكومية ومجالسها، وتم في عهده أول انتخاب لهذه المجالس. واتخذ أهم قرار في حياته حين طلب من بريطانيا إلغاء الاتفاق التعاقدي مع دولة الكويت، وهو الذي تم في سنة 1889م، فكان له ما أراد حين وقع معه رئيس التمثيل البريطاني في الخليج السير وليام لوس على اتفاق جديد يلغي الاتفاق الأول وينهي آثاره. وقد تم ذلك في اليوم التاسع عشر من شهر يونيو لسنة 1961م، وجابه الشيخ عبدالله السالم الصباح دعوة عبدالكريم قاسم الذي لم يكسب من دعواه شيئا لأنها لم تكن تعتمد على أساس تاريخي أو قانوني، ويستطيع القارئ أن يرى ذلك مبسوطا في كتابنا (من أين يأتي النسيان، الكويت وعبدالكريم قاسم).
وقد خطا الشيخ خطوات مهمة بعد ذلك بانضمام الكويت إلى جامعة الدول العربية في اليوم الثاني من شهر يوليو لسنة 1961م، ومنظمة الأمم المتحدة في اليوم الرابع عشر من شهر مايو لسنة 1963م. وأنشأ المجلس التأسيسي 1961م، وأصدر دستور الكويت في اليوم الحادي عشر من شهر نوفمبر لسنة 1962م، وفي نهاية سنة 1963م جرت أول انتخابات نيابية، وفي شهر يناير لسنة 1962م تشكلت أول حكومة كويتية.
وليس كل ذلك إلا جزءا بسيطا من مجمل الأعمال، والمبادرات التي قام بها الرجل طيلة فترة حكمه.
٭٭٭
ولا نغادر الحديث عن مبادرات الشيخ عبدالله السالم حتى نورد ما قام به أخوه من بعده الشيخ صباح السالم الصباح الذي كانت له مبادرة مهمة سوف نذكرها في موضعها. تولى الشيخ صباح الحكم في سنة 1965م اثر وفاة أخيه. وقد شهدت الساحة العربية في عهده حربين كبيرتين مع إسرائيل، هما: حرب سنة 1967م، وحرب سنة 1973م. وقد أبى إلا أن تشارك الكويت بمجهودها الحربي في هاتين الحربين، فأرسل مجموعات من الجيش الكويتي إلى جبهة القتال في كلا الحربين وأبلى الجنود الكويتيون في ذلك البلاء الحسن. وقد استشهد على ساحة المعركتين في مصر عدد من أبناء الكويت، ينبغي أن نذكرهم، وتذكرهم مصر على الدوام لما قاموا به من جهود مشكورة في مواجهة العدوان الإسرائيلي. ولا أقول أكثر من ذلك عنهم.
تولى الحكم بعد الشيخ صباح عندما توفي سنة 1977م الشيخ جابر الأحمد الصباح رحمه الله وقد كان له من المواقف ما لا ينساها أحد وبخاصة من الجيل الذي عاصر حكمه. وشاهد منجزاته.
٭٭٭
لم تكن النقاط التي قدمناها إلا اختيارات محدودة من المبادرات التي قامت بها الكويت عبر تاريخها. والمواقف المهمة التي برزت في هذا التاريخ كثيرة، وكلها تدل على الرغبة الصادقة في الحفاظ على قيمة الوطن، وكرامة أهله، مهما كلفت المواقف من مصاعب.
|