المنطقة التي حرق فيها بنو دارم من تميم قبل 15 قرناً هجرياً
عزيزي القارئ الكريم، سأنقلك اليوم في رحاب التاريخ إلى أرض الكويت، قبل خمسة عشر قرنا من الزمان تقريبا.
أنقلك الى القصيبة وأوارة، الاسمين اللذين لا يعرفان اليوم حتى نجعلك تعيش مع الاحداث فيهما العزيزة علينا ان تعرف على الاماكن التي دارت فيها الاحداث في عمق التاريخ (ان يوم القصيبة) تعبير عند العرب بأنه حادثة كبيرة وهم يؤرخون سنواتهم بهذه الاحداث، كما نحن في الكويت نقول: يوم الرجيبة يوم الطفحة والرحمة والطبعة وهكذا، فإنه في الكويت كانت تقيم منذ القدم قبائل عربية، فكانت بكر بن وائل تسكن الضباعية (اليوم الضبيعة) ابن ثعلبة والقصيبة وسمسم وغيرها من الاماكن على ساحل البحر، وكانت قبيلة تميم وبعض من أفرعها ومنهم الحرماز في الوفرة، وبنو دارم اهل الفرزدق (لم استعمل كلمة رهط التي يستعملها الاقدمون في كتاباتهم فيقولون رهط الفرزدق).
ومن الذين سكنوا الكويت بنو منقر في الرحية الشمالية قرب الجهرة وخمرة ابن خمرة قرب السادة السيدان سابقا، وبنو «بل عدوية» في ملح وعلى مقربة منها «أوارة» التي تعرف اليوم «وارة»، ولقد أخذت وارة الشهرة لأنها جبل منفرد في هذه البقعة من الارض وهو يعتبر دلالة للعرب الذاهبين والايبين وكانت على مقربة من هذا الجبل منابع النفط التي تظهر على سطح الارض ليستفيدوا منها في علاج حيواناتهم وبالاخص الجمال.
كان في التاريخ قبل الاسلام الغساسنة في بلاد الشام والمناذرة في بلاد الرافدين والحيرة وكانوا الاقرب الى ارض الكويت، وكان من عادة العرب ان يرسلوا ابناءهم عند القبائل ليتربوا على الخشونة والرجولة، ولنا اسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما كفلته حليمة السعدية في مناطقها ومع تربية الاغنام، وهنا جاء آل المنذر المناذرة بارسال ولدهم أسعد شقيق عمرو بن هند الى هذه الفيافي عند قبيلة دارم، ليتربى على الرجولة والمسؤولية، ومن ثم يأتي ليتسلم الحكم من أخيه عمرو بن هند لان بين الاثنين فارقا بالسن.
وهنا أنقل ما أورده كتاب «أيام العرب في الجاهلية» تأليف محمد أبوالفضل، وعلي البجاوي، يقول الكتاب في صفحة 103-102 التالي:
كان المنذر بن ماء السماء - أبوعمرو بن هند - قد وضع ابنا له يقال له مالك عند زرارة بن عدس - وكان أصغر بني المنذر - فبلغ حتى صار رجلا، وانه خرج ذات يوم بتصيد، فأخفق، فمر بإبل لسويد بن ربيعة الدرامي - وهو زوج بنت زرارة قد ولدت له سبعة غلمة، فأمر مالك ببكرة منها فنحرها، ثم اشتوى، وسويد نائم، فلما انتبه سويد شد على مالك بعصا - ولم يعرفه فأمّه ومات، فخرج سويد هاربا حتى لحق بمكة، وعلم أنه لا يأمن، فحالف بني نوفل بن عبد مناف، واختط بمكة.
ثم ملك عمرو بن هند - وعلم بذلك - فغزاهم، وكانت طيء تطلب عثرات زرارة وبني أبيه، حتى بلغهم ما صنعوا بأخي الملك، فأنشأ عمرو بن ملقط الطائي يقول:
من مبلغ عمرا بأن المرء لم يخلق صباره
وحوادث الأيام لا يبقى لها إلا الحجارة
ها ان عجزة أمه بالسفح أسفل من أواره
تسفى الرياح خلال كشحيه وقد سلبوا إزاره
فاقتل زرارة لا أرى في القوم أوفى من زرارة فلما بلغ عمرو بن هند هذا الشعر بكى وفاضت عيناه، وبلغ زرارة الخبر، فهرب وركب عمرو في طلبه، فلم يقدر عليه، فأخذ امرأته وهي حبلى - فقال: أذكر في بطنك أم أنثى؟ قالت: لا علم لي بذلك، قال: ما فعل زرارة الغادر الفاجر؟ قالت: ان كان ما علمت لطيب العرق، سمين المرق، لا ينام ليلة يخاف، ولا يشبع ليلة يضاف، فبقر بطنها وانصرف.
فقال قوم زرارة له: والله ما أنت قتلت أخاه، فأت الملك فاصدقه، فان الصدق ينفع عنده، فأتاه زرارة فأخبره الخبر، فقال: فجئني بسويد. قال: قد لحق بمكة. قال: فعلي ببنيه. فأتى ببنيه السبعة من ابنة زرارة، وهم غلمة بعضهم فوق بعض، يلاحظ القارئ الكريم أنني قلت إنه أخو عمرو بن هند الذي تربى في أحضان بن دارم في كاظمة الكويت، واسمه «أسعد»، وهذا ما نقله ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» صفحة 274، وما ذكرته كتاب في «أيام العرب في الجاهلية» انه ابن عمرو بن هند واسمه مالك، لكن علينا بالنتيجة عندما وصل الخبر الى عمرو بن هند بمقتل ابنه أو شقيقه استعد للقضاء على هؤلاء المعتدين، ويجب أن نعلم أن أبو المنذر بن ماء السماء ليس أحسن منه، ويجب عليه أن يقلده لأنه سبقه قبل سنوات بأن طوّق بعضا من قبيلة طي لخطأ ارتكبوه امام هؤلاء الحكام الغواشم الدكتاتوريين، فذبح على سفح جبل وارة كم من أبناء طي.
وجاء ابنه ليأخذ دوره مع قبيلة تميم وتوجّه فعلا الى هذه المنطقة ونصب الخيام وأوقد النار بين القصيبة (أم قصبة اليوم) ساحل البحر في وسط ميناء عبدالله، وابتدأ يصطاد من بني تميم وكان الأقرب من ذلك السكان المجاورون لمنطقة الحرق، فاصطاد من ملح قرب الأحمدي اليوم.
وهنا يقول زهير بن ابي سُلمى الشاعر الكبير وأحد رجال المعلقات:
«(عداوية) هيهات منك محلها
بالسيخ أسفل من أوارة»
وكان أول من التقط من بني بل عدوية سلطان ملح، ثم اتجه الى بعض من دارم الذين هرب بعضهم واصطادوا له سيدة فاصلة من ضمرة التميمي، وهنا أنقل كذلك، ما ورد في كتاب «أيام العرب في الجاهلية» المذكور سابقاً (صفحة 108) التالي:
أقام عمرو لا يرى أحداً، فقيل له: أبيتَ اللعن! لو تحللتَ بامرأةٍ منهم، فقد أحرقتَ تسعة وتسعين، فدعا بامرأة من بني نهشل بن دارم، فقال: من أنت.؟ قالت: أنا الحمراء بنت ضمرة بن جابر. قال: اني لأظنك أعجمية. قالت: ما أنا بأعجمية، ولا ولدني الأعاجم:
«إني لبنتُ ضمرةَ بن جابرْ
ساد معدًّا كابراً عن كابرْ
إني لأختُ ضمرةَ بن ضمرهْ
اذا البلادُ لقّ.عتْ بجمرهْ».
قال: فمن زوجك؟ قالت: هوذة بن جرول. قال: وأينَ هو الآن؟ أما تعرفين مكانه؟ قالت: هذه كلمة أحمق، لو كنتُ أعرفُ مكانه حال بينك وبيني. قال: وأيّ رجل هو؟ قالت: هذه أحمق من الأولى! أعن هوذة يسأل؟! قال عمرو: أما والله لولا مخافةُ أن تلدي مثلك لصرفتُ النارَ عنك. قالت: والذي أسأله أن يضع و.سادك، ويخفض عمادك، ويُصغر حَصاتك، ويسلب بلادك، ما قتلتَ الا نُسَيّا، أعلاها ثُد.يّ، وأسفلها حُليّ. ووالله ما أدركت ثأراً ولا محوت عاراً، وليس من فعلت هذا به بغافل عنك.
هذه السيدة المظلومة التي قذفت في النار وأحرقت، استجاب الله تعالى دعوتها، وما هي الا سنوات قليلة، حيث قام هذا الحاكم عمرو بن هند ليظهر بطولاته وزعامته على العرب، فقد وجه ذات يوم دعوة كبير التقيا به أحد شعراء المعلقات عمرو بن كلثوم، وكانت الوليمة له ولأسرته ومنهم هند والدة عمرو بن كلثوم، وهكذا ذهبت أم عمرو بن كلثوم الى «صيوان» خيمة أم عمرو بن هند المنذر، وجلس عمرو بن كلثوم مع عمرو بن هند يتحدثان وضيوفهما حولهما وهنا طلبت ام عمرو بن هند من ام عمرو بن كلثوم بعض الاطباق للاكل، فقالت لها ناوليني إياه، أعطيني هذه الأطباق، وهنا سكتت أم عمر بن كلثوم مرة.. مرتين، فنزرتها (نزر باللهجة الكويتية كلمتها بصوت فيه شدة)، وطلبت أن تقدم لها الصحن على أساس أنها تريد ان تهينها، وحيث هي في رحاب ابنها عمرو بن هند صاحت ام عمرو بن كلثوم فقال: صاحبة الحاجة أولى بحاجتها وغلظت الطلب، فصاحت ام عمرو بن كلثوم، وقالت: واويلتاه واخزياه وهنا سمعها ابنها عمرو بن كلثوم بهذه الإهانة فجأة وجد سيفا معلقا في الخيمة (الرواق) فالتقطه وهوى به على رأس عمرو بن هند، فاذا به جثة هامدة، وهكذا يقتص ربنا من القاتل بالقتل ولو بعد حين.
كان عمرو بن كلثوم قد استعاد ذكرياته في معلقته المشهورة، وهو يعلن على عمرو بن هند بالتالي فيقول:
أبا هند فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا
ونصدرهن حمرا قد روينا
ويقول:
بأي مشيئة عمرو بن هند
نكون لقيلكم فيها قطينا
تهددنا وأوعدنا رويدا
متى كنا لأمك مقتوينا
ويقول:
فإن قناتنا يا عمرو أعيت
على الأعداء قبلك أن تلينا
هذه لمحات من معلقة عمرو بن كلثوم، ويقول المثل «كل ظالم يسلط الله عليه ظالم أظلم» إذا صح التعبير.
وهكذا تكون نهاية عمرو بن هند على أهون سبب، ذلك الذي رحل من الحيرة ليقتل مائة شخص بينهم سيده من تميم، وأراد الله أن يقتص منه على أهون سبب.
هذه قصة حادة أو يوم جرت أحداثها في أرض الكويت بين القصيبة وأوارة، وما بينهما من أبو سدرة والمزارع.
ومشاش وروار ومشاش وارة وجعيدان والطويل.
ان المنطقة التي دارت فيها الاحداث قرب جبل أوارة والقصيبة لم تكن خالية من السكان، بل كانت هناك فروع من قبيلة بكر بن وائل، كما قلت، متواجدة على الساحل، ساحل العدان.
ففي القصيبة كانت هناك فروع من بكر بن وائل التجأ عندهم الفرزدق، وهناك الضبيعة (الضباعية اليوم)، والضبيعة هم فرع من بكر بن وائل، وهم من عناهم الشاعر الكبير الاعشى، احد شعراء المعلقات، حيث يقول:
وبنو ضبيعة يعلمو
ن بوارد الخلق الشّرارهْ
إذا نوازي من يُوا
زيهم وننكى ذا الضّراره
لسنا نقاتل بالع.صـ
ــيّ، ولا نُرامي بالحجارَه
قض.م المضارب بات.ر،
يشفي النفوس من الحراره
وتكون في السلف الموا
زي منقراً وبني زُراره
أبناء قوم قتّلوا
يوم القصيبة من أواره
فجروا على ما عوّدوا،
ول.كلٍّ عادات أماره
والعود يعصر ماؤه
ولكل عيدانٍ عُصاره
ولا نُشبَّه بالكلا
ب. على المياه من الحراره
فاقدر بذرَعك أن تحيــ
ــن، وكيف بوأت القداره
فأنا الكفيل عليهم،
أن سوف تعتقر اعتقاره
ولقد حَلفتُ لتصبحــ
ــنّ ببعض. ظلمك في محارهْ
ولتصبحنّك كأس سُــ
ــمّ في عواقبها مرارَه
فانظر إلى الاعشى حين يقول ان بن ضبيعة عندهم علم بتصرفات هذا الحاكم الغشوم عمرو بن هند اننا يا شيبان ويا بكر لسنا نقاتل بالعصي ونرمي في الحجارة ولا ننتظر الحرق مثل ما حصل لبني تميم، بل سيوفنا ممدودة وتقضم، والذي يضرب بهذه السيوف يشفي النفوس والقلوب، ولهذا لا يقترب منا عمر بن هند، بل توجه الى بني تميم بني دارم، حيث انهم ابناء قوم قتلوا يوم القصيبة من اوارة بين أم قصبة اليوم ووارة.
وهنا أقول قبل النهاية في هذا البحث: ليس صدفة أن يعلق على حرق وقتل بني دارم وقتل عمرو بن هند أكبر شعراء المعلقات زهير بن ابي سلمى وعمرو بن كلثوم والاعشى، وأن يذكر كل واحد منهم في شعره ويخلد هذه المآسي. انها فصل من فصول التاريخ يتكرر كل يوم عصرنا الحاضر. ولهذا جزاء الظالمين لا يطول حينما تكون الصدفة لعمرو بن كلثوم بقتل عمرو بن هند. ان للتاريخ لعبرة، وكما يقول المثل «بشر القاتل بالقتل ولو بعد حين».
ولهذا، انتهى عمرو بن هند وانتهى المناذرة وبقيت فروع تميم الى يومنا هذا في اماكن عدة.
خريطة تبين الموقع
فرحان الفرحان - جريدة القبس - 2/1/2011
__________________
"وَتِـــلـْــكَ الأيّـَــامُ نُـــدَاوِلـــُهَـــا بـَـيـْـنَ الـــنَّـــاسِ"
|