ملا مرشد محمد السليمان
لا يختلف اثنان على ان مدرسة ملا مرشد ظاهرة مؤثرة في تاريخ الكويت، نلقي الضوء عليها بمناسبة الذكرى الثمانين على افتتاحها (1927 - 1958) ومرور خمسين سنة على توقفها.
فالاخوان ملا مرشد وملا سليمان اللذان اسسا مدرسة غير مربحة بالكاد تسد الرزق ولقمة العيش، ويعملان في هذه المدرسة دوامين طوال السنة من دون عطلة ربيعية او صيفية، تستحق ان نطلق عليها ظاهرة، وحقا انهما ضحا بوقتيهما وصحتيهما ليقدما للآخرين العلم والمعرفة، وقدما الشيء الكثير في سبيل ثقافة ورفعة هذه البلاد العزيزة الكويت.
هذان الاخوان اللذان صمدا طيلة ثلاثين عاما من التدريس، صحيح افتتحت مدارس في الفترة نفسها كمدرسة ملا زكريا الانصاري ومدرسة عبدالله عبداللطيف العثمان وشقيقه ملا عثمان وملا محمد، ومدرسة عبدالعزيز حمادة ومدرسة ملا عبدالوهاب الحبنان ومدرسة الخنيني، لكن هذه المدارس لم تصمد بل اغلقت ابوابها بعد فترة قصيرة، ما عدا مدرسة الخنيني والتي استمرت لبعض الوقت، لكن هناك مدرسة تدرس البنات وهي خاصة للنساء، وكذلك مدرساتها وهذه المدرسة صمدت قرنا من الزمان، انها مدرسة آل العمر او المطاوعة، وقد استمرت من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، وهذه المدرسة بدلا من تسميتها مدرسة المطاوعة كان الاجدى ان تسمى مدرسة المطوعات.
وهذا ما ينطبق على مدرسة ملا مرشد بفتح الميم واسكان الراء وفتح الشين، وكان الاجدر بهذه المدرسة وهذه المعمعة العلمية ان تسمى مدرسة ملا مرشد بضم الميم وتسكين الراء وكسر الشين، وهنا يكون هذا الرجل اسم على مسمى فهو مرشد وجاء اسمه مطابقا لحقيقته واقول رحمه الله.
هذه مجرد مقدمة لهذه المدرسة، كيف بدأت الفكرة في تأسيس هذه المدرسة ويمكن انه قد اغنانا المرحوم حمد السعيدان في موسوعته حيث يقول الجزء الثالث صفحة 1384 التالي:
مَرشَد: (مدرسة ملا مرشد)
مدرسة اهلية تأسست سنة 1927 اسسها مرشد محمد السليمان وسليمان محمد السليمان، من اقدم المدارس الاهلية واكثرها تقدما من ناحية البرامج الدراسية ففيها كانت تعطى دروس القرآن والعربي والخط والحساب والاملاء والفقه والتوحيد ومسك الدفاتر الى جانب مبادئ اللغة الانكليزية، تخرج فيها معظم رجالات البلاد ومنهم بعض افراد الاسرة الحاكمة، ووكلاء الوزارات والوكلاء المساعدين وغيرهم. وكانت الدولة قد كرمت – في عام 1968 في عيد العلم – عددا من المدرسين القدامى دون اصحاب هذه المدرسة، كما ان الشيخ عبدالله النوري لم يذكر هذه المدرسة في كتابه «قصة التعليم» مع انها قديمة ومشهورة. اغلقت المدرسة سنة 1958.
ملا مرشد محمد السليمان:
ولد سنة 1907، وتوفي بتاريخ 9 ديسمبر 1971. (انظر مرشد)
ملا سليمان المحمد: من مواليد سنة 1906. توفي 1985.
هذه ملاحظات قيمة كتبها وسجلها المرحوم السعيدان، لكن لنعد الى الوراء لهذه الاسرة الكريمة التي اكرمتنا بالتعليم والاخلاق ثلاثين سنة:
كان المرحوم (محمد السليمان) والد الفاضلين سليمان ومرشد قد رحل من نجد ومن حوطة بني تميم مبكرا وكان حظه حظ كثير من العائلات التي انحدرت من نجد للبحث عن حظ اوفر وحياة سعيدة وسكن على مقربة من ابناء قريته وهناك في اوائل القرن العشرين، ادخل ابناءه سليمان ومرشد الى المدرسة المباركية وقد نال كل منهم حظا من التعليم وعمل الاخوان بالتجارة، لكن الله كتب لهما ان يكونا مربين ليدخلا التاريخ وينالا من الدعوات الى يوم الدين وهكذا عندما اخذت بعض المدارس الخاصة التي سبقت المدارس التي ذكرناها وهي مدرسة حمادة والخميس والخنيني والحنيان كانت هناك مدارس تفتح في دواوين الاغنياء لتدريس ابنائهم لكنها لم تصمد لانها لا تسير على فهم دون مدرسين ثابتين.
لهذا جاءت ثمرة هذا الرجل الشجاع ملا مرشد الذي نال قسطا وافرا من التعليم في المدرسة المباركية، الخط والعربي القراءة والكتابة وحفظ القرآن وكذلك الفقه والحساب ومسك الدفاتر، وهذا كان آخر المطاف من التعليم في تلك الحقبة، ادخل فيما بعد اللغة الانكليزية لتعامل التجار مع المراسلات والهند اثناء السفر وكان الذي يقوم بتدريس هذه المادة ملا ناصر الحوطي تولى قيادة هذه المدرسة مرشد الذي دعي فيما بعد بملا مرشد وساعده شقيقه ملا سليمان وكان ملا مرشد يدرس الفصول المتقدمة وملا سليمان يدرس الفصول الاولية وهناك فصل خصص لملا فهد المزيد الذي يدرس الطلبة في الفصل المتوسط، كانت الدراسة في هذه المدرسة متواصلة صيفا شتاء دون عطلة صيفية ولا عطلة ربيعية، والدوام على فترتين صباحية ومسائية، وكان حينما يحين وقت صلاة العصر يجتمع الطلبة في ساحة ملا سليمان ليؤدوا صلاة العصر، ثم بعد ذلك صارت الصلاة في ساحة الاثلة وهي ساحة المدرسة الامامية.
وكانت المدرسة تأخذ من الطلبة مبلغا قليلا ورمزيا ثم ارتفع الى ان اصبح روبية في الشهر واربع آنات للماء.
كان الجلوس في المدرسة على الارض وعلى المنقور الذي يسقف به سقف الغرف و«المنقور» يصنع في ايران او العراق من القصب الذي ينبت على مياه الانهار.
كان في هذه المدرسة غالبية الطلبة، كل واحد عنده «بشتخته» وهي عبارة عن صندوق مصنوع من الخشب في الهند، وفيه مكان للاوراق ومكان للدواة (المحبرة) ومكان للاقلام، وهناك الطلبة يتبارون بنوعية كل واحد بشتخته، فهذا عنده من السيسم والاخر عنده من الابنوس الاسود والبعض بشتخته من السامج، والحفاي بشتختهم من الخشب العادي في فصل ملا مرشد بالليوان دائما هذا الليوان مفتوح، لكن في فصل الشتاء يوضع (شتر) وهو عبارة عن جنحة لتمنع البرد والطلبة يتحفرصون من البرد، لكن مع الوقت يدفأون.
كان الفاضل د. عبدالمحسن الخرافي في كتابه «مربون من بلدي» يقول في صفحة 377 عن ملا مرشد التالي:
تلقى المربي الفاضل تعليمه كاملا في مدرسة المباركية عن الاساتذة الافاضل الذين كانوا يتولون التدريس فيها في تلك الفترة وهم: الشيخ يوسف بن عيسى القناعي وكان ناظر المدرسة ويدرس اللغة العربية وآدابها، بالاضافة الى الدين والتاريخ، وايضا الاستاذ عبدالملك الصالح المبيض، وكان يدرس الحساب والخط، وايضا الشيخ القاضي احمد الخميس ودرس تحفيظ القرآن، والشيخ يوسف الحمود ويدرس الدين والفقه، والمؤروخ الشيخ عبدالعزيز الرشيد ويدرس مادة الفقه والتاريخ، كما كان من اساتذته ايضا عمر عاصم الازميري ويدرس القرآن الكريم والتجويد، واخيرا حافظ وهبة وكان يدرس مواد العلوم.
وقد قام بمساعدته في عملية التدريس كثيرون وفي ازمان مختلفة، فقد ساعده طوال فترة استمرار المدرسة اخوة سليمان، كما ساعده ايضا: ابرهيم السعد الحوطي، وعباس الهارون، وصالح العجيري، وعبدالرحمن الرويح وعبدالرحمن العبدالغني، وفهد المزيد، وناصر الحوطي، ومحمد السليمان، ومحمد السيف، ويوسف الشايجي وغيرهم. واستمرت مدرسته على هذا المنوال، حتى عام 1955، وقد عرضت عليه دائرة المعارف آنذاك فكرة انضمام مدرسته اليها، فلم يوافق وقد قام تلاميذه بالتوجه الى المدارس الحكومية، واغلق مدرسته عام 1956 بعد ان قضى فترة قدرها ثلاثون عاما في التدريس.
تخرج على يديه عدد كبير من التلاميذ، من ابرزهم: صاحب السمو الشيخ جابر الاحمد الجابر الصباح، والشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح، وعدد كبير من افراد الاسرة الحاكمة وابناء الكويت، وعلى سبيل المثال لا الحصر: احمد عبدالعزيز السعدون وفيصل السعدون، وعبدالرحمن محمد الملحم، وعبدالمحسن عبدالله السعد، ومحمد احمد الغنام، وعبدالعزيز اسماعيل، ونصار عبدالله النصار، وعبدالعزيز احمد النصار، وعبدالرحمن احمد السعد، ويوسف مطلق الزايد، والمستشار راشد عبدالمحسن الحماد، والعميد المتقاعد حمود مشاري الخرافي.
توفي الملا محمد السليمان في ديسمبر عام 1391 هـ (1971م).
رحمه الله رحمة واسعة، واسكنه فسيح جناته.
واحب ان اضيف الى ان من قاموا بالتدريس في هذه المدرسة، بالاضافة الى الذين ذكرهم الدكتور عبدالمحسن كثيرون، منهم محمد سعيد محمد الدويسان الذي كان يدرس مادة حساب الكسور العشرية، وقد خرّجت هذه المدرسة الكثيرين وافادت الكثيرين ايضا، فقد كانت عبارة عن ناد يلتقي فيه الشباب للتعارف، حيث ان التلاميذ والطلبة من مناطق مختلفة، وكان ملا مرشد لا يفرق بين طالب واخر وكان يساوي بين الجميع في الاتفاقة والسؤال الكل سواء.
كان لي الحظ ان ادرس في هذه المدرسة قرابة ثلاثة اشهر في فصل الصيف، واقول بحق كنت استفدت من هذه المدرسة الشيء الكثير وكانت معارفي في هذه المدرسة مع كثير من الشباب الذين تبوؤا مناصب في هذه الدولة العتيدة.
اعود لاتحدث عن ملا سليمان محمد السليمان شقيق ملا مرشد كان ملا سليمان اكثر بدانة من شقيقه ملا مرشد، لكن كان الاخوان لا تعرف ايهما ملا سليمان من ملا مرشد في الاخلاق والمعاملة والعلاقات كان ملا سليمان تفرغ لتأسيس الطلبة الصغار في هذه المدرسة ومن ثم يسلمهم الى شقيقه مرشد ليكملوا دراستهم كان ملا مرشد قد سبق شقيقه سليمان في مغادرة الحياة، وان كان قد جاء بعده الى هذه الدنيا، حيث توفي ملا مرشد 1971. ولحقه شقيقه سليمان سنة 1985.
كان المعروف عن ملا مرشد انه يحب البر وصيد البر ولا يحب البحر بعكس شقيقه سليمان فانه كان يحب (الحداق) صيد البحر كان ملا سليمان قد انجب ابنه البكر محمد الرجل الذي كان نائبا في البرلمان الكويتي، عن منطقة الخالدية، في فترة سابقة هو من الشخصيات المعروفة، وكان احمد ملا مرشد ولده الكبير عمل في الحقل الدبلوماسي فهو من كبار موظفي وزارة الخارجية.
واخيرا فهذه هي اسرة ملا مرشد وسليمان اللذين تفرغا للتعليم والتدريس، هذه هي الاسرة او الاخوان اللذان تركا بصمات لايمكن ان تمحى على مدار التاريخ، لانها محفورة في القلوب، حيث علما ووجها ودرسا وربا الكثيرين من ابناء هذه البلاد العزيزة، هذان الاخوان مرشد وسليمان لو تفرغا للتجارة في بداية حياتهما، لربما اصابا الشيء الكثير لكن كتب الله ان يربيا بعض هذا الجيل السابق.
كان لي الحظ في العطلة الصيفية لمدارس الحكومة ان التحق بمدرسة ملا مرشد ثلاثة اشهر كنت قد غنمت منها الشيء الكثير رؤيتي ملا مرشد وحدها تكفي من المهابة والوقار فهو باش غير كاش بالجميع.. كنت انظر اليه وهو يعطي اهتماما زائدا للطلبة الايتام، كان لا يتأخر عن التدريس في المدرسة ابدا بل يكون في مقدمة الطلبة.
لكن اقول بعد ان توسع التعليم الحكومي وفتحت مدرسة المرقاب اخذ التلاميذ الصغار يتجهون الى مدارس الحكومة نظرا لما تملك من امكانات اخذت مدرسة ملا مرشد تتقلص حتى ابتدأت الاعداد بها في السنوات الاخيرة بعد بالاصابع لهذا ارتأت حكمة ملا مرشد ان يقفل ابوابها. وبما ان مدرسة المرقاب التي اخذت حفنة من الطلبة من مدرسة ملا مرشد بها اساتذة ومدرسة اكفاء، امثال ملا عثمان وعبدالعزيز الدوسري، وغيرهما، لهذا اقفلت هذه المدرسة العتيقة مدرسة ملا مرشد ابوابها بعد ان كانت كلها عطاء وعلم وثقافة واقول رحم الله ملا مرشد وملا سليمان ومن ساعدهما.. وجزاهم الله خير الجزاء وأسكنهم فسيح جناته.
هذا الموضوع منقول من جريدة القبس بقلم الكاتب : فرحان الفرحان
|