( جريدة الغد الأردنية )
الوقف مؤشراً على تقدم المجتمع على الدولة:
حالة الكويت 1821-1899
محمد. م. الأرناؤوط
يعتبر الوقف مؤشراً مهماً لوعي المجتمع لذاته، وبالتحديد لحاجاته وآليات تلبية هذه الحاجات دون انتظار ذلك من الدولة القائمة. وهكذا يمكن القول أن وجود وتطور الوقف، وتنوع أنواعه وأهدافه، إنما يعكس مدى تطور وتماسك المجتمع الذي يفرض نفسه على الدولة في هذه الحالة.
وفي هذا الإطار يمكن القول أن الوقف يساعد على دراسة نمط المجتمعات، حيث أن الأنواع الموجودة منه (الدينية والتعليمية والصحية والإنسانية إلخ) إنما تعكس التوجهات الموجودة في المجتمع وتؤشر إلى نمط ذلك المجتمع.
وفي هذا السياق يلاحظ أن مشاركة المرأة في الوقف إنما تعكس مكانة المرأة بشكل عام في كل مجتمع، حيث أن إقبال المرأة على الوقف إنما يعبر عن مدى تمتعها بالثروة (حيث أن الوقف يعني تخصيص ثروة أو جزء من ثروة لغرض خيري) وإدارتها لتلك الثروة بواسطة الولاية المباشرة أو غير المباشرة.
إن هذه الملاحظات وغيرها تبرز مع قراءة التجربة الكويتية فيما يتعلق بالوقف.
وربما يربط البعض بين اكتشاف النفط وتدفق الخير على أبناء الكويت، وحتى خارج الكويت للأشقاء العرب والمسلمين، أو ربما يأخذ البعض ببساطة الكيانية الكويتية كمسألة مرتبطة بالترتيبات السياسية المتأخرة للمنطقة.
ولكن دراسة التجربة الكويتية في الوقف خلال الفترة المبكرة 1821-1899م تدل بالفعل على وجود وعي متقدم بالنسبة للوقف ومجتمع متماسك بفضل الوقف.
وقد أحسنت الأمانة العامة للأوقاف في الكويت، التي تعتبر من أحدث وأنشط الهيئات الوقفية في المنطقة، في إصدار ثلاث مجلدات مما أسمته "سجل العطاء" الذي يوثق للوقف أعمال الواقفين في تاريخ الكويت.
ونظراً لأنه لا وقف بدون وقفية تحفظه، حيث أن الكثير من الأوقاف قد ضاعت مع ضياع الوقفيات الموثقة لها، فإن المجلد الأول من "سجل العطاء" إنما يوثق للقرن التاسع عشر فقط، وبالتحديد من أول وقفية تعود إلى سنة 1236هـ/ 1821م.
وقفية رقية العدساني 1298هـ 1881م
ويحتوي هذا السجل على ست وثمانين وقفية تتعلق بأوقاف خيرية وذرية مختلفة من رجال ونساء الكويت من العائلات المعروفة (العدساني الدواس، العتيقي، الشطي، الوقيان إلخ) وهو عدد ليس بالقليل إذا أخذنا بعين الاعتبار المجتمع الصغير للكويت الذي أخذ يبرز آنذاك.
ويفيد هذا السجل بالذات في التعرف على ملامح البلدة الصغيرة، التي هي أساساً تصغير للكوت، وما فيها من منشآت (مسجد القطامي،مسجد ابن مرزوق ، مسجد العبد الله، المدرسة المباركية،الخان الخ..).
وأسواق (سوق الخضار، سوق المناخ الخ..).
وشوارع ( شارع الحمد).
ومحلات (محلة المرقاب، محلة الجناعات، محلة النصرالله، محلة العتيقي إلخ..) مما يساعدنا على تصور التمدد العمراني للكويت آنذاك.
ولكن الملفت حقاً في هذا السجل هو حجم مشاركة المرأة في هذه الأوقاف.
وهكذا يتضح في هذا السجل أنه لدينا 38 وقفية لنساء من أصل 86 وقفية، أي أن نسبة مشاركة النساء في الأوقاف تصل إلى حوالي 45%.
وفي الواقع أن هذه النسبة (حوالي النصف) ليست قليلة بالمقارنة مع المجتمعات المسلمة الأخرى سواء في الخليج أو في العالم الإسلامي، حيث تنخفض وترتفع تبعاً للتكوينات الاجتماعية الثقافية وليس إلى المرجعيات الشرعية.
ففي الإسلام لا يوجد ما يحد من تمتع المرأة بورثتها ومن تمتعها بالثروة واستثمار وإنفاق هذه الثروة كما تريد.
ومن ناحية أخرى لا توجد في الشروط الخاصة بالوقف في الإسلام ما يميز الرجل عن المرأة، حيث يتساوى هنا الطرفان. ولذلك فإن الوقف في أي مجتمع مسلم، وخاصة فيما يتعلق بحجم مشاركة المرأة، يصبح من المؤشرات المهمة لوعي المجتمع لذاته، ودور المرأة في هذا المجتمع.
ومن هنا فإن نسبة مشاركة المرأة في الوقف في المجتمع الكويتي القديم (حوالي 45%) من أعلى النسب التي تعرفها في العالم الإسلامي، وهذا له دلالته بالتأكيد على ما كانت تحظى به المرأة من ثروة (تسمح لها بأن توقف) ومن مكانة في المجتمع.
ويلاحظ هنا أن الوقف كان يتحول أحياناً إلى تقليد عائلي في المجتمع الكويتي الصغير. وهكذا نجد بين الواقفات عيدة بنت سليمان زوجة ثويني الدواس المعروف أيضاً بما أوقفه في الكويت، كما أن ابنتها هيا بنت ثويني تحولت إلى واقفة أيضاً.
وفي هذا السياق يفيدنا السجل المذكور بالمعاملات المالية للنساء في المجتمع الكويتي، وبالتحديد بقيامهن بشراء بعض البيوت لوقفها، حيث تذكر أيضاً الأسعار الرائجة للبيوت سواء بالريال النمساوي الذي كان رائجا آنذاك في الخليج طيلة القرن التاسع عشر أو بالروبية الهندية التي أخذت تنتشر في نهاية القرن التاسع عشر.
ومن ناحية أخرى يلاحظ من خلال هذا السجل حرص بعض النساء الواقفات على قيامهن بإدارة (ولاية) الأوقاف أيضاً.
وبشكل عام يمكن القول أن تصفح هذا السجل يعطينا فكرة مغايرة عما هو في الأذهان عن الفترة المبكرة من تاريخ الكويت (1821-1898م) حيث يبرز لدينا مجتمع متماسك ومتميز بالإقبال على الوقف سواء من قبل الرجال أو من قبل النساء.
وبهذا الشكل يمكن القول أن المجتمع الكويتي آنذاك ، بالاستناد إلى مؤشر الوقف، يعتبر نموذجاً لتقدم المجتمع على الدولة وخاصة لمن يعتبرون أن الدولة الكويتية كيان مصطنع تشكل في وقت متأخر.
- أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت