حبر الأمة: عبدالله بن العباس في كاظمة - يعقوب الغنيم
حبر الأمة: عبدالله بن العباس في كاظمة
الوطن - 2010/08/17
في شهر رمضان المبارك يحلو لنا الحديث عن سيرة بعض رجال الاسلام الأوائل، الذين بهم انتشر الدين وعمت المعرفة به حتى وصلت الى آفاق بعيدة، نحن نعرف ان شهر رمضان هو شهر العبادة واستذكار فضل الله علينا، ولعل من فضله أن هدانا وأنار لنا سبلنا وهيأ لنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الرجال الذين حملوا الرسالة وأدوا الأمانة، وكان وجودهم بعد وفاة الرسول الكريم فضلا من الله ونعمة، ولولاهم لغابت عنا أمور كثيرة من أمور ديننا الحنيف، ولعدنا إلى ظلام دامس، لا نرى من خلاله شيئا، ولكن الله سبحانه قد شاء أن يهيئ لنا هؤلاء الهداة المهتدين، وأن ينفعنا بهم.
ومن هؤلاء رجل يتردد اسمه كثيرا في كتب التاريخ الإسلامي، وكتب الحديث، وله سيرة عطرة، ونفع كبير للناس وللاسلام، هذا الرجل هو عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب الذي ولد قبل سنة الهجرة بثلاث سنوات، وكان مولده في الشعب الذي حصرت فيه قريش أهله من بني هاشم.
التحق بالمدينة المنورة، وصحب الرسول الكريم وهو حدث، سمع منه، ونقل عنه عددا من الأحاديث النبوية الشريفة، وسمع أحاديث أخرى من عدد من كبار الصحابة، وقرأ القرآن الكريم على حفاظه في ذلك الوقت. وكان أمينا في جمع الأحاديث حتى ذكر عنه أنه قال: إنني أعرض الحديث الواحد على ما لا يقل عن ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان اهتمامه في هذا المجال كبيرا حتى إنه ليذهب إلى الشخص من أجل سؤال ما فيجده نائما، فيجلس على عتبة بيته حتى يستيقظ فيسأله، وكان بامكانه أن يطلب من أهل الرجل إيقاظه، ولكنه يحترم الأصحاب الكرام، ويرى ان طلب العلم يقتضي منه التواضع، وبذل الجهد من أجل التحصيل.
ونتيجة لهذا الاجتهاد فإن علمه قد فاض حتى انتفع به عدد كبير من التابعين الذين كانوا يسعون إلى تلقف ما يحفظه من أحاديث رسول الله، حتى بلغ عددهم حدا تصعب الإحاطة به.
وصفه الذهبي صاحب كتاب «سيَر أعلام النبلاء» بأنه كان وسيما، جميلا، مديد القامة ، مهيبا، كامل العقل، ذكي النفس، من رجال الكمال.
وذكر أنه انتقل مع أبويه إلى دار الهجرة سنة الفتح، وكان قد أسلم قبل ذلك الوقت.
وكانت له مواقف في الوعظ لا يصل إليها أحد من أقرانه، روى بعض التابعين عنه شيئا من ذلك فقال: كان ابن عباس من الاسلام بمنزل، وكان من القرآن بمنزل، وكان يقوم على منبرنا هذا، فيقرأ سورة البقرة وسورة آل عمران، فيفسرهما آية آية.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول عن ابن عباس إذا ذكره: ذلك فتى الكهول، له لسان سؤول وقلب عقول.
أمضى حياته في طلب العلم الديني، وفي نشره بين الناس وحرص على تفسير القرآن الكريم، وإحياء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى نهاية حياته. إذ توفي عن إحدى وسبعين سنة، وكان ذلك في السنة الثامنة للهجرة، رحمه الله، وأبقى ذكره الكريم نبراسا لنا ولأولادنا من بعدنا.
لقد نشأ ابن عباس في بيت النبوة، فوالده العباس بن عبدالمطلب هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم الفضل: لبابة بنت الحارث أخت أم المؤمنين ميمونة زوجة رسول الله وكانت هذه خالته وخالة الصحابي الجليل خالد بن الوليد.
وكان عبدالله بن عباس لذلك يدخل إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان حظه سعيدا حين دعا له الرسول الكريم أن يلهمه الله الحكمة، وأن يزيده علما وفهما. ولذلك فقد حظي من العلم والحكمة بالشيء الكثير، حكى طاووس- وهو من كبار التابعين- قائلا: كنت إذا رأيت ابن عباس قلت: أجمل الناس، فإذا نطق، قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث، قلت: أعلم الناس.
وروي عنه أنه فات الرجال بخصال؛ بعلم ما سبق، وفقه ما احتيج له من رأيه، وحلم، ونسب، ونائل، ويقول راوي هذا الوصف: ما رأيت أحداً أعلم بما سبقه من حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، ولا أعلم بما مضى..
ولهذه الصفات فقد كان سيدنا عمر بن الخطاب معجبا بذكائه وفهمه، وكان يقربه دون غيره ممن هم في مثل سنه. واهتم والده العباس بهذه البادرة من عمر، وأحب أن يكون ابنه عند حسن ظن الخليفة به، فقال له ناصحا: «يابني إني أرى أمير المؤمنين قد اختصك دون من ترى من المهاجرين والأنصار، فاحفظ عني ثلاثا: لا يجرِّبنِّ عليك كذبا، ولا تغتب عنده مسلما، ولا تفشين له سراً».
هذا نموذج للتربية الكريمة التي نالها عبدالله بن عباس من والده عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودليل على حرص الوالد على أن يظل ابنه متمتعا بالثقة الكريمة التي وضعها فيه الخليفة.
٭٭٭
كان عبدالله بن عباس رضي الله عنه بحرا متدفقا من العلم، ولذا أُطلق عليه لقب: البحر، كما أُطلق عليه لقب: حبر الأمة لما يحويه قلبه من علم بكتاب الله وسنة رسوله. وكان يتصدى لإيضاح كل ما يحتاج إلى إيضاح من أمور الدين التي يسأله جلساؤه عنها، ولم يتعود السكوت عن أمر سُئل عنه، فإن إجابته حاضرة لكل سؤال.
وهكذا نرى أن هذا الصحابي الجليل لم يهدأ في حياته عن طلب العلم وعن تعليمه، بدأ حياته حريصا على أن يحيط بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن الكريم وأخبار الماضين من العرب، وأنهاها معلما لمن يُريد من طالبي العلم لا يتأخر عن تقديم ما وهبه الله من معرفة وحكمة إلى هؤلاء الذين ينهكون إبلهم في سبيل الوصول إليه والاستماع إلى علمه الغزير.
وكما كان منظما في تحصيله، كان منظما – كذلك- في تعليمه. قال التابعي عمرو بن دينار يصف طريقة ابن عباس في التعليم: «ما رأيت مجلسا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس، الحلال والحرام، والعربية والأنساب، والشعر» وقال الآخر وهو عطاء بن السائب أحد كبار التابعين:
«كان ناس يأتون ابن عباس في الشعر، والأنساب، وناس يأتون لأيام العرب ووقائعهم، وناس يأتونه للفقه والعلم، فما منهم صنف إلا يقبل عليهم بما يشاؤون، وكان كثيرا ما يجعل أيامه: يوما للفقه، ويوما للتأويل، ويوما للمغازي، ويوما للشعر، ويوما لوقائع العرب».
ألا ترى أن هذا الرجل قد هيأ له مدرسة ذات نظام يقبل الناس من كل مكان ليأخذوا منها العلوم التي يحتاجون إليها، فهو منظم في عمله التدريسي يخصص لكل علم يوما حتى لا تختلط الأمور على مريديه، إنه يقوم بتدريسهم خمسة علوم مختلفة خصص لكل علم منها يوما كما رأينا.
وعلى الرغم من هذا العلم الغزير فإن ابن عباس لم يترك شيئا مكتوبا منه، واقتصر طوال حياته على إلقاء ما عنده مباشرة على تلاميذه، أو الراغبين في معرفة ما عنده من معارف. ولكن الله هيأ له من يقوم بجمع بعض ما ورد عنه فصدر له كتاب: تفسير ابن عباس، وهو مطبوع، وقد قام بجمعه في كتاب بعض أهل العلم، التقطوه من مرويات المفسرين عنه، فجاء متناسقا نافعا.
كما صدر له «مسند عبدالله بن عباس»، الذي ضم عدداً كبيرا من الأحاديث التي رواها. وجاء هذا ضمن كتاب تهذيب الآثار الذي حققه وطبعه شيخنا الأستاذ محمود محمد شاكر، في سنة 1982م وهو من تأليف أبي جعفر الطبري، صاحب تفسير الطبري وغيره من الكتب المهمة.
ولقد جاء هذا الكتاب في مجلدين كبيرين، قام الشيخ بإعداده للطبع وتحقيقه وتزويده بكل ما يفيد القراء من شروح وتعليقات وتحقيقات، ووضع على الغلاف قول أبي العلاء المعري: «ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال»، وهذا تعبير استعاره الشيخ محمود شاكر ليوضح لنا القيمة العالية التي يتمتع بها عبدالله بن عباس راوي الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في هذا المسند الذي عني بنشره محققا.
لقد قام شيخنا الأستاذ محمود محمد شاكر بعمل جليل حين قدم إلى قراء العربية هذا الكتاب، فقد كان جهده في إخراجه واضحا من حيث المراجعة والفهرسة، والرجوع إلى كتب الحديث الأخرى لمقارنة ما ورد فيها بما ورد في فرع كتاب تهذيب الآثار: مسند عبدالله بن عباس. جزاه الله خيرا وأثابه على ما فعل.
وكانت لعبدالله بن عباس في مجالسه أقوال منيرة تفيض بالحكمة وحسن الرأي، وتدل على المكانة التي وصل إليها من العلم والمعرفة، ومن أقواله الجميلة التي يهتدى بها، ويقتدى بمثلها قوله: «لجليسي عليّ ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل وأوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا تحدث».
ومن أقواله أيضا: «ما رأيت رجلا لي عنده معروف إلا اضاء ما بيني وبينه»، وقوله رضي الله عنه: «أربعة لا أقدر على مكافأتهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه بالمشي في حاجتي. فأما الرابع فما بكافؤه عني الا الله عز وجل، قيل ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر فيأت ليلته يفكر فيمن يقصده، ثم رآني أهلا لحاجته، فأنزلها بي».
وفي هذه القطوف التي قدمناها من أقواله الكريمة دلالة على الروح العالية التي يتمتع بها، وعلى حب الخير وصنعه، وعلى تقديره للناس حتى ولو ذكروه – فقط – عند حاجتهم إليه، وفي أقواله دلالة على رحابة النفس التي يتمتع بها فتجلب إليه حب الجميع وتبقي له الذكر الحسن، وما جاءه كل ذلك إلا لأنه من بيت النبوة الشريف وقد شهد كل من عاصره، ورآه يقول ويفعل بكل ما ذكرناه من خصال طيبة.
٭٭٭
في أيام متأخرة من خلافة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه، كان عبدالله بن عباس متوليا له على البصرة وخراجها، وفي قصة طويلة رواها أحمد بن عبدربه في كتابه «العقد الفريد» ج4 صـ3 وما بعدها، فصَّل فيها ما حدث بين الرجلين ومنه نعرف أن خلافا نشب بين ابني العم أدى إلى مغادرة ابن عباس للمنطقة كلها، واتجه إثر ذلك إلى مكة سالكا طريق البصرة إلى اليمامة، ثم استقر في جوار المسجد الحرام.
وقد وصف ابن عبدربه هذا الطريق كما وصفه ابن خرداذبة في كتابه «المسالك والممالك» غير أن الأول منهما كان يميل إلى الحديث الأدبي، فذكر الأشعار التي تم ترديدها أثناء الرحلة بما يردده الحداة عادة لكي يحثوا الإبل على الجد في السير.
وكان الطريق بعد البصرة يمر بكاظمة، وهو طريق معروف تسلكه القوافل العابرة عادة وفي الموضوع الخاص بالشعر، يقول ابن عبدربه: «فجعل راجز لعبدالله، يسوق له {إبله} في الطريق ويقول:
صبَّحن من كاظمة القصر الخرب
مع ابن عباس بن عبدالمطلب
وذكر ابن خرداذبة في كتابه «المسالك والممالك» الطريق من البصرة إلى اليمامة. واليمامة جزء من جزيرة العرب الأساس مثل البحرين. والمار إليها لابد وأن يمر بقسم من البحرين حيث كاظمة، ونص ابن خرداذبة هو ما يلي: «الطريق من البصرة إلى اليمامة: منها إلى منزل (لم يذكر اسمه)، ثم إلى كاظمة، قال الراجز:
صبحن من كاظمة الخص القصب
يحملن عباس بن عبدالمطلب
وأضاف: «قال آخر:
فسار في ليلة من بين كاظمة
إلى النواصف من ثهلان فالبين
ثم إلى منزل، ثم إلى منزل، ثم إلى منزل، ثم إلى القرعاء…» ولم يسم المنازل الثلاثة اختصارا فيما يبدو. وهذه هي التي تحط فيها القوافل للراحة، واستقاء الماء لأن هذه الأماكن تكون عادة مهيأة لذلك تحيط بها الأعشاب لتغذية الرواحل، وفيها الآبار من أجل السقيا.
وجدنا في رواية البيتين اختلافين احدهما هو قوله: «يحملن عباس بن عبدالمطلب»، وقد ذكروا أن في هذه العبارة مقصداً نحوياً لعله هو الذي أوحى باستعمال هذه الرواية، وذلك لأن قوله: «مع ابن عباس بن عبدالمطلب»، سليم ولا يحتاج إلى تغيير. وثاني الاختلافين هو استعمال كلمة «الخُصّ» وإغفال كلمة القصر. وكلمة الخص تعني في اللغة الفصحى البيت المبني من شجر أو قصب. وهو معروف عندنا بهذا اللفظ ولكن أكثر ما يقال عن الخص هنا هو ترقيع الجدار إذا سقط منه جزء بشيء من القصب وسعف النخيل، وفي الكويت القديمة موقع يسمى فريج الخوص، اكتسب هذه التسمية من مادة خوص النخيل التي تم تشكيل البيوت منها، وكانت هذه قد بنيت في أعقاب سيول غامرة.
أما موقع فريج الخوص فهو على ساحل البحر في مواجهة الامتداد الحالي لقصر السيف عند الناحية الشمالية لبنك الكويت المركزي بامتداد قليل إلى الشرق.
يبدو لنا أن استعمال كلمة «القصر» أولى لأن الخص عرضة للزوال السريع بينما يكون القصر ثابتا حتى لو تهدَّم جزء منه. وقد مر بنا أن في كاظمة بعض القصور منها قصر فاطمة بنت المنذر. وهذا ما يدعونا إلى اعتماد رواية (القصر الخرب).
هذا وقد سبق لي أن كتبت عن هذا الفريج بصورة مختصرة ضمن كتابي: «مواقع ومشاهد كويتية على ساحل جون الكويت الجنوبي» وذلك عندما قلت: «في الموقع الجنوبي المحصور بين مسجدي العبدالجليل غربا وابن بحر شرقا، كان هناك حي قديم يسمى فريج الخوص وقد حدثني أخي المرحوم الشيخ أحمد الغنام عن هذا الحي، وذكر أنه يعرف هذه التسمية قديما، وأنها اطلقت على هذا الموقع دون أن يرى فيه أيا من البيوت المعدة للسكن على هذه الهيئة مما يدل على قدم التسمية، أو أنها كانت لمساكن مؤقتة تم صنعها في بداية انتقال الكويتيين من القرين إلى الكويت، وأنهم أزالواها فيما بعد، وأقاموا المباني الثابتة في مكانها هذا».
هذا والمسجدان المذكوران هنا أزيلا منذ مدة من الزمن في اعتداء بغيض على بيوت الله شملهما وعددا آخر من المساجد.
***
هذا حديث عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه، الصحابي الجليل والمحدث والمفسر، الذي تملأ سيرته كتب التاريخ الاسلامي، فتجلو شخصيته الفريدة للمسلمين أجمع.
رحمه الله ورضي عنه، ونفعنا بعلمه.
|