رحلة إلى فيلكا
إعداد فرحان عبدالله أحمد الفرحان:-
قرر المجلس البلدي قبل نصف قرن تشكيل لجنة من وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية لدراسة الاوضاع في جزيرة فلكا، وللعلم، كان المجلس البلدي من القوة بحيث انه يتخذ القرارات التي يتخذها مجلس الوزراء اليوم.
تشكل الوفد او اللجنة من فرحان عبدالله الفرحان (كاتب هذه السطور) والدكتور المرحوم سعيد النجار عن وزارة الصحة والسيد محمد البلهان والسيد سليمان النصف عن وزارة الشؤون، وقد حددت الرحلة في صباح يوم الاثنين 1961/11/28 ومركز التجمع كان في مطار الكويت القديم، في منطقة ضاحية عبدالله السالم، والتأم الجمع هناك امام طائرة الهليكوبتر المعدة لتقلنا الى جزيرة فيلكا الرابضة في ارض المطار، واتذكر ان المقدم قائد المطار عبدالعزيز الصايغ تقدم منا ورحب بنا، وقال لنا: هذه هي الطائرة وقائدها انكليزي، وستأخذكم بالدوران فوق مدينة الكويت، ومن ثم التوجه الى جزيرة فيلكا، وفي المساء ستعود الطائرة لتنقلكم في طريق العودة الى الكويت.
كنت لاول مرة اركب طائرة هليكوبتر التي تكون مراوحها الى الاعلى، وكنت قبلها قد ركبت طائرة «الداكوتا» ذات المروحتين، نواة الخطوط الجوية الكويتية، ونقلتنا في بعثة الى بغداد.
المهم ان طائرة الهليكوبتر اخذت دورة، فدارت حول مدينة الكويت، ثم اتجهت الى الشرق باتجاه جزيرة فيلكا، وخلال اقل من ثلث ساعة هبطت فوق ارض معدة لهبوط الطائرة، فنزل «الوفد الكويتي»، وكأننا انتقلنا الى بلد آخر.
كان المستقبلون لنا: مدير التعليم عبدالقادر السرحان ومسؤول الشؤون الاجتماعية، ورافقانا الى المدرسة الرئيسية في هذه الجزيرة، فاجتمعنا مع بعض الوجهاء، وبعد السلام والتحية والترحيب وتقديم القهوة مع الحلوى، وعلموا باننا جئنا لدراسة النواحي الصحية، من تعقيم المياه الى بحث حالة المواطنين الاجتماعية، اخذت تتقاطر علينا الاسئلة والطلبات وأتذكر أن احدهم قال: اهم شيء نبيه مواصلات بين الجزيرة ومدينة الكويت، لنذهب صباحا للعمل هناك في البلدية والاشغال (وزارة الاشغال) او شركة النفط، ونعود الى بيوتنا مساء، وقال احدهم: يخصصون لنا «لنجا» سريعا، ويكون الرصيف في مدينة الكويت. وسألته: ما تتعبون في الذهاب والاياب كل يوم؟ وبكل ذكاء قال: نستغل الرحلة بالذهاب الى عملنا في الكويت في اللنج بوجبة الافطار التي معنا، ومن ثم ننام، وفي العودة نأكل وجبة الغداء، وننام في اللنج حتى نصل الى جزيرتنا (شنهو نسوي) ما لنا حيلة!
اعجبت بهذه الفكرة.
عندما كنت اتتبع بعض العائلات عرض علينا ملا عبدالقادر زيارة قرية القرينبة مولد، وسكن الشيخ عثمان بن سند، وكان اماما وخطيبا في مسجد القرية قبل ثلاثة قرون، استقبلتنا السيارة الوحيدة، وتوجهنا الى قرية عثمان بن سند، وفي منتصف الطريق غرزت هذه السيارة، وأخذنا نتعاون «لدز» ورفع السيارة لمواصلة الرحلة أخيرا، وصلنا الى القرينبة القرية العتيدة، ورأينا هناك الاطلال، وهي بقايا المساكن القديمة، ولم يبق منها الا آثار المسجد لابن سند، وبعض الاشجار من الأثل.
وفي الظهيرة رجعنا الى مقر اقامتنا، حيث الغداء الذي اعد لنا في هذه المدرسة، وكان يتكون الغداء من الرز والسمك، وعمل منه المطفى والمقلي والمشوي والمطبق وكانت وجبة، وبعدها صلينا صلاة الظهر والعصر جميعا، ونظرا لعدم النوم في الظهيرة، ولا فسحة، توجهنا الى مزرعة يقوم الزراع بنقل الماء العذب من البئر الى «الشروب الجداول» عن طريق حطبة طويلة فيها تفل، عندما يجر الثقل يرتفع الماء من البئر الى الساقية، وبعدها وصلنا الى خزانات الماء التي تسقي فيلكا، وتزودها بالماء العذب الذي ينقل بالسفن من الكويت الى هذه الجزيرة، وثم عرجنا على الخضر (تل الخضر) الذي كان يأخذ للتعبير والادعية، وقامت بلدية الكويت بازالة التل مع الغرفة على قمته، لأنه اصبح مكان عبادة واهية، وكان يعتقد كثيرون ان الخضر سينزل بدعائهم له وسيزيل عنهم الغم والهم والامراض.
قمنا بعدها بزيارة آثار فيلكا التي بنيت منذ ان قدم البرتغاليون او غيرهم لهذه الجزيرة.
عصرا قابلنا بعض المدرسين الذين يعملون في هذه الجزيرة، وقدم بعضهم من مصر او من فلسطين، وبعض الاطباء، ولاحظ ان ابناء المدرسين والمدرسين يعالجهم الاطباء، وابناء الاطباء يدرسهم المدرسون، فكان هناك تبادل خدمات بين سكان هذه الجزيرة.
وتتبعنا مواردها، فقد كان غالبية سكان الجزيرة إلا القليل يعتمدون على صيد السمك والقليل في الزراعة، ومع بداية التوظيف انتقل بعضهم إلى مدينة الكويت للعمل.
ومن الملاحظات التي سجلتها وعلمتها فيما بعد أن غالبية سكان جزيرة فيلكا تجد من أسمائهم ارتباطهم بقبيلة بني تميم، فتجد مثلا اسم عائلة السرحان والحمدان والرباب والدارمي والشعيب، كلهم من العائلات القديمة في هذه الجزيرة، ومن المؤكد أنهم قدموا عليها قبل قرون طويلة واستقروا في هذه البقعة الوادعة القريبة من الأرزاق من ايران والعراق، ونعيش بهدوء، بعيدين عن حروب الصحراء في الجزيرة العربية.
نهبني وانهبك واقتلني واقتلك لهذا استمرت هذه الاسر، والدليل على ذلك أن كتاب الموطأ في حديث الرسول الكريم للإمام مالك ابن أنس كُتب في هذه الجزيرة قبل اربعة قرون من الزمان، ويعطي انطباعا بأن سكان الجزيرة يتبعون المذهب المالكي، وهناك ايضا الشيخ عثمان بن سند مالكي المذهب، وهذا ما يتبعه بعض ابناء الصحراء في الجزيرة العربية فيما مضى.
في المساء وبعد تسجيل ملاحظاتنا التي سنقدمها للمسؤولين في الصحة والشؤون، ومن ثم للمجلس البلدي، فاذا بالطائرة الميمونة نفسها التي أقلّتنا في الصباح تعود وتهبط ثانية في هذه الجزيرة لتقلنا، نتوجه اليها، والمسؤولون في الجزيرة وبقية ابناء الجزيرة يودعوننا ويغبطوننا على هذه الرحلة التي تمت بطائرة الهليوكبتر، حيث هم ينتقلون (باللنج) الذي يعج ويمج في هذا البحر اللجي.
المهم صعدنا إلى هذه الطائرة العتيدة، لا جوازات ولا تفتيش ولا جمرك ولا تدقيق، فأخذنا نلوح بأيدينا لمودعينا والطائرة تستدير لتأخذ وضعها متجهة إلى مدينة الكويت العزيزة، وارتفعت بنا والبحر تحتنا والسماء فوقنا، وليس لنا إلا رحمة الله وحمايته.
وأخيراً وصلنا إلى مطار الكويت العتيد، وكانت سياراتنا تنتظرنا لتقلنا إلى بيوتنا، هذه رحلتنا التي تمت قبل نصف قرن إلى جزيرة فيلكا الجزيرة الوحيدة من جزر الكويت المأهولة بالسكان.
عندما غرزت سيارتنا في فيلكا.. ويبدو الزملاء يبعدون الرمال وكاتب هذه السطور واقفاً يوجّه ملاحظاته في مدرسة الجزيرة.. ويبدو (من اليمين): فرحان الفرحان ومحمد البلهان وسليمان النصف وبعض
__________________
تهدى الامور بأهل الرأي ماصلحت ***************** فان تولوا فبالاشرار تنقاد
|