قريه ملح في القديم والحديث - فرحان الفرحان
جريدة القبس
ملح في القديم والحديث
إعداد: فرحان عبدالله الفرحان
من الاسماء القليلة التي صمدت على مر التاريخ ولم يدخل فيها تحريف 'ملح' وتحملت عبء الرحلة الطويلة، حيث مرت على سفوحها احداث واشجانِ
'واقفا يجبى اليه خرجه
كل ما بين عمان وملح'
هكذا وصف الشاعر الكبير الاعشى كيف ان الخراج والانتاج يجمعان في مكان واحد ذلك من عمان التي عاصمتها مسقط اليوم حتى الكويت التي فيها ملح هذه الملح التي توارت عن الانظار بينما في ذلك العهد كانت لها مكانةِ
هذا الوصف من الاعشى يعطينا انطباعا ان هذا الخليج العربي او شرقي الجزيرة العربية كان وحدة منذ امد بعيد وكانت العلاقات بين مدنه كأنه دولة واحدةِ
وفي عهد ا لخوالد او بني خالد كان الخليج شبه دولة واحدة واليوم تجسد مجلس التعاون الخليجي بين دول الخليج هذا التقارب والتآلف فكأن الذي يقصده الاعشى مستمد ومنتظم منذ ذلك التاريخ البعيدِ
عندما يذكر الاعشى 'ملح' دون غيرها من مدن كاظمة الاخرى فكأنها ترمز الى انها العاصمة لهذه المنطقة في تلك الحقبة من الزمن، وعندما يطلق كلمة عمان تعارف المؤرخون على ان الزاوية الشرقية للجزيرة العربية هي عمانِ
وكنا في حديث سابق تحدثنا عن شخصية الاعشى وهو احد كبار شعراء المعلقات المشهورين، ولم يقل ذلك في شعره الا انه يعرف ابناء جلدته من قيس بن ثعلبة الذين يسكنون هذه المنطقةِونحن هنا لن نعيد رسم قصة حياته من جديدِ جاء بعد الاعشى الشاعر المشهور جرير وهو يقول في قصيدة طويلة في ديوانه المشهور
'بان الخليط لو طوعت ما بانا
وقطعوا من حبال الوصل أقرانا'
الى ان يقول:
' يا أيها الراكب المزجي مطيته
بلغ تحيتنا لقيت حملانا
بلغ رسائل عنا خف محملها
على قلائص لم يحملن حيرانا
كيما نقول اذا بلغت حاجتنا:
انت الامين، اذا مستأمن خانا
تهدي السلام لا هل الغور من ملح
هيهات من ملح بالغور مهدانا
احبب الي بذاك الجزع منزلة
بالطلح طلحا والاعطان اعطانا
يا ليت ذا القلب لاقى من يعلله
او ساقيا فسقاه اليوم سلوانا
او ليتها لم تعلقنا علاقتها
ولم يكن داخل الحب الذي كانا
هلا تحرجت مما تفعلين بنا
يا أطيب الناس يوم الدجن أردانا
قالت: ألم بنا ان كنت منطلقا
ولا إخالك بعد اليوم تلقانا
يا طيب! هل من متاع تمتعين به
ضيفا لكم باكرا يا طيب عجلانا
ما كنت اول مشتاق اخا طرب
هاجت له غدوات البين احزانا
يا أم عمرو! جزاك الله مفغرة
ردي على فؤادي كالذي كانا
ألست احسن من يمشي على قدم
يا أملح الناس كل الناس انسانا
يلقى غريمكم من غير عسرتكم
بالبذل بخلا وبالاحسان حرمانا
لا تأمنن فإني غير آمنه
غدر الخليل، اذا ما كان الوانا
قد خنت من لم يكن يخشى خيانتكم
ما كنت اول موثوق به خانا
لقد كتمت الهوى حتى تهيمني
لا استطيع لهذا الحب كتمانا
كاد الهوى يوم سلمانين يقتلني
وكاد يقتلني يوما ببيدانا
وكاد يوم لوى حواء يقتلني
لو كنت من زفرات البين قرحانا'
جريرِ من هو؟
وحتى تستقيم لنا الاحداث في ملح من هو الشاعر جرير الذي يتغنى بملح هذه المنطقة القاحلة اليوم؟
هو جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر الكلبي اليربوعي من قبيلة بني تميم ولد سنة 28 للهجرة وتوفي سنة 110 وعمره مع عمر منافسه الفرزدق متقاربانِ
يعد جرير من اشهر واشعر شعراء عصره وعاش كل حياته مكافحا للدفاع عن قبيلته وفرعه من القبيلة امام الشعراء الآخرين وخصوصا الراعي والفرزدق والاخطل شاعر تغلبِ وكان عفيفا لقد جمع شعره في ديوان وحقق اكثر من مرة وكذلك شعره النقائض مع الفرزدق التي اخذت من الشهرة وكذلك النقائض مع الاخطلِ
هذا هو جرير لكن كيف كانت اجواء حياته؟
المعروف ان جرير ولد في اليمامة قرب مدينة الرياض اليوم وكانت مقر قبيلته لكن امتداد قبيلة بني تميم الى سفوح ارض الكويت جعلته على صلة مع ابناء عمه ومنهم آل بل عدوية سكان ملح، ولهذا عندما يأتي من نجد اليمامة متجها الى البصرة مقر الثقافة والقيادة فلا بد له ان يمر في كاظمة وينزل ضيفا على بني عمه آل بل عدوية في ملح ولهذا قال:
'تهدي السلام لاهل النور من ملح
هيهات من ملح بالغور مهدانا
احبب الي بذاك الجزع منزله
بالطلح طلحا والاعطان اعطانا'
لم يكن في القديم استراحات مثل اليوم 'رست هاوس' ولا فنادق بل تبحث للاستراحة الى اقرب معارف لك في الطريق وانت متجه الى الجهة التي تبغيهاِ
مر جرير على بل العدوية في ملح ليأخذ قسطا من الراحة ويأكل ويشرب ويرتاح بعد عناء السفر خصوصا انه شاعر ولسانه طويل ويعتبر متحدثا او ناطقا شبه رسمي للقبيلة فلا بد من الاعتناء بهِِ وهكذا كانِ
والسؤال هنا من هم بل عدوية سكان ملح؟
يقول المرحوم حمد الجاسر في تحقيقه لكتاب 'بلاد العرب' للحسن بن عبدالله الاصفهاني صفحة 260 التعليق على كلمة 'أش' للاحمال من بل عدوية (بلعدوية)، بنو العدوية هم بنو صدى بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم ام صدى من جل بن عدي 'الرباب' ووادي اش لايزال معروفا فيه قرية ذات نخل بهذا الاسم في اعلى وادي المجمعة قاعدة سديرِ
ويقول كتاب معجم اسرتي تميم في الحديث والقديم للاستاذ حمد الناصر آل وهيب الجزء الاول صفحة :42
'بنو مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميمِ
ولد مالك بن حنظلة احد عشر ولدا وهم دارم وربيعة وكعب دخلوا في بني فقيم وهم بنو الصحارية ورزام دخل في بني نهشل وهؤلاء يسمون الخشاب (وزيد والصدى ويربوع) وهؤلاء الثلاثة يسمون بني العدوية نسبة الى امهم من بني عدي ابن عياد مناة بن اد واليها ينسبون'ِ (انتهى)ِ
وهنا ان بني بل عدوية يتحكمون في منطقة ملح ومياهها وكذلك الطرق التي تتحكم في الممرات المؤدية اليها او النافذة منها لهذا عند توجه جرير او ايابه (رجوعه) فلابد ان يجد الاحترام والتقدير وحسن الضيافة والامان عند بني عمهِ
وعليه فلا بد ان يكرمهم بهذا المدح المطري الجليل عندما يقول 'تهدي السلام لاهل الغور من ملح'ِ
كتب التاريخ والجغرافيا
بعد ان استعرضنا ما ذكر ابرز الشعراء الأعشى وجرير فنعود الى كتب التاريخ والجغرافيا، يقول ياقوت الحموي في كتابه 'معجم البلدان' الجزء الخامس صفحة 190 و191 عن هذه الملح وذكر اكثر من ملح في البلاد العربية لكنه نقل ما اورده السكري عن ملح انه ماء لبني العدوية وذكر ذلك في شعر جرير الذي ذكرناه آنفا:
'يا ايها الراكب المرجي مطيته
بلغ تحيتنا لقيت حملانا
تهدي السلام لاهل الغور من ملح
هيهات من ملح بالغور مهدانا'
ما اعظم هذا المدح لهؤلاء لو انهم لم يكرموه ويوجبوهِ
وفي كتاب 'معجم ما استعجم' للبكري في الجزء الرابع صفحة 1253 يقول ملحِ بفتح اوله وثانيه موضع بلاد بني جعدة باليمامة قاله ابو حاتم وانشده للاعشى:
'واقفا يجبى إليه خرجه
كل ما بين عمان وملح'
وعلق على ذلك فقال: 'هذا لا يصلح لأن اليمامة بلاد بني تميم لا بلاد بني جعدة' قال جرير:
'تهدي السلام لأهل الغور من ملح
بالطلح طلحا وبالأعطان أعطانا'
.. والتعليق
ان مؤلف كتاب 'معجم ما استعجم' من أسماء البلاد والمواضع هو عبدالله بن عبدالعزيز البكري الأندلسي، وهو بعيد كل البعد عن المنطقة حيث كان في الأندلس، التي يعيش فيها جرير والفرزدق والأعشى الذين يعرفون المنطقة شبرا شبرا والبكري، رحمه الله، اعتمد في النقل على الكتب بعكس من ذكرناهم حيث 'الرائي ليس كمن سمعا' وهنا يجب علينا أن نتوقف بعد أن غصنا في التاريخ مع ملح وعلينا نتابع الأحداث التي عاشت معها ملح في العصر الحديثِ
أولا: نظرا لأن ملح مورد ماء حولها آبار كثيرة فهي مطرق ممر لكثير من السائرين والقوافلِ
يقول المرحوم حمد السعيدان في موسوعته الجزء الثالث صفحة 474 ملح: واحة جنوب المقوع فيها آبار صالحة للشرب وأشجار أثل وسدر سميت ملح لأن جيولوجية أرضها الجنوبية تحتوي على صخور بيضاء وسوداء والملح عند العرب البياض يخالطه السوادِ
فيها حدثت معركة بين العجمان بقيادة راكان بن حثلين وفيصل بن تركي السعود بقيادة ابنه عبدالله الفيصل (الذي أصبح حاكم نجد بعد والده في 1865) وتوفي سنة 1889ِ
لقد وصل عبدالله الفيصل إلى ملح وحاربهم عند الصبيحية في 3 مايو 1860 ولكن العجمان انسحبوا إلى الجهراء بعد أن فقدوا عند ملح والجهراء خمسمائة رجلِ
ثانيا: يروي حسين خلف خزعل في كتابه تاريخ الكويت السياسي الجزء الأول صفحة 123 يقول: إن الأمير عبدالله الفيصل وصل إلى الفراء وتابع سيره إلى الصبيحيه فأدرك العجمان هناك فلاحقهم حتى الجهراء حتى تفرقوا هناكِ
ثالثا: في سنة 1892 ذلك في عهد محمد الصباح كما يقول السيد حسين خلف خزعل في كتابه تاريخ الكويت السياسي هاجم ماجد الدويش وكانت قبيلة عريب دار والعوازم التابعتان للكويت في منطقة ملح وكان الشيخ دعيج الصباح ضاربا خيامه على مقربة منهم فأمر الشيخ محمد الصباح الشيخ مبارك بالتحرك للدفاع عن الكويت وكان مع الشيخ مبارك فرسان من قبيلة عنزة واستطاعوا بهجومهم أن يدحروا قوات ماجد الدويش وإبعادها عن أرض الكويت وقبل النهاية أين ملح في القرن الماضي وهذا القرن: عندما ظهرت شركة نفط الكويت واختارت لها الشيوخ كميناء أولي لمعداتها واختارت مدينة الأحمدي للإدارة والسكن والعمليات شركة نفط الكويت طبعا الشركة في أولياتها فهي في حاجة إلى المياه فهو أثمن شيء في ذلك الوقت في الثلث الأولي من القرن العشرين لهذا توجهت الشركة إلى آبار ملح حيث بعض مياهها عذبة وأنشأت هناك بعض المقاولين ليكون لهم سكن ومقر للعاملين في الشركةِِ ولما كانت المعدات في تلك الحقبة من السيارات والآليات غير متوافرة فقد كانت الحمير هي الوسيلة السهلة لنقل المياه على الحمار حيث يوضع عليه ثلاث قروب أو 'وجر' مثل الكيس يوضع به التراب الذي يستلزم أعمال الشركة ونظرا لأن آبارها تاريخية محفورة منذ القديم ويتجدد بعضها للحاجة وذلك ابان سكن القبائل في هذه المنطقة منذ أن سكنتها 'بل العدوية' قبل خمسة عشر قرنا من الزمانِ
اذا أقول هذه 'ملح' الأثرية المهمة اليوم التي لا تبعد عن الأحمدي إلا كيلو مترات قليلةِِ ولهذا أحببنا أن نعيد ذكراها للتاريخ وللمعرفةِ ))
|
العرض العادي
