إن الاصطلاح الجاري في الكويت وغيرها الآن عكس ما كان عليه العرب، فالدار تسمى اليوم بيتاً والبيت يسمى داراً وقد جرينا على هذا الاصطلاح لأنه هو المتعارف.
لم تتبدل بيوت الكويت عما كانت عليه في أول تأسيسها إلا قليلاً. وتوجد محلات باقية على ما كانت عليه من الضيق وعدم دخول الشمس في الدور، وعدم وجود النوافذ، وإلى الآن ليس في دورهم منافذ على الطريق لتخلل الهواء ودخول الشمس إلا ما ندر وفتحها عندهم عيب كبير لأنه يسمع منه صوت المرأة. والعجيب أنه بالرغم من هذه الغيرة على المرأة بحيث لا ترى ولا يسمع لها صوت، فإنها ليس لها كرامة عندهم، حتى إن المحدث إذا حدث جليسه وجاء ذكر المرأة قال له: أكرمك الله. ولم يقلها لمخاطبه عند ذكر الحشرات وكان في الزمن السابق يسكن الدار الرجل والرجلان مع أزواجهم، ويجعل بينهم ساتر من رداء وما أشبه، وكانوا لا يستعملون المراحيض في البيوت على عادة أهل البادية، بل يكون قضاء الحاجة في البحر أو في الفضاء أو في الأماكن التي تلقى فيها الزبالة (وتسمى سمادة) وهذه السمائد لم تزل إلا بعد تأسيس البلدية.
كان لباس الرأس الشائع في الكويت هو (الغترة) وفوقها إزار كالعمامة. ثم أخذ أهل الثروة يلبسون بدل الغتر محرمة ساعورية تأتي من بغداد. ثم حل محلها (الشماغ) ويلبس فوق الشماغ (عقال الطي) ثم أبدل بعقال (الشطفة).
أما الآن فالغالب هو الغترة البيضاء والعقال الأسود.
وأما لباس الجسم فالقميص وثوب الشلاح، وقليل من يستعمل الصديري، ويلبس فوق القميص زبون (وهو القباء) ثم حل محل الزبون (الدقلة) والبالطوا. وكان لبس السراويل نادراً. وأغلب أهل الكويت في الزمن السالف يمشون حفاة الأقدام وقليل منهم من يلبس النعال، ثم تدرجوا إلى لبس الأحذية بأنواعها.
وكانوا يضعون على أكتافهم العباءة البرقاء، وهي من ملابس العرب القديمة، وفيها يقول العرجي:
على عباءة برقاء ليست ** من البلوى تجاوز نصف ساقي
ويلبس أهل الثروة عباءة القيلان. وهي تصنع بالإحساء أما الآن فقد حل محل العباءة البشت، وهو في الحقيقة عباءة لا يختلف عنها إلا أن لونه متنوع بعدة ألوان.
وكان المتأنقون في اللباس من الشيوخ مبارك الصباح، ومن السادة السيد خلف النقيب، ومن التجار يوسف المطوع، وسويد ابن عبدالرحمن بن أسود. وأما المتأنقون اليوم فلا يحصون!..
كانت المعيشة في الكويت بسيطة جداً. فالماء الذي للشرب يجلب من الشامية والنقرة والدسمة، ويوجد ماء للطبخ والحيوان ويسمى مروقاً، وفيه ملوحة، ويباع بأرخص من ماء الشامية والنقرة. ويجلب الماء على الحمير، وبائع الماء يصيح بأعلى صوته (شراي النقرة) (شراي الرقيق) ثم ظهر ماء الحولي وفيه يقول شاعرهم:
ماء الحولي مثله ما دارا ** لا في فنيطيس ولا في وراه
وفي سنة 1324هجرية صارت هذه المياه لا تسد ظمأ البلد بسبب كثرة الساكنين فأخذوا يجلبون الماء من وجه البصرة بالسفن الشراعية.
أما الأكل فكانوا يأكلون في الصباح التمرة والغبيبة، (وهي بقية العشاء). ويأكل الأغنياء الخبز والمفروك والبثيث. وأما الغداء فالفقير غداؤه التمر والمتوت (وهي سمك صغار مجفف) ويأكل الغني الخبز مع المخيض والتمر. وقد كانت هذه هي المعيشة الغالبة، وقليل من يطبخ الأرز مع الماش والروبيان أو السمك المجفف. وأما اللحم والسمك الطري فلا يؤدم به يومياً بل مرة في الأسبوع أو مرتين. ويأكل الأغنياء في الشتاء المتوت والرغيد والعصيد، ولكن بصفة غير مستمرة. ويكون ليوم العصيد شأن عند الأطفال فتراهم يغنون: "عيد عيد على العصيد" وكانوا إذا أكلوا العصيدة مسحوا أيديهم بأرجلهم، وكانوا لا يستعملون الصابون بعد الأكل، ولم يستعمل الصابون إلا من مدة قليلة.
وأذكر في هذه المناسبة النادرة التالية: وهي أنه دخل رجل اسمه عيسى ابو عبود على المرحوم الأخ أحمد فوجده يغسل يده بالصابون بعد العشاء، فقال له متأسفاً "آفا عليك يا أحمد تغسل يدك بالصابون" فأجابه أحمد "إن الأخ يوسف يغسل يده بالصابون مثلي" فرد عليه بشدة "حاشا على ذلك الوجه أن يغسل يده بالصابون".
وأهل الكويت إلى يومنا هذا مقتصدون في المعيشة وليس عندهم شيء من السرف والتفنن في أشكال الأطعمة والسبب في ذلك فقر البلد في بادئ أمره واستمرار هذا الاقتصاد إلى يومنا هذا.
وحالة المعيشة اليوم غيرها في الأيام السالفة، فالفقير اليوم عيشته أحسن من الغني في ذلك الزمن، ولا يمكن اليوم أن يخلو الزاد من إدام، لحم أو سمك، إلا في النادر.
إن سواد العامة في الكويت يعتقدون بخرافات لا يقبلها العقل، سببها الجهل الذي جعلهم يقبلون ما هب ودب.
من هذه الخرافات (أم حمار) يعتقدون أنها على شكل امرأة إلا أن لها رجل حمار، وأنه حينما كان العبيد يستقون خارج البلد قبيل الفجر كانوا يرونها تصحبهم كأنها واحدة منهم، فإذا عرفوها فروا منها راجعين إلى البيوت.
ومنها (الطنطل) وهو يوصف بطول الجسم طويل الخصا بحيث إذا مشى يسمع لها صوت، وهو يتمثل للسارين في الليل ويلعب عليهم ولكن الحيلة في دفعه أن يكون مع الساري مسلة فإذا رآه صاح هات المسلة. فهو يهرب منها خوفاً على خصيته من غرز المسلة فيها.
ومنها (الدعيدع) وهو أن يرى الإنسان في الظلام شيئاً كالجمر ملقي في الطريق، فإذا اقترب منه انتقل إلى محل آخر.
ومنها (السعلو) وهو بصفة عبد نوبي طويل، وله أنياب طويلة، يختطف الأولاد الصغار ويأكلهم (وقد جرى في سنة 1327هجرية عند السواد الأعظم فزع شديد من هذا السعلو وسببه أنه غرق ولد في البحر، ولم يره أحد فشاع أن السعلو أكله، وتلا ذلك فقدان ولد سعود بن فهد وهو صغير فتحقق عندهم أن السعلو أكله، ولكن الولد بعد عشرين سنة جاء الكويت وأخبر أنه سرقه رجل من أهل البصرة وباعه إلى رجل من أهل البادية في شرق الأردن، وهذا الذي اشتراه أمر أولاده عند موته أن يرجعوا الولد إلى أهله).
ومنها (أبو درياه) عند أهل البحر. وهو بصفة إنسان يسمعون صياحه في البحر كأنه غريق فإذا أنقذوه أكل ما قدم له. وإذا غفل عنه رجع إلى البحر وربما أتلف شيئاً من السفينة.
وهذه الخرافات زالت الآن بسبب انتشار العلم ولم يبق لها أثر والحمد لله.
لا أريد أن أتكلم عن حكم اللهو في الشرع، من حيث التحريم أو الجواز، وإنما أريد بيانه لمعرفة ما في الكويت من لهو، وإن أردت ما قيل فيه من الوجهة الشرعية فراجع الجزء التاسع من المحلى للإمام ابن حزم من صفحة 55 إلى 62 تجد فيه حجج الطرفين المجوز والمحرم، واختر لنفسك ما يطمئن إليه قلبك وينشرح له صدرك.
وإليك أنواع اللهو المعروفة في الكويت:
(1) اللهو الحربي:
ويسمى العرضة، وهو يحتوي على عدة من الدفوف وطبل، ويختلف الضرب والرقص فيه بين النجدي والكويتي فأهل الكويت رقصهم تابع لضرب الطبل والدف فحركتهم بطيئة تبعاً للضرب، بخلاف الرقص النجدي فهو سريع الحركة سريع الضرب، وتأثيره في النفس أكثر من الكويتي.
ويستعمل هذا اللهو في الأعياد والأعراس والختان وأيام الحرب، وينشدون فيه من الأشعار ما يوافق الحال ويرقص فيه أشراف الناس وعامتهم وكأن لسان حالهم يقول ما قال ابن رشيق صاحب العمدة:
الرقص شيء حسن ** ليس به من حرج
أقل ما فيه ذهاب ** الهم من قلب الشجى
(2) اللهو البحري:
يستعمله أهل السفن الشراعية ليشجعهم على القيام بأعمالهم ويسمى المغني لهم (نهاماً) والملاحون يتبعون السفينة التي فيها نهام له صوت حسن، وكل عمل من الأعمال له غناء خاص به. ففي الجذف بالمجاذيف يغني لهم النهام بالمواليا ولكنه يحرف بها فبدل أن يقول: يا موالي يا موالي، يقول: يا مال، يا مال، كما يبتدئ المغني بيا ليل، يا ليل، ثم يشرع بالقصيدة والملاحون يردون عليه بوحوحة مثل وحوحة أهل الطرق الصوفية حتى تنتهي القصيدة فإن لم يتم العمل شرع في غيرها. والشعر الذي ينشده يسمى (زهيري) وإليك نموذجا منه:
زاد العنا بالضمير وما شفت راحلي * والهم بحشاي نساني الذي راح لي
يوم شفت عيسهم يوم النوى راحل * ناديت: يا جيرتي ابكم غرامي وفي
وعلى ثوب المذلة من جفاكم وفي * بالله سيروا على مسراي يا هل الوفي
لأني ضعيف وضالع بينكم راحلي
وفي رفع الأنجر من البحر يبتدئ النهام بقوله: يا الله هو يا الله هو. أوهو يا الله. أصلها يا هو يا الله. فتجد افتتاح النهام الاستعانة بالله.
وعندهم افتتاحية ينشدونها عند رفع الشراع أو غيره وهي (واسعة رحمة ربي).
وقد ذكر المسعودي شيئا من غناء البحارة قبل ألف سنة وهو:
يا بربرة يا بربرة * وموجها كما ترى
يا بربرة وشجوني * موجها المجنون
وقد شاهدت بنفسي هذه الأمواج وما كنت أعلم أن لها شأناً عند الأقدمين، وكنت أسمع من البحارة: شرم برم تر يا للي. ولم أدر لها أصلاً هو قول الشاعر:
إذا لم تكن لي والزمان شرم برم ** فلا خير فيك والزمان ترللي
وأشهر نهام عند الكويتيين هو: فرحان أبو هيلة، ثم سلطان ابن دليم، فسليمان الغرير، وشريدة وابنه سعد، وصالح أبو كحيل وسعد بن فايز وبخيت بن بشير وعبدالعزيز الدويش وهؤلاء لم يبق منهم على قيد الحياة الآن إلا عبدالعزيز الدويش ويوجد الآن نهامون بكثرة ولكن ليست لهم شهرة مثل من ذكرنا.
(3) لهو الأعراس وغيرها من المسرات:
يقوم به عدة من الوصائف بضرب الدفوف والطبول ولهن مغنية ذات صوت مطرب، فهي تبتدئ بأول القصيدة ويرددن عليها ما قالته في أول بيت من القصيدة. فمثلاً هي تقول:
صلى عليك الله يا عدناني ** يا مصطفى يا صفوة الرحمن
وهن يرددن هذا البيت نفسه وهي تسير في إنشاد باقي القصيدة إلى أن تنتهي منها. ويسمون غنائهن (نجدي أو خماري).
(4) لهو العبيد النوبي والممباسي:
وهو أشكال عديدة أعرض عن تفصيلها، والمهم منها على زعمهم الفاسد استنزال الزار، وبعضهم إذا نزل زاره يشرب الماء المالح ويأكل الجمر!..
(5) لهو السمار ليلاً:
يحتوي على ضرب العود والمرواس (وهو طبل صغير) ويغني فيه ضارب العود بأبيات عربية ويمانية، ويزفن الشبان على وقع هذا الضرب.
وأشهر ضارب بالعود وملحن هو عبدالله الفرج.
وهذا اللهو يحضره الرفيع والوضيع، إذا خلا من المفاسد، وله تأثير كبير على النفوس، وللسامع أن يحمله على ما يريد من هواه فمثلاً إذا أنشد:
إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم ** أنوح كما ناح الحمام المطوق
فللنساك أن يحملوه على الهيام بحب الله، وبكائهم من خشية الله إذا جن ليلهم. وللعشاق أن يحملوه على الهيام بمحبوبيهم. وللناس فيما يسمعون مذاهب.
المرأة شقيقة الرجل، وهي معه على حد سواء، لا تنقص عنه إلا في الشجاعة والثبات، وسرعة الانفعال فلهذا نجد الرجال والنساء في بلاد العلم يتبارون في جميع الأعمال عدا الجندية والقيادة في الحرب، وتجدهم في بلاد الجهل كالأنعام السارحة لا يهمهم إلا المرعى، ويسوقهم الراعي كما يريد. ولكن رجال الكويت وإن نشأوا في بلد جاهل فهم أرقى من النساء بكثير، وأرى أن السبب في ذلك أولاً: كثرة أسفار الرجال ومخالطة الأجانب، وثانياً: انتشار الجرائد والمجلات الدينية والأدبية والسياسية. وثالثاً: فتح المدرسة المباركية للبنين سنة 1320هجرية بينما لم تفتح مدرسة للبنات إلا سنة 1357هجرية ولهذا تجد بوناً شاسعاً بين الرجل والمرأة في الكويت سيما في الكتاب والأدب والشعر وحسن التفكير فيما هو صالح للوطن وحتى الآن لم تظهر بالكويت امرأة عالمة ولا كاتبة ولا شاعرة ولا مفكرة ولا.. ولا.. بل هي باقية على الفطرة من حيث الخمول والأمية فلا تقرأ ولا تكتب، واللواتي يقرأن ويكتبن -إذا استثنينا بنات المدارس الجدد- فهن نوادر جداً.
ليس للمرأة قيمة عند الرجال سيما المتقدمين منهم فهي عندهم من سقط المتاع، فإذا ذكرت في خطاب قال المتكلم لمخاطبه: أكرمك الله. عند ذكرها وترغم الفتاة على زواج من لا تريده سيما إذا كان الزوج ابن عم لها، وإن كان قبيح الوجه ساقط الأخلاق. والذي بلغ من العمر 80 سنة له أن يتزوج بنتاً لها من العمر 20 سنة ويرغمها الولي عليه إذا كان غنياً، وإن كرهت عشرته.
وتجد في وصايا الكويتيين حرمان الإناث، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، فإذا أوقف ملكاً على ذريته خصصه بالذكور دون الإناث وإن كن أولى بالإحسان لفقرهن. وإذا أوصى بثلث في سبيل الخيرات جعله بيد الولد دون البنت، وإن كانت هي أتقى منه وأصلح.
وسعادة الزوجين بعد الدخول نادرة فهي من باب يا نصيب يكسب مرة ويخسر ألف مرة لأنه لا يراها ولا تراه، وكلا الزوجين لا يعرف من أخلاق زوجه شيئاً، وكم من رجل نفرت منه زوجته من أول ليلة، وكم من زوجة تركها زوجها من ليلة الزواج. وإليك واحدة من هذه الحوادث: تزوج رجل من أهل البحر بامرأة وزف إليها بثياب مبتذلة وهيئة كريهة، فلم يأخذ لها زينته ولم يعدل هندامه ولم يمشط شعر وجهه، وهو مع هذا الإهمال قبيح الوجه، فلما رأته الزوجة تحصنت على نفسها بسم الله كأنه شيطان، وفرت إلى باب الدار صارخة بقولها لأمها: افتحي الباب. فلما فتحت أمها الباب قالت لها: "أختار الموت ولا هذا الزوج، ردوا عليه صداقه، لا أريده" فرد عليه الصداق وطلقها.
وهذه المرأة كانت ثيباً، وعندها شجاعة وليس لديها ولي تخافه، فكيف حال الصغيرة التي يأخذها الحياء أن تبدي مصيبتها بزوج تكره عشرته ولا يلائمها، ويا ويلها إن أبدت ذلك.
وأين هؤلاء من حديث ثابت بن قيس لما كرهت امرأته عشرته ورفعت أمرها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: [طلقها]. وأمرها أن ترد عليه الحديقة، وهي صداقها منه.
وتقوم المرأة الكويتية بجميع خدمة البيت من طبخ وخبز وطحن وكنس وغسل وعناية بالحيوان وتربية الأطفال وخياطة ثياب الزوج والأولاد. والمرأة الغنية ليس عليها شيء من هذه التكاليف سوى الإدارة البيتية.
وليس بيد المرأة صناعة تعيش منها إذا أحوجها الزمان بل تخدم في بيوت الأغنياء أو تسأل. واللواتي يحسن الخياطة والتطريز قليلات بالنسبة للاتي يجهلن ذلك.
وتخرج المرأة لقضاء حاجتها من السوق أو للزيارة متحجبة، والسفور لا يعرف بالكويت.
والخرافات شائعة بين أغلب نساء الكويت ويعتقدن بأن الساحرة تطير في الليل، وأن الزار الحبشي الزار النوبي مما لا شك فيه، وإذا أصيبت المرأة بأمراض عصبية نسبوها إلى الزار وشيخة الزار هي التي تقوم بخدمة المريضة في دهن جسدها وفي إقامة حفلة جامعة من النساء اللاتي يدخل فيهن الزار، يغنين ويرقصن ويضربن بالدفوف ومن هذه الزيران من هو سيد وشيخ كبير وطفل صغير وعجوز شوهاء. والذي جعلهن يعتقدن في هذه الخرافات هو شفاء بعض المريضات في هذه الحفلات وقد سألت المرحوم السيد رشيد رضا صاحب المنار عن هذا الشفاء فأجاب بأن بعض الأمراض العصبية قد يوافقها الطرب والرقص، وقد أصيبت امرأة أعرفها بمرض السل، وطال عليها المرض، فأشارت عليها شيخة الزار أن تعمل لها حفلة. وحينئذ يدخل فيها الزار وتلتمس منه الشيخة الشفاء وترضيه بما يريد حتى يشفي المرأة، فعمل لها حفلات عديدة ولم ينزل الزار، ولكنها في آخر حفلة أقيمت لها أخذها طرب من الغناء والتصفيق، فهزت رأسها ورقصت وهي جالسة ففرح نساء الحفلة بنزول الزار، وجاءت الشيخة تسترضيه ليبين مراده، فلما أجابت المرأة، ليس بي زار ولكن أخذتني خفة فرقصت، وأشاع نساء الحفلة أن الزار نزل بها وتكلم، وآخر الأمر أن المرأة لم تشف وماتت بدائها.
وإليك حادثة غريبة: أعتق المرحوم عبدالرزاق الدوسري عبدة له فأخذت بعد وفاته تخدم في البيوت لتعيش، فجلست عند شيخة الزار تخدمها، وبعد سنين ماتت الشيخة، فقالت لها بنات الحفلة: قومي مقامها فوافقت على ذلك، وهي تقول: "إنني لا أعرف شيئاً عن الزار سوى أني رأيت الشيخة تدهن المريض وتأخذ البخور وتحرك شفتيها عليه ولا أدري ماذا تقول ثم تدير البخور على المريضة" فهذا مبلغ علمها في الزار ولكنها صارت شيخة تدهن المريض وتحرك شفتيها على البخور وها هي ذي يشار إليها بالبنان.
وتذكرني هذه الحكاية بما يقال من أنه مر في العراق في الزمن الغابر رجل عابر سبيل على مقام يزار وتنذر له النذور فجلس عند القيم ليستريح من تعب السفر، ولما عزم على الرحيل أعطاه القيم حماراً هزيلاً ليركب عليه حتى يصل إلى داره. فبعد أن مشى عدة أميال انقطع الحمار من التعب ومات، فحفر له عابر السبيل قبراً دفنه فيه وأخذ يندبه وينعاه فجاء قوم من المعدان وسألوه عن صاحب القبر، فأجابهم أنه سيد خير، فبنوا له حالاً حائطاً وأخذوا يحترمونه ويزورونه، فبلغ الخبر صاحب المقام فجاء لتحقيق الخبر، فإذا صاحبه عابر السبيل هو القيم فسأله: أنى لك هذا السيد الخير، فأجابه أنه هو الحمار الذي أعطيتنيه، فهمس إليه وقال له اسكت فإن الذي عندي هو أبوه!..
يسابل الكويت أغلب الأعراب من نجد والعراق والجنوب ولو بعدت عليهم السبيل، ما لم يمنعهم مانع حكومي، والسبب في رغبة الأعراب في مسابلة الكويت هو استعداد الكويت لجميع حاجات البوادي بقيم مناسبة، ويشتري الكويتيون من الأعراب ما عندهم من صوف وسمن وأباعر وأغنام فإذا قدموا صفاة الكويت فإنه لا تمضي عليهم ساعة إلا وقد باعوا ما لديهم واشتروا ما أرادوا وخرجوا من فورهم.
وقد كانت لهذه المسابلة في الزمن السابق شأن يذكر في تقدم تجارة الكويت وأما الآن فقد ضعفت المسابلة لموانع حكومية ولم تبق إلا مسابلة عريب دار ورواد الربيع من الأعراب إذا ربعت الأرض، عريب دارهم بادية الكويت الذين تؤخذ منهم الزكاة ويجري عليهم حكم الكويت عند الإختلاف فيما بينهم، وسابلتهم مستمرة صيفاً وشتاءً، وهم لفيف من شتى العشائر من عوازم ورشايدة ودواسر وعجمان وبني هاجر وسهول وسبيع وعدوان، إلا أن الأكثرية للعوازم.
وأقول -والمستقبل كشاف- إن الكويت هي ميناء عرب الجزيرة، هذه الموانع لا بد أن تزول طال الزمان أو قصر والسبب في ذلك أنه لا توجد بلدة في هذه الجزيرة مثل الكويت، فطرقها سهلة ومرعاها طيب والحاجيات متوفرة فيها بقيم رخيصة وسلع الأعراب تباع بأحسن قيمة.
وكان لسان حال الأعراب يقول :
لا بد من صنعاً وإن طال السفر ** وإن تحنى كل عود ودبر
بمناسبة هذا التاريخ رأيت أن أذكر ما أعرفه عن منبت القناعات وتفرقهم في البلاد. ثم اجتماع الأغلبية منهم في الكويت، وما بلغوا من مكانة وثروة.
وسأذكر ما وقفت عليه عنهم من أثر باق أو كتابي أو نقلاً عن ثقة، ولا أريد أن أتكلم عما لهم من عمل صالح لأن في ذلك ثناء على نفسي، والمثل العامي صادق حيث يقول: "افعل والناس تكفيك" و "لا يذهب العرف بين الله والناس".
القناعات في العراق
أولاً: في كتيبان شمال البصرة كوت يسمى كوت القناعات، تاريخ بنائه مجهول، وساكنوه الآن لا يعرفون شيئاً عن القناعات سوى الإسم والرسم، ومن المحتمل أنه لما وقع الطاعون في العراق سنة 1247هجرية أفناهم ولم يبق منهم أحداً وهذا الطاعون أخلى بيوتاً كثيرة من أهلها وصارت كأن لم تكن.
ثانياً: في المناوي وهو ناحية من نواحي البصرة بيت عبدالله السلمان وبيت حمدي وغيرهما من القناعات، ولم نعلم متى نزلوا هناك. أما بيت سالم البدر فهو من قناعات الكويت هاجر منها سنة 1277هجرية.
القناعات في الكويت
سكن القناعات الكويت منذ 200سنة وكسور من السنين تقريباً كما سترى بيان ذلك، وعندي كتاب عثرت عليه في البحرين اسمه (التيسير نظم العمريطي في فقه الشافعية) بقلم عثمان بن علي بن محمد بن سري القناعي. يقول مؤلفه أنه ولد بالقرين، والقرين يطلق على الكويت في الزمن السابق في وعلى محل فيلكة (وهي من جزر الكويت) وليس في الكتاب تاريخ ولادته ولا تاريخ الكتابة، ولكني عثرت على كتاب صغير في بيت الشيخ فرج فيه قصائد وقصة الحشر وحكايات خرافية بقلم عثمان المذكور، وفيه تاريخ الكتابة وهو سنة 1213هجرية. وعثمان هو شقيق جدنا الثالث وهو سلمان بن علي بن محمد بن سري وبيت عثمان هذا يسمى الآن ابن سري (وهو تحريف سري).
وفي الكويت بقرب مروي يسمى خر القناعي، وفي النصف من طريق الجهرة إلى الجهرة قليبيات ياسين القناعي وفي جنوب كاظمة للغرب محل يسمى قصير ياسين، وفي وصية عبدالرحمن بن زبن سنة 1237هجرية تخصيص صدقة للإمام والمؤذن في مسجد ياسين سرحان الآن، وياسين هذا لم نعرف تاريخ مولده ولا موته ولكننا نعرف بيته ونسله فإنه لم يبق من نسله سوى امرأة عجوز، وبيته هو اليوم بيت فاضل بن سليمان الدعيج.
القناعات في الزبارة
أخبرني صالح بن إبراهيم بن صالح السداني ينقل عن والده عن جده صالح، وهو من أصحاب الشيخ أحمد بن رزق وكان في معيته، يقول: نحن جيران القناعات في الزبارة وفي البحرين وفي الكويت. ويقول: لما خربت الزبارة، من القناعات من هاجر إلى البحرين ومنهم من هاجر إلى سري (وهي جزيرة في الخليج العربي) ثم لم تطب لهم السكنى فيها فهاجروا إلى فارس. وبيت ابن سياب من الذين هاجروا إلى فارس ثم جاءوا إلى الكويت منذ مائة سنة تقريباً.
القناعات في البحرين
لما توفي الوالد عيسى سنة 1311هجرية رأيت عند الوالدة لفة من الأوراق تدل على أملاك في البحرين باسم يوسف بن عمر وهو جد الوالد من قبل أمه، فقلت لها لماذا لا نطالب بها؟ فأخبرتني أن أحمد بن يوسف (خال والدي) طالب بها ولم يفلح، ودفعه آل خليفة بحجة أنهم أخذوا البحرين بالسيف وليس لأحد ملك. وفي سنة 1346هجرية سافرت إلى البحرين وأخبرني يوسف الشتر عن والده وهو من المعمرين، أن محلة القناعات هي بقرب بيت مقبل الذكير في شرقي المنامة.
القناعات في القصب من بلاد نجد
لهم بقية إلى حال التاريخ في القصب، ولا نعلم تاريخ هجرتهم إليها. وفي سنة 1323هجرية بلغهم أن بعضاً من أهل الكويت يشك في نسب القناعات إلى السهول. فكتب محمد بن بناق القناعي وثيقة ذكر فيها نسبهم إلى السهول ومصاهرتهم لحمائل أهل القصب. وشهد فيها غير واحد من أهل القصب كما شهد فيها وصحح عليه الشيخ عبدالله بن زاحم قاضي المدينة المنورة الآن، وصادق عليها وثبتها الشيخ علي بن عبدالله بن عيسى قاضي شقر وبلاد الوشم. وإليك نصها بالحرف عن قلم المرحوم الشيخ عبدالله بن خلف الحنبلي:
"بسم الله والحمد لله، ليعلم الواقف على ذلك والناظر إليه أن محمد بن بناق القناعي لما بلغه عن ابن عمه محمد بن أحمد أيوب القناعي ومن ينتسب إليه في أطراف الكويت أنه تكلم في نسبهم من لا معرفة له بذلك لبعد المسافة وخمولهم عند أهل زمانهم، فذكر محمد بن بناق أن نسبهم يتصل بالزقاعين السهول. وأما مصاهرتهم لأهل القصب فيشهد بذلك غير واحد بأنهم شملوا جميع حمائل أهل القصب يأخذون منهم ويزوجونهم وهم آل سويد وآل غدير وآل عوجان البقوم وآل شملان وآل غنام بني خالد وآل قاسم وآل مقحم المنتفق وآل جلعود من رايل. كل هؤلاء قد شملتهم المصاهرة شهد على ذلك محمد بن غدير وشملان بن إبراهيم وشهد به وكتبه الفقير إلى الله تعالى عبدالله بن محمد بن فنتوخ وحرره في 23ذي القعدة سنة 1323هجرية وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم". وختمه بختمه المعروف.
وشهد بذلك كما ذكر أعلاه عبدالله بن عبدالوهاب بن زاحم وختمه بختمه المعروف.
"بسم الله الرحمن الرحيم، ثبت لدي ما ذكر أعلى هذه الورقة، قاله كاتبه الفقير إلى الله تعالى علي بن عبدالله بن عيسى قاضي شقره وبلاد الوشم من بلاد نجد وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. حرر في 2 ذي الحجة سنة 1323هجرية". وختمه بختمه المعروف.
(نقل هذه الكتابة عن خطوط أصحابها المختومة بأختامهم العارف بها عبدالله بن خلف).
فتحصل مما مر أن سكنى القناعات في العراق تاريخه مجهول، وكذا سكناهم في القصب من بلاد نجد، وأما سكناهم الكويت والزبارة فهو حادث لأن الكويت منذ سكنها الصباح لا تتجاوز 250 سنة والزبارة سكنت سنة 1180هجرية وخرجت سنة 1212هجرية، والظاهر أن سكناهم البحرين بعد الزبارة، فعلى هذا هل منبت القناعات الأصلي هو العراق أو الشام أو القصب من بلاد نجد؟.. الغيب لا يعلمه إلا الله ولكني أرجح أن منبتهم الأصلي هو شمال العراق، وإليك الأدلة على ذلك:
أولاً: ذكر صاحب سبائك الذهب في أنساب العرب أن بني سهل بطن من جذيمة وسكناهم حوالي غزة من بلاد الشام.
ثانياً: أسماء الآباء تدل على أنها غير نجدية وإليك بيانها:
آل سري، آل حردان، آل مسلم، آل ناجي، آل هرموش، آل حمدي، آل سلمان، آل انويجي، آل سباب آبناق، آل حمدان، آل بدر. (وقد استغربت اسم هرموش ولكن مر علي في رجال البخاري من اسمه كذلك).
ثالثاً: بياض البشرة يدل على أن المنبت بارد فسكان الشام والعراق يغلب على بشرتهم البياض، والأسود قمحي اللون -مع ندرته- إذا حققت عنه تجده حديث العهد بالسكن فقبيلة سبيع منبتهم بالعراق ومنه تحولوا إلى نجد (فقد ذكر صاحب لسان العرب والقاموس أن منازلهم الكوفة وبها محلة تنسب إليهم يسمى السبعية) وعنزة منازلهم الحجاز ومنه تحولوا إلى الشام. وهذا شأن العشائر الرحل قبل أن تتحضر تتبع أماكن الأمن والمرعى ومحل العز فبنو كعب من سبيع تحولوا من العراق إلى الدورق سنة 1178هجرية وتشعبوا، ومنهم من تحول إلى نجد، ولهذا نجد بياض البشرة هو الغالب فيهم كالسهول. وقد سمعت من الثقة سليمان بن إبراهيم القاضي أن السهول وسبيع الآن في نجد كعشيرة واحدة وأن بياض البشرة هو الغالب فيهم.
القناعات ومكانتهم في الكويت
ومبلغ ثروتهم
مكانة القناعات في الزمن الماضي والحاضر بين أهل الكويت وسطى لا ميزة لأحد منهم على سواه إلا بالأعمال الطيبة كغيرهم، وأما مكانتهم عند الأمراء فلها ميزة، وكلمتهم مسموعة وأرى أن السبب في ذلك. أولاً: المجاورة والمخالطة مع الأمراء منذ الصغر، فالشخص الذي تعرفه، وتعرف دخائله منذ صغرك تطمئن إليه نفسك بما لا تطمئن للشخص الذي لا تعرف عنه شيئاً.
وثانياً: القناعات لم ينازعوا الصباح في سيطرة ولم يشاغبوهم في سياسة، بل أخلصوا النصح لهم في الزمن السابق واللاحق، ولم يطلبوا على ذلك جزاء ولا منصباً، فلهذا اطمأنت نفوس الأمراء إليهم وصارت لهم هذه المكانة.
وأما مبلغ ثروة القناعات ففي أول هذا القرن كان أغلبهم متوسط الحال وهو للفقر أقرب منه إلى الغنى، أما الذين ملكوا شيئاً من الثروة مثل سالم البدر وأخيه سليمان وعبدالعزيز المطوع فإن ثروتهم لا تنسب لغيرهم من أغنياء الكويت مثل بيت ابن إبراهيم وتجار اللؤلؤ. وأما ثروتهم في القرن الماضي فقد أخبرني المرحوم محمد بن يوسف المطوع أن محمد بن ناجي ملك ثروة طائلة حتى أنه جعل في دهليز بيته قوماً من الصابئة يعملون له ما يشاء من المصاغ، وأخذ أهل الكويت يسمونهم صبة القناعات (ولا أدري هل هذا المصاغ تجاري أو أهلي) وأيضاً عبدالعزيز الخليل تغرب سنين في جاوة ثم رجع منها بثروة عظيمة، وكان يسمى عبدالعزيز الهندي، ولكن ثروته لم تستقم لأنه كر راجعاً إلى جاوه في سفينة لتصفية حسابه هناك وقدر الله له على السفينة الغرق فمات، وممن ملك ثروة لا بأس بها محمد بن حمدان وتجارته في الأرز بالمناخ.
هذا نهاية ما أردت بيانه من تاريخ الكويت راجياً من كل خبير عنده علم بخلاف ما ذكرت أن يرشدني لأستدركه في الطبعة التالية، والله أسأل أن يوفقني للصواب في القول والعمل إنه على ما يشاء قدير.