روائع الشيخة حصة في دار الآثار - عبدالله بشارة
روائع الشيخة حصة في دار الآثار - عبدالله بشارة
مهما شيدت دولة الكويت من جيش ومهما أتت من أسلحة ومهما توهجت في قياداتها، تبقى الكويت دولة تعيش بالحياة الناعمة وتحتمي بالدبلوماسية الوسطية وبالمتانة الاقتصادية وبالهمة الثقافية لمسببات كثيرة أغلظها التوحش الاقليمي والأمية الجوارية وحلاوة الصيد النادر، وصغر جغرافية الكويت وقلة سكانها، على الرغم من التحالف من الأصدقاء حيث تلتقي المصالح الاستراتيجية وتنسجم المواقف باتفاقيات أمنية موقعة وملزمة، غير أن ذلك لا يغري الكويت بالتخلي عن تراثها المعتاد في التآلف مع المخزون الناعم في صد الأطماع.
دار الآثار الكويتية التي تحيا بالتراث وتعيش عليه وتقدمه الى الباحثين عن المعرفة والراغبين في التاريخ والى أصدقاء المنابع الثقافية الانسانية، تظل من أبرز آليات الكويت في تنوعها في مجرى الدبلوماسية الناعمة، خاصة ان مقر دار الآثار في المستشفى الأمريكي الذي يشكل هوية تاريخية لأهل الكويت.
كنا صغاراً نرى المستشفى الأمريكي من الخارج ولم نكن في زمن يستفسر عن شخصية هذا المستشفى الجالس في ركن منعزل في المنطقة القبلية من المدينة، ولم أقرأ شيئا يستحق عن تاريخ المستشفى ربما حتى زرت مدينة هاردفورد عاصمة ولاية كينيكت القريبة من نيويورك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
حيث دعاني بعض أقارب الدكتورة «اليانور كالفرلي» للقاء على غداء حين قدم لي واحد من الحاضرين نسخة من كتابها الذي تضمن سجلا عن حياتها في الكويت كطبيبة عالجت عوائل الكويت مع أسماء لمرضاها معظمهم من الحي القبلي من مدينة الكويت.
قرأت الكتاب خلال إقامتي في نيويورك وكنت أنوي ترجمته لأهميته للجيل الحاضر، ولكن وزارة الإعلام تولت الترجمة للكتاب الذي حمل اسم المؤلفة، وكنت أقرا الكتاب وأقف عند أسماء أعرف احفادها ومعظمهم من أصدقاء اليوم.
أصبح المستشفى الآن قصرا لدار الآثار الإسلامية تحت ادارة الشيخة حصة صباح السالم، التي حافظت على الاسم الكويتي الأصلي حيث تقرأ في كتيب صغير عن تاريخ المستشفى باسمه الكويتي القديم «الأمريكاني» كما كنا نسميه، مع تطوراته وكيف بدأ بدعوة من الشيخ مبارك الصباح الى الدكتور «بانت» المقيم في البصرة كطبيب للارسالية الأمريكية لزيارة الكويت لاجراء عملية جراحية في عيون ابنة الشيخ مبارك الصباح.
ويعرض الشيخ مبارك على الدكتور «بانت» اقامة مستشفى في الكويت حيث بدأ العمل عام 1911، وتسجل أحداث المستشفى بأنه خلال معركة الجهرا 1920، تم علاج 135 محاربا جرحوا في المعركة كلهم خرجوا متعافين ما عدا أربعة كانت جروحهم صعبة.
هذه الكتيب الصغير يشكل سجلا موجزا عن تاريخ المستشفى، الذي أغلق عام 1967، وتحول الآن الى كنوز للمعرفة من نوع آخر وللعلاج من آفة الأمية.
قضيت ساعات الصباح متجولا وسط كنوز حملتها ارادة الشيخ ناصر صباح الأحمد وعقيلته الشيخة حصة صباح السالم الى الكويت لعرضها أمام الناس من كل مذهب ليتعرفوا على حقائق عن منجزات مجتمعات أخرى، تشربت بثقافات إسلامية وثقافات من ديانات أخرى، وقد شدني كتيب صغير عنوانه – الذكر المكنون في عالم الفنون – حيث تم نقل آيات من القرآن الكريم عبر مجموعات من الملامح الزخرفية وضعها فنانو الخط وتشكل أجزاء موحدة للسور القرآنية.
تقول النشرة ان القرآن الكريم هو الوسيلة التي نشر بها المسلمون الإسلام على طول مساحات جغرافية شاسعة امتدت حتى أسبانيا والصين، وقد أسهمت هذه المخطوطات في ارتفاع نسبة معرفة الكتابة والقراءة لدى المسلمين في هذه المجتمعات البعيدة، لأنها سجلت على السطوح وعلى النصب الهندسية والأضرحة بالاضافة الى الاشياء المستخدمة في الحياة اليومية للأفراد.
وهناك كتاب نادر حملت نسخة منه معي الى المكتبة لتصفحه بهدوء، اسمه روائع الشرق القديم Splendors of ancient East والقصد من هذا الكتاب النادر القاء الضوء على جوانب هامة من التراث الثقافي الانساني الذي لا يعوض، وبهذا الاندفاع الفكري والانساني، نجحت الشيخة حصة في الحصول على هذه الآثار النادرة وترميم الكثير منها من أجل صون هذا التراث الانساني الذي ضاع منه الكثير بسبب الأحداث والحروب.
توقفت عند الجزء الخاص بالمملكة الساسانية (266 – 601 م) التي كانت تتربع على تراب ايران والعراق وتمتد شمالا نحو البحر الأسود، وتتعرف على صور من الأسر الملكية ومن آلهة الديانة الزرادشيتية وصور للنبلاء وكبار.
هناك كتيب صغير عن تاريخ جزيرة فيلكا، وتخبرك قراءة هذا الكتاب بأن جزيرة فيلكا استقبلت مختلف الحضارات والأديان، وأنها دخلت في فلك الحضارة الأغريقية عندما بعث الاسكندر الأكبر ارساليات لاستكشاف جزر الخليج عندما احتل أرض فارس، ونكتشف ان فيلكا دخلت الحقبة المسيحية وصارت مقرا آمنا لجالية نوستريا المسيحية، وتم اكتشاف كنيستين في الجزيرة، وتعرضت فيلكا للتبدلات في الاسم والهوية كحالة جزر الخليج الأخرى مثل البحرين.
هناك مجلة رصينة اسمها «حديث الدار» تصدر عن دار الآثار الإسلامية، قرأت فيها مقالا عن الاسماعيلية والتستر فيها، ويعترف كاتب المقال د.عادل سالم العبدالجادر، بأن الموضوع كله يتستر بالغموض، والموضوع الآخر الذي لا يقل في غموضه عن الاسماعيلية، كتبته الخبيرة الألمانية في شؤون اليمن، الدكتورة ادريس غير لانج، ويتعلق بملكة سبأ وزيارتها الى الملك سليمان الحكيم في القرن العاشر قبل الميلاد، وتقول مؤلفة المقال بأن العلماء لم يتمكنوا اثباته علميا، أما في التراث الإسلامي فتذهب الرواية الى ان الهدهد يرسم خططا للقاء بين الملكة بلقيس والملك سليمان وهي رواية تتكرر في التراث اليهودي، وفي أثيوبيا فالرواية حقيقية بأن اللقاء بين الملكة بلقيس والملك سليمان قد تم وأثمر اللقاء عن صبي يدعى مينيلك، لكنه يختفي في الحبشة مع سفينة العهد ليؤسس أسرة النجاشي الحاكمة التي امتد حكمها الى سنوات قريبة ماضية.
كل هذه المقالات فيها عصف للتفكير العقلاني ومنها استكشافات الواقع المستخرج من أعماق الغموض.
من كل هذه الجولة وقفت على معاني الايمان وقوة القناعات وصلابة العزم التي تتسيد عروق الشيخة حصة في حمل رسالة المعرفة واستحضارها من أبعاد الجغرافيا ومن بطن التاريخ الى دار الآثار في الكويت لكي يراها من يريد ويتعلم منها على ما يريد.
أكبر ما شدني في حقائق البشرية هو أنه لا توجد شعوب في هذه الأرض نبعت من باطن الأرض التي نعيش عليها الآن، فالمجتمعات الحالية هي ثمار ديناميكية التحرك الدائمة للانسان وهي شعوب خليط من مهاجرين، فالصينيون كانوا بالأمس البعيد شعبا آخر، ومنذ بداية القرن الميلادي كانت ايران والعراق أرضا واحدة وشعبا غير الذي نراه الآن، وننظر الى جزيرة فيلكا الكويتية اليوم التي كانت مقرا للديانة المسيحية في بداية الدعوة..
أين هؤلاء الذين بنوا كنائس فيلكا ومن بقي من الذين عاشوا في فيلكا كمواطنين لدولة دلمون في البحرين، وهل هذه الدورة البشرية ستبقى تنقل شعوبا من مقرها الى مكان آخر؟!
أعجبني طاقم الترجمة في دار الآثار في ترجمة المقالات في كتاب روائع الشرق القديم، فليست بالسهلة ترجمة مقالات عن الطابع الهيليني في الفنون، وغيرها من أسرار التاريخ.
وأعترف بأنني خلال الجولة برفقة أميرة الآثار كنت أتفحص حماس الشيخة حصة الممتعة في شرحها، العاشقة لفنونها والمتفانية في رسالتها، لا ترضى بالاستقرار لأنها تنقب في هذه الدنيا عن أسرار البشر الثقافية فتقلع الى الصين وتعبر الى التبت وتطير الى سمرقند في حالة من الولع الراقي في مهمة ثقافية تاريخية راقية.
وتبقى ملاحظة تتعلق بأسلوب الشيخة حصة في تعاملها مع الآثار حيث تولدت لديها نظرة فاحصة في التقييم وفي ملكة الاقتناص، واتبعت استراتيجية الصبر والانتظار أو ما يطلق عليه Strategic Patience في التنقيب والفحص والاقتناء وتحية لأميرة الأدب الجم، أميرة الآثار وراعية الدار..
٭٭٭
نهنئ السفيرة نبيلة عبدالله الملا – سفيرة الكويت الى بلجيكا والاتحاد الأوروبي على القلادة المبهرة التي منحها الملك فيليب، ملك بلجيكا، للسفيرة المتوهجة، تقديرا لدورها في تطوير العلاقات، ونشكر الملك على تقديره للخبرات المقرونة بالمواهب، ونشعر بأنه الملك الذي يجيد انتقاء الماسات من الحشود الواسعة والممتدة في بلاط الملوك.
ومبروك للسفيرة نبيلة الملا، وشكرا لملك بلجيكا الداعم للمتفوقين.
عبدالله بشارة
الوطن 2013/09/29
|