إعداد :
سعود الديحاني - جريد الرأي
كانت حياة الكويتيين في الماضي عنوانا للكفاح والتضحية والبناء اتخذوا من البحر صرحا للمجد وسبيلا للرزق والكسب الطيب، واصبح لهم تراث في البحر بنيت اركانه وشيدت على ايدي رجال طوعوا امواجه وذللوا صعابه وغاصوا في قعر اعماقه، لا يهابون وحشتها وظلمتها، وابحروا إلى مواطن الهولو واليامال والى المغاصات البعيدة والقريبة، ان ذلك الجيل العتيد اسهم - بحق - في صنع الكويت من خلال شريان الحياة في الماضي ألا وهو البحر.
النوخذة
النوخذة ناصر بن عيد احد اعلام الغوص في تاريخ الكويت البحري، وممن يتردد اسمه كثيرا في صفحات كتابه، وساعات نهاره ونسمات ليله، ولهجة بذكره السن رواته فلا يوجد معمر من كبار السن ادرك حقبة الغوص ودفعه الحنين إلى عبق الماضي، الا وهو يذكر ناصر بن عيد ذلك النوخذة الذي كان ومازال رمزا من رموز هذه المهنة وعلما يشار اليه بالبنان، وقدوة حسنة يحتذي بها كل من ركب البحر، وخاض عباب امواجه.
نشأة
ولد النوخذة ناصر بن عيد في بيت للبحر فيه شأن كبير، فوالده كان من ربان البحر، وفارسا من فرسانه واحد كبار نواخذة الحي الشرقي المعدودين، الذين عاشوا ازدهار مهنة الغوص، ونعموا بخيرها، وذلك في عهد الشيخ مبارك الصباح وقد أدرك وعاصر سنة الطفحة 1912.
وثيقة بيت النوخذة ناصر بن عيد في العاقول
الرحلة
ونعود إلى النوخذة ناصر بن عيد فنقول: ان رحلته مع الغوص بدأت بعمله تبابا في خشب والده يوم كان مرافقا له، ثم تدرج رضيفا، ثم غيصا، وفي تلك المراحل بدأت مواهبه وقدراته تظهر، فعرف بشجاعة القلب والحزم وعدم التردد، لا يهاب قاع البحر (القوع) مهما كان عمقه، ومهما احدقت به من اخطار جسيمة، او ظروف جوية صعبة.
المرافقة
وبعد مرافقة والده تنوخذ هو بنفسه على خشب (سفينة) اشتراها لنفسه، وسرعان ما شاع ذكره، وعلا صيته بين نواخذة البحر، لما عرف به من حبه لعمله، وحرصه على توجيه بحريته والاشراف على كل صغيرة وكبيرة من امور السفينة بنفسه، ولا يترك شيئا للمصادفات وكانت لهيبته ووقاره الاثر الكبير في طاعة بحريته له وامتثالهم لاوامره وكان لشدة جسارته وعلو همته يحب الغوص في الهيرات البعيدة، المحوطة بالمخاوف والمحفوفة بالاخطار، فكان لا يرافقه من البحرية إلا الاشداء ذوو البأس والقوة، وكان احب مكان اليه في الغوص ما يعرف بهير «ابو ظلام» وذلك انه وجد ذات مرة بهذا الهير دانة «لؤلؤة» ثمينة فتبارك بهذا المكان وتفاءل به واخذ يحرص على المرور عليه والغوص فيه في كل مرة يخرج فيها للغوص.
خشبة
اما خشبة فكان من نوع السنبوك احد انواع سفن الغوص الجيدة والمشهور بالخليج، وقد اطلق عليه لقب «عرهان» وكان ذا سرعة فائقة لم يكن لها مثيل، إلا مشهور بوم الحاج هلال المطيري، فهو الوحيد الذي كان قادرا على ان ينافس «عرهان» سنبوك ناصر بن عيد وكان كل من يرى من اهل الخشب (السفن) السنبوك «عرهان» يظن انه لنج (سفينة ذات موتور) وليس خشبا شراعيا، وما ذلك إلا لشدة سرعته وسيره.
القصيدة
وقد بلغ السنبوك «عرهان» من الشهرة مكانة جعلت شعراء البحر يقولون الشعر في مدحه ومدح صاحبه ومن ذلك قول سعيد بن عيد مادحا اخاه ناصرا في شراء هذا السنبوك:
شاقني عرهان منقوش الحجابي
ها الزمان وشار حنا مشترينه
لضرب بالعود يرمي به سرابي
كن في صدره حركات الماكينة
جابه اللي للخسارة ما يهابي
شوق من تضوي القمرا جبينه
الخبرة
ومن الدلائل على سعة خبرة النوخذة ناصر بن عيد في مهنة الغوص، وشدة المامه ومعرفته بها، انه كان يقيم (يثمن) القماش (اللؤلؤ) للنواخذة قبيل عرضه على الطواويش.
وكما كان النوخذة ناصر بن عيد واسع الخبرة في مهنة الغوص، كان ايضا واسع الصدر لمشاكل الناس وهمومهم، فكان المتخصامون يأتون اليه ليحكم بينهم، فيستمع اليهم باذن صاغية وقلب مفتوح، ويحكم بينهم بما يرضيهم، وهكذا كان بيت اسرته مضيفا للناس، يفد اليه الغادي والرائح في اي ساعة من الليل والنهار، فكان ذلك كله سببا في ان يكون النوخذة ناصر بن عيد وجيها عند الناس، وصاحب المنزلة والمكانة السامية عندهم، ومن دلائل ذلك ان رجلا كان على سفر، وكان لابد ان يمر في طريقه وتنقله على ديار القبائل والعشائر وديار قبيلة مطير المترامية الاطراف من الكويت إلى بحر جدة، ويريد ان يأمن اخطار الطريق ومخاوفه، فسأل عمن يوفر له الحماية في طريق سفره، فأشار الناس عليه بالذهاب إلى النوخذة ناصر بن عيد، والذي استقبل الرجل، ورحب به، وانزله في ضيافته، بل واشترى له ذلولا (راحلة) وقال له: اذهب في سفرك، ومن تعرض لك في طريقك فقل له: انا في وجه ناصر بن عيد البرازي المطيري، فمضى المسافر في طريقه وقد اطمأنت نفسه، وارتاح قلبه، بعد ان حصل على ما يأمن به على نفسه وماله من غوائل الطريق ومخاوفه.
الاسهامات
ومن اسهامات النوخذة ناصر بن عيد الوطنية: مشاركته في معركة الجهراء سنة (1920م) والتي توجه اليها مع النوخذة فالح بن خضير، وخالد المخلد، وفارس الدبوس، وحمد بن زوير الهاجري، ومجموعة اخرى من اهالي الكويت، من اسهاماته ايضا مشاركته ابناء وطنه في بناء السور الثالث الذي بني سنة 1919م لحماية الكويت.
سعيّد
ولد النوخذة سعيّد بن عيد في فريج المطبة في منطقة الشرق من مدينة الكويت القديمة، التحق في طفولته عند احد الكتاتيب فتعلم القراءة والكتابة وحفظ اجزاء من القرآن الكريم، وقد كانت الكتاتيب بمثابة المدارس الاهلية التي يتعلم بها، وقد تميز النوخذة سعيّد بن عيد بخطه الرائق الجميل.
كانت بدايته مع البحر مع والده النوخذة عيد بن فهد البرازي، ومن ثم مع اخيه النوخذة ناصر بن عيد، ومن والده واخيه تعلم فنون مهنة الغوص، واسرار البحر، وذلك بالممارسة العملية لا النظرية، واكتسب بنفسه الكثير من المعلومات والمعارف المتعلقة بعلوم البحر، كمواسم الرياح، واوقات هبوبها، واتجاهاتها، ومواقع النجوم التي تحدد مسار الطريق واماكن الهيرات «المغاصات».
وكان الذي ساعده على تحصيل جميع تلك المعارف -بعد فضل الله ومنته- ما فطر عليه من نباهة وكياسة، وسرعة البديهة في معرفة كل شيء حوله، فلا عجب انه بعد ان تنوخذ صار علما يشار اليه بالبنان، ويضرب به المثل في الدلالة ومعرفة مواقع الهيرات «المغاصات» حتى قيل: اشدعوه انت ابن عيد وابن سلامة؟!.
على ان هذه الخبرة الكبيرة التي كانت لدى سعيد بن عيد، لم تكن مقتصرة على علوم البحر فقط، بل كان لدى سعيد بن عيد خبرة كبيرة بالبراري والصحاري، وبصورة اخص منطقة الدبدبة وما جاورها، وهي منطقة منبسطة لا توجد بها أي معالم او تضاريس تساعد المارة عليها على معرفة مسالكها وطرقها، وكان لا يقدر على ذلك إلا القليل من الرجال اصحاب الخبرة الكبيرة بالطريق والمسالك الصحراوية.
الحادثة
ومن المواقف والحوادث التي تدل على تمكن سعيد بن عيد وقوة معرفته بالبحر واغواره: ما حدث معه حين كان يغوص مع بحريته في عرض البحر، وتفاجئوا بعاصفة «ضربة» قوية تهب عليهم، وهي في منتصف ليلة حالكة السواد، يلف الظلام جميع جوانبها، وقد تسببت شدة هذه العاصفة في اطفاء السرج «المصابيح» ما اضطر النوخذة سعيد إلى الالتجاء إلى شاطئ البحر «السيف» وبينما هم في طريقهم إلى الشاطئ سقطت في البحر بقشة احد البحرية، وبها متاعه واغراضه واشياء تخصه.
وكان من الصعوبة بمكان التوقف عن السير لاستخراج هذه البقشة، فمضوا في سيرهم إلى الشاطئ وارسى النوخذة سعيد خشبه في احد الاخوار ثم نزل إلى البر مع بحريته لينالوا قسطا من الراحة والاستجمام، وكانت فرصة لأن يتزودوا لرحلتهم فأمضوا يومين في شراء الذبائح وطهيها، وجلب الماء من القلبان القريبة منهم، وبعدما هدأت العاصفة وتحسن الجو، وعاد البحر إلى هدوئه.
استدعى النوخذة سعيّد بن عيد الرجل الذي سقطت بقشته في البحر، وسأله بهلجة الواثق المتحدي: «اتريد حاجتك التي سقطت قبل يومين؟» فرد عليه الرجل متلهفا: اي (اي: نعم)، وهنا تدخل احد البحرية (الغاصة) معترضا ومتعجبا من قول سعيد بن عيد للغيص الذي سقطت حاجته، وقال: هل انت صادق في انك سوف تأتي بها وقد سقطت اول من امس (اي منذ يومين)؟ انه لامر عجاب ان تخرجها من البحر بعد مضي هذه المدة؟!!!
وما ان انتهى هذا الرجل من سؤاله وتعجبه، حتى استنفر النوخذة سعيد بن عيد بحريته، وامرهم بالعودة إلى الغوص، وبخطوة الخبير الواثق عاد بهم إلى نفس المكان الذي سقطت فيه البقشة ليلا!!! وطلب من الغيص بن اسمير المطيري ان ينزل من جهة اليسار، وامر ابن اخيه فهد بن ناصر بن عيد ان ينزل من جهة اليمين، فاستجاب الغيصان (ابن سمير وفهد بن ناصر) ونزلا البحر بحثا عن البقشة، وبعد فترة وجيزة اخرجها فهد بن عيد، حيث كانت في الجهة التي نزل فيها، فتعجب كل من كان على السفينة من البحرية، وذهلوا عندما رأوا البقشة امامهم، وكان اول المتعجبين ذلك الرجل الذي استغرب وعد النوخذة سعيد بن عيد بانه سوف يخرج حاجة الغيص من القوع (القاع)، وقال متعجبا: اشهد انك جني ياسعيّد!!!
الشعر
ونترك البحر وحكاياته وعجائبه، ونذهب إلى جانب آخر من جوانب شخصية سعيد بن عيد، والذي كان يقرض الشعر منذ نعومة اظافره، فهو شاعر بالفطرة، وقد كان الشعر بالنسبة له هوايته المفضلة، يعبر به عما يجيش في صدره من احاسيس ومشاعر، ويسجل فيه ما يمر به من مواقف وحوادث تخالج نفسه ولكن - ويا للأسف - ضاع معظم هذا الشعر ولم يدون منه إلا القليل.
واذا كان الشعر بهذه المكانة عند النوخذة سعيد بن عيد، وكان البحر له مساحة في حياته، فهو صديقه الودود، فكان لا بد للشعر والبحر ان يمتزجا في نفس سعيد بن عيد، فكان شعره معبرا عن بيئته وحياته، ومن ذلك هذه القصيدة البحرية الصرفة، بألفاظها وتركيب كلماتها والتي تنطق بأن قائلها بحار وشاعر في الوقت نفسه، يقول فيها:
يا ديح وين اللي له القلب صندوق
قفله تغلق والمفاتيح بيديه
من هير ابن حقان اسند بعيوق
ولا يقضب السكان يا كود راعيه
ليا ضرب صدره درادير رقوق
ذاك راس الزور تلم غرابيه
ادنه وهات اليوش واسند على النوق
والعود دون الخود بالك توطيه
الجادل اللي ما بقت كل مخلوق
منا عنا بعض العرب وعيت عن بريه
الزيارة
على ان البحر والشعر لم يشغلا النوخذة سعيد بن عيد عن مخالطة الناس والانخراط في مجتمعه، والمشاركة في الاحداث التي تدور حوله، ومنها زيارته ومقابلته لجلالة الملك عبدالعزيز بن سعود يوم ان كان مخيما في خباري وضحى، فقد ذهب اليه النوخذة سعيد بن عيد مسلما عليه فاستقبله جلالة الملك، وقدم له النوخذة سعيد هدية لاقت القبول والشكر من جلالة الملك.
وقبل ان نختم الكلام على النوخذة سعيد بن عيد، لا ننسى ان نشير إلى بعض الجوانب الانسانية في شخصيته، فقد كان عطوفا على بحريته، يعاملهم بلطف ونبل، سمحا معهم، فهو أخ للكبير، وأب للصغير، ولذلك كله احتل المكانة الكبيرة في قلوب الذين عملوا معه.
وثيقة بيت والده النوخذة عيد البرازي في الشرق