مجلة العربي .. الفكرة والواقع
كانت مجلة العربي ومازلت واحدة من أهم الأحلام العربية للتواصل بين أبناء اللغة الواحدة. فقد حملت على صفحاتها مفردات لغتهم وبذور أفكارهم ومعالم ثقافتهم.
ومنذ صدور العدد الأول منها في ديسمبر عام 1958 وهي تساهم في دفع الحلم القومي الذي كانت أصدق تمثيل له
ففي هذا العام من أواخر الخمسينيات كانت حركات التحرر العربي في أوجها والوحدة المصرية السورية في أول عهدها والشعب الجزائري يخوض نضاله ضد المحتل والكويت تبحث عن شخصيتها وعن انتمائها
وبدا أن إصدار مجلة عربية جامعة تصدر في الكويت وتجتاز كل الحدود العربية وتسمو بنفسها عن الخلافات السياسية والفكرية الضيقة يمثل نقلة نوعية في المفهوم الثقافي العربي
فقد كانت الكويت وفي هذا الوقت لا تزال مرتبطة بمعاهدة الحماية البريطانية، حيث كانت لم تنل استقلالها بعد وقد قيض الله لها ثلة من الرواد في عهد أمير الكويت المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح ليقدموا هدية للأمة العربية عبارة عن خطوة جديدة في الصحافة الثقافية العربية لمثل ذلك النوع من المجلات بعد أن اختفت مجلات كان لها وزنها الأدبي والعلمي مثل المقتطف والرسالة والثقافة في مصر
فقد وضعت الخطوط العريضة لهذه المجلة وتحدد دورها من خلال الموضوعات التي نص عليها قرار إنشائها والتي صدرت كوثيقة رسمية صادرة عن دائرة المطبوعات ونشرت بالجريدة الرسمية "الكويت اليوم" في عددها رقم "168" بتاريخ 30/3/1958 رأت دائرة المطبوعات والنشر أن علينا واجبا ثقافيا يجب أن تضطلع به وتؤديه لسائر أبناء العروبة خدمة قومية مجردة من كل غرض أو هدف يفسد معاني الخدمة القومية الحقة
وقد ركزت دعائم هذا الواجب الثقافي في:
إصدار مجلة علمية أدبية اجتماعية ثقافية جامعة تضم بين صفحاتها مع ما تضم عصارة أفكار المفكرين وخلاصة تجارب العلماء المبرزين وروائع قرائح الشعراء المبدعين وفوق هذا وذاك تعنى عناية خاصة بالمواضيع المصورة المدروسة دراسة علمية عن كل قطر من أقطار العروبة تتناول السكان والمحاصيل والثروات سواء أكانت هذه الثروات حيوانية أن نباتية أم معدنية أم مائية
وقد رسم لهذه المجلة إطار مستمد من أرقى التجارب الصحفية في العالم قائم على التبسيط والتشويق اللذين يضعان المعرفة في متناول الأكثرية الساحقة من القراء وفي الوقت ذاته لا يفسدان السمو الذي يتعشقه الخاصة منهم، كما رؤي أن يكون للصورة مكانتها المرموقة في المقال وللموضوعات المصورة مقامها الأول في كل عدد يصدر من المجلة
وبعبارة أخرى فإن هذه المجلة ستعنى بكل ما يمت إلى الثقافة والمعرفة بصلة
لا سيما الأمور التالية:
- الأدب: بفنونه المختلفة من قصة وشعر وتراث إلخ ... وبأنواعه الأدب العربي القديم الأدب العالمي المعاصر الأدب العربي الحديث باتجاهاته ومدارسه المختلفة
- الفنون: أبحاث عن الفنون المختلفة في النطاق العربي وغيره الموسيقى، السينما، المسرح، الإذاعة، الرسم
- المشاكل الاجتماعية: نوع من المعالجة الموضوعية العلمية الجريئة بقدر الإمكان للمشاكل الاجتماعية في المجتمع العربي
- الموضوعات المصورة: لمختلف أنحاء الوطن العربي تتناول قبائله ومراعيه غاباته حيواناته وثرواته الزراعية والمعدنية والمائية وجباله وسهوله ووديانه إلى غير ذلك منا يجب على القارئ العربي أن يعرفه
- العلوم: (1) مقالات لأهم ما يثير اهتمام العالم اليوم كالذرة والصواريخ، والأقمار الصناعية والفضاء الخارجي والأجرام الكونية
- (2) أنباء علمية لأهم الاختراعات والاكتشافات في شتى ميادين العلم.
- نقد الكتب: نقد وتعليق وتقديم لأهم الكتب المؤلفة في كل شهر
- الاقتصاد: مقال اقتصادي واحد على الأقل.
- نشر لوحات فوتوغرافية: أو مرسومة تصور جانبا من الحياة العربية
كما أن اختيار أول رئيس تحرير للمجلة عربي غير كويتي له دلالة على هدف المجلة حيث أسندت رئاسة هذه المجلة الضخمة إلى الدكتور أحمد زكي وهو رجل العلم والأدب والتجارب والخبرة
لقد أضفى اختيار شخصية بوزن العالم أحمد زكي روحا جديدة في الصحافة العربية سرت في كل أرجاء الوطن العربي ما جعل كل بيت وشارع وحارة من المحيط إلى الخليج لا تخلو منه العربي
فالدكتور أحمد زكي كان مديرا لجامعة القاهرة وزيرا في الحكومة المصرية قبل ثورة 1952 وهو حاصل على شهادة الدكتوراه الفلسفية عام 1924 ودكتوراه العلوم عام 1928 م
وكان قد سبق له تولي رئاسة الاتحاد الثقافي المصري
وعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة
والمجمع العلمي بدمشق
والمجمع العلمي ببغداد
وشخصيته المستقلة كانت بارزة في حياته حيث لم يفرغ للكتابة في السياسة ولا للاتصال بالأحزاب ما صبغ العربي بصبغة الاستقلالية الفكرية التي تجمع ولا تفرق والتي تغلب الكليات على الجزيئات والتي تعرض الجوهر دون المظهر
وعندما أنشأت الكويت هذا المشروع الثقافي الكبير وكان بداية إسهاماتها الثقافية في خدمة الثقافة العربية فإنما قدمته لإيمانها بالواجب نحو الأمة العربية
وقد كان وراء هذا العمل الكبير مجموعة من الرواد على رأسهم المغفور له الشيخ عبدالله السالم الصباح أمير دولة الكويت آنذاك والشيخ جابر الأحمد الصباح رئيس دائرة المالية حينئذ والشيخ صباح الأحمد مدير دائرة المطبوعات والنشر يومئذ والأستاذ بدر خالد البدر والأستاذ أحمد السقاف
وفي عام 1957 بدء في الاتصال بالأستاذ محمد بهجة الأثري كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف العراقية والأستاذ فيصل حسون صاحب جريدة الحرية العراقية والدكتور يوسف عز الدين وزملائه من أساتذة كلية الآداب بجامعة بغداد وعلى رأسهم الدكتور عبدالعزيز الدوري والدكتور يوسف عز الدين والأديب المعروف حارث طه الراوي وقد أثنى الجميع على فكرة المشروع وساهموا في دفعه إلى التحقق وقد رُشح لرئاسة تحريرها أحد شخصين هما العلامة فؤاد صروف من لبنان والعلامة أحمد زكي من مصر
وفي بيروت تم الاتصال بكل من :
السادة بهيج عثمان
ومنير بعلبكي
والدكتور نقولا زيادة
والدكتور محمد يوسف نجم
والدكتور جبرائيل جبور
والأستاذ فؤاد صروف
والدكتور نبيه أمين فارس
والدكتور أمين فريحة
والدكتور سهيل إدريس
لتقديم المشروع ومناقشته معهم وحظي بدعمهم وحماستهم الشديدة له
ومن بيروت إلى دمشق وعرض المشروع على كل من:
الشيخ على الطنطاوي في محكمة التمييز العليا
والأستاذ شفيق جبري عميد كلية الآداب بجامعة دمشق
والدكتور أمجد الطرابلسي
والأستاذ سعيد الأفغاني وغيرهم كثير
ولقد اقترح الأستاذ سعيد الأفغاني الاستعانة بالدكتور صلاح الدين المنجد مدير معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية للتعاون معه فهو متخصص في المخطوطات وكان ثناء الجميع عاطرا على التفكير الجاد في مشروع مجلة ثقافية ضخمة متميزة ووعدوا بتزويدها بمقالاتهم
بعدها انتقل الحوار والبحث والترتيب إلى القاهرة حيث تم الاتصال بكل من:
الدكتور أحمد زكي والدكتور المنجد والدكتور محمد يوسف نجم فأثنى الجميع على الفكرة
وكانت الحياة في الكويت في ذلك الحين (1957 م) صعبة على المترفين من أبناء المدن الكبيرة والدكتور أحمد زكي كان يعرف الكويت فقد زارها لمشاركة في الموسم الثقافي في مارس من عام 1955 وقد طلب أسبوعا للبت في العرض الذي قُدم له للانتقال للكويت لرئاسة تحرير المجلة
وافق الدكتور أحمد زكي على قبول العرض وبعدها مباشرة تم التعاقد مع المصور أوسكار متري والمخرج الفني سليم زيال وكانا يعملان وقتها في دار أخبار اليوم تحت رئاسة تحريرها مصطفى أمين ومن بيروت تم ترشيح الأستاذ قدري قلعجي ليشغل منصب سكرتير تحرير للمجلة وكان ترشيحه من قبل الأستاذ أحمد نعمان وعبدالله القصيمي وحمد الجاسر (باحثان وعالمان سعوديان) ومحمد محمود الزبيري (أديب وشاعر يمني)
لكن قلعجي تخلف عن المشاركة لظروف خاصة فتم التعاقد مع بديل من مصر هو الأستاذ عبدالوارث كبير وانضم للفريق الدكتور محمود السمرة وكان يعمل في مجال التدريس في الكويت بوظيفة نائبا لرئيس التحرير ونشرت الصحف إعلانا لدائرة المطبوعات عن مسابقة لاسم المجلة فوقع الاختيار على اسم "العربي"
وصدر العدد الأول في ديسمبر 1958م
وقد قيض الله لهذه المنارة الثقافية نخبة من أهرام الثقافة في الوطن العربي فبعد العلامة الدكتور أحمد زكي الذي ترأس تحرير مجلة العربي من (1958 - 1975)
تولى الأستاذ أحمد بهاء الدين رئاسة تحريرها من عام (1976 - 1982)
وهو الكاتب السياسي المحنك الذي أدرك بعد العديد من إخفاقات التجارب الوحدوية أن الثقافة هي وحدتنا الباقية وأنها وحدها التي تؤهلنا لكي نكون قادرين على الحلم