والأمل كبير في العثور على رسائل تلك الفترات، وعندها ستعاد طباعة هذا الكتاب، وستكتمل حلقات أخبار الكويت والأحداث التي مرت بها.
وتحتاج هذه الرسائل من الباحثين المعنيين إلى مزيد من الاستقراء والتدقيق، فنحن نقدم كل تلك الرسائل كوثائق تحتمل النقد والتحليل، وقد أشرنا إلى جانب من ذلك في موقعه من التمهيد، ومن ذلك أن الوكيل الإخباري قد سجل تاريخ وصول السفينتين 'بويارين' الروسية و'انفيرني' الفرنسية في 5 من مارس1903
بينما سجلات السفينة الروسية قد حددت يوم 20 من فبراير 1903 تاريخا لوصولهما.
وتختلف بعض الوقائع الأخرى الواردة في رسائله عما جاء في المصادر المكتوبة وهذا كله يحتاج إلى بحث متتبع يربط بين ما جاء في الرسائل من أخبار وما جاء في الوثائق البريطانية ورسائل الشيخ مبارك في تلك الفترة من أمور ذات صلة بالموضوع.
وقد حاولنا في التمهيد أن نقدم أنموذجا مختصرا لما ينبغي أن يتم في هذا الشأن، راجين أن تتاح الفرصة لمزيد من البحث والمعرفة في هذا الجانب من تاريخ الحياة السياسية والاجتماعية في الكويت، وأن تثري التفصيلات التي اشتملت عليها هذه الرسائل موضوعات وقضايا مختلفة في تاريخ الكويت إذا اجتمعت إلى جانبها أو ضمت إليها، فالكلمة إلى الكلمة، والمعلومة إلى المعلومة يؤكدان الحقيقة، ويصلان بها إلى قيمة عالية ومهمة في مجال البحث والدراسة بالنسبة للأجيال المعاصرة واللاحقة من أبناء وطننا الكويت ومنطقة الخليج العربي بأسرها.
والله يهدي من يشاء إلى ما ينتفع به من علم نافع وقول سديد.
كانت الظروف السياسية المحيطة بالكويت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حافلة بالصراعات على المستويين الدولي والإقليمي، فقد كانت الدولة العثمانية تحاول المرة تلو الأخرى السيطرة على الكويت، غير أن تنبه حكامها وحرصهم وحكمتهم في التصدي لتلك المحاولات كانت تحول دون ذلك.
وكانت الدول الكبرى الأخرى مثل بريطانيا وروسيا وألمانيا وفرنسا تحاول أيضا أن يكون لها موقع قدم في هذا المكان الاستراتيجي. أما على المستوى الإقليمي فقد كان آل رشيد حكام حائل قد استولوا على نجد، وأدركوا قيمة موقع الكويت التي يصلهم عن طريقها مختلف أنواع مواد التجارة والبضائع، ومن الطبيعي أن يثير آل رشيد على الكويت لجوء عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، وحماية الشيخ مبارك له ولأبنائه ومعاونتهم في استعادة ملكهم في نجد، فتواترت غارات أمراء حائل على أراضي الكويت وأحداث نهبهم للعشائر التابعة لها.
يضاف إلى ذلك الشيخ سعدون أمير المنتفك الذي كان يريد أن يكون له مكان على خارطة العراق السياسية، كان يرى من أجل ذلك أهمية الدخول في إطار هذه الصراعات الإقليمية.
التحالف مع أقوى الأطراف
في ظل هذه الظروف السياسية الصعبة والمتشابكة وجدت الكويت أن التحالف مع أقوى الأطراف هو السبيل الأمثل لحماية استقلالها وصيانة كيانها السياسي، ففي يناير من عام 1899 وقعت الكويت ممثلة في أميرها الشيخ مبارك الصباح اتفاقية مع الحكومة البريطانية، تضمن الأخيرة بموجبها حماية الكويت من التعديات الأجنبية كما تضمن استقلالها واستقرار النظام السياسي بها.
وكان من ضمن الاتفاق بين الطرفين أن تظل تلك الاتفاقية سرية إلى أن تسنح الظروف السياسية المناسبة لإعلانها.
المندوب الإخباري
وبناء على هذه الاتفاقية كان من المفترض أن يتم تعيين ممثل بريطاني في الكويت، لكن حكومة الهند البريطانية خشيت أن يوفر ذلك الذريعة للدول الأخرى لتعيين وكلاء أو ممثلين لها في الكويت، كما أن ذلك قد يؤدي إلى إثارة شكوك العثمانيين أو النيل من العلاقات الودية معهم، خاصة أن الدولة العثمانية ليس لها ممثل في الكويت ولم يسمح لها بذلك من قبل.
وبعد مشاورات طويلة تم الاتفاق على أن تكون شؤون الكويت من مسؤولية المقيم السياسي البريطاني في بوشهر.
وأن يتم تعيين مندوب موثوق به من قبل السلطات البريطانية من جنسية أخرى وبشكل سري في الكويت لتزويد المقيم السياسي البريطاني في بوشهر بأخبار الكويت، ومتابعة نشاطات الشيخ مبارك الصباح السياسية والتعرف على خططه وتزويده بالنصائح التي من شأنها الحد من توريط السلطات البريطانية في إشكالات مع الدولة العثمانية على وجه الخصوص، أو في صراعات الشيخ مبارك مع ابن رشيد أمير حائل، لاسيما أن الشيخ مبارك قد وجد في اتفاقية الحماية سندا قويا له في مواجهة الأطماع المحيطة به.
وبناء على ما تقدم تم تعيين السيد علي بن غلوم رضا مندوبا إخباريا في الكويت للمقيمية السياسية البريطانية في بوشهر، ويبدو أن لعائلة هذا الشخص سابق خدمة للحكومة البريطانية، فهو يذكر في رسالته المؤرخة في 2 من شهر إبريل 1900 أنه:
'لن يخالف وصية الآباء في حق دولة باليوز (بريطانيا) وكذلك وصية المرحوم أغا'.
وكان أسلوب بريطانيا في اختيار ممثليهم أن يكونوا من عائلة معروفة بخدمتها للحكومة البريطانية.
ومن المؤكد أن ذلك التعيين كان بتوصية من محمد رحيم بن عبدالنبي صفر المندوب البريطاني في البحرين
وبمباركة من الشيخ مبارك الصباح، بدليل تعاونه معه ودعوته إليه لينقل المعلومات التي يريدها إلى المقيم السياسي، وإبلاغه بالأخبار التي تصل إلى الكويت سواء ما يتعلق منها بالدولة العثمانية أو بأخبار ابن رشيد والسعدون وابن سعود.
ويبلغه أيضا بأخبار لقاءاته الخاصة مع مختلف الزوار الذين يزورون الكويت مثل لقاءاته بقناصل روسيا وفرنسا وألمانيا وغيرها من ممثلي الدول، وكان الشيخ مبارك يقدر أهمية المعلومة التي يريد إيصالها إلى السلطات البريطانية وبالطريقة التي تتفق مع مصالح بلاده.
وكانت الرسائل التي يبعث بها علي غلوم تكشف عن ذلك، وقد تكرر فيها ولدرجة المبالغة مدح الشيخ مبارك لبريطانيا وانحيازه إليها، ونبذه للدولة العثمانية.
ويكشف أسلوب تلك الرسائل أيضا عن أن الشيخ مبارك الصباح قد احتوى الحاج علي بن غلوم وحوله إلى مجرد كاتب عنده.
وتشير الوثائق البريطانية إلى أن الشيخ مبارك الصباح كان يرسل علي بن غلوم إلى المقيم السياسي البريطاني في بوشهر في بعض الأمور التي لا تحتمل التأخير أو لضمان السرية المطلوبة.
إذ تشير الرسالة المؤرخة في 2 من شعبان 1318ه
(25 نوفمبر 1900)
المرسلة من الشيخ مبارك الصباح إلى المقيم السياسي إلى أنه قد أرسل 'بهذه الدفعة (أي هذه المرة) حجي علي بن غلوم مخصوصا لصوبكم العالي كما هو لازم علينا العرض لحضرتكم بما يقتضي ويحدث'.
وفي رسالة أخرى مؤرخة في 1 من جمادى الثانية 1320ه
(5 سبتمبر 1902) يذكر الشيخ مبارك والمكتوب المذكور سيرناه بيد حجي علي بن غلوم أيضا يفصل ما جرى من حركات ودسائس الترك تعلمونها من رأس حجي علي (الوثيقتان ،2 3).
والجدير بالذكر أن الشيخ مبارك الصباح كان لديه أيضا عدد من المعتمدين الثقات من أبناء الكويت الذين يبعث بهم أىضا في بعض المهام السياسية ولديه وسائله المختلفة للوصول إلى المعلومات من خصومه أو من حلفائه على حد سواء.
ومن بين أولئك الأمناء المعتمدين الذين أشارت إليهم الوثائق المرتبطة بالفترة التي نتكلم عنها كل من عبداللطيف الهارون وعبدالله بن إبراهيم السمكة (انظر الوثيقتين ،4 5 بتاريخ 29 مارس 1899 و9 أبريل 1899).
ولما كانت مهمة كل منهما سرية، لم يذكر المندوب البريطاني في البحرين محمد رحيم بن عبدالنبي صفر في رسالته للمقيم السياسي البريطاني في بوشهر اسم الشيخ مبارك الصباح بل عبر عنه باسم 'الصديق' أو 'الصديق المعهود' (الوثيقتان 4 أ، 4 ب).
وقد عمل الحاج علي بن غلوم رضا في الكويت تحت ستار النشاط التجاري، وكان يمارس هذا العمل بالفعل ولم يكن له مكتب رسمي، بل كان عمله الحقيقي لا يعرفه سوى الشيخ مبارك وأبناؤه.
وقد كانت بداية تعيينه (تحت التجربة) في شهر يونيو من عام 1899 بمرتب شهري لايزيد على خمسين روبية.
ثم صدر قرار من المقيم السياسي في الخليج بتاريخ 26 من نوفمبر 1900 بأن يستمر هذا الوكيل في عمله في الوقت الراهن.
وكانت أول رسالة كتبها الحاج علي بن غلوم بتاريخ 4 من سبتمبر 1899، وباللغة الفارسية التي كتب بها مجموعة من الرسائل في بداية عمله وفي نهايته، وكان أحيانا يكتب الرسالة الواحدة باللغتين العربية والفارسية، لكن بوجه عام كانت كتابته باللغة العربية هي الأغلب، وآخر رسالة كتبها علي بن غلوم كانت مؤرخة في 10 مايو 1904 أي قبل وصول الوكيل السياسي البريطاني الرسمي بأقل من شهر، ويبلغ مجموع الرسائل نحو تسعين رسالة، بعضها موجه إلى الممثل البريطاني في البحرين، ومنها تنقل إلى بوشهر، والبعض الآخر وبخاصة الرسائل الأخيرة كانت توجه مباشرة إلى المقيم السياسي البريطاني في بوشهر.
وقد ظل عمل الحاج علي بن غلوم سريا إلى منتصف عام 1901، إذ يذكر في رسالته المؤرخة في 29 يونيو من ذلك العام:
'أن خدمتنا للدولة (البريطانية) كانت في البداية سرية، أما الآن وبعد ذهابنا إلى الفاو والإبراق لكم بشأن ورود المراكب البريطانية إلى الكويت بناء على أمر الشيخ مبارك الصباح، وما تلا ذلك من مباشرته لتلك المراكب عند وصولها للكويت، وقضاء ما تحتاج إليه من لوازم وحاجات، فقد صار مشهورا لدى أهل الكويت أنني (الحاج علي) وكيل المقيم السياسي لخدمة المراكب'.
وهنا لابد من تسجيل ملاحظة ذكرها قائد الطراد الروسي 'فارياغ' الذي زار الكويت في 21 ديسمبر 1901، فقد أشار إلى وجود عميل تجاري لشركة الملاحة البريطانية الهندية التي تقوم برحلات منتظمة كل أسبوعين وبحسب المعلومات التي جمعها القنصل الروسي أوسنيكو نصب عميل الشركة المذكورة 'سارية' في فناء الوكالة لإجراء الاتصالات مع السفن القادمة التابعة لهذه الشركة.
ولكن السارية قطعت - كما لو كان ذلك بأمر الشيخ مبارك، رغم أنه لم يعترف بذلك فيما بعد للإنكليز، وألقى الذنب على البدو الرحل، ومع ذلك فقد أعيد نصب السارية، ولكن في فناء دار الشيخ هذه المرة لكي تجري المباحثات تحت إشرافه.
وظل هذا الوكيل الإخباري أو العميل السري مستمرا في عمله إلى أن تم تعيين الكابتن نوكس في أغسطس من عام ،1904 وقد تضمنت برقية وزارة الخارجية البريطانية رقم 2457 المؤرخة في 3 من أغسطس من ذلك العام مجموعة من الإرشادات للوكيل السياسي (البريطاني) الجديد، فعليه أن يتصرف على نحو لا يلفت إليه الأنظار، وأن يقيم علاقات ودية مع الشيخ مبارك الصباح والبارزين من الشخصيات الكويتية، والعمل على حماية المصالح التجارية البريطانية.
واليقظة التامة لتحركات الأتراك على حدود الكويت، أو تدخل أي جهة في الوضع القائم في الكويت، وإرسال معلومات دقيقة عن كل ما يجري في نجد بين أسرتي آل سعود وآل رشيد، وغير ذلك من المعلومات التي كانت في واقع الأمر من الموضوعات التي كان الكثير منها يتابعها الحاج علي بن غلوم ويبعث بها إلى المقيم السياسي.
وقد استقبل الشيخ مبارك تعيين الوكيل السياسي الجديد بسرور بالغ، لأنه اعتبر هذا التعيين ضمانا للحماية البريطانية للكويت.
وبتعيين الكابتن نوكس بدأت مرحلة جديدة في العلاقات الكويتية البريطانية، فقد كانت الفترة السابقة التي سجل أحداثها علي بن غلوم فترة مليئة بالأحداث واشتملت على تفصيلات أغفلتها كتب التاريخ المتعلقة بهذه المنطقة.لكن الفترة الجديدة تميزت بأسلوب جديد في رصد الأحداث يعتمد على المعرفة والتحليل السياسي، فلم تكن مجرد معلومات (خام) تفتقر في بعض الأحيان إلى الدقة، وتتلون في كثير من الأحيان بآراء الحاكم الخاصة.
ولا نعرف على وجه التحديد متى ترك علي بن غلوم عمله مع الوكيل السياسي الجديد، مع أن أول رسالة اشتملت عليها تقارير الممثلية السياسية البريطانية في الكويت كانت بتاريخ 5 من يناير 1905 كانت تشتمل على طلب من علي بن غلوم لزيادة مرتبه، ذكر فيها أنه يتقاضى خمسة وثلاثين روبية، وأن هذا المبلغ هو مصرف القند (السكر) والشاي في كل شهر، وأنه صاحب عيال عددهم عشرون شخصا نفقتهم في ذمته.
ويشير فيها أيضا إلى أنه قد ترك معاملاته التجارية في سبيل خدمة الدولة.
ولا يوجد بعد هذه الرسالة أية إشارة إلى هذا الشخص وربما لم يرق له العمل بعد ذلك مع نوكس وانصرف إلى أعماله الحرة
تحرير وتقديم
أ. د. عبدالله يوسف الغنيم
من كتاب
أخبار الكويت