وخلال هذا التطور، انتقلت عاصمة الإمارة من قرية الفلاحية إلى مدينة المحمرة، التي بناها عرب بني كعب قرب مصب نهر قارون في شط العرب، واستمرت عاصمة لعربستان حتى عام ١٩٢٥. وقد سميت بهذا الاسم نظراً إلى احمرار تربتها، وتسمى الآن بمدينة خرمشهر في إيران.
وفي عام ١٨٢٧، طلب الشيخ غيث أمير عربستان من السلطان سعيد بن سلطان حاكم مسقط وعمان دعماً عسكرياً بهدف إيقاف الضغط الفارسي على استقلال بلاده. وتدعم الاتجاه الاستقلالي في عربستان في عهد الشيخ جابر ١٨٦٢ - ١٨٨١ الذي رفض فتح نهر الكارون لمرور السفن البريطانية.
في هذا السياق، تعتبر فترة حكم الشيخ خزعل التي امتدت من يونيو عام ١٨٩٧ حتى أبريل ١٩٢٥ من الفترات المهمة في تطور منطقة عربستان وعلاقتها بالدولة العثمانية من ناحية، وبالكويت من ناحية أخرى.
فقد توافقت وجهات نظر مبارك وخزعل بشكل واضح، إذ ربطت بين الرجلين وشائج عدة: فوحدت بينهما، أولا، الرغبة في المحافظة على استقلال بلادهما وصون حرية إدارة شؤونهما الداخلية من دون تدخل خارجي. وكان من مظاهر ممارسة هذا الاستقلال ما نشرته جريدة المؤيد المصرية بتاريخ ١٩ مايو ١٩١٠ بشأن امتناع الشيخ خزعل أمير المحمرة عن تسليم المتهمين الذين تطاردهم الحكومة العثمانية، مما دعا إسطنبول إلى طلب تدخل حكومة فارس لاتخاذ التدابير اللازمة.
وربط بينهما، ثانياً، الشعور بالخطر الذي تعرضت له السفن الكويتية في موانئ عربستان، وما كانت تتعرض له أيضاً من مضايقات من العاملين في الجمارك البلجيكية في المنطقة، وكذلك من نشاط القراصنة الذين نشطوا في مدخل شط العرب وسواحل عربستان.
وزاد من ذلك احتدام التنافسات الحادة بين بريطانيا وروسيا وألمانيا، وإلى درجة أقل فرنسا، بهدف تكريس نفوذها وفرض هيمنتها في المنطقة.
كما ربط بينهما ثالثا الشعور العربي، والرغبة في استقلال الولايات العربية عن الدولة العثمانية في حالة الكويت، وعن الدولة الفارسية في حالة المحمرة.
ومن مظاهر هذه العلاقة الوثيقة بين الرجلين أن مباركاً بنى قصراً للشيخ خزعل في الكويت، وبنى خزعل لشيخ الكويت قصراً في الفيلية بجوار قصره. وتبادل الشيخان الزيارات، ورحلات الصيد.
وبلغ من عمق هذه الصلة أن حسين خلف الشيخ خزعل (ابنه) كتب كتاباً من خمسة أجزاء عن تاريخ الكويت السياسي أورد فيه نصوص المراسلات والخطابات المتبادلة بين أبيه والشيخ مبارك.
وما يدل على عمق الصلة بين الرجلين، قبول الشيخ خزعل في عام ١٩٠٠ لشفاعة الشيخ مبارك بشأن محمد اليعقوب.
فقد كانت هناك محاولة لاغتيال الشيخ خزعل، وعندما كشف عن المتآمرين، هرب أحدهم وهو محمد اليعقوب إلى البصرة ليجد من يستجير به ويحميه، فأشاروا عليه أن يستجير بشيخ الكويت لأنه الشخص الوحيد الذي لا يرد الشيخ خزعل وساطته.
وبالفعل ذهب اليعقوب إلى الكويت وطلب حماية شيخها.
وعندما علم الشيخ خزعل بذلك، أرسل خطاباً يتضمن عتباً على قيام الشيخ مبارك بحماية من تآمر على قتله. فأجابه مبارك بأن «قبوله لمحمد اليعقوب لم يكن إلا بعد أن تحقق له ندم المذكور وتوبته.
وقد عفا عنه بحكم مقتضيات الأخوية إذ لم يجد ما يحول دون ذلك لأن البلدين واحدة وخزعل ومبارك وإن كان اسمين إلا أنهما نفس واحدة لا يفرق بينهما مفرق».
وعندما قرأ الشيخ خزعل هذه الرسالة، أقر مبارك على ما قام به.
ومرة أخر، استجاب الشيخ خزعل لوساطة مبارك بشأن قبيلة النصار. ففي عام ١٩٠٣، امتنع أبناء هذه القبيلة عن دفع الرسوم المقررة عليهم، واستعدوا للتمرد والعصيان الأمر الذي دفع الشيخ خزعل إلى الإعداد لشن حملة عسكرية عليهم، وتأديبهم.
فتوسط الشيخ مبارك في أمرهم، واستجاب خزعل بشرط أن ينزحوا إلى الكويت. وتعهد بأن يدفع لهم رواتب سنوية لمعيشتهم، فوافقوا على ذلك، ونزحوا بالفعل إلى الكويت.
وفي المقابل، كان الشيخ مبارك يستجيب لشفاعة خزعل. فعندما وقع اتفاق الحماية البريطانية في عام ١٨٩٩، لم يوافق عليها الشيخ حمود الصباح، وقرر ترك الكويت مع أسرته للإقامة في منطقة الدواسر بالعراق.
وعندما توفي حمود، طرد أولاده أخاهم سليمان وعائلته، فضاقت بهم سبل العيش، وقرر سليمان العودة إلى الكويت، فلم يجد شخصاً يشفع له عند الشيخ مبارك سوى الشيخ خزعل. وبالفعل، قبل مبارك الشفاعة، وعندما عاد ابن حمود إلى الكويت أكرمه الشيخ، وقربه إليه.
لذلك، لم يكن غريباً أن أياً من مبارك وخزعل لم يتردد في دعم الآخر عندما كان يتعرض لمشكلة أو لأزمة.
ففي عام ١٩٠١، عندما زار القنصل الروسي في بوشهر الشيخ مبارك، وعرض عليه توثيق العلاقات بين الكويت وروسيا، كان أحد أسباب رفض مبارك لهذا العرض هو تأييد روسيا لسيطرة بلجيكا على جمرك المحمرة.
وعندما ذكر القنصل الروسي أن ما يحدث في المحمرة يحدث في بقية المدن الفارسية، أجاب مبارك بأن المحمرة تختلف عن أي مدينة فارسية أخرى، لأنها لم تكن جزءاً من فارس، وإنما هى احدى الممالك العثمانية التي يحكمها بنو كعب، وأن الشيخ خزعل هو صديقه الحميم الذي لا يمكن «أن يجري اتفاقاً مع أي دولة كانت ما لم يشترك معه في هذا الاتفاق، لأنهما يد واحدة وبلد واحد، ولا يجري أمر على أحدهما ما لم يشمل الأخر ».
فوعد القنصل الروسي ببحث الموضوع. وفي العام نفسه، توسط الشيخ خزعل للصلح بين الشيخ مبارك وعبد العزيز آل سعود من جهة، والحكومة العثمانية من جهة أخرى.
ومن مظاهر هذه العلاقة الوثيقة أيضاً أنه في عام ١٩٠٢، تعرضت سفينة كويتية محملة بالبضائع يملكها الحاج حمد المنيس لأعمال قرصنة عندما كانت في طريقها من البصرة إلى الكويت بالقرب من جزيرة بوبيان، وسلبت كل بضائعها وقتل بعض رجالها.
وعندما عرف الشيخ مبارك بذلك أسرع إلى منطقة «القصبة» للبحث عن هوية الجناة، وأبرق إلى الحاج عبد العزيز السالم وكيله في البصرة لعرض الأمر على واليها مصطفى نوري باشا، ولم تؤد هذه الجهود إلى نتيجة.
وعندما علم الشيخ خزعل بما حدث، عاد من الأهواز إلى المحمرة، واجتمع بالشيخ مبارك، وتمكن من معرفة الجناة، والقبض عليهم، وتسليمهم إليه.
وفي عام ١٩٠٧، رست في ميناء المحمرة باخرة آتية من مسقط كانت تحمل بضائع يعود قسم منها إلى تجار الكويت.
فأراد مدير الجمرك البلجيكي أن ينزل تلك الحمولة إلى البر لتفتيشها، فرفض ربان السفينة هذا الطلب، وعاد بها إلى مسقط. وعندما علم مبارك بما حدث غضب غضباً شديداً، وأرسل رسالة احتجاج إلى الوكيل البريطاني نوكس، كما كتب إلى الشيخ خزعل يخبره بما حدث، فأسرع الأخير بإنذار مدير الجمرك بعدم تكرار مثل هذا العمل، وأن عليه الاعتذار لشيخ الكويت، وهو ما تم بالفعل.
وبعد موقعة هدية في عام ١٩١٠، التي تعرضت فيها القوات الكويتية لخسائر كبيرة على يد قبائل المنتفق، احتاج الشيخ مبارك إلى شراء كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر.
وعندما عرض خزعل على مبارك دعمه بالمال والرجال والسلاح، طلب مبارك أن يكون هذا الدعم في شكل تمور تباع في الهند ولشراء الأسلحة المطلوبة.
وهو ما قام به الشيخ خزعل من خلال الحاج سلطان عامله في القصبة.
ومع قيام الحرب العالمية الأولي في عام ١٩١٤، وإعلان الشيخ خزعل دعمه للموقف البريطاني، تقدمت قوة من الجيش العثماني بقيادة محمد فاضل الداغستاني مع عدد من رجال الدين إلى أطراف إمارة عربستان لإثارة القبائل ضد الشيخ خزعل متهمين إياه بالكفر لموقفه المعادي للدولة العثمانية.
وترتب على ذلك تصاعد حركة عصيان القبائل المدعومة من القوات العثمانية، فهبت قبائل بني كعب تحت قيادة جابر بن السيد مشعل ومعهم بعض البدو، فأرسل إليهم الشيخ خزعل جيشاً بقيادة ابنه الشيخ جاسب، وانتصر عليهم.
عندما وصلت هذه الأخبار الشيخ مبارك الذي كان في الفيلية، وخشي ألا يتمكن الشيخ خزعل من إخماد عصيان القبائل، كتب إلى ابنه جابر يطلب منه إرسال جنود من أهل الكويت لدعم الشيخ خزعل.
ولم يلق ذلك الطلب استحساناً من جانب كثير من أهالي الكويت الذين تأثروا بالدعايات العثمانية وبأفكار الشيخين محمد أمين الشنقيطي وحافظ وهبة، وكان كلاهما من المؤيدين للدولة العثمانية، فأصدرا فتوى بأن عدم مناصرة الدولة العثمانية، التي هي دولة الخلافة والإسلام في هذه الحرب، يعد ارتداداً عن الدين.
فكتب جابر إلى والده موضحاً له الموقف، وغضب الشيخ مبارك لذلك غضباً كبيراً ما دعا عدد من أعيان الكويت للذهاب إليه، وعلى رأسهم الحاج إبراهيم بن مضف، وذلك للتخفيف من ثورة غضبه.
ووجه الشيخ لهم اللوم لعدم قيامهم بشرح الأمر على وجهه الصحيح لأهل الكويت، وقال «أنا لم أطلب من ابني جابر أن يرسل لي جيشاً ليحارب مع خزعل، وإنما الذي طلبته أن يرسل عدة سفن خالية لتكون جاهزة لنقل أثاث خزعل وأمواله إذا لزم الأمر».
وأمرهم بالعودة إلى الكويت، والقيام فوراً بتجهيز هذه السفن، وهو ما حدث بعد أن تمكنوا من إقناع الكثير من الناس.
وبالفعل تم إرسال ست سفن كان عليها مئة وثمانون رجلاً، ورابطوا أمام قصر الشيخ خزعل في الفيلية.
ولم يتطلب الأمر أي مشاركة كويتية، فقد نجح الشيخ خزعل في إخماد عصيان القبائل، كما شاركت قواته في دعم الجهد العسكري البريطاني في مدينة البصرة التي احتلتها القوات البريطانية عام ١٩١٥.
وبوفاة الشيخ مبارك، فقد خزعل حليفاً قوياً، وتدهورت علاقته مع بريطانيا بسبب تحول تأييد الإنكليز إلى الشاه رضا خان، وقبولهم لسياسة فارس في فرض سيطرتها على عربستان.
وتدريجياً ضعفت سلطة الشيخ خزعل على قبائله، ولم تتوافر له القدرة العسكرية على استعادتها بسبب تأييد القوات الفارسية لتلك القبائل، كما تراجعت سلطة عماله في جمع الضرائب والرسوم في الإمارة.
وفرض الفرس نظامهم الإداري على المنطقة، وتأسست في الأحواز حامية عسكرية فارسية دائمة، ثم أصدرت طهران قراراً بتغيير اسم الإمارة من «عربستان» إلى «خوزستان».
وأخيراً في ١٩ أبريل ١٩٢٥، القت قوة عسكرية فارسية بالقبض على الشيخ خزعل ونقلته إلى طهران، وعاش بها حتى وفاته في ٣٠ يونيو ١٩٣٦ عن خمس وسبعين سنة.
للكاتبة
الشيخة د.سعاد الصباح