الشيخ عبداللطيف العمر ووالده من قبله وأيضاً ملازمته ومصاحبته للعالم الجليل الشيخ الفاضل عبدالله خلف الدحيان الذي كان من أعز أصدقائه.
يذكر عبدالرحمن حمد الفلاح عن المُترجم له المحسن محمد الفلاح أنه كان محباً للشعر حافظاً الكثير منه، بجانب حبه الأساسي للقرآن الكريم الذي حفظه عن ظهر قلب كما أسلفنا فكان ذلك سبباً في اختياره إماماً لمسجد الصقر المجاور لبيت التويجري والمزيد والنمش ولقد استمر بإمامة الناس فى مسجد الصقر متطوعاً لمدة اثنتي عشرة عاماً، وذلك بشهادة ابن أخيه السيد عبدالرحمن حمد الفلاح.
زواجه:
لما شب المحسن محمد الفلاح، وبلغ مبلغ الرجال، في تحمل المسؤولية، والنهوض بأعباء البيت والأسرة، قدم على الزواج ورزقه الله ذرية مباركة: ثلاثة من البنين هم زيد، وجاسم وعبدالعزيز،
وثلاثاً من البنات أيضاً، كن خير أمهات لبيوتات كويتية كريمة.
صفاته وأخلاقه:
كان المحسن محمد الفلاح – رحمه الله – يتمتع بالكثير من الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة، فكانت هذه الصفات وتلك الأخلاق الفاضلة وجهاً من وجوه إحسان هذا الرجل، لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ".([1])
وقد رسخت هذه الصفات الحميدة، وقد نمًّاها وثبتها في نفسه نشأته في وسط طيب مبارك، وصدق الشاعر إذ قال:
وينشأ ناشئ الفتـيان مـنا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجىً ولكن يعوده التدين أقربــوه
وقد شاء الله تعالى أن يحرم المحسن محمد الفلاح – رحمه الله - نور عينيه، لكن الله تعالى عوضه عنهما خيراً فرزقه نور البصيرة، فحفظ كتاب الله تعالى في سن مبكرة، وهذا شرف ما بعده شرف، ومكانة يسعى إليها كل مؤمن صادق الإيمان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ" (رواه البخاري).
وبنور بصيرته أيضاً أصبح يرى ما لا يراه المبصرون، قال تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور(46)" سورة الحج.
وهناك العديد من المواقف والحكايات التي تروى عنه في هذا المجال سنوردها فيما بعد.
ومن صفات المحسن محمد الفلاح - رحمه الله - أنه كان قوي العزيمة عالي الهمة، فكان هو المسؤول عن البوم (السفينة) الذي تملكه عائلته، وعن مصاريف البيت، وكان يجيد الحساب كما ذكرنا، مما ساعده على أن يؤدي هذه المهمة على أكمل وجه رغم فقدانه نعمة البصر، إذ كان - رحمه الله - يمتاز بالفطنة والفراسة والذكاء وسرعة البديهة, كما أنه كان هادئاً بسيطاً متواضعاً في الوقت نفسه.
كما اتصف محمد الفلاح رحمه الله بالسخاء والجود والتواضع الجم وخدمة الناس ومساعدتهم. وقد اشتهر في زمانه بأنه كان سمحاً كريماً لا يرد سائلا سأله حاجة أبداً، وسنبسط الحديث عن جوده وسخائه بالتفصيل عندما نتحدث عن أوجه الإحسان في حياته.
فطنة وذكاء:
ومما يذكر للمحسن محمد الفلاح رحمه الله في هذا المجال، أنه كان ذا فطنة وذكاء ومعرفة جيدة بالمسالك والدروب، وحساب الساعات والأيام والشهور.
ومن عجيب ما يروى عنه في هذا السياق، أنه في إحدى رحلاته في قافلة الحج، وبعد أن دخلوا الأراضي السعودية، وبينما هم سائرون في الليل، يحدو حاديهم بأهازيج الحج العطرة، ويرددون النداء العذب الندي، الذي يشق ظلام الليل، فيؤنس القلوب من وحشتها، ويخلص الأفئدة من رهبتها، إذا به يأمرهم بالتوقف فجأة - وهو رجل كفيف - ويفاجئهم بقوله لهم: "لقد أخطأنا الطريق" ويكررها مرتين!، فلقد اعتقدوا بخطأ رأيه في بادئ الأمر، ولكونه أميرا للقافلة أمرهم بالتوقف عن السير قائلاً: "من أصبح أفلح" .
ولما أصبحوا عرفوا أنهم فعلاً أخطئوا الطريق، بل كانوا متوجهين إلى منحدر صعبٍ، فعجبوا وسألوه: كيف عرفت أننا قد ضللنا الطريق، بينما لم نكتشف ذلك نحن المبصرين؟ فأجابهم: "لقد اكتشفت أننا قد ضللنا الطريق لسببين: الأول هو تغير رائحة العشب بالمكان، والثاني هو تغير مهب الهواء من جهة الأذن، فعرفت أننا قد ضللنا الطريق"، فعجبوا لفطنته وذكائه، وقد صدق الله تعالى القائل في كتابه الكريم: "أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون (63)" سورة النمل.
ومما يدل على فطنته أيضاً، ما يروى عنه أنه كان إذا صافحه أحد عرفه، قبل أن يتكلم، فكانوا يعجبون من ذلك أشد العجب، وهذا من فضل الله تعالى الذي وهبه هذه القدرات فكانت قدرة البصيرة عوضاً له عن فقده لبصره: »ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)« سورة الجمعة.
وقد روى العم ناصر حمد الفلاح ابن أخيه عنه: أنه كان يقوده ذات مرة إلى المسجد أو الديوان وكان حينها العم ناصر حمد الفلاح فتىً يافعاً، فأقبل عليهما المرحوم خالد سعود الخالد، فأشار من بعيد إلى الصغير ناصر حمد الفلاح بألا تتكلم معي ولا تذكر اسمي، فوضع يده في يد المرحوم محمد الفلاح ليصافحه دون أن يلقي السلام عليه، وذلك ليختبره أيعرفه أم لا، فلم تكن سوى برهة تحسس خلالها يده، حيث عرف مقصده من هذه الحركة، فقال بكل ثقة: "بوسعود كيف حالك ؟" فذهل المرحوم، وأقسم بأن يده لم تلامس يده منذ ثلاث سنوات، ولكنه ميزه بها، فكم هي الفطنة والذكاء، وحدة الإحساس عنده وهذه صفة عامة عند من فقد نعمة البصر.
خبرته بعلم الفلك:
كان المحسن محمد الفلاح - رحمه الله - رغم ذهاب بصره خبيراً بأمور الفلك - كما أسلفنا - يعرف بحساباته الفلكية مواقيت ظهور النجوم فنجده يقول مثلاً: "غداً سيظهر أو يولد النجم الفلاني"، وغالباً ما تكون حساباته صحيحة بفضل الله تعالى، ومن لطيف ما يروى عنه أنه كان ينشد بيتاً من الشعر للشاعر الخلاوي عن كل نجم أو كوكب مستفيداً من حسابه الفلكي.([2])
وكان أغلب الصيادين يذهبون إليه ويسألونه عن مواقيت ظهور نجم معين، حتى يرتبوا مواعيد خروجهم إلى البحر للصيد، لأن حركة الأسماك – كما نعلم – تتأثر بحركة تيارات الماء التي تتأثر بدورها بقوة حركة القمر والنجوم ومطالعها.
كما كان العاملون في سفن الغوص أيضاً يسألونه عما يستعصي عليهم من أمور متعلقة بهذا الشأن.
___________
(1) رواه مسلم.
(6) هو الشاعر راشد الخلاوي الذي عاش في الفترة ما بين النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري والنصف الأول من القرن الثاني عشر الهجري، وقد امتاز شعره بالحكمة والرصانة، وكان ملماً بعلم النجوم ومواقع البروج والفصول الأربعة وهبوب الرياح ومواسم الأمطار ومضارب هطولها، وقد آخذ هذا العلم بالبديهة والترحال راجلاً أو راكباً، فعبر عن كل هذه الخبرات بقصائد عديدة منها "الَّدالية" التي خلَّدت هذه الاهتمامات واستفاد منها الحجاج في سفرهم على ظهور الإبل، واستهدى بها الغواصون على اللؤلؤ وصيادو الأسماك في لجج البحر، رغم أنه لم يركب البحر البعيد عن البيئة المحيطة به في نجد، ومطلعها:
متى الثُّريا مَعْ سَنا الصبح وايقت على كلِّ خضرا وَدَّعتْ بالسَّنَايِدْ