الدكتور عثمان خليل عثمان في الكويت
هناك أناس عاشوا معنا في هذا الوطن زمنا ثم رحلوا، منهم من أقام في وطنه فنحن على اتصال بالمتصف منهم بالصفات الحميدة من الأحياء، ونترحم على الأموات من أولئك الذين نذكر أعمالهم هنا بكل خير. ثم إننا لا نلتفت إلى الذين أساءوا إلى الكويت بعد مغادرتهم لها فهؤلاء تكفيهم مزبلة التاريخ يغوصون فيها ثم لا يخرجون منها، وهذا هو جزاء نكران الجميل والجحود الذي يتصف به هؤلاء.
من الرجال الذين نذكرهم بكل خير ونترحم عليهم ونرجو من الله سبحانه ان يغفر لهم، ويدخلهم فسيح جناته رجل لا يمكن أن أنساه، وينبغي ألا ينساه أبناء وطني، فقد قدم أثناء وجوده بيننا الكثير من جهده وعلمه، وأفاض بالكثير من فضله وهو الدكتور عثمان خليل عثمان.
أطل علينا هذا الرجل في سنة 1961م، جاء لكي يكون خبيرا دستوريا للمجلس التأسيسي الذي قام بموجب المرسوم رقم (1) لسنة 1964م، وقد انشأ هذا المرسوم المجلس الذي كانت له مهمة محددة هي وضع دستور دولة الكويت، وبين ان نظام الحكم في البلاد يعتمد على أساس المبادئ الديموقراطية المستوحاة من واقع الحياة في البلاد.
كان الدكتور عثمان خليل عثمان رجلا معروفا في دنيا القانون الدستوري وكان مدرسا في جامعة القاهرة، ثم شغل منصب عميد كلية الحقوق بجامعة عين شمس، وكان ممن تم اختيارهم لعضوية لجنة الدستور المصرية التي شكلتها ثورة سنة 1952م هناك.
وهو يقول عن مجيئه الى الكويت: «كانت دعوتي إليها مفاجئة لي، لم تخطر بفكري من قبل، فبعد انتهائي في مساء أحد الأيام من إلقاء محاضرة مقررة على طلبة قسم الدكتوراه بكلية الحقوق في جامعة القاهرة، جاءني من أخبرني ان وكيل وزارة التربية والتعليم قد حاول الاتصال بي عدة مرات لأمر مهم، وأنه قد ترك لي رقم هاتفه حتى أقوم بالاتصال به فور علمي بذلك، وبينما كنت أحاول ذلك اتصل بي وأخبرني أن سفير دولة الكويت في القاهرة يرغب في الاتصال بي بشأن انتدابي للإسهام في إعداد دستور الكويت، وقد رحبتُ بالفكرة، واتصلت بالسفير، وانتهى الأمر بوصولي إلى الكويت بعد أقل من شهر بعد الاتفاق.
كان وجود الدكتور عثمان خليل عثمان في الكويت مفيدا جدا وميسرا لعمل أولئك الرجال الذين كان قدرهم هو ان يقدِّموا لوطنهم هذا الدستور الذي نعيش في ظله منذ تلك السنة التي صدر فيها، حيث ان المرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح قد صدّق عليه واصدره في اليوم الحادي عشر من شهر نوفمبر لسنة 1962م.
ولكن صاحبنا كان ذا حضور اجتماعي، يجتمع حوله عدد كبير من الأصدقاء والمحبين، وله في حياته هنا ملامح تدل على شخصه الكريم، وعلى أخلاقه العالية، وعلى علمه الغزير. فأنت إذا جلست معه في إحدى الجلسات التي تضم الأصدقاء في خارج مجال عمله وجدته محور الحديث يديره ويبدي رأيه يرد على كل سؤال يوجه اليه بما ينمُّ عن إحاطته بكثير من الأمور. وإذا حَضَرْتَ إحدى جلسات المجلس التأسيسي وصادف ذلك قيامه للرد على سؤال من أسئلة الأعضاء وجدته يعبَّر تعبيرا صادقا عن الموضوع الذي يتم سؤاله عنه، ووجدته محايدا جدا بحيث تحس وكأنه عضو في المجلس لأنه لا يميل إلا إلى الرأي الدستوري السليم ولا يمالئ أحدا مهما كان وضعه. ولذا فقد كان موضع الاحترام والتقدير من الجميع من داخل المجلس ومن خارجه على حد سواء.
كانت للدكتور هواية مستغربة في ذلك الوقت، ولكنه كان مؤمنا بأن ما يقوم به شيء لا ينبغي أن يستنكره أحد، وكان يقول إنني سرت في طريق هوايتي هذه وأنا ازداد اقتناعا بها يوما بعد يوم.
كانت هذه الهواية هي: تحضير الأرواح، وقد عرف أصدقاؤه جميعا باهتمامه الشديد بهذا العمل، ولقد عرفت عنده هذا الأمر في ليلة من ليالي رمضان التي مرت بنا في ستينيات القرن الماضي، وهذه هي حكاية اكتشافي ذاك:
في تلك الليلة المباركة تشرفت بحضور عدد من العلماء وقراء القرآن الكريم إلى منزلي على غبقة رمضانية، وكان الدكتور عثمان ضمن الحاضرين، وهذا الجمع الكبير كان ممن تدعوهم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك لنشر الوعي الديني ولقراءة القرآن الكريم في المساجد، ولقد كان من الحاضرين أستاذي الدكتور عبدالحليم محمود والشيخ محمد الغزالي والقارئ مصطفى غلوش وآخرون وكأن هذه النوعيات هي التي تحرص وزارة الأوقاف على دعوتهم إلى الكويت لا هؤلاء الذين نراهم الآن، وتسقطهم المقارنة من أعيننا.
كان الحاضرون متعارفين كل منهم قد سبق له أن لقي الآخر، وكان الدكتور عثمان من أبرز الذين يتحدثون في ذلك اللقاء، وقد استمع إليه جميع الحاضرين في إصغاء من لا يريده أن يتوقف. ولكننا في لحظة ما، وجدنا من يهتف باسم المتحدث قائلا: أخبرنا يا دكتور عن حكاية تحضير الأرواح التي سمعنا أنك تزاولها على سبيل الهواية، وهل أنت مقتنع تماما بها؟ أم أن القصد من ذلك إنما هو مجرد تزجية الوقت؟
سكت الجميع فلم يكن أحد منهم يتوقع إثارة مثل هذا الحديث، وظن بعضهم أن هذا السؤال قد يسيء إلى الدكتور عثمان. ولكنه على العكس من ذلك قال: نعم أنا أزاول تحضير الأرواح، ولي جلسات شبه منتظمة في بيتي يحضرها عدد من الأصدقاء، ولا أرى في ذلك ما يرى فيه البعض من سوء الظن.
بعد حديث طويل دار بين جميع الحاضرين، انتهت جلستنا تلك، ووقف كل واحد من المدعوين استعدادا للإنصراف وعندما صافحت الدكتور عثمان خليل عثمان مودعا دعاني إلى حضور جلسة من الجلسات التي أشار إليها، فشكرته ووعدته بتلبية هذه الدعوة الكريمة.
بعد ذلك بأيام هاتفني قائلا: ان موعد الجلسة التي دعوتك إلى حضورها سوف يكون في الليلة القادمة.
ولقد كنت عازما على الحضور من أجل استكشاف أمر تحضير الأرواح الذي كنت أسمع عنه وأقرأ، ولكني لم أتمكن من حضور جلسة كالتي دعاني إليها الدكتور.
وذهبت إلى بيته في الموعد المحدد، وكان في المساكن الحكومية القريبة من قصر السلام في الشويخ، وحين دخلت وجدته في الاستقبال ووجدت عددا من الحاضرين الذين دعاهم لحضور هذه الجلسة، وكنت أعرف أكثرهم، وما كان أيسر من تبادل الأحاديث بين أشخاص يعرف بعضهم بعضا، وكان الشك في مسألة التحضير يراود الجميع، ولكنهم يرون أن الوقت مناسب لمعرفة الحقيقة.
كانت هناك منصة عالية حضر عليها شخص قيل لنا إنه الوسيط الروحي، وأنه قدم إلينا من مدينة الأحمدي، وأطفئت الأنوار، وبدأت محاولة الاستحضار، ولكن الأمر لم يجر على ما كان يشتهيه الدكتور عثمان، فلم يستطع الوسيط الاتصال بأحد من خارج عالمنا، وبعد فترة من الترقب والانتظار تقرر إنهاء الجلسة على أن يحدد لها موعد آخر.
وبدأ الحاضرون في التسلل إلى الخارج، فيما كان الدكتور يودع الجميع، وفي هذه الأثناء وقفت أودعه وأهمس في أذنه ممازحا: لقد دعوت يا دكتور عثمان عددا كبيرا إلى جلستك هذه، ولم تأت الأرواح لأنها وجدت هنا من الأرواح الحية ما يمنع حضورها. وخرجت. أما الدكتور فلم يكن راضيا عما حدث على الرغم من أن ذلك أمر قد تتعرض له بعض الجلسات التي هي من هذا النوع، وتعبيرا عن عدم رضاه وجدته بعد يومين يهاتفني قائلا: سوف أحضر إلى مكتبك الآن إذا لم تكن مرتبطا مع أحد آخر، فرحبت به، وقلت له: إنني أسعد بلقائك، حياك الله.
وعندما حضر تحدث عن موضوع تحضير الأروح باقتضاب ثم قال: قد يهمك أن تعرف أننا نتلقى في جلسات مشابهة الكثير من الاتصالات من عالم الأرواح وبعضها على دراية بما يحدث في عالمنا ليس على مستوى الأشخاص بل على مستوى الدول. هذه وريقات كتبت فيها ما قاله الروح عن الصراع العربي – الإسرائيلي – وحتى تعرف مدى يقيني بما قال أخبرك بأنني أرسلت نسخة من هذه الوريقات إلى الرئيس جمال عبدالناصر، فقد يجد فيها شيئا نافعا. خذ هذه النسخة واقرزها. شكرت له اهتمامه وأخذت الوريقات المذكورة وقرأتها واحتفظت بها، ولا أزال احتفظ بها، وإن كنت في حاجة إلى وقت طويل للبحث عنها حتى أعثر عليها الآن بعد مرور تلك السنين الطويلة على تسلمها.
ومضت الأيام بعد ذلك، ولم أكرر هذه التجربة، وانشغل الدكتور عثمان كثيرا في عمله بالمجلس، وانشغلت كذلك في عملي ولم أرَهُ إلا خلال فترات قصيرة متباعدة، إلى أن علمت فيما بعد مغادرته للبلاد، مرضه ثم وفاته رحمه الله.
٭٭٭
كان عمل الدكتور عثمان خليل عثمان في الكويت، مشهودا وكان من المعروف عنه الصدق والحيادية، والتفهم لكل ما يطرح من مشكلات. وقد تحدث عن تجربته في المجلس التأسيسي حين قال عن الدستور الذي وضع بنفسه مسودته وقدمها فناقشها الأعضاء وأخذوا منها وأضافوا إليها وعدلوا في بعض موادها.
ومما أثر عنه قوله: لقد لعبت الأصالة الديموقراطية في الروح العربية المتجسدة حتى في نفس أبسط مواطن بهذا البلد، دورها في طبع الدستور بمسحة ديموقراطية.
ثم قال: من الأقوال الشائعة فيما يتعلق بالدساتير أنها توضع بعقلية ما قبل إصدارها، مستوحاة من الماضي بظروفه ومشاكله، ولكننا راعينا أثناء إعداد هذا الدستور أن يأتي أقرب إلى مفاهيم الغد منه إلى مفاهيم الأمس وحتى إلى مقاييس اليوم، وربما لهذا وجد من يقول إن الدستور يتضمن مطالب أو مفاهيم ليست في ذهن أي إنسان اليوم، والرد بسيط: الدستور موضوع للغد، ومن أجل أن يطابق حاجات الغد وجبت محاولة التقدم به عن مطالب اليوم وشعاراته. وسيبدأ العمل بالدستور بشكل محسوس بعد قيام مجلس الأمة الجديد، وقد حددنا فترة خمس سنوات للعمل به من دون تعديل، على أن يعدل بعدها إذا وجدت ثمة حاجة لتعديله.
ولا أحد يستطيع أن يحدد التطور الذي سيطرأ على حياة الناس وعقولهم خلال هذه السنوات الخمس، لذلك كان من الواجب أن يأتي الدستور شاملاً ليس فقط لحاجات اليوم بل لما يمكن تصوره من حاجات الغد أيضاً.
واستشهد أخيراً بمثل من حياته الشخصية، حيث قال: حين أقصد مع زوجتي لشراء ثياب لأطفالنا أعجب لاختيارها أثواباً واسعة لهم، ولكنها دائماً تنبهني الى أن الأطفال ينمون بسرعة، وأن الأثواب يجب أن تتلاءم ليس فقط مع أجسادهم اليوم بل معها بعد شهر، مثلاً، أو يزيد.
ومع الفارق بالضبط، الدستور هو ثوب لشاب ينمو بسرعة، فكونه أوسع من جسده ليس عيباً بل هو استعداد ضمني لمستقبله.
ومن واقع ما سمعه وشهده أثناء فترة عمله في المجلس التأسيسي نراه يبدي إعجابه بالمرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي كان يتابع أعمال المجلس، ويأمل في نجاحه، ويحرص على أن يسير كما أراده مجلساً يؤدي الى إنتاج دستور للبلاد يكفل لها الاستقرار، ويبعد عنها أشباح التفرق والتمزق. وقد قال الدكتور عثمان عن هذا الرجل الذي قاد الكويت في تلك الفترة ما يلي:
للشيخ عبدالله السالم الصباح ثلاثة مواقف مهمة فيما يتعلق بأعمال المجلس التي كانت موضع بحث في تلك الأيام التي تخوض فيها الكويت التجربة الديموقراطية بإرادة منه وهذه المواقف هي:
الموقف الأول: حين نوقشت المادة الخاصة بإعلان الحكم العرفي، وكان النص يترك الأمر حائراً بين أن يعلنه أمير البلاد ثم يقره مجلس الأمة، أو أن يناقشه المجلس ويقره ثم يصدره الأمير.. وكان رأي صاحب السمو – فوراً – أن يترك الأمر كله لمجلس الأمة.. ولم يقبل أن يوكل الى الأمير إعلان الحكم العرفي إلا حين أبديتْ أسباب وحجج مقنعة، منها أن المجلس قد يكون في إجازة أو أن يكون أعضاؤه في حالة تمنع اجتماعهم فوراً.
الموقف الثاني: اتخذه عند مناقشة تحديد عدد أعضاء مجلس الأمة.. فلقد كان من رأي صاحب السمو أن ثلاثين عضواً أو أربعين عضواً على الأكثر – يكفون لبلد قليل السكان كالكويت.. لكن أصحاب فكرة الخمسين أصروا على رأيهم، وأوردوا حججاً كثيرة في هذا المجال، فقال لهم صاحب السمو:
- أنا غير مقتنع بكلامكم.. ولكني أوافق عليه لمجرد أن هذه هي رغبتكم.
وبالفعل حدد عدد أعضاء المجلس بخمسين.. رغم «معارضة» أمير البلاد الديموقراطي بطبعه!
الموقف الثالث: كان عند مناقشة مخصصات رئيس الدولة.. فلقد طلب صاحب السمو أن يحدد له مبلغ رمزي – لا يذكر – ولا يوازي مرتب موظف درجة سادسة.. وحين قيل لسموه هذا الكلام أجاب:
- لا أريد مالا من الدولة.. فأنا بغير حاجة إليه والحمد لله.
وبعد مناقشات ومداولات طالت واستطالت، رضي سموه- على مضض- بما حدد كمخصصات لرئاسة الدولة.. نظرا للموجبات الرسمية وحدها!
وكان للدكتور عثمان خليل عثمان رأيه في دستور الكويت الذي أقره المجلس التأسيسي واعتمده أمير البلاد، فهو يرى أن هذا الدستور الذي أمضى المجلس فترة في مناقشته، وعقد من أجل ذلك جلسات كثيرة من أجل التوصل إلى أفضل الصيغ هو دستور يعتمد الوسطية في أمور قيادة الدولة، ومراعاة الحياة الاجتماعية التي عاشها الشعب الكويتي منذ نشأت بلاده في سنة 1613م. ويضيف الدكتور: إزاء الاعتبارات المتشابكة التي نشهدها في النظام الرئاسي وفي النظام البرلماني، جاء دستور دولة الكويت عاملا على تطعيم الأصول البرلمانية ببعض الضوابط الكفيلة بتحقيق أهم مزايا النظام الرئاسي، وهو الاستقرار الوزاري، فقيد المسؤولية الوزارية أمام مجلس الأمة من عدة وجوه أهمها اشتراط أغلبية خاصة لإسقاط الوزير، أو لتقرير عدم التعاون مع رئيس الوزراء، ولكن هذه الأغلبية المطلوبة لا يشارك فيها الوزراء.
وفي مجال الاهتمام بالأسرة، والعناية بكبار السن فإن الدستور قد حرص على رعاية الأسرة باعتبارها الخلية الأولى للمجتمع وكان ذلك في تدرج يبدأ بالطفولة والشباب وينتهي عند الشيخوخة وقد خصص الدستور ثلاث مواد لهذه الأمور.
لا أريد أن استفيض في الحديث عن الدستور، فقد كان ما قاله الدكتور عثمان خليل عثمان وافيا، وكان تتبعه للمواد الدستورية مفيدا لكل من يقرأ ذلك الحديث الذي أدلى به رجل دستوري شارك بصورة ما في وضع ذلك الدستور. غير أن ما أود الإشارة إليه بصفتي مواطنا مراقبا لما يدور في الساحة السياسية الكويتية، وما يملؤها من مشاحنات وعدم قدرة البرلمانيين عندنا على الوصول إلى كلمة سواء بينهم حول كثير من الأمور، يجعلني أقول إنه قد يكون من الأسباب التي تجعل الحديث عن أية تعديلات في الدستور من العبث الذي يضر ولا ينفع، علينا أن نتمسك بهذا الذي بين يدينا ففيه كل ما تريد، وكان أولئك الرجال الذين شاركوا في وضعه مثالا للوطنية، والأمانة، والحرص على المصلحة العامة، لا يهمهم أن يقال فلان صرخ في المجلس أو فلان لا سن الوزير الفلاني، وإنما كان ينظرون إلى وطنهم فحسب ويبحثون عن مصلحته ثم يتجهون إليها، وأنا- المواطن- لا آمن أن يأتي هؤلاء الذين نشاهد أعمالهم البرلمانية الفجة ونستمع إلى ضجيجهم؛ فيمسحون دستورنا ويسيئون إليه، وبالتالي يسيئون إلينا وإلى وطننا الغالي.
٭٭٭
في الجلسة المنعقدة في صباح يوم السبت الموافق لليوم الثامن والعشرين من شهر أبريل لسنة 1962م للجنة صياغة الدستور في المجلس التأسيسي.
تساءل عضو المجلس السيد سعود العبدالرزاق قائلا: ما هي وسائل التوفيق بين النظامين الرئاسي والبرلماني؟ فأجاب الدكتور عثمان بقوله: «تحقيقا للاستقرار المطلوب دون فقدان المظاهر البرلمانية الشعبية؛ ينص على أن رئيس الدولة ذاته مصونة ولا يوجه لشخصه أي سؤال أو نقد، وكذلك يمكن أن نحتفظ بقدر من الاستقرار لرئيس الوزراء إذا لم يتول وزارة بعينها، فيمكن أن توجه إليه الأسئلة من أعضاء البرلمان، ولكن لا يترتب على هذه الأسئلة والرقابة سحب الثقة منه أو إسقاطه، كذلك يمكن القول بعدم إسقاط الوزارة في مجموعها وبكامل هيئتها، وإنما يكون سحب الثقة من الوزير الذي يرتكب من الخطأ ما يستوجب هذه المسؤولية فيخرج هو من الوزارة دون غيره من الوزراء أي دون الوزارة في جملتها، وبهذا الوضع لا تكون قد أخذنا بالنظام الرئاسي ولا بالنظام البرلماني البحت، وإنما تخيرنا الموقف الوسط بينهما مستوحى من واقع الكويت».
وفي جلسة من جلسات المجلس التأسيسي تساءل أحد الأعضاء عن المادة التي تقول: كل اجتماع يعقده المجلس في غير الزمان والمكان المقررين لاجتماعه يكون باطلا وكان تساؤله منصبا على حالة تعذر الاجتماع بهذه الصفة، فماذا يكون العمل؟
وسأل رئيس المجلس الخبير الدستوري الدكتور عثمان خليل عثمان عن هذا الأمر، فأجاب: إن اجتماعات المجلس يجب أن تكون في المكان والزمان المقررين، وذلك حتى لا يجتمع بعض الاعضاء باسم المجلس في غير مكانه وفي غير زمانه، ويصدرون قرارات باسم المجلس، إنما الحالة الاستئنائية التي يشير إليها العضو المحترم تنطبق عليها نظرية الظروف الاستثنائية، يعني إذا وجدت استحالة مادية لاجتماع المجلس في مكانه، ففي هذه الحالة نجد نظرية الظروف الاستثنائية أو نظرية الضرورة بجعل الاجتماع في غير مكانه صحيحا لهذا الاسثتناء وهذا الظرف، إنما القاعدة العامة يجب أن تظل على ماهي عليه، وهي أن اجتماع المجلس في الظروف العادية يظل مشترطا فيه أن يكون في الزمان والمكان المحددين، وقد أريد بهذا تفادي أن يكون أعضاء المجلس تحت موجة عارمة أو عاطفة أو عابرة واستثنائية، يجتمعون في غير المكان وبغير نظام ويصدرون قرارات قد تكون وليدة العاطفة العابرة، وليست متفقة مع المصلحة العامة والأسلوب النظامي المقرر.
وعندما ناقش المجلس قانون ديوان المحاسبة كان هناك نقاش طويل حول تبعية هذا الديوان، هل يكون ملحقا بمجلس الوزراء أم بمجلس الأمة. وكان الدكتور عثمان يقول: أنا شخصيا أرى أن يكون الإشراف على ديوان المحاسبة لمجلس الأمة، ورغم ذلك فإنني أرى أنه لابد عند الانتهاء من تحديد ذلك أن يذكر من مع الرأي الأول ومن مع الرأي الثاني. فهو بذلك يرى أن تسجيل ذلك أمر سوف يرجع إليه في المستقبل. ولكنه عندما طرح المادة الخاصة بالتبعية التي أشرنا اليها فإنه كان يعرض الأمر بكل تجرد موضحاً للأعضاء بالمقارنة مع ما هو جار في الخارج بين التبعية لمجلس الأمة والتبعية لمجلس الوزراء، فهو يقول في هذا المجال: «هذه المادة كانت موضع الحديث بشأنها في الجلسة السابقة من جلسات الدستور، هي تبعية ديوان المراقبة أو ديوان المحاسبة المالية، هل يكون هذا الديوان تابعا لرئاسة مجلس الوزراء أو يكون تابعا لمجلس الأمة؟
والفكرة في تبعيته لمجلس الأمة هي أن الديوان الذي يراقب الحكومة لايصح أن يكون تابعا للحكومة لأن هذا يعرقل أداءه لوظيفته، وعلى هذا الأساس كان الاعتراض في الجلسة الأخيرة من جلسات الدستور على أصل المادة، وأعيدت إلى اللجنة لبحث الموضوع، فوجدت اللجنة أن هذا الديوان يجب أن يكون مستقلا تمام الاستقلال وأن تبعيته بعد ذلك يجب أن تكون مجرد إلحاق رمزي وليس تبعية بالمعنى الصحيح.
فاذا كفل للديوان استقلاله بنص الدستور أصبح إلحاقه بمجلس الوزراء أو مجلس الأمة مسألة أقرب إلى أن تكون رمزية منها إلى أن تكون تبعية بالمعنى الصحيح.
ولذلك رأت اللجنة أن تؤكد استقلال الديوان عن كل من الجهتين باضافة هذه العبارة: «ينشأ بقانون ديوان للمراقبة المالية، يضاف اليها: «يكفل القانون استقلاله».
٭٭٭
كما علمنا ممَّا سبق من الحديث أن الدكتور عثمان خليل عثمان كان رجلاً أكاديمياً معروفاً يشهد له الجميع بالتفوق في عمله الجامعي، وعندما جاء الى الكويت بصفته خبيراً دستورياً، فإن سمعته العلمية كانت تسبقه، ومشاركته في لجان وضع الدستور المصري كانت طريقنا إليه فقد عرف بتمكنه وحنكته ودرايته.
وبحكم عمله الأكاديمي فقد كان له إنتاج علمي غزير لا نريد أن ننهي هذا المقال قبل أن نقوم بعرضه فيه، ولن نعرض إلى ما كان يلقيه من محاضرات أو يشارك فيه من ندوات ولكننا سوف نركز حديثنا على ما أنتجه من الكتب خلال حياته الجامعية.
له كتاب كبير مكون من ثلاثة مجلدات تحت عنوان: القانون الدستوري، كان المجلد الأول منها في المبادئ الدستورية العامة وقد صدر في سنة 1956م، والثاني في النظام الدستوري المصري، وصدر في السنة ذاتها، وفي هذه السنة - أيضا - صدر المجلد الثالث وهو عن النظام الدستوري المصري كذلك.
وله – أيضا – كتاب: مجلس الدولة ورقابة القضاء لأعمال الإدارة، وصدر في سنة 1962م، وكتاب: التنظيم الإداري في الدول العربية الصادر في سنة 1957م. وكتاب: المبادئ الدستورية العامة الصادر في سنة 1943م، وكتاب القانون الإداري وهو في مجلدين وقد صدر في سنة 1950م. وكتاب مجلس الدولة: دراسة مقارنة، وقد صدر في سنة 1956م.
وله كثير من المذكرات والأبحاث التي لم تطبع في كتاب يجمعها، وقد تكون له كتب أخرى لم يصل خبرها إليّ ولكن في ما ذكرت من مؤلفاته دليل باهر على جهوده العلمية وتمكنه في مادته التي عرف بها.
٭٭٭
كان وجود الدكتور عثمان خليل عثمان بيننا في الكويت مفيداً من الناحية العملية، ومن ناحية الاتصالات الانسانية وكان ينال محبة الجميع واحترامهم.
رحمه الله.
==========================
ملحاق خير:
من جميل الصدف ان يطلَّ علينا وجه كريم يذكِّرنا بالدكتور عثمان خليل عثمان، وهذا هو وجه حفيدته هدى عثمان التي جاءت إلى الكويت قبل عدة أيام لتلقي محاضرة على طلاب وطالبات الجامعة عن الصحافة الالكترونية، لقد قدمت الى الكويت من الولايات المتحدة الأمريكية لكي تشهد مكانة جدها في نفوس الكويتيين وتلمس محبتهم له. وقد كان وجودها فرصة لكي تعرف شيئا من جهود الجد الكريم الذي تحدثنا عنه في مقالنا المرافق لهذا الملحاق، وقد احسن سعادة الأخ الفاضل جاسم محمد الخرافي حين استقبل هذه الزائرة الغالية، وقدم لها ما يُوقظ الذكريات في نفسها، وفي نفوس اسرتها كلها وليس هناك أفضل من محاضر المجلس التأسيسي وصورة الخبير الدستوري من هدية تُقدم في مثل هذه المناسبة. لقد اثبت الدكتور عثمان خليل عثمان انه قد غرس في نفوس اسرته واولهم احفاده محبته للكويت وتقديره لها، ونحن هنا لانزال إلى يومنا هذا نحتفظ له بكل المحبة والتقدير.
د. يعقوب الغنيم - جريدة الوطن - 1/12/2010
__________________
"وَتِـــلـْــكَ الأيّـَــامُ نُـــدَاوِلـــُهَـــا بـَـيـْـنَ الـــنَّـــاسِ"
|