*****
مشاركة مني في هذا الملف الرائع أود أن أضيف إليه
تجربته التجديدية حافظت على الوهج الإبداعي
محمد الفايز..
الحلقة الوسطى
في تطور الشعر الكويتي والخليجي
كتب د.مصطفى عطية جمعة:
يمثل الشاعر الكويتي «محمد الفايز» أبرز شعراء منطقة الخليج العربي في مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، فهو مرحلة انتقالية أو مرحلة وسيطة في الشعر الكويتي المعاصر خاصة، وفي الشعر الخليجي عامة، حيث حفلت تجربته بالقصيدة العمودية وبشعر التفعيلة من حيث الشكل، وبكثير من الاتجاهات والأبعاد المختلفة والمتعددة من حيث المضمون، ما جعله بحق رائد المرحلة الوسيطة في شعر الفصحى الكويتي المعاصر، وأكثر الشعراء تجديدا قياسا إلى جيله وإلى مرحلته الزمنية.
ولد الشاعر محمد فايز العلي في الكويت القديمة العام 1932م، وتعلّم تعليما أوليا تقليديا، وقد تفتحت موهبته الأدبية منذ سن الخامسة عشرة، بقراءته عيون الشعر العربي القديم، ثم بدأ كتابة القصة القصيرة، واكتشف في العام 1962م أن أغلبية جمل قصصه كانت موزونة إيقاعيا، كما في قصته البحار المنشورة في جريدة الرسالة، ومن ثم تحوّل إلى كتابة الشعر، توفاه الله تعالى فجر 28 فبراير 1990م، عقب تحرير الكويت من الغزو العراقي بيومين.
نشر «محمد الفايز» أحد عشر ديوانا، وهي على الترتيب: مذكرات بحّار (1962م)، النور من الداخل (1966م)، الطين والشمس(1970م )، رسوم النغم المفكر ( 1973م )، بقايا الألواح ( 1978م )، لبنان والنواحي الأخرى (1980م)، ذاكرة الآفاق ( 1980م )، حداء الهودج (1981م )، خلاخيل الفيروز (1984م)، تسقط الحرب (1989م)، خرائط البرق (1998م) وقد صدر الديوان الأخير عقب وفاته وبه قصائد متفرقة لم تُنشر. وله أيضا مجموعة قصصية بعنوان «الأرض والتفاح»، وملحمة شعرية بعنوان «خالد بن الوليد»، ولم يضمهما إلى أعماله الكاملة التي صدرت عام 1986م.
ويعد محمد الفايز ممثلا لجيل الوسط في الشعر الكويتي المعاصر، حيث سبقه جيل الرواد الذين عاشوا مرحلة ما قبل النفط، وشهدوا نشوء الدولة ونمو المجتمع المدني في بداياته، ومن أبرز هؤلاء: أحمد العدواني، أحمد السقاف، عبدالله الرومي، عبدالمحسن الرشيد، وهؤلاء تميّزوا بالشكل العمودي في قصائدهم، وأبدعوا نصوصهم وفق أغراض الشعر العربي القديم، ونجد لديهم ملامح تأثر واضحة بالمدارس الشعرية في الحواضر العربية المركزية مثل القاهرة وبغداد وبيروت ودمشق، وهذا لا يمنع من وجود تميز في تجاربهم الإبداعية.
أما محمد الفايز فهو جيل تال لهم، حيث وُلد في مجتمع ما قبل النفط، وعاصره حقبة من حياته، ولكنها حقبة التغير الاجتماعي والاقتصادي في الكويت، فقد عايش هموم من سبقه وأحاديثهم عن الغوص والسفر وفقر الحياة، وشهد الفايز تفجر النفط في الكويت، وما صاحبه من تبدلات اجتماعية كانت لها الأثر الأكبر في فكره. ومن أبرز شعراء جيل محمد الفايز: خليفة الوقيان، خالد سعود الزيد، علي السبتي، محمد أحمد المشاري. وإن كان الفايز يبزهم بوفرة نتاجه الشعري، وتميز تجربته بشكل عام، خاصة أنه تأثر بالتيارات السياسية والفكرية التي سادت في العالم العربي في حقبتي الستينيات والسبعينيات، وإن كان أغلب نتاجه الشعري تحقق في سني السبعينيات من القرن العشرين، ويضاف إلى ذلك سعيه إلى التجديد في بنية القصيدة، وفي مضامينها، وفي بنية النصوص في الديوان الشعري.
وبالنظر إلى تجربة الفايز نرى تميزا شعريا، ظهر منذ ديوانه الأول «مذكرات بحار»، وهي تجربة جديدة في الشعر الخليجي بشكل عام، والكويتي بشكل خاص، فالديوان يتناول حياة بحّار من مجتمع ما قبل النفط، ويبسط مأساته، في تجربة مكتملة الأبعاد، حظيت بأغلب صفحات الديوان، وحمل الديوان اسمها، عبر مذكرات تمتد إلى عشرين مذكرة، تمثل كل مذكرة وجها من وجوه مأساة البحّار، ونرى فيها رؤية للمجتمع الكويتي القديم، بمظاهر الفقر والعوز، وتحكّم العادات الموروثة به، ونمط التعليم التقليدي، وهيمنة العشائرية والقبلية عليه، وسيطرة كبار التجار وأصحاب السفن على مقدراته، وكيف أن البحّار يبذل روحه وهو يغوص في أعماق البحر من أجل لؤلؤة لزينة نساء الأغنياء في بقاع شتى في العالم، يقول في المذكرة الثانية:
في الليل نسري عبر هاتيك البحارْ
أيام كنتُ أعيش في الأعماق، أبحث عن محارْ
لقلادة لسوار حسناء ثريةْ
في الهند، في باريس، في الأرض القصيةْ
أيام كنت بلا مدينةْ
وبلا يد تحنو عليّ ولا خدينةْ
صارت الحياة للبحّار القديم ملازمة الأعماق، بحثا عن محار، وقد جاء الحذف هنا تلقائيا للفظة اللؤلؤة، التي قد تحويها محارة ما، ولكن يظل اللؤلؤ قيمة مالية لا جمالية لهذا البحار البائس، الذي غادر عائلته الصغيرة ترزح تحت الديون، على أمل أن يعود محملا بما يسد رمق الأفواه الجائعة. إن اللؤلؤة التي هي زينة لا غير للثريات في الهند أو باريس، قد تحمل في ثناياها روح بحار غاص بحثا عنها. ويأتي تعبير «أيام كنت بلا مدينةْ» ممثلا للوجه الآخر من الحلم، فالمدينة الحديثة تعني تقدما واستقرارا وقوانين وسلطات منظمة؛ وهذا ما وجده الفايز في حياته: فقد عايش النظام السياسي والاجتماعي العشائري والأبوي قبل النفط، وتحوّلَ هذا النظام إلى الدولة الحديثة التي ترعى أفرادها ولا تتركهم نهبا لتقلبات الطبيعة، المدينة تعني الدولة الحديثة بنظمها ومؤسساتها.
في باقي الأعمال الشعرية للفايز، نجد أصداء للتجربة السابقة، ولكنها تمثل اتجاهات مختلفة ما بين الرومانسي والوطني والاجتماعي والتغني بجمال الأمكنة والبلدان، كما في دواوين: بقايا الألواح، وحداء الهودج، وذاكرة الآفاق، ولبنان والنواحي الأخرى. وهي تمثل أصداء عديدة لتجربة الفايز، وإن عدها البعض تراجعا في مشروعه الشعري الذي كان واعدا في ديوانيه الأولين، وهذا صحيح نسبيا، وإن كان محافظا على القصيدة الممتدة، كما في ديوانه «ذاكرة الآفاق» حيث نقرأ «قصائد عن بغداد» ممتدة على ست قصائد متتابعة مرقمة، بشكل التفعيلة الممتزج بالشكل العمودي، يقول في القصيدة الثالثة:
ينهض صدرك يا بغدادُ
كبيادر من لؤلؤة
وكقوس من فيروزْ
أزرقٌ
أزرقْ
يدفق نهرك تاريخا يتدفقْ
وكقامات وصائف رومياتٍ
يحملن أباريق نبيذٍ
أشجارك ذات الظل الهابط
كالشوق الموهقْ
إن تجربة محمد الفايز تثبت بجلاء أن التطور والتجديد الشعري في العالم العربي لم يكن يسير على وتيرة واحدة في الإقليم الواحد، ففي حين كانت تسود قصيدة التفعيلة في المراكز الحضارية العربية، كان هناك شعراء في أقطار عربية أخرى يتراجعون عنها إلى القصيدة العمودية، محافظين على التوهج الإبداعي المكتسب من قصائد التفعيلة، وجمالية وموسيقية القصيدة العمودية. وهذا ما ظهر في تجربة محمد الفايز، فتراجعه إلى القصيدة العمودية، دال على أن الذائقة السائدة في الكويت خاصة والخليج عامة في زمنه ومرحلته التاريخية كانت غير متقبلة لقصيدة التفعيلة، فعزف على الوتر العمودي محافظا قدر المستطاع على رؤية تجديدية في الرؤية والجماليات النصية.
http://www.arrouiah.com/node/94306