.. ولا يزال النواخذة يرحلون. فبعد النوخذة يعقوب خلف اليتامى يأتي فقيدنا النوخذة سليمان غانم العثمان الذي وُلد في منطقة القبلة، وتلقى علومه الابتدائية على يد الشيخ أحمد الخميس، رحمه الله، وبعدها انتقل إلى مدرسة الملا مرشد محمد سليمان بالمرقاب حيث تلقى عنه علوم الفقه والحساب، وبعد أن تعلم الحساب اصطحبه والده غانم، رحمه الله، في بومه الكبير «الباز» حيث علمه علوم البحر إلى أن عهد إليه في البداية بمهمة السكوني (قائد الدفَّة) وكان يرغب حينئذ أن يتسلم قيادة البوم (نوخذة) ولكن لصغر سنه رأى والده، رحمه الله، ألا يستعجل في إسناد المسؤولية إليه وكان يقول له «لا تستعجل يا سليمان أنت لاحق على شقاء البحر وتحمل المسؤولية الكبيرة» وفعلاً تحقق حلم النوخذة سليمان وطموحه وسلمه والده نصف المسؤولية وأصبح مساعدا لوالده (نوخذة شراع)، وبعد سنة واحدة تسلم قيادة البوم «الباز» متنقلاً من ميناء البصرة محملاً التمور والخيول العربية الأصيلة إلى الهند وراجعاً منها محملاً بالأخشاب والحبال وجميع ما تحتاجه صناعة السفن بالكويت، ولم تتوقف رحلاته إلى الهند بل في خلال إحدى رحلاته إلى الهند طلب منه المرحوم الحاج محمد عبدالمحسن الخرافي أن يسافر إلى ممباسا بسواحل أفريقيا الشرقية لأنه يود أن يرسل معه حمولة كبريل (قرميد) حيث الأسعار جيدة هناك، واخبره بأن سفينتهم بقيادة النوخذة أحمد فهد الموسى ستسافر معه سنيار إلى ممباسا فلم يتردد النوخذة سليمان فسافروا معا إلى ممباسا، وبعد أن وصلوا هناك وأفرغوا حمولتهم وسلموها إلى وكيل المرحوم محمد الخرافي عادوا سويا «سنيار»، محملين من هناك بالجندل والفحم، وواصل النوخذة سفراته حتى كسدت تجارة السفن الشراعية وراجت تجارة نقل الذهب لدى التجار الكويتيين، عندها باع المرحوم غانم بومه الباز لصديقه المرحوم عبدالوهاب بن عبدالعزيز القطامي وصنع «بوم» صغيرا مزودا بمحرك ديزل أطلق عليه «فوزي» تيمنا باسم فوزي محمد الخرافي حفيد صديقه العزيز المرحوم الحاج عبدالمحسن الناصر الخرافي، فباشر ابنه النوخذة سليمان قيادته متنقلاً به بين قوة والدمن من الموانئ الهندية.
واستمر النوخذة سليمان حتى توقفت تجارة نقل الذهب وتوقف النوخذة سليمان عن مهنة ركوب البحر مواصلاً أعماله التجارية بالكويت مودعا البحر وذكرياته المرة والحلوة، ويروي النوخذة سليمان عن بعض ذكرياته فيقول: كنت في إحدى سفراتي مع والدي، رحمه الله، في بومنا «الباز» مسافرين من البصرة محملين التمور إلى عدن، وكان وقت ظهور نجم الاحيمر وعند مرورنا بجزيرة الشيخ في بر فارس هبت علينا رياح قوية كسرت الدقل العود (أي الصاري الكبير) وتمزق الشراع، وبعد أن هدأت العاصفة التي استمرت معنا حتى صباح اليوم التالي فحصنا البوم ووضعنا الدقل الصغير «القلمي» مكان الدقل الكبير وواصلنا مسيرتنا إلى أقرب بندر (ميناء) لنا ووصلنا مسقط ورتبنا أمورنا، واستراح البحرية واشترينا دقلاً كبيراً من هناك بدل الدقل الذي فقدناه وخيطنا الشراع، وبعد أسبوع واصلنا سفرنا إلى عدن. ويستطرد النوخذة سليمان ويقول: لو أروي لك الأحداث والمصائب التي حلت بنا أثناء سفراتنا بالسفن الشراعية من وإلى الهند واليمن والصومال وأفريقيا لما اتسع لها مجلد بأكمله. ويواصل حديثه لي ويبتسم ويقول: اسمع، دعني أرو. لك جزءا من حلاوة أيام البحر وهي التلاحم «والغيرة والمحبة التي مع الأسف نفتقدها في هذا الزمن». كان في ذلك الزمن عندما يفقد أحدهم سفينة «تطبع بالبحر» يهبو جميع أهل البحر لمساعدته، ومن تلك المساعدة يحصل على ما يكفي لصناعة سفينتين بدل الواحدة التي فقدها. وإذا صنع أحدهم سفينة وانتهى من صناعتها وحدد يوم إنزالها بالبحر هبوا جميعا: أهل الشرق وأهل القبلة للمساعدة في إنزالها بالبحر. حتى الشيخ أحمد الجابر كان يحضر أحياناً لمشاركتهم.
هذه نبذة عن حياة البحر التي عشناها فرحم الله رجال البحر من أبناء الكويت الأوفياء.
ومن أبسط طباعه الوفاء لمن أحسن إليه، حيث لم يزل وفياً لأحد أصدقائه الذين كان لهم فضل السبق التجاري عليه حين يقول: «أنا لا أنسى أبداً فضل المرحوم عبداللطيف عبدالله السعد المنيفي عليَّ حين أرسل لي بضاعة أقمشة من الهند لأبيعها وأناصفه أرباحها دون أن أشارك في رأسمالها، فوفقني الله تعالى في بيعها ثم كررها لي».
وهذا لعمري وفاء وبساطة وشفافية من المرحوم سليمان العثمان قل نظيرها في أيامنا هذه. رحمه الله رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته.
د. عبدالمحسن الجارالله الخرافي جريدة القبس – 25\12\2008