هل حالفك الحظ في ان ترى سفينة كويتية من نوع 'البوم' مبحرة بأشرعتها المثلثة البيضاء الجميلة؟
وهل أدركت بنفسك كم مهيبة تلك القطعة الفنية التي صنعها أساتذة صناعة السفن الكويتيون من خشب الساج الهندي والذين غطت شهرتهم وبحق جميع الموانئ البحرية على بحر العرب والمحيط الهندي؟
ومع ان هناك الكثير من السفن الشراعية الشهيرة التي صنعت في الكويت مثل:
سمحان (بن رشدان) والداو (فتح الكريم) و'تيسير' و'منصور' و'طارق' و'إقبال' و'مثنى' و'النامسة' و'مجاموة' و'السليماني' و'رشيد' و'بيان' وغيرها.
والتي كانت تجول في بحر العرب والمحيط الهندي في عصر الشراع الذهبي إلا انه لم يبق أو يحفظ منها سوى (المهلب) شاهدا على تراث الكويت البحري الذي ذهب الى الأبد.
كانت جميع هذه السفن منذ بداية القرن العشرين وحتى أواخر الأربعينات تتسابق فيما بينها حاملة تمور العراق الشهيرة من البصرة الى موانئ كثيرة في غرب الهند وجنوب شبه الجزيرة العربية وتعود الى الكويت محملة بأخشاب الهند والحبال والرز والشاي وزيت الأسماك وأعمدة الأسقف (المنجروف) من ساحل افريقيا الشرقي وغيرها من الضروريات التي كانت الكويت آنذاك في أشد الحاجة اليها.
وللمشاركة في هذا النشاط البحري والتجاري صنع 'المهلب' والذي يعتبر من أشهرها وأسرعها على الاطلاق.
تاريخ الصناعة
شعر الحاج ثنيان الغانم وأخوه محمد وهما من تجار الكويت المرموقين بالحاجة الى سفينة شراعية اضافية لمساعدتهما في تجارتهما التي اخذت في التوسع والازدهار.
التاجر ثنيان الغانم (مالك المهلب)
في أحد أيام 1937 اتفق الاخوان مع
الحاج محمد بن عبدالله الأستاذ
أحد صناع السفن المشهورين في الكويت وأحد تلاميذ الحاج أحمد بن سلمان الأشرم ذلك الصانع الأسطوري على صنع سفينة شراعية من نوع 'البوم' وذات خواص معينة وسعة معينة.
كان الحاج محمد بن عبدالله آنذاك شابا لا يتجاوز الخامسة والثلاثين من العمر، ولكن سمعته كصانع سفن قدير قد طرقت آذان الجميع.
وكانت الاخشاب اللازمة لصناعة السفينة قد احضرها من الهند الاخوان الغانم بعد ان اختاراها بعناية وتركت على الساحل امام ما كان يسمى آنذاك 'نقعة العبدالجليل' وهي احد احواض السفن التي كانت تقع الى الغرب قليلا من مبنى المتحف الوطني الجديد على ساحل الخليج.
بدأ الحاج محمد العمل بأن اختار خشبة طويلة ومستقيمة كقاعدة للسفينة (البيص) ثم اختار اربعة عشر نجارا كان من بينهم من اصبحوا فيما بعد صناع سفن قديرين مثل حجي علي عبدالرسول وابن عمه جاسم عبدالرسول.
كان العمل في تثبيت الاضلاع الداخلية للسفينة مستمرا عندما زار مركز العمل الحاج احمد الغانم احد 'النواخذة' (قباطنة السفن) الكويتيين وعم الاخوين الغانم وطلب الحاج احمد بعد ان قام بفحص هيكل السفينة من الاستاذ محمد ان يدفع احد الاضلاع في المؤخرة الخلفية للسفينة الى الامام قليلا حتى تصبح مشابهة في مؤخرتها لسفينة 'الدنجية' (نوع من السفن الهندية) التي كان قد فقدها بحادث غرق قرب جزيرة فيلكا من قبل.
ولكن الاستاذ محمد لم يرتح لهذا الاقتراح فقد كان له رأي آخر في كيفية ما يجب ان تكون عليه مؤخرة السفينة.
ولكن كيف يمكنه رفض طلب ذلك الشيخ الكبير؟
ومما جعل رفضه اكثر صعوبة هو طلب الحاج ثنيان الغانم بأن يستجيب لكل مطالب عمه الحاج احمد لذا كان على الاستاذ محمد ان يرضخ للامر الواقع ولكن بشرط وهو الا يطلب منه ان يغير في تصميم السفينة اذا بدت على خلاف ما يرضيهم.
كان الامر بالنسبة للاستاذ محمد يتطلب بالطبع الكثير من العناية والحذر لاسيما انه مجبر في النهاية على صنع سفينة شراعية ذات صفات ملاحية جيدة تتفق وسمعته كصانع سفن قدير.
واستغرق بناء 'المهلب' حوالي 70 يوما وبواسطة 14 نجارا يعملون بمعدل 10 ساعات في اليوم وبأجر قدره 3 روبيات هندية (1 روبية = 75 فلسا) في اليوم للشخص الواحد وبتكلفة اجمالية قدرها 15000 روبية هندية.
اما الاسم فقد اطلقه عليه عبداللطيف الغانم ابن الحاج محمد ثنيان الغانم والذي اراده ان يحيي ذكرى بطل من ابطال الاسلام وهو المهلب بن ابي صفرة.
الإحتفال بالتدشين
كان الاحتفال بتدشين المهلب من الايام التي لا تنسى فعلى مقربة من الساحل وقف المهلب على قاعدته وجسده مطلي بزيت السمك (الصل) وكان الاخوان الغانم قد اعلنا مسبقا عن موعد انزال المهلب الى البحر.
ولما كانت العادة في الكويت ان يشارك في الانزال كل من كانت عنده الرغبة في ذلك، فقد تجمع رهط كبير من الناس حول المهلب للمشاركة في حفل التدشين وكان ثنيان الغانم واخوه محمد حاضرين وكذلك الاستاذ محمد بن عبدالله ومساعدوه ولفيف من قباطنة السفن الكويتيين (النواخذة) الى جانب الكثير من الرجال والنساء والأطفال.
حتى الشيخ أحمد الجابر حاكم الكويت آنذاك ذكر انه كان مع الحاضرين.
وفي ظهر يوم من أيام صيف سنة 1937م حين كان المد أعلى ما يكون بدأت عملية انزال المهلب الى البحر لأول مرة وفي البدء وضعت اعمدة خشبية متراصة وطويلة تحت قاعدة المهلب ثم وضعت اكياس من الخيزران وقد امتلأت بالرمل الجاف تحت احد جوانب المهلب المقابل للبر فوق الاعمدة الخشبية كما ربط احد الحبال القوية والطويلة في مقدمة المهلب وآخر في مؤخرته ووصلت تلك الحبال في آلتين حديديتين للف الحبال حولهما تسمى كل منها بالدوار وقد ثبتتا في الأرض بإحكام كما مرر الحبلان في منتصفيهما في حلقتين مثبتتين في البحر.
وما ان بدأت عملية الانزال حتى قام عدد من النجارين ينشر أكياس الرمل بالمناشير والرمل الجاف يغادرها ببطء والمهلب يتكئ بهدوء على أحد جانبيه المقابل للبر وعلى الاعمدة الخشبية تحته.
وما ان تم ذلك حتى بدأ الرجال بتحريك آلتي الدوار اللتين اخذتا في لف الحبال حولهما مجبرة المهلب على الانزلاق ببطء نحو البحر وسط غناء النهام ودق الطبول حتى النساء شاركن في الاحتفال بإطلاق الزغاريد تعبيرا عن فرحتهن في هذه المناسبة.
وفي النهاية عانق المهلب البحر لأول مرة وطفا فوق سطح الماء بكل ثقة وجمال كما اختتم ثنيان الغانم واخوه محمد هذه المناسبة بوليمة ضخمة دعوا لها كل من شارك في او حضر هذا الاحتفال.
رحلات المهلب
لم يستغرق اعداد المهلب وتجهيزه لاولى رحلاته اكثر من اسابيع قليلة وكان الحاج ثنيان الغانم قد اختار نوخذة للمهلب وهو
الحاج حسين عبدالرحمن العسعوسي
الذي كان يتمتع باحترامه وثقته.
فما ان وصل النوخذة حسين الى الكويت عائدا من احدى الرحلات البحرية حتى وجد المهلب معدا وجاهزا في انتظاره ليأخذه في اولى رحلاته الطويلة خارج الكويت الى الهند.
كان النوخذة حسين آنذاك في الثلاثينات من عمره ولكن خبرته في فنون البحر وسمعته كأحد قباطنة الصف الاول من الكويتيين غير قابلة للشك او الجدل فقد اتيحت له فرصة الابحار على ظهر السفينة 'المرداوية' التي كان يملكها الشيخ خزعل المرداو شيخ المحمرة.
كما انه قاد العديد من السفن الشراعية الاخرى من نوع البوم والبلغة الى الهند وساحل افريقيا الشرقي.
ولقد اثبت النوخذة حسين بالفعل بانه القبطان الذي كان المهلب دائما يحتاجه فقد عرف كيف يقود تلك السفينة الشراعية غير العادية في جميع الاحوال وتحت مختلف الظروف وهو عمل ثبتت صعوبته على العديد من 'النواخذة' الآخرين الذين حاولوا قيادة المهلب فيما بعد.
اختار النوخذة حسين رئيسا للبحارة (المجدمي) بعناية وطلب ومنه ان يختار افضل ما يمكن من البحارة وان يقوم بتجهيز المهلب بكل ما يحتاج استعدادا لرحلته الاولى الى الهند والتي ستستمر ثلاثة اشهر تقريبا.
ولما جرت العادة على ان يكون في كل سفينة شراعية كويتية مطرب (نهام) يقوم بالترويح عن البحارة ويطرب نفوسهم بما يشدوه من اغان بحرية عذبة فقد كان المهلب يحظى دائما بواحد منهم من ذوي الشهرة والسمعة الطيبة وعذوبة الصوت كالنهام سعد العبجل من الكويت وابوطبنية من البحرين.
النهام سعد العبجل
النهام أبوطبينة من البحرين
وكان على المهلب ان يبدأ برحلة قصيرة الى البصرة شمالا كي يشحن آلافا من اكياس التمر من المزارع الكثيرة المنتشرة على طول شط العرب.
وما ان اقبل شهر اكتوبر موعد نضوج التمر في البصرة حتى ابحر المهلب قاصدا البصرة في اولى رحلاته بقيادة النوخذة حسين العسعوسي وعلى ظهره حوالي خمسة وثلاثين بحارا كويتيا.
وفي البصرة امتلأ المهلب باكياس التمر وابحر تحت اشرعته البيضاء قاصدا ساحل الهند الغربي.
كان عليه ان يبحر قريبا من الساحل الايراني الغربي في طريقه الي مضيق هرمز ثم عبر بحر العرب الى الكثير من الموانئ المنتشرة على طول الساحل الغربي للهند.
وبعد خمسة عشر يوما وصل المهلب الى منطقة كتوار وميناء براور (قرب بومباي) وهناك انزل بعض ما يحمله من التمر واستمر في المسير جنوبا في محاذاة الساحل الهندي الى 'كليكوت' ذلك الميناء الشهير على ساحل الملبار الهندي.
انزل المهلب في كليكوت كل ما فيه من تمر واستقبله
المرحوم الحاج يوسف الصقر
الذي كان يعمل وكيلا لتجار الكويت في كليكوت.
وبعد ذلك قام بحارة المهلب بتنظيفه وشحنه بانواع من الاخشاب وغيرها من الضروريات استعدادا لرحلة العودة.
ترك المهلب ميناء كليكوت مبحرا في بحر العرب حتى وصل الى ميناء مسقط علي ساحل عمان الشرقي وبعد انتظار استغرق عدة ايام ابحر في طريقه الى البصرة.
وهناك انزل المهلب ما فيه من اخشاب وشحن ثانية بالتمر بعد ان استغرقت رحلته من الهند الى البصرة خمسة وعشرين يوما.
بعد ذلك كان المهلب مستعدا لرحلته الثانية في موسم واحد والتي سوف تأخذه الى عدن ذلك الميناء التجاري النشط على ساحل شبه الجزيرة الجنوبي.
وصل المهلب عدن بعد عشرين يوما وباع حمولته من تمر وشحن بدلا منه العديد من الضروريات لبيعها في موطنه الكويت.
ترك المهلب عدن في طريقه الى الكويت مرورا بمسقط، وما ان وصل الى الكويت حتى استقبله ثنيان الغانم واثنى على رجاله وعلى اتمامهم اولى رحلاته بنجاح.
وليس في الامكان وصف جميع الرحلات التي قام بها المهلب ولكن ذكر بعض منها قد يفي بالغرض ففي احدى الرحلات وبينما كان المهلب قرب ميناء مسقط في طريقه الى عدن محملا بأكياس التمر اصيب احد الصواري الحاملة للأشرعة بشرخ كبير فيه.
ولما كان هذا الامر من الخطورة بمكان ومصدرا للخوف والقلق على ظهر اي سفينة شراعية فقد كان على النوخذة حسين ان يفعل شيئا ما لانقاذ المهلب وبحارته.
فأصدر حسين امرا على عجل فهمه البحارة واذا بالأشرعة تنزل بسرعة من على صواريها وتطوى جانبا ثم امر بإحضار اعمدة من الخشب وانزالها في جوف المهلب حول موضع ارتكاز الصاري المشروخ في قاعدة السفينة وربطت بالصاري بإحكام.
كان عملا يتطلب الكثير من الجهد والفن من جانب البحارة الذين كانوا يعملون كالجن في مثل تلك الظروف وما ان تم العمل وتفحصه النوخذة حسين ورضي به حتى اصدر امرا برفع الشراع الصغير (التركيت)
بعد ذلك كان المهلب في طريقه الى عدن وقد زال الخطر عنه، هناك اشترى النوخذة حسين صاريا جديدا للمهلب، وابدل به الصاري المشروخ وعندما شحن بالبضائع بدأ رحلة العودة قاصدا الكويت يحدوه الشوق والامل بالوصول السريع.
وفي رحلات اخرى أبحر المهلب حتى دلتا نهر 'الروفيجي' في تنزانيا على الساحل الشرقي لافريقيا حيث الحياة هناك اشبه بالكابوس الليلي لأي بحار ايا كانت قوة صبره وتحمله فهذه الدلتا حارة ورطبة ولا مأكل فيها ولا مأوى كما انها مملوءة بالحيوانات المتوحشة والبعوض العدواني الطبع ومع ذلك فإن معظم السفن الشراعية تذهب الى هناك لإحضار اعمدة خشب 'المنجروف' (الجندل) التي كانت تستعمل للسقوف في بيوت الكويت القديمة وغيرها من بلدان الخليج.
كان المهلب يبقى هناك ما يقارب الشهر في كل رحلة من رحلاته في ذلك الجو المتعب وكان على قبطانه حسين ان يبحر به عبر مياه ضحلة وصعبة الطباع، ومع ذلك فقد اتم المهلب عمله هناك بنجاح واحضر اعمدة المنجروف الثمينة الى موطنه بسلام.
فضلا عن هذا فإن المهلب لم يقم بنقل الاخشاب والتمور والحبال فقط ففي احدى رحلاته التاريخية من البصرة الى كراتشي (باكستان) ابحر المهلب من البصرة وعلى ظهره ستة عشر جوادا من خيول السباق ومما لا شك فيه ان مثل هذه الرحلة تشكل تحديا للنوخذة حسين وبحارته.
فالخيول لم تعتد الحياة على ظهر سفينة شراعية كما ان البحارة ليسوا معتادين على وجود حيوانات معهم على ظهر السفينة لذا فقد وضعت الخيول في صف واحد على احد جانبي السفينة على السطح واقيم عريش من الاخشاب لحمايتهم عندما يقوم البحارة بعملهم المجهد في رفع الاشرعة وانزالها.
كما عين بحاران ودفعت لهم اجور خاصة للاعتناء بهذه الخيول طيلة ايام الرحلة وتحت جميع الظروف ولقد كان بالفعل عملا صعبا على الجميع ولكن المهلب وصل الى كراتشي بسلام وكذلك وصلت معه الخيول الست عشرة ولم تستغرق الرحلة من البصرة الى كراتشي اكثر من 17 يوما.
دور المهلب خلال الحرب العالمية الثانية
الدور الاساسي الذي لعبه المهلب في تاريخ النقل البحري الكويتي كان خلال الحرب العالمية الثانية عندما اخضعت البحرية البريطانية جميع السفن لسيطرتها ومنعتها من نقل البضائع التجارية مما تسبب في حصول نقص في الكثير من المواد الغذائية وانقطاع بعض السلع مثل الاقمشة وغيرها عن اسواق العراق وسوريا وغيرها من الدول المجاورة.
ولولا وجود تلك السفن الشراعية الخشبية مثل المهلب وشجاعة قباطنتها وبحارتها لحدث الكثير من المشاكل والمجاعات.
ومثال على ذلك فإنه في سنة 1943 كان المهلب اول سفينة تقوم بنقل اقمشة الكشمير الشهيرة والكريب وغيرها من الهند الى موانئ العراق والتي كانت تنقل منها عن طريق البر الى سوريا ولبنان.
ولقد ذكر النوخذة حسين العسعوسي ان تجار بغداد والبصرة كانوا يتسابقون على شراء بضاعة المهلب في تلك السنوات كما انهم كانوا يدفعون له مقدما لنقل بضائعهم من الهند الى البصرة نظرا لما كان يتمتع به المهلب ورجاله من ثقة وشهرة.
وقد بلغت اجور النقل ما يقارب اربعين الف روبية هندية لمثل هذه الرحلات كما ان الحظ كان حليف المهلب تلك السنوات ففي حالة الظروف الجوية الملائمة فان المهلب قطع المسافة بين الهند والبصرة في مدة اقصاها اسبوعان وهو زمن لم يسبق لاي سفينة شراعية ان قطعته.
وتعليقا على ذلك يقول النوخذة حسين
'لقد كان سفرنا في الملهب آية.. كان توفيقا من الله'
مصدر الموضوع
كتاب قصة المهلب - يعقوب يوسف الحجي
إعداد وتلخيص العضو سعدون باشا
حقوق النسخ محفوظة للعضو سعدون باشا
ولمنتدى ( تاريخ الكويت )
يرجى تحري الأمانة العلمية في النقل