أدباء الكويت هم الشريحة الوحيدة، ربما، التي تعاني بصمت، وتنام على أكوام من الهموم من دون أن تسمع لهم صوتاً واحداً، والسبب أن أعضاء رابطة الأدباء ليسوا كأعضاء مجلس الأمة، من حيث أنهم لا يجيدون الصراخ مثلهم، ولا يأخذون حقهم بحناجرهم. وليست لديهم تكتلات ولا محسوبيات ولا يعمدون إلى الضغط على الحكومة كي تستجيب لمطالبهم. لذلك ترى أن مبناهم مهلهل رغم أنه المبنى الأهم - يفترض - في المؤسسات المدنية الكويتية التي نتباهى بها أمام الزوار في الداخل والخارج، فضيوف الكويت، الذين يأتون من بلاد شتى، يصابون بالدهشة والغرابة وتجحظ عيونهم حين تقع على شكل المبنى. فهو يشبه «البيت المسكون» بسبب قاعاته القديمة وسراديبه الموحشة وحديقة بائسة، والأهم من هذا، مسرح على الطراز الأقدم من القديم، فالكراسي لا يتوافر فيها أي شروط فنية، وكذلك المنبر وخشبة المسرح، فهي بناء بمجمله يعود إلى الستينات، ولم يواكبه التطور حتى يومنا هذا. وتمت مخاطبات عدة للمعنيين في الحكومة حول موضوع البناء، ولكن من دون جدوى. وحتى إدارة المرور طنشت طلبات الرابطة، ولم تستجب لأدنى حقوقها في وضع حواجز لمنع عرقلة دخول وخروج سيارات الأعضاء من «المصافط» الخاصة بالرابطة التي تجاورها مرافق كثيرة مما يؤدي إلى ازدحام على الباب الخلفي للمبنى.
ربما كثيرون لا يعرفون أن الكويت كانت من أسبق البلاد العربية في تأسيس النوادي الأدبية، فقد تأسس فيها عام 1924م «النادي الأدبي»، وكان ذلك حدثاً غير مسبوق ومثيراً للإعجاب، ثم أنشئت في الكويت «الرابطة الأدبية» عام 1958م، وفي عام 1964م تأسست «رابطة الأدباء» أي مضى عليها أكثر من نصف قرن، وبعد سنتين من تأسيس الرابطة أصدرت مجلة «البيان» التي تعد الآن المجلة الوحيدة تقريباً في العالم العربي المستمرة بالصدور لما يزيد على الخمسين عاماً.
ومر على تاريخ الرابطة شخصيات أدبية مهمة جداً لا تتسع مساحة الورق هذه لذكرهم، كما نخشى أن ننسى أحداً منهم. شخصيات حققت حضوراً كبيراً في داخل الكويت وخارجها. ثم أكملت الأجيال تواترها في الرابطة، وكان كل جيل يضيف من فكره وثقافته ووعيه ما من شأنه أن يكفل للرابطة استمراريتها في هذا المكان الحميم الدافئ الذي لم يغادره أعضاؤه رغم تهالكه إلا في أول التحرير، حيث لم يكن صالحاً للسكن، فشغل الأعضاء مبنى في كيفان ريثما تم تجهيز المبنى.
الأدباء هم من يرسم للكويت واجهتها الحضارية، وحضارات الدول على مر الأزمان لا تقاس فقط بالمباني الحديثة والشوارع العريضة، بل تقاس بما قدمته من نتاج فكر بشري إنساني، وهو ما لا يستطيع فعله إلا الأدباء والمثقفون، فهل بعد ذلك نستكثر عليهم مبنى حديثاً أو «مصفطاً» للسيارات بلا منغصات؟!
ربما يختصر مأزق “رابطة الأدباء في الكويت”، مأزق الثقافة الكويتية برمتها، ففي جلسة مع أمين عام رابطة الأدباء الأستاذ عادل عبدالمغني، وبوجود مجموعة من الأصدقاء الأدباء، شكا الأمين العام مرّ الشكوى من الوضع المالي الصعب للرابطة، إلى درجة المأزق الذي يتطلب أحياناً، تسيير أمورها المالية، اعتماداً على المعونات التي يتبرع بها بعض المحسنين، من المؤمنين بأهمية الثقافة في الكويت.
عُرفت الكويت في محيطها الخليجي والعربي، بوصفها صانعة مبادرات ثقافية. ففي عام 1912 افتتحت المدرسة “المباركية” كأول مدرسة نظامية في الكويت، بفكر وجهد شعبي، وافتتحت “الجمعية الخيرية العربية” عام 1913، “بجهود الشاب فرحان بن فهد الخالد” لتحوي بين جنباتها ما يمكن أن يُشار إليه بوصفه أول مكتبة عامة في الكويت. وفي عام 1928 أصدر الشيخ عبدالعزيز الرشيد مجلة “الكويت”، وفي الأربعينيات كان محمد النشمي قد نذر عمره لنشر التجارب المسرحية المرتجلة “الشعبية” في براحات الكويت، بينما انبرى الشاب ذو الهمة العالية، عبدالعزيز حسين، وثلة من شباب الكويت المتحمسين في القاهرة، عام 1946 لإصدار واحدة من أهم الإصدارات الكويتية، وأعني بها مجلة “البعثة”. ولا أظن أن ذلك ببعيد عن ولادة المجتمع الكويتي الجديد، بتصدير أول شحنة بترول بتاريخ 30/6/1946، في عهد المغفور له سمو الشيخ أحمد الجابر الصباح. تلا ذلك ولادة مشروع مجلة “العربي” الذي انطلق مع شهر ديسمبر عام 1958، ليشكل مدماكاً من مداميك الوصل العربي، بين جميع ناطقي حرف الضاد، وليجعل من اسم الكويت حاضراً زاهياً في التجمعات الثقافية والأدبية، على طول وعرض العالم العربي.
الكويت، منارة الخليج، ومصنع المبادرات الديمقراطية والاقتصادية والثقافية والفنية والرياضية، اندفعت خلال الستينيات لتأسيس جمعيات النفع العام، الوجه المشرق للمجتمع المدني، وكان من بينها رابطة الأدباء في الكويت، التي تأسست عام 1964، لتشكل واحداً من أهم مراكز الإشعاع الثقافي في البلاد وقتذاك.
رابطة الأدباء، وبوصفها جمعية نفع عام، فإنها تتعيّش حالياً على معونة سنوية من وزارة الشؤون مقدارها عشرون ألف دينار. وبحسبة مالية صغيرة، لرواتب الموظفين العاملين في الرابطة، وتكلفة إصدار مجلة “البيان” الشهرية لسان حال الرابطة، فإن معونة الشؤون بالكاد تغطي هذه المصاريف، ليبرز السؤال الكبير والمؤلم: كيف يتسنى لرابطة الأدباء كإحدى مؤسسات المجتمع المدني، إقامة أنشطتها والنهوض بالدور الثقافي المنوط بها، في رعاية نشء ثقافي، والتأسيس لأجيال من الكتّاب الكويتيين، ونشر الثقافة الرصينة كزاد يومي على مائدة الأسرة الكويتية والعربية في الكويت؟
لقد كانت نبرة الألم التي يتحدث بها أمين عام الرابطة واضحة، وهو يشرح كيف أن الرابطة تقف عاجزة أمام تنفيذ مشاريع ثقافية كثيرة، ولسبب بسيط هو عدم وجود المادة، وكيف أن مبنى الرابطة يُمكن أن يُوصف إنشائياً كمبنى آيل للسقوط، دون أن تلوح في الأفق أي بارقة أمل لإقامة مشروع مقر جديد للرابطة، يكون واجهة حقيقية للأدب والفن في الكويت. في زمن ثورة المعلومات والإعلام والاتصال، ومحركات ومواقع شبكة الإنترنت، وثقافة الفضاء المفتوح.
هناك من لا يزال ينظر إلى دول الخليج النفطية، ومنها الكويت، بوصفها دولا بحبوحة مالية. وأذكر تماماً، أن طالباً أميركياً في محاضرة لي في جامعة “Appalachina”، في ولاية “نورث كارولينا”، سألني عن إمكانية حصوله على الجنسية الكويتية، بعد أن سمع مني أن الكويت لا تأخذ ضرائب على معاشات سكانها، وأنها تقدم خدمات التعليم والطب والسكن بالمجان لسكانها، لكن ذلك السائل كان سيحرجني كثيراً لو أنه سألني عن الجهد الذي تقدمه الكويت حالياً لرعاية مبدعيها وثقافتها. وربما فسر مأزق الرابطة المالي، جزءاً ولو يسيراً من مأزق الثقافة الكويتية، في زمن سباق المبادرات الثقافية الخليجية والعربية.