إعداد: فرحان عبدالله الفرحان
يوسف البكر
يعتبر يوسف البكر رابع موسيقي أو فنان ومغني عرفته الكويت في تاريخها (في القرن التاسع عشر) ذلك اذا وضعنا عبدالله الفرج الأول ويليه ابراهيم اليعقوب ثم خالد البكر ويوسف البكر الرابع هؤلاء الاربعة الذين عاشوا في القرن التاسع عشر، واذا استثنينا يوسف البكر الذي ظل على قيد الحياة حتى منتصف القرن العشرين.
يوسف البكر هو أحد ثلاثة اخوة هم: محمد وخالد ويوسف من أسرة البكر التي عاشت في جزيرة فيلكا ردحا من الزمن، ونزح والدهم وسكن فريج الفرج الدواسر وهناك تربى الأولاد الثلاثة محمد «حمامة مسجد» وسمي بذلك لانه كان ملازما للمسجد وخالد ويوسف بما انهما في فريج الفرج فقد تأثرا بهذه الاجواء التي كانت بهذا الحي، حيث الدخينه ديوان عبدالله الفرج الذي كان ملتقى الشباب، حيث كان الفن والغناء والسامري والشعر هو الوحيد الذي كان يملأ أوقاتهم، وكان عبدالله الفرج هو سيد المكان بهذا تأثر خالد البكر ومن بعده شقيقه يوسف البكر كان الحظ يلعب دوره معه في ظل تطور الصناعة في العالم ووصول المسجلات التي تلتقط الاصوات في منتصف القرن العشرين وكان قبلها الهيدفون والاسطوانات والفوانات وكان تسجيلها على الحجر وكانت قليلة الصنعة والاستعمال.
والحظ يلعب دوره مرة ثانية في ان يكون يوسف البكر وهو في سن متأخرة من عمره وما زال به بعض قوة على الغناء وتقديم المقطوعات الشعرية التي ورثها عن اخيه ومن عبدالله الفرج، وكان الرجل يسكن وحيدا في هذا البيت ويعتمد على نفسه ولا يوجد عنده أنيس ولا من يزيل عنه وحشة الا هذا العود الذي يحتفظ به «ويدندن» على اوتاره بين الفينة والفينة وهو يستذكر الأيام الخوالي في غنائه. ويسرني هنا ان أنقل ما أورد المرحوم أحمد البشر في اثناء مجالسته ليوسف البكر ونقله كل فنه عنه فهو يقول في كتاب الموسيقى والغناء في الكويت، تأليف أحمد علي صفحتي (6، 7) بعد ان تحدث عن عبدالله الفرج وابراهيم بن يعقوب وخالد البكر واخرهم يوسف البكر التالي:
بقي يوسف البكر في البيت القديم وفتح الديوان لمريديه وكان لا يخلو ديوانه من اهل الحي لسماع الموسيقى والزفن على الاصوات، وقد سألت الذين عايشوا الاثنين عن ايهما اجود فقالوا لا نفرق بين الاثنين فكأنهما اسطوانة معادة.
وكنت ازور يوسف البكر في ديوانه وكان يعزني ويكرمني عند زيارتي له وكان سنه حوالي الثمانين فكنت افكر كثيرا كيف نحفظ هذا التراث لو مات يوسف البكر، وكان ذلك في اوائل عام 1953. ومن حسن حظي انني زرت في تلك الايام الشيخ جابر العلي الصباح نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الاعلام حاليا. فاهداني مسجلا جديدا وكان من اولى المسجلات التي وصلت الكويت ففرحت به فرحا شديدا. فاشتريت عددا من الاشرطة وذهبت الى ديوان يوسف البكر لاسجل له بعضا من اصواته فرفض في بادئ الامر. فاقنعته بان نسجل صوتا واحدا ليسمعه فوافق على ذلك، وعندما سمع صوته ارتاح وطرب وقال كأنني اسمع صوت اخي خالد فوافق على تسجيل كل ما يعزفه من اصوات واستماعات حتى انني ابقيت المسجل في ديوانه، وفي كل ليلة ازوره لاسجل ما يعزفه واسمعه ما سجلته، وقد سجلت له اكثر من ستين اغنية ما بين صوت واستماع، ولم استنزف كل ما عنده، ذلك انه ضعف ومرض، وفي يوليو عام 1955 انتقل الى رحمة الله تعالى.
قلت في اول الحديث ان الله قيض ليوسف البكر الذي ورث عن اسلافه الغناء والفن بان يعيش حتى تكون المسجلات قد خرجت الى عالم الوجود، وكان محظوظا ان يخرج المرحوم احمد البشر ليحصل على هذا الجهاز من التسجيل ليقوم بالحفاظ لنا على هذا التراث الخليجي من يوسف البكر.
لكن الحظ يلعب دوره بأن يكون في هذه الفترة مؤرخ عنده حس في مصلحة وتاريخ الكويت وعنده شعور وطني ذلك هو المرحوم عبدالله الحاتم الذي بادر ايضا بأن توجه الى منزل المرحوم يوسف البكر وسجل لنا على صفحات مجلة الفكاهة بعض مشاهداته عن هذا الفنان يوسف البكر وكان ان اعطانا صورة كأنها حية انقلها بالتالي:
يوسف البكر مطرب قديم وعود اقدم
بهذا العنوان نسوق الى قراء الفكاهة الاعزاء هذا الموضوع عن مطرب كويتي تقادم عليه العهد واكل عليه وعلى آلته الدهر وشرب وقد يجوز انه لما كان في صباه من ابرز مطربي الكويت: وان (عوده) الذي كان في يوم ما يرسل انغاما شجية في سكون الليل مخترقة حجب الظلام لتداعب اوتار النفوس المهمومة والقلوب المكلومة والاجساد المتعوبة. اصبح اليوم عوداً صوته في بطنه كعازفه قد اثخنته السنون الطويلة بالجراح واتعبت جسمه الايام والليالي فاخذ يرسل صوتاً مبحوحاً من اعماق الاجيال ولقد اخلص مطربنا الهرم لهذه الآلة ايما اخلاص وبادلها الحب كما اخلصت له وبادلته الحب فلا يكاد تمر عليه لحظة حتى تراه قد وضعها على فخذيه واحنا عليها كالتي ترضع وليدها، ووضع فمه على حافتها حتى يصبحا في وضع لا تفرق معه بين العود وعازفه الا بالاوتار لان مطربنا قد تقطعت اوتاره.
كنت اسمع بهذا المطرب واتمنى ان اراه لاتطلع الى الاجيال الغابرة المرتسمة على جبينه والى الاخاديد المنتشرة على جوانب وجه والتي عمل فيها معول الزمان ومساحيه.
كنت اتمنى السماع الى انات ونغمات الماضي. نعم كنت اتمنى مشاهدة وسماع البقية الباقية من موسيقى ما قبل التاريخ، لقد تحققت الامنية فشاءت الظروف ان تمن علي في احدى الليالي ان اذهب مع احد الاصدقاء الى بيت هذا المطرب فجئنا ودخلنا عليه وكان قابعاً في غرفة حول الباب وحوله نفر قليل يبدوا انهم البقية الباقية من عشاق فنه فسلمت، فرد علي رداً فاتراً مصحوبا بنظرة استفهام، وهو ينظر الي «من فوق لتحت ومن تحت لفوق» وما كاد يستقر بنا المقام حتى نهض يتخطر الاواني المبثوثة هنا وهناك واتى الى صندوق خشبي قديم ثم جلس اليه واخرج من جيبه مفتاحا ووضعه في القفل واداره ثم فتح الصندوق واخرج رفيق صباه وانيس وحشته ملفوفا بخرقة بالية ثم عاد الى مكانه واخرج العود من كيسته ووضعه على فخذيه واخذ يداعبه لصف اوتاره، وبعد ان انهى من صف الاوتار التفت الى من حوله يسألهم «شتبون نغني؟» هذا يقول «نبي صوت» والاخر «سماعي» ثم بدأ بالعزف ورأسه المستطيل الشكل يتمايل يمنة ويسرة، ولكني اخذت اتطلع الى وجوه الحاضرين فلا وجدت وجها اثر فيه الطرب او جسما استخفته النغمات، بل على العكس من ذلك، رأيت ان الحديث طاب بينهم والنكات بدأت تقفز من الشفاه الى الآذان، وكلها تدور حول المطرب وعوده، فاذا اصبح الحاضرون في واد ومطربنا في واد.
ومن طباعه انه سريع الغضب، سريع الرضا، لطيف المحضر، يحب العزلة عن الناس ولكن لا يستطيع ذلك لحاجته الى الناس، وثقته بنفسه من ناحية الفن قوية جدا ولا يعتقد انه يوجد في هذا العالم مطرب يستطيع ان يجاريه او يلحق بركبه، والويل كل الويل لمن يمتدح مطربا امامه ايا كان هذا المطرب، ما عدا محمد عبد الوهاب الذي يرى فيه انه احد زملائه.
ويجتمع حوله اناس قد درسوا نفسيته درساً عميقا، حتى انه اصبح في مقدورهم تسيير مزاجه وتوجيه رغباته ومعرفة ما يجول بخاطره. وكان اكولا يذهب الى الاكلة حتى لو كان بينه وبينها خرق القتاد، واحب الأكلات اليه حلوى الرهش والسمك المطفي والسمك المطبق، وأوقات الأكل عنده غير منتظمة، فأحيانا يدخل عليه وقت الغروب وهو يأكل ثم يقول: توني اتغدا، واذا جئته صباحا قال: توني اتعشا. حمانا الله واياكم من الحياة المقلوبة.
في آخر مشاهدات وملاحظات الحاتم ان البكر يحب أكل «الرهش»، وهو نوع من الحلوى ويحب السمك المطفي والسمك المطبق، ويعرف عنه ان يحب «الفندال»، وهو نوع من البطاطس الحلوة.
رجل يعيش في المنزل بمفرده فلا بد ان يفش خلقه بالأكل وبهذا العود الآلة الموسيقية التي وصفها الحاتمفي زيارته التاريخية الى بيت يوسف البكر.
وأخيرا فهذا جزء من حياة فنان وموسيقي في تاريخ الكويت حفظها لنا أحمد البشر وعبدالله الحاتم واقول رحمهم الله مع البكر رحمة واسعة.
عبدالله الحاتم
عبدالله الحاتم في شبابة