تاريخ ما أهمله التاريخ
(( محمد بن علي بن موسى العصفور ))
(مجلة مرآة الأمة – العدد الأول – السنة الأولى 19 مايو 1971م)
تجارة اللؤلؤ تجارة عريقة في الكويت وبلدان الخليج العربي وعمان. ولها ذكرها في كتب التاريخ والآداب ولا سيما عند الحديث عن لؤلؤ البحرين. وكان الغوص على اللؤلؤ عماد الحياة في الكويت وبلدان الخليج العربي. له موسمه الخاص، وله عاداته وتقاليده. ولست بصدد الحديث عن الغوص على اللؤلؤ فهذا حديث طويل ومتشعب.
وإن شاء الله سوف أتحدث في المستقبل عن البطولات والتضحيات التي رجالها من أهل الكويت ومن الخليج العربي أسطرها كي يقرؤها الجيل الجديد من أبناء الكويت الأصائل، حتى يلموا بطرف من ماضي الكويت المجيد. ويعرفوا كفاح آبائهم وأجدادهم في سبيل الحصول على لقمة العيش في ذلك الوقت العصيب، وفي سبيل خدمة الكويت.
حديثي الآن عن شخصية كويتية كبيرة. لها اسمها ولها سمعتها الطيبة في الكويت. بيد أن عدم ذكرها وعدم الكتابة عنها يخشى عليها من الضياع. حيث لم يكتب أحد عن هذه الشخصية الكبيرة. وقد تحدثت في برنامج (صفحات من تاريخ الكويت) الذي كنت أقدمه من تلفزيون الكويت من عام 1966-1968 م تحدثت عنها حديثا عابرا. والآن أكتب هذا المقال للحديث عن هذه الشخصية الكبيرة، علني أستطيع أن ألقي الأضواء عليها لتعريف الكويتيين بها.
الواجب يحتم على الحكومة أن تطلق اسم هذه الشخصية على شارع كبير تخليدا لها. وتلكم الشخصية الكبيرة:-
محمد بن علي بن موسى العصفور رجل من رجالات الكويت وأكبر تاجر لؤلؤ ظهر في الكويت بعد الشيخ أحمد بن رزق المتوفى عام 1224 هـ هو أول تاجر كويتي يسافر إلى الهند ليبيع اللؤلؤ هناك في مدينة بومباي مركز تجارة الؤلؤ في ذلك الوقت.
بلغت ثروة محمد بن عصفور نحو أربعمائة ألف روبية (أربعة الكوك) وهو مبلغ كبير جدا جدا في ذلك الحين أي في آخر القرن التاسع عشر للميلاد. فإذا علمت أيها القارئ الكريم أن حاكم الكويت الشيخ محمد الصباح في زمانه تحسنت الحالة المالية كثيرا بواسطة أخيه الشيخ جراح الذي يشاركه في الحكم أقول أن أكبر مبلغ من المال تجمع لديهما هو (75) ألف روبية وهو مبلغ كبير أيضا. وضعا هذا المبلغ أمانة لدي بيت آل إبراهيم في بومباي.
فشخص يملك مثل هذه الثروة الكبيرة في ذلك الزمن كيف يكون حاله. وكيف كان الجميع ينظرون إليه هذا ما سأتطرق إليه في حديثي.
مع الأسف الشديد أنني لا أعرف السنة التي ولد فيها محمد بن عصفور. وكذلك لا أعرف تاريخ وفاته، حيث لم يكتب عنه قط اللهم سوى الشيخ يوسف بن عيسى القناعي ذكر اسمه فقط في أنه أكبر تاجر لؤلؤ عند حديثه عن تجارة اللؤلؤ في كتابه (صفحات من تاريخ الكويت) صفحة 61 حيث يقول: (وبعد الشيخ أحمد بن رزق اشتهر بتجارة اللؤلؤ محمد بن علي بن موسى بن عصفور).
المعلومات التي سأوردها في مقالي عن ابن عصفور مصادرها شفوية. من رجال يوثق بهم يعرفون الشيء الكثير عن أخباره. وهي مصدري الوحيد. والذي علمت من هؤلاء الرجال أن ابن عصفور توفي في حكم الشيخ مبارك حوالي عام 1322 هـ 1905 م. ولا أعرف كم كان عمره إنما يقولون نحو ثمانين سنة أو أكثر قليلا.
كان لمحمد بن عصفور ديوان كبير على ساحل البحر يجلس فيه. ويمتلئ ذلك الديوان بالناس كبيرهم وصغيرهم. الديوان الذي كان يجلس فيه أصبح دار الإعتماد البريطاني حيث في عام 1904 وضعت بريطانيا أول معتمد سياسي لها في الكويت وهو الكولونيل (نوكس) فأسكنه الشيخ مبارك في ديوان ابن عصفور بعدما أفلس ابن عصفور ثم ضم إلى الديوان بيتا آخر مجاورا له يقع في الجهة الشرقية مقابل بيوت العسعوسي وأدخله على دار الإعتماد البريطاني أي أن الشيخ مبارك استولى على هذين البيتين ديوان ابن عصفور وبيت أسرة الزيد وهما الآن بيت ديكسون تقيم فيه زوجته قرب وزارة الصحة.
ظل محمد بن عصفور في تجارته هذه وكل سنة تزداد أرباحه إلى أن بلغت ثروته ذلك المبلغ الكبير. وكان هناك تاجر لؤلؤ آخر وشخصية كويتية كبيرة لعبت دورا كبيرا على مسرح تاريخ الكويت، هو الشيخ يوسف بن عبدالله آل إبراهيم وهو أشهر من أن يعرف فهو الذي ناوأ الشيخ مبارك الصباح ولم يرتاح بال الشيخ مبارك إلا بعد وفاة الشيخ يوسف. وكان للشيخ يوسف نفوذ وسطوة في زمن الشيخ محمد الصباح شقيق الشيخ مبارك الكبير. وكان الشيخ يوسف ثريا وصاحب أملاك ونخيل..
حدث تنافس على تجارة اللؤلؤ بين الشيخ يوسف وبين محمد بن عصفور وبما أن الشيخ يوسف له نفوذه ومدعوم من قبل الحاكم فقد تغلب على ابن عصفور وكان هذا السبب الرئيسي في إفلاس ابن عصفور وذهاب ثروته.
كان ابن عصفور أيام ثروته معززا مكرما من قبل الحاكم والأعيان وكان مجلسه ديوانه يحفل بالحاكم والأعيان والتجار وأفراد الشعب. حتى أن الحاكم الشيخ محمد الصباح كان يسمي ابن عصفور (أخوي محمد) أي أخي وكان الحاكم وأخوه الشيخ جراح وغيرهما يودعان ابن عصفور عندما يريد السفر إلى الهند. وكانت البواخر لا تصل الكويت فكان المسافر يسافر في سفينة شراعية إلى المحمرة ومنها يركب الباخرة فحدث أن ابن عصفور في أحد أسفاره إلى الهند لبيع اللؤلؤ أن جاء صباحا لوداعه كالعادة الحاكم الشيخ محمد والشيخ جراح والتجار والأعيان وبعدما أبحرت السفينة عاد ابن عصفور إلى الكويت لحاجة نسيها وسافر بعد صلاة العصر فجاء الشيخ محمد والشيخ جراح لوداعه ثانية فخاضا البحر إلى السفينة الجالبوت.
بعدما أفلس ابن عصفور وذهبت ثروته تركه الجميع الكبار والصغار وأصبح ديوانه خاليا بعد أن كان مملوءا بالزوار وعلى رأسهم الحاكم. بيد أن ابن عصفور صبر صبر الكرام وكان يقول إذا أعرض عني التجار والأعيان ولم يزرني واحد منهم فأنني أعذر هؤلاء لأنهم يخشون أن أطلب منهم أن يساعدوني أو يقرضوني ولكن هؤلاء الفقراء الذين كانوا دائما في ديواني لماذا تركوني الديوان مفتوح والقهوة موجودة. لماذا تركوني ؟ فعلا سؤال محير ...
في نهاية حديثي هذا الموجز أحب أن أورد هذه القصة عن ابن عصفور والتي تدل على قوة عزمه وصبره وتملكه بأعصابه في أبان الشدة والمحنة وإليكم القصة:
في أحد أسفاره إلى الهند على ظهر الباخرة وكلن جالسا في غرفته الخاصة بالباخرة الدرجة الأولى ينظر في لآلئه الكبيرة ولقد وضعها على البساط في خرقة خاصة بها في تلك اللحظة عنت له الحاجة فقام لقضائها وكان قد نسي اللآليء الكبيرة على البساط فقال لخادمه الخاص مملوكه نظف الغرفة فما كان من الخادم إلا أن لف البساط وما به من لآليء ونفضها في البحر فسقطت اللآلىء ولما عاد ابن عصفور إلى غرفته لم يجد اللآليء فسأل الخادم عنها فقال إنه نفض البساط فسقطت في البحر. عندئذ سكت ابن عصفور وكظم غيظه وقال للخادم إياك أن تخبر أحدا أو تتحدث بأنك عملت هذا العمل.
وصل ابن عصفور إلى بومباي. وقابل كبار تجار اللؤلؤ وسبر غور السوق فأخذ يشتري اللؤلؤ على حساب بيع لآلئه ومن ثم يدفع الثمن ولم يخبر أحدا عن قصة إلقاء الخادم بلآلئه الكبيرة في البحر لأنه لو علموا بذلك لم يبعه أحد ولهذا السبب هو حذر خادمه من أن يخبر أحدا.
الخلاصة أنه بعد ذلك باع اللآليء التي اشتراها مع اللآليء الباقية لديه بربح وفير. ويقولون أن قبل سفره إلى الكويت أخبر أصحابه التجار بما حدث فاستغربوا لذلك أشد الاستغراب. والحقيقة إنها قصة عجيبة وغربية في بابها.
أرجوا أن أكون قد أعطيت القارئ الكريم صورة عن حياة ابن عصفور تاجر اللؤلؤ الكبير. وإن شاء الله في العدد القادم سأتحدث حديثا تاريخيا عن البحر وحياة البحر.
أخذت عنوان مقالي هذا (تاريخ ما أهمله التاريخ) من سلسلة المقالات التاريخية القيمة التي كان ينشرها المرحوم حبيب جاهاتي على صفحات مجلة (المصور).