_الرفاعي.. )
سيرة «مجهولة» لأول صحافي كويتي
____________
وصفه الريحاني بأديب الأدباء وعبدالعزيز الرشيد بالكاتب القدير وخالد سعود الزيد بالكاتب البحّاثة وعبدالله الحاتم بالكاتب الكبير سيرة «مجهولة» لأول صحافي كويتي
بقلم: يعقوب يوسف الإبراهيم
انه من المحزن ان يغيب عن ذاكرتنا رجال نحن عنهم لاهون رغم ما قدموه من اعمال جلى تذكر وتشكر.
بينما في الوقت نفسه تطرز صحفنا وصحائفنا عمّن هم اقصر قامة واخفض هامة، و«لكن طبع النفس للنفس قائد».
تحضرني مناسبة وقبل ان اعد هذا البحث (عن واحد ممن ذكرت). فقد وقع نظري على كتاب «في اصول الحركة القومية العربية» 1839 - 1920 من تأليف الدكتور الهادي التيمومي استاذ العلوم الانسانية والاجتماعية بجامعة تونس.
وفي الفصل الثاني تحديدا وتحت عنوان «ارهاصات الوعي القومي العربي» (1839 - 1908)، جاء فيه اسهامات لبيوتات مال وتجارة من مختلف الاقطار العربية، ومنهم عائلة في الكويت - سوف لن اذكر اسمها لان شهادتي فيها مجروحة -.
اتصلت بالمؤلف مستفسرا عن مصادره في ما ذكر عن تلك العائلة. وكان املي ان يذكر اسم مركز بحوث او احد المهتمين في شؤون التاريخ والتراث من الكويتيين، وما اكثرهم واكثر ادعاءهم.
فكان جوابه خيبة امل عارمة حينما ذكر ان مصدره كتاب للمستشرق الروسي كوتلوف «تكون حركة التحرر الوطني في المشرق العربي» منتصف القرن التاسع عشر - 1908.
والذي اعتمد فيه على الارشيف القيصري الروسي واضاف انه لاقى نقدا ولوما لاذعاً من قراء كتابه من المهتمين بالتاريخ. اتهموه بالجهل، والا فكيف يكون هناك ذكر لعائلة كويتية ساهمت مساهمة مشهودا لها في منتصف القرن التاسع عشر وقبل مائة وخمسين سنة. فالكويت في نظرهم هي كويت النفط، وما قبل ذلك فهي مجرد ميناء صغير مغمور على الطريق الى الهند، ولكي اسنده في موقعه قمت بإرسال مؤلفي «من الشراع الى البخار» قصة اول شركة ملاحة عربية. فكان له خير رديف في رده. وهو ما اخبرني به لاحقا وقد وضعه في برنامج طلبته في ما يختص بالموضوع.
ارجو ألا يفهم مما ذكرت أنه فورة غضب. فأقولها: حاشا ولكن ما يجول بالخاطر هو عجب وعتب.
فإذا كان همنا الوحيد هو اعلاء اسم الكويت كما اجمله سمو امير البلاد بمقولته «كلنا زائلون وتبقى الكويت».
فلمصلحة من يجري هذا التغييب لها. وهل ما يحدث هو حسن نية ام هو سوء طوية، فمهما تكن الحال فان الخاسر الوحيد هو الكويت «ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا».
«سيد دانة» اسم لازمه طوال حياته
يمكننا أن نقول إن عام 1885 او ما يقاربه هو تاريخ ميلاد السيد هاشم بن احمد بن هاشم الرفاعي. ولد في حي القبلة بالكويت إبان حكم الشيخ عبدالله بن صباح بن جابر حاكم الكويت الخامس (1866 - 1892).
ابوه السيد احمد من كبار السادة الرفاعية في الكويت ومن اعيانها الذين ينتمي نسبهم الى الحسين بن علي بن ابي طالب (رضي الله عنهم).
والدته من آل عبدالرزاق من اعيان الكويت الذين أصلهم من بني ثور من سبيع القبيلة العربية المعروفة، ويمت اصلهم الى الرباب من يتيم، سكن اجدادهم بلدة العطار في السدير بنجد. يقول عثمان بن سند في كتابه «سبائك العسجد في أخبار احمد نجل رزق الأسعد»، ان ابراهيم العبدالرزاق كان صديقا لأحمد بن محمد بن حسين بن رزق منذ طفولتهما سكنا الزبارة (بقطر) وغادراها الى البصرة عام 1212هـ-1797م. وله من الابناء عبدالوهاب وسالم فأصابوا ثروة وشهرة ومجدا.
ويذكر كتاب «النصرة في أخبار البصرة» للقاضي احمد نور الانصاري. اصاب البصرة وتخومها «داء الطاعون» قضى على الكثير من اهلها، كان ذلك عام 1236هـ/1820م. اعقبها فتنة عند تولي «عزيز آغا» متسلمية البصرة بعد عام واحد من «مصيبة الداء» تحديدا 1237هـ-1821م. فكانت معالم حكمه الدموي اذ صب جام غضبه على تجار عرب فقتل ياسر السميط واستولى على ثروته، وانتزع من سليمان وعبدالله الفداغ ثروة تقدر بلكين قرش شامي (اللك يعادل مائة الف). كما وضع غرامة كبيرة على سالم بن ابراهيم العبدالرزاق ومثلها على خالد بن احمد بن رزق فهرب الجميع وخبا نورهم في البصرة فحطوا رحالهم ارض الكويت في بداية حكم الشيخ جابر بن عبدالله بن صباح الحاكم الثالث 1813-1859.
ويختتم كتاب «عنوان المجد في بيان احوال بغداد والبصرة ونجد» لإبراهيم فصيح بن صبغة الله الحيدري «بيت عبدالرزاق وهو بيت مجد وعز وتجارة وقد انطفأت نارهم في البصرة وبقي منهم الكامل النجيب محمد بن عبداللطيف في الهند وبعض الاخيار في الكويت».
كان هاشم عقب ابيه الوحيد الذي ظلله بحنوه وحمايته فالتصق به منذ نعومة اظافره حيث يصطحبه في الزيارات الى دواوين اعيان الكويت وعمره خمس سنوات وكان متشبثا بعباءة أبيه محتميا بها.
يتذكر الصبي انه كان يزور تلك الدواوين ومنها ديوان الامام عبدالرحمن الفيصل السعود الذي لجأ الى الكويت في عام 1891.
كما يتذكر زيارة الامام عبدالرحمن لديوانهم بصحبة ابنه عبدالعزيز وهو صبي يكبره ببعض الاعوام.
كان العيش رغيدا والبيت كبيرا.. خدم وحشم والديوان يستقبل الزوار من اعيان ووجهاء وولائم عامرة للضيوف، والسيد احمد غير حريص على المال ولا حباب له. فهو يتقاضى مرتبا شهريا يبلغ 24 ليرة عثمانية من واردات الاوقاف واملاك السنية ونقباء اشراف البصرة.
مدارس البصرة والعلاقة مع الأستانة
والسيد احمد كذلك من رجال الدين والعلم والمعرفة.. متدين غير متزمت تفتحت عيناه على فسيفساء آدمية مختلفة وهو في حله وترحاله يلتقي بأمراء وشيوخ وتجار ورجال دين اثرت على الصبي فأصبح يعيش في عالم الكبار منذ طفولته. ودخل «الكتاب» ليتعلم قراءة القرآن وحفظه مع مبادئ من الكتابة والحساب. وفي الكويت كان «المطوع» عملا توارثته اسر كويتية جيلا بعد جيل. تلك «الكتاتيب» التي يعلم بعضها الحساب لاستجابة متطلبات واحتياجات تلك الفترة الذي كان عماد الاقتصاد فيها «السفر» و«الغوص» في احد هذه «الكتاتيب» انتظم هاشم وكان من زملائه ابناء الامام عبدالرحمن الفيصل. ختم القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة. لم يكتف والده بذلك فقرر ارساله الى البصرة، ولم تكن المدارس الحديثة معروفة في ذلك التاريخ ولم تعرفها الكويت الا بعد افتتاح المدرسة المباركية عام 1911.
في البصرة العثمانية كان لآل الرفاعي علاقة وقرابة، كما كان لهم حضور وحظوة في بغداد والاستانة التي كان السيد احمد يزورها بين فترات لزيارة الباب العالي لأن مرجع سادات الرفاعية السيد محمد ابو الهدى الصيادي الرفاعي نقيب اشراف حلب كان يقيم هناك وهو اقرب المقربين الى السلطان عبدالحميد خان.
كانت النظم التعليمية الحديثة في العراق العثماني قد دخلت ابان ولاية مدحت باشا (1869-1872) والذي بز أسلافه الولاة في ميدان الثقافة والتعليم حيث لم يعتن الولاة قبله بإدخالها وعلى يده تأسست اربع مراحل في المدارس:
1- المدرسة الرشدية المدنية في البصرة والموصل.
2- المدرسة الرشدية العسكرية في البصرة والموصل.
3- المدرسة الاعدادية العسكرية في بغداد فقط.
4- مدرسة الفنون والصنائع في بغداد فقط.
كانت اللغة التركية هي لغة الدراسة في تلك المدارس التي كانت تدرس العلوم والمعارف العامة وتعنى بالمواد الاجتماعية والرياضة اما اللغة العربية فكانت تدرس بالتركية.
المدارس هذه مجانية هدفها تخريج اجيال ولاؤها المطلق لتركيا ويجبر التلاميذ الصغار فيها على التحدث بالتركية ويعاقب من يتكلم العربية. ويفرض على الطلبة كلما حان وقت الانصراف الهتاف ثلاثا بحياة السلطان «باد شاهم جوق يشا» كل ذلك يدور في محور بداية سياسة التتريك، في الوقت نفسه كان العراق يحكم بالدين والسوط، بينما يتطلع ابناؤه الى الحرية او ما اسموها «المشروطية».
انهى الصبي هاشم الدراسة في المكتب الرشدي في البصرة «كما كان يطلق على المدرسة» عام 1908، ولم تكن الدراسة عليه طوال تلك المدة تشكل عبئاً ثقيلاً، فأراد اكمال دراسته في المدرسة الاعدادية في بغداد وهي وتضم قسما داخليا لسكن الطلاب مجاناً. وقد شجع والده صديق له من كبار علماء بغداد الشيخ ابراهيم الراوي الذي تعهد برعايته مدة الدراسة وان يقوم مقام ابيه.
استقر هاشم في بغداد وكان يصحبه والده في طريقه الى اسطنبول وتلك سفرته الثالثة لها.
«سادة الكَرية»
اصيب هاشم بعد مدة قصيرة من استقراره بحمى شديدة، لم يفلح الاطباء في علاجها، فأشاروا على السيد احمد بأن هواء بغداد لا يلائم صحة الشاب، وقد لا يرجى له شفاء فيها، وربما احتاج الى رعاية امه واهله. فرجع الى الكويت وواصل السيد احمد سفره الى تركيا، حيث كان له فيها امال كبار. وفي طريق عودته الى الكويت مرورا ببغداد داهمته المنية فيها عام 1909، وهو في مسجد السيد سلطان علي في محلة «راس القرية» وتنطق «الكَرية» والسيد علي هو الملقب بـ «سلطان الاولياء» هاجر من البصرة في القرن الخامس الهجري وتزوج اخت الباز الاشهب الشيخ منصور بن يحيى النجادي الانصاري التي انجبت السيد احمد الرفاعي الجد الاكبر لكل الرفاعية في العالم الاسلامي، وصاحب الطريقة الرفاعية المعروفة. دفن السيد سلطان علي في بغداد في راس الكرية، كما اسلفنا لذلك يطلق على آل رفاعي «سادة الكرية». اما السيد احمد الرفاعي فمرقده في وسط العراق في قضاء الرفاعي «محافظة الكوت».
وصل نبأ وفاة السيد احمد الى ولده هاشم برسالة من الشيخ ابراهيم الراوي، كانت خسارة الشاب هاشم بوالده كبيرة، وهو الذي كان يعيش في ظله وتحت كنفه، اصبح فجأة مكلفا ومسؤولا عن اعاشة عائلة اعتادت عيشة الرخاء واليسر ولم يترك الوالد ثروة يمكن الاعتماد عليها، كما لم يكن قد تعاطى التجارة والاعمال.
وفوق هذا وذاك هو مقبل على زواج وهو في عقده الثاني. ولم تكن من اهتمامات الوالد ترك ما يسند ابنه الوحيد ليعيش عيشة المترفين وكل ما تركه بلغ 169 ليرة «مائة وتسعة وستون» ليرة عثمانية.
الشراكة مع الشقيق
بعد تدارسه الأمر، قرر الاشتراك مع اخ غير شقيق من امه، اكبر منه سنا واتفق ان تسكن العائلتان في بيت واحد توفيرا للمصاريف. وكما كان متعارفا عليه ان تكون الكلمة للاخ الاكبر. يقول السيد هاشم في ذلك: «اتفقنا على ان اكون طوع اشارته، فلا اعصي له امرا، وقد كنت في هذه الشراكة مسيرا غير مخير. وكان الاخ، رحمه الله، لا يستبين طريقا يبصر فيه امل الحصول على المال مهما كانت الصعاب التي تعترض قطعها، الا وانتدبني لتذليل اهواءها».
فذهب متاجرا بحمولة من تمور البصرة الى ساحل اليمن بسفينة شراعية باعها هناك، ثم طلب منه اخوة السفر الى بومبي للعمل عند اخواله من آل عبدالرزاق، فقصدها بسفينة ايطالية قبيل الحرب العالمية الاولى، هناك عاوده المرض بعد اقامة سنة وبضعة اشهر. فقرر الرجوع الى الكويت بعد موافقة اخيه طبعا.
لقد اصابا في شراكتهما ربحا لا بأس به، فمالت نفسه الى الزواج ولم يدر انه بولوجه في هذا المشوار قد ضاعف عبء المسؤولية، لكنه في الوقت نفسه شعر بنوع من الاستقلالية والاعتماد على النفس، واصبح لا يرضى ان تكون مصائر قراراته بيد اخيه الكبير.
ولكن حصل ما كان يخشاه حينما علم من احد الاصدقاء الذي جاءه مهنئاً على صفقة خيل اشتراها اخوه من الشيخ مبارك الصباح من دون علم منه. ولما واجهه معاتبا اجابه الاخ بالايجاب، ولو انه لم يستشر بذلك مما اثار حفيظته، فاختلفا وانحلت الشراكة. فكان نصيبه كما يقول: «صفى الاخ حساباتنا على كيفه وناولني الف وثلاثمائة واثنين وخمسين روبية هي كل حصتي كما زعم وادعى، فقبضتها دون مناقشة الحساب». كان في ذلك الوقت مسؤولا عن عائلة يبلغ افرادها خمسة والخادمة.
ففكر ان يغامر بعمل ما، فاختار ان يجرب حظه في «الغوص»، حيث يكدح اهل الكويت الصيف القائظ كله. فموسم الغوص يبدأ في مايو ويسمى «الغوص الكبير» ومدته اربعة اشهر، وينتهي في سبتمبر، ونهاية الغوص تسمى «القفال» وهي عيد في الكويت وبين «القفال» و«الدشة» بداية الغوص ستة أشهر.
ولكن ما يملكه من مال لم يكن كافيا لشراء سفينة وتجهيزها بالبحارة واحتياجاتهم فحاول ان يستدين فطرق ابواب التجار فلم يجد منهم من يلبي رجاءه.
سيد دانة
هنا يتجلى نبل المرأة الكويتية وايثارها. فما ان علمت زوجته بحيرته حتى سلمته كل مصاغاتها الذهبية (الخشل) لكنه رفض ذلك فأصرت باكية متوسلة اليه ان يأخذها. يقول: «اخذت حلي امرأة في مقتبل العمر لم يمض على زواجي منها أكثر من شهرين. أخذته وأنا اشعر بألم دونه. ورهنته عند احد التجار بألف روبية دون ان يعلم احد بذلك حتى الوالدة. اشتريت سفينة وتعاقدت مع بعض البحارة واقرضتهم حسب نظام الغوص السائد، فنفدت الدراهم كلها دون ان احصل على العدد الكافي من البحارة».
وكان له جار هو يوسف المنيس عندما سمع بحاجته أقرضه الف روبية اتمم بها نواقص الرحلة من رجال وزاد. ثم سافر على بركة الله ليجرب حظه في مغاصات اللؤلـؤ وهيراته. بعد شهرين من الكدح باع ما تجمع عنده من لؤلؤ بمبلغ خمسة آلاف روبية. وعاد يجوب مغاصات القطيف، وقبيل نهاية موسم الغوص بأيام معدودة عثر على لؤلؤة فريدة (دانة) بلغت من الرونق والبهاء والجودة ما بلغت. على اثرها التصق الاسم به واطلق عليه لقب «سيد دانة» ذلك الاسم الذي لازمه كل حياته. عرج على «دارين» في الاحساء وهي من المدن التي يقصدها تجار اللؤلؤ للبيع والشراء. فصادف وجوده تاجر اللؤلؤ المعروف هلال المطيري فأعجب بها، واشتراها بمبلغ خمسين الف روبية، وكان ذلك المبلغ رقما خياليا. ويقال ان هلال المطيري باعها في بومبي بمبلغ مائة الف روبية كان ذلك عام 1911.
الحرب العالمية
اندلعت الحرب العالمية الاولى في الخليج بعد الانزال البريطاني في الفاو 6 نوفمبر 1914 ثم سقوط البصرة في 23 نوفمبر واستمرت الحرب الى نهاية عام 1918 من جراء ذلك تدهورت اسعار اللؤلؤ وتجارته فحل كساد جثم على اقتصاد الخليج المعتمد اصلا على تجارة اللؤلؤ. كذلك كانت اسقاطات سياسية ادت الى تغيير انظمة وظهور انظمة سياسية اخرى نتجت عن مخاض سياسي وحصار اقتصادي وحروب استغرقت فترة حكم الشيخ سالم المبارك الحاكم التاسع.
مبدأ الشورى عند الحكام
كان الشيخ احمد الجابر مبعوثا من قبل عمه ليتباحث مع سلطان نجد انذاك (الملك عبدالعزيز السعود) بالصلح وفك الحصار عن الكويت التي عاشت زمنا عصيبا نتيجة عدم تشاور الحاكم مع أهل الحل والعقد في الكويت كما كان متعارفا عليه في السابق الى ان أبطله الشيخ مبارك حيث دخلت البلاد في دوامة نتج عنها معارك الصريف وهدية ثم تبعها مجابهة الاخوان في الجهرة وحمض، ومجتمع الكويت تجاري سالم لا يتحمل سنوات المجابهة والمعاناة.
فبدأت حركة لتصحيح تلك الأوضاع بعد وفاة الشيخ سالم عام 1921 وعند وصول الحاكم الجديد انذاك الشيخ احمد الجابر والذي علم بما يدور ولم يعارض بل اجتمع بوفد من أعيان الكويت واتفق الجميع على مبدأ الشورى كما اتفق على تعيين مجلس من كبار التجار وبدون انتخاب. وتمت جلسات لم تثمر نتائجها كان ذلك في ابريل 1921 كثرت خلافات اعضاء المجلس فأدت الى ردود فعل سلبية اثرت على المتحمسين لتحسين الأوضاع. وكان أكثر المتحمسين هو السيد هاشم الذي ارسل منشورا الى المعتمد البريطاني وقعه باسم مستعار هو «الامة» جملته: «انا نبرأ الى الله من هذا المجلس الذي جمع اعضاء لم يعرفوا التمرة من الجمرة ولم ينتخبوا من قبل الامة». قدم المعتمد المنشور الى الشيخ احمد الجابر الذي قدمه بدوره الى المجلس فثارت ثائرة اعضائه ليتجه سماعهم الى هذا النقد اللاذع وأخذوا يبحثون عن هوية كاتبه فثارت الشبهات حول عبدالعزيز الرشيد. ولم يقع على الحقيقة الا الشيخ يوسف بن عيسى القناعي إذ عرف ان الخط الذي كتب فيه المنشور يعود الى السيد هاشم الرفاعي، ولكنه برأ ساحة الرشيد ولم يفصح عن الرفاعي، لأنه كان يعتقد ان ما ذكره الرفاعي هو واقع الحال وليس من العدل تجريم من قال الحقيقة ولا يقام الحد على من تكلم صادقاً. وقد اقتنع الشيخ احمد الجابر بهذه المقولة فلزم الصمت. وعلى الرغم من مواصلة الجلسات الا ان الفتور اصابها، فانفل المجلس خلال ثلاثة اشهر ولم يحل، لقد كانت حياة المجلس التأسيسي الأول من ابريل الى يونيو 1921.
رصاصة الرحمة
ولد المجلس ضعيفاً بائساً لم يتفق اعضاؤه على شيء ولم يقوموا بعمل شيء، فجاءت رسالة السيد هاشم الرفاعي بمنشوره «رصاصة رحمة» ودخل البلد في ازمة اخرى.
يقول عبدالعزيز حسين في كتابه «محاضرات عن المجتمع العربي بالكويت»: «انتهت المحاولة بالفشل لأنها محاولة مغلوطة من أساسها، فهي لم تكن نابعة من التقاليد والشعور التلقائي بالحاجة الى التشاور في شؤون البلاد كما كان الأمر من قبل، كما انها لم تكن منظمة على أساس من الانتخابات بحيث يصل الى المجلس من يصلحون له، ثم ان المحاولة لم تأخذ بعين الاعتبار الشوط الذي سارته الكويت في التقدم بالنسبة لعهد ما قبل الشيخ مبارك. وكان أساس الاختيار هو الوجاهة والثروة بغض النظر عن الكفاءة والمقدرة. وهم يثورون من اجل كتاب موقع من مجهول غير محاولين معرفة أسباب نقمة الكاتب وعلاج تلك الأسباب، وهم بعد كل ذلك يختلفون ويتخلون عن عضوية المجلس بمحض ارادتهم ورغبتهم».
ربما كان ذلك اول تعامل للسيد هاشم مع الحرف وهو دليل تمتعه بموهبة متوهجة جاهزة للتفعيل يمكنها ان تفيض وتتألق من خلال نداء تداعيات وجدانية يستجيب فيها لحسه وشعوره الذاتي ليبدع إبداع المقل.
انتحى بنفسه فعكف على تثقيفها ثقافة ذاتية منكباً على القراءة ومجالسة المهتمين بالعلوم والدين والادب، ونهل ما يمكنه من تجارب اهل الخبرة، فمخالطة العلماء تلقيح للعقول.
والناس ثلاث طبقات ـ كما يقول بعض الحكماء ـ تسوسهم ثلاث سياسات طبقة خاصة الاحرار تسوسهم بالعطف واللين والاحسان، وطبقة من خامة الاشرار تسوسهم بالغلظة والعنف والشدة، وطبقة من العامة تسوسهم باللين والشدة لئلا تخرجهم الشدة ولا يبطرهم اللين.
والمترجم ينتمي الى الطبقة الأولى.
كان الملك عبدالعزيز ملماً بما حصل في الكويت، وكان يعرف ما يدور في بلاد نجد ويراقب مجرى الأحداث فيها. وهو الذي يريد ان يرسي بداية لدولة حديثة ويحتاج الى كفاءات متعلمة مخلصة غير متوافرة في البلاد النجدية لتتولى ادارة شؤون الدولة الوليدة.
العلاقة مع الملك عبدالعزيز
قبل نهاية عام 1921 كتب الى وكيله في الكويت عبدالله بن حمد النفيسي الاتصال بالسيد هاشم لمقابلته في الاحساء، فتم ذلك في العقير وعرض عليه الانضمام الى ديوانه ليكون أحد الكتبة الخاصين به. وعهد الى الدكتور عبدالله الدملوجي مستشاره ان يتفق واياه على الراتب والامتياز. فكان طلب السيد هاشم راتبا سنويا قدره الفان وخمسمائة روبية، وحينما علم الملك عبدالعزيز بذلك ضاعف المبلغ وجعله خمسة آلاف روبية سنوياً.
باشر العمل بهمة ونشاط لمدة سنة وبعدها انتدب لما عهد فيه من ذكاء بتمثيل الحكومة بالمباحثة والتفاوض على امتياز النفط ومفاوضه الميجر هولمز الذي كان يطمع بامتياز التنقيب على النفط، واستمرت المفاوضات الى عام 1923 كان خلالها يسافر الى البصرة لترجمة الاتفاق ودرسه ومناقشة مواده مع عبداللطيف باشا المنديل وكيل الملك عبدالعزيز في البصرة. وفي احدى هذه السفرات في خريف عام 1922 التقى أمين الريحاني الذي كان يتشوق للقاء الملك عبدالعزيز. لندع الريحاني يقص علينا في كتابة ملوك العرب الجزء الثاني ص20: «زارني في اليوم التالي اديب من الأدباء شاءت الأقدار ان يكون بعدئذ رفيقي في السفر وعشيري في الرياض. فعرفت فيه العربي الحر ابن القفار والبحار الذي يسرك ويسيء اليك عفواً دون تكلف في الأمرين وسيجتمع القارئ من حين الى حين بالسيد هاشم بن احمد الرفاعي من الكويت، وفي ذلك يقول «انه قد جاء البصرة في مهمة رسمية فزارني يوم كنت والحق في حاجة شديدة الى زيارة مثله حيث حدثني السيد هاشم فأزال ما كان يخامرني من الخوف في السفر الى نجد».
لقد جاء ذكر السيد هاشم في كتاب الريحاني عشرين مرة تتخلل بعضها مواقف الجد والهزل. وقد كان له خير العون في أشد الحالات لجهله عادات وكلام أهل نجد والتي ربما كانت تسبب له مشاكل كثيرة عند لقاء الريحاني بالملك عبدالعزيز وبالتالي نجاح ما كتبه في وقت كان الملك بأمس الحاجة الى من يكتب عنه بالتفاصيل ليبرز ريادة دوره الذي كان مجهولا تقريباً خارج نجد.
فاقرأ عزيزي القارئ ما قاله الريحاني على صفحة 58: «كانت تغيظني هذه الكلمة «انا اعلمك» حتى سمعتها من البدو وبعض الخدم فقلت لصديقي السيد هاشم لقد طفح الكيل أيعلمني حتى الخدم والبدو في بلادكم.. فأجابني السيد: إليك ذلك فابن نجد يعلمك وهو لا يريد بذلك غير الخير.. أعلمك هو اصطلاحهم في اخبرك، أوما سمعتهم يقولون: هات علومك أي اخبارك؟ فلا يثقل التعليم على طبعك يا أستاذ!».
مؤتمر العقير 1922
ساهم السيد هاشم في مفاوضات مؤتمر العقير في نهاية عام 1922.
ويعتبر مؤتمر العقير من اهم المؤتمرات التي رسمت الحدود بين المملكة العربية السعودية والكويت والعراق. ابتدأ المؤتمر يوم 25 نوفمبر حينما وصل الملك عبدالعزيز واخوه محمد وابن عمه سعود العرافة وفيصل الرشيد وعبدالله المتعب الرشيد وعبداللطيف باشا المنديل ود.عبدالله الدملوجي. وفي يوم 27 نوفمبر وصل السير برسي كوكس المندوب السامي في العراق والميجور مور ممثلا عن الكويت وكان المعتمد السياسي فيها وصبيح نشأت وفهد الهذال وعبدالله المسفر ممثلين عن العراق. عقدت اول جلسة يوم 28 نوفمبر واستمرت الجلسات لغاية 2 ديسمبر 1922.
كما ساهم السيد هاشم في مؤتمر الكويت نوفمبر 1923 وكان ضمن الوفد النجدي الذي انتدب وهم حمزة غوت (سوري) حافظ وهبه (مصري) د.عبدالله الدملوجي (عراقي) والسيد هاشم الرفاعي (كويتي) وكان النجدي الوحيد في الوفد النجدي هو عبدالعزيز القصيبي. عقد المؤتمر الذي شاركت فيه الكويت ونجد والعراق وشرق الاردن ولم يحضر وفد الحجاز وكانت الجولة الاولى يوم 17 نوفمبر 1923 وامتد على ثلاث مراحل استمرت حتى 21 يناير 1924، ولم يصل المؤتمرون الى اتفاق ففشل المؤتمر.
خلال ذلك ومنذ نهاية 1922 عمل السيد هاشم في تنظيم جمارك الاحساء وكان في منهجه ان ينضم اليه بعض المثقفين من الكويتيين وقد قابل في الكويت بعضهم فانضم الى العمل في دائرته خالد محمد الفرج الشاعر المعروف الذي سافر الى الدمام وانتظم في العمل مع السيد هاشم وبعدها عمل في بلدية القطيف ثم في الاذاعة السعودية.
اما السيد هاشم فقد استمر في العمل لغاية 5 مايو 1925. كانت مهمة شاقة وصعبة، يقول عنها: «واخر هذه المهام واصعبها بالنسبة لي ما شاهدته فيها من اهوال، اهوال مهمة ادارة شؤون المال في الحسا والقطيف، وفي هذه المهمة ودعت الخدمة في الحكومة السعودية ودعتها لاني سئمت تحمل اهوالها الصعبة ومشقاتها الكبيرة المنبعثة من الكيد والدس». ويكمل: «كثر الاعداء وازداد الخصوم وزاد الطين بلة ان الامام حفظه الله اوسد الي فوق شؤون المالية مهام الاشراف على الادارة. وقررت تقديم استقالتي والاصرار مهما كلف الامر».
ابتدأ في تلك الفترة بكتابة مقالات تنشر في صحف العراق. ربما انطبقت حالته هذه على مقولة المفكر ملتن: «حيث توجد الحرية، فهناك الوطن».
المحنة والكتابة في صحافة العراق
لقد وجد السيد هاشم حريته في الكتابه وكانت تلك المهنة هي بداية المحنة التي عاشها الى اخر حياته.
يقول في كتابه «من ذكرياتي»
«ابتلاني الله منذ ان اعتزلت الخدمة في الحكومة السعودية بداء أزمن فاشتد فتكه وتأصل فتضاعف بلاؤه هذا البلاء الذي اعنيه انصرافي من كل عمل وصدودي عن كل مهنة عدا مهنة القلم».
ويزيد: «لو اردت ان احصي ما خطته هذه اليراعة التي تدون الان ما يمليه الخاطر في هذه المقدمة لكتاب «من مذكراتي» من مقالات ورسائل في الصحف العراقية لبلغ الالاف عدا».
لابد هنا ان نستعرض تاريخ الصحافة في العراق والبصرة خاصة وعلاقة الكويتيين بهما وان نسترجع تأثير مدحت باشا على الصحافة كما نعرفها وكان قبله وابان حكم داود باشا ان صدرت صحيفة اسماها «جورنال العراق» عام 1816 وكانت تعني باخبار الولاة وحركة العشائر والاوامر والتنظيمات الجديدة. اما جريدة الزوراء فقد صدرت عام 1869 عندما اصطحب مدحت باشا معه عددا من الفنيين في العمل الصحفي وادارة المطابع ولكن محاولة الاصلاحيين خابت بعد ان عطل دستور عام 1876 وهو الدستور العثماني الاول. في الوقت نفسه شرع بتأليف جمعيات مناوئة للاستبداد بينها جمعية الاتحاد والترقي وجمعية الحرية والائتلاف فساءت الامور واضطربت الاحوال.
وقد لوحظ تعدد الولاة حيث لا استقرار واضحا في نظام الحكم ويمكن قياس ذلك بتغيير اثني عشر واليا وحاكما تولوا ادارة شؤون ولاية البصرة مثلا خلال مدة خمس سنوات بين 1909 ـ 1913.
اعلن الدستور مرة ثانية عام 1908 اعقبه خلع السلطان عبدالحميد عام 1909. في البصرة انقطعت العلاقة مع الاتحاديين كما قطع السيد طالب النقيب علاقته بالائتلافيين واسس الجمعية الاصلاحية، وكان ذلك في اعقاب مؤتمر المحمرة الذي حضره الشيخ مبارك الصباح والشيخ خزعل حاكم عربستان والسيد طالب ممثلا لاهالي ولاية البصرة مع شخصيات محلية اخرى اتفقوا فيه على مضاعفة الجهد لتحقيق الاستقلال.
ان اقرب مدينة عربية مسافة الى الكويت هي البصرة. بالاضافة الى قرب روابط انسانية وصلات عائلية، وتملك اسر كويتية بساتين نخيل منذ بدايات القرن التاسع عشر، كل ذلك جعل التواصل مستمرا، والتواصل هذا لا يقتصر على التجارة، بل في مجالات اخرى ثقافية وفكرية، وكان العلماء ورجال الدين يتبادلون الزيارات وتنتقل معهم الكتب والجرائد والمجلات الصادرة فيها وفي بقية المدن العربية. ظهرت الحركة الصحفية بصدور جريدة رسمية اسمها «بصرة» عام 1889 وكانت تصدر بالتركية والعربية تشرف عليها السلطات العثمانية الى ان احتجبت في 22 نوفمبر 1914 بعد احتلال البصرة من قبل القوات البريطانية في بداية الحرب العالمية الاولى، تبعت جريدة البصرة جرائد اخرى هي «الايقاظ» و«التهذيب» و«اظهار الحق» و«مرقعة الهندي» و«البصرة الفيحاء» و«فيض» و«اتي» و«التاج» و«المنبر» و«الرشاد» و«الدستور» و«صدى الدستور» ومطبوعات اخرى.
مساهمة الكويتيين في صحافة البصرة
يمكننا القول ان هناك تشابها في عالم الصحافة بين ما تم في مصر والقاهرة بالذات حيث ساهم الصحافيون «الشوام» في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فنرى مثلا فيليب تقلا قد اسس «الاهرام» وفارس نمر مؤسس «المقطم» وجرجي واميل زيدان مؤسسي «دار الهلال» وبين ما حصل في البصرة وفي الفترة نفسها تقريبا وبعدها حيث ساهم الرعيل الاول من الصحافيين والادباء الكويتيين في صحافة البصرة، فقد اسس السيد عبدالوهاب الطبطبائي جريدة الدستور عام 1912 واعقبها بجريدة صدى الدستور حينما عطلت السلطات العثمانية امتياز الاولى عام 1914 بأمر مباشر من ناظر الداخلية طلعت بك لهجومها المستمر على تصرفات الحكومة العثمانية تجاه المواطنين في ولاية البصرة خاصة، وتجاوبا مع ما كان يحدث من تسلط واستبداد في كل الوطن العربي، واغلقت بعد احتلال البصرة من قبل القوات البريطانية.
واصدر السيد هاشم الرفاعي جريدة البصرة اليومية في فبراير 1934 واستمرت بالصدور الى تاريخ احتجابها في يوليو 1937.
كما ساهم جاسم حمد الصقر بتأسيس دار نشر وطباعة اصدرت جريدة الناس في فبراير 1947 الى تاريخ احتجابها عام 1957 حيث انتقلت الى بغداد.
كما كانت الاقلام الكويتية تساهم مساهمة صحفية فاعلة وغزيرة ومنهم السيد عبدالوهاب الطبطبائي والسيد هاشم احمد الرفاعي وعبدالعزيز الرشيد وخالد سليمان العدساني ومحمد البراك وعبدالله الجوعان ومحمد السيد يوسف الرفاعي واحمد السيد عمر وحمد موسى الفارس اضافة الى اقلام كويتية كانت تكتب باسماء مستعارة كالرافعي الصغير وابن الامة وغيرهما.
وعندما قرر السيد هاشم الرفاعي اصدار جريدته استبشرت الصحافة في البصرة بذلك فنشرت جريدة الرقيب في 24 فبراير 1934 «خبر يبشر»:
«سيصدر في البصرة قريبا جريدة البصرة للكاتب اللاذعي السيد هاشم افندي الرفاعي الكاتب النقاد المعروف، وسوف يحمل العدد الاول الى القراء المقالات الشيقة الانتقادية والاجتماعية وكلها بقلم الاستاذ الرفاعي وتصدر الجريدة باربع صفحات كبيرة فنرجو لها الرواج».
لقد مارس السيد هاشم الصحافة مهنة وهواية، بل اكثر من ذلك فهو يقول عنها: «اني اعشق الكتابة في الصحف ومازلت اعشقها الى درجة الهيام».
مارسها وقضى فيها شبابه فكلفته من المال الوفير ومن الجهد الكثير ولم ينته الامر عند ذلك فاختياره «مهنة المتاعب» جلبت له المشاكل والمصاعب.
فيكمل: «ان صفتي الخاسرة في سوق القلم لو اقتصرت على عدم الربح المادي وحسب لهان الامر، بيد ان بلاء يهون عنده كل بلاء ظل يلازمني في هذه المهنة ملازمة الظل فهو رفيقي حيث اتجهت وخويي اينما كنت واي بلاء اعظم واخطر واقسى من بلاء الصراحة. ابتليت بداء الصراحة كما ابتليت بداء الكتابة فتضاعفت نكبتي».
غضب المدير.. السبب السيجارة
وهو ما حدث حين تقدم بطلب امتياز جريدة يومية سياسية باسم «الصراحة» في البصرة قدمه الى مديرية المطبوعات، وصار يراجعها وكادت المعاملة تنتهي، حين دخل على مدير المطبوعات في احد الايام وكانت بيده سيجارة قد نسيها فهاج المدير وماج فطلب منه الخروج ولم يقبل منه موعدا اخر. ان دخوله بالسيجارة اغضب المدير واذا غضب ضرب واذا ضرب اوجع واذا زعل فليس من الهين استرضاؤه وهو صلب لا يلين.
يقول الرفاعي: «عليك ان تدرك حراجة موقفي تجاه المتصلب وانا الاعزل من كل سلاح إلا سلاح الكرامة وعزة النفس والتضحية في سبيلهما».
ترك الامتياز ولم يصدر الجريدة فخسر المشروع ولكنه حسب قوله: «ربحت الكرامة ولله الحمد من قبل ومن بعد».
عزة النفس قد تصل الى حد المكابرة، وعندما يتجاوزا الحدود فقد تمنعانه عما يجب ان يكون وللاقدار حساباتها ومعادلاتها.
ليس من السهل ان نتحدث عن سيرة حياة حافلة بالاعمال الصحفية المتميزة. فان ما قدمه من اعمال هي التي تتحدث عن هذا الانسان الذي عمل وترك بصمات واضحة وقدم معلومات نادرة فهو مرجع في تخصصه،وفي نهجه الواضح والناجح نهر تدفق بالعطاء.
ونحن نقرأ احداث حياته في ذكرياته نجده قد كتبها بصدق ورواها بتجرد مما يجعلها مؤهلة للقبول.
المياه لأهل الزبير
اما الجانب الانساني لشخصيته فانها من تنوع فريد تجبر دارسها ان يقف انبهارا بشخص تمتد علاقته الشخصية من الملوك الى البسطاء من الناس وهي في محتواها تسعى دائما الى نفع عام يتطوع لها وينبري لتحقيقها ما امكن، فهو نموذج للشهم الكريم الوفي.
فحين ما عانى اهالي الزبير من عدم توافر ماء الشرب واضطرارهم الى شرب مياه الآبار الملوثة والمتعفنة فتفشت الامراض وساءت الحالة الصحية. استجاروا به ليذهب على رأس وفد الى بغداد عام 1932 لمقابلة الملك فيصل الاول طالبا للزبير ماء للشرب لمن يعانون شحته، وشط العرب على بعد كيلومترات معدودة منهم.
وبحكم معرفته بالمسؤولين الذين التقاهم في مؤتمر العقير عام 1922 ومنهم عبدالله المضايفي رئيس الضيافة الملكية الذي سهل له لقاء الملك وتحققت نتيجة وساطاته، وعندما جرى الماء عذبا تذكره اهل الزبير بأهزوجة تخلد مسعاه وتعزز لقبه «سيد دانة» تقول:
سيد هاشم فوق الراس
دانة لكَاها غواص
إنشاء جمعية للعمال
ويروى عنه انه التقى مصادفة في احد المقاهي بوفد عمال يدور حديثهم حول انشاء جمعية تعنى بشؤون حقوقهم عن اصاباتهم اثناء تأدية واجبهم في الميناء ووسائط النقل النهرية وكان مدير المواني ضابطا انكليزيا برتبة كولونيل لا يسمح اطلاقا بمثل تلك الجمعيات، فعرض وساطته لدى الادارة الانكليزية. واتصل بالكولونيل وورد الذي كان قد سمع وتابع ما ينشره ويكتبه من مقالات عن احوال العمال ومعاناتهم في المصالح التي تديرها السلطات البريطانية، وفيها من النقد اللاذع الصريح، فوفق في اقناع المدير العام وانتهى اللقاء بموافقته فانشئت الجمعية التي استفاد حتما المنضمون إليها من رعاية لم تكن متوافرة لهم سابقا.
صفاته ومواقفه
ولم تكن مساعدته وفزعته تقف عند الواسطات بل كان كريم النفس ينفق ما يحصل عليه فصاحب الادباء الذين ادركتهم الحاجة وساءت احوالهم المالية وتقاسم معهم الرغيف والمصاريف.
اجتماعي من طراز مميز حينما يرتاد مجلسا يقابل بالحفاوة والتقدير ويفسح له صدر المجلس فيكون قطب الحديث ومحوره. محدث لا يمل ولا يجف مخزون حديثه الادبي والعلمي والثقافي، مرح اريحي صاحب نكتة وقصة. مؤنس لمريديه فيجتمع الناس حوله اذا غشي المنتديات والمقاهي، يصف نفسه احيانا بالفضولي «ومن المغالين بالفضولية يشارك الناس حديثهم سواء دعوه أو لم يدعوه» حسب ما يقول.
لقد اثنى مؤرخو الصحافة العربية على جرائده واشادوا بجهوده في خدمة القضايا العامة ونشر الوعي في مقالاته التي يغلب عليها النقد الاصلاحي اللاذع، اطلق عليه امين الريحاني اديب الادباء اما عبدالعزيز الرشيد فوصفه بالكاتب القدير والاديب الفاضل بينما اسماه خالد سعود الزيد بالاديب الكويتي والكاتب البحاثة، واسبغ عليه عبدالله الحاتم تسمية الكاتب الكبير.
القبس -
الأربعاء 16 شوال 1424 هـ ـ10 ديسمبر 2003 ـ السنة 32 ـ العدد 10954 ـ الكويت
جزاك الله خير أختي الكريمة ندى على افادتك. لكنه من أي أفرع الرفاعية الكرام إذن؟ هل لديك فكرة عن اسم والد الجد "السيد هاشم"؟
سأسأل عن ذلك ففي الوقت الحالي لا أعرف تسلسل نسبه، ولكنه محفوظ بلا شك في سجلات أشراف البصرة، وسجلات الأشراف لدى الدولة العثمانية حيث أنه مولود قبل سقوطها،
كذلك هناك سجلات الأنساب الرفاعية في التكية الرفاعية في الناصرية حيث مرقد السيد الإمام أحمد الرفاعي رحمه الله.
هاشم أحمد الرفاعي أحد رجال ديوان الملك عبد العزيز قبل اكتمال توحيد المملكة
بقام: عبد الرحمن بن سليمان الرويشد
لم يكن نصيب سيرة السيد هاشم بن احمد الرفاعي من التدوين في بلده الاصلي (البصرة ـ الكويت) بأقل من نصيبها في بلده الثاني (المملكة العربية السعودية).
واذا كنا قد نلتمس العذر لمن اغفل ذكر اسمه بسبب موقفه من بعض القضايا السياسية لذينك القطرين، فما عذر المؤرخ المهتم بتدوين الاحداث عن اوائل نشأة الدواوين والتكوين الاداري للمملكة؟! وقد حاولت ان اتصيد بعض اخبار هذه الشخصية فلم اظفر رغم بحثني المتواصل بما يبل الصدى او يشفي الغليل، اذا استثنيت بضع مقالات نشرت في جريدة الثغر (البصرية) ثم تم جمعها في كتاب طبع في بغداد بمطبعة الرشيد عام 1358هـ (1939 م) سرد فيها السيد هاشم بعض ذكرياته عن خدمته في بلاط السلطان عبد العزيز، وعن احداث اخرى اعقبت اعتزاله الخدمة.. اهدى تلك الذكريات لمن يجعل مهنة الكتابة شغله الشاغل، فكانت سبب شقائه.
كما لم اجد في المصادر السعودية والكويتية ما ينعش الامل في العثور على اكثر من ذلك.. اللهم الا ما اورده الاستاذ المؤرخ الصحفي امين الريحاني في كتابه (ملوك العرب) عن السيد هاشم الرفاعي وانه اول من اتصل به بتكليف من السلطان عبد العزيز، حيث فوجئ الاستاذ امين الريحاني وهو في داره بالبصرة بضيف يدخل عليه، هو السيد هاشم الرفاعي، كويتي التبعية، لكنه في خدمة ابن سعود، ثم يقول الزائر للريحاني: ان السلطان عبد العزيز يقرأ مقالاتك في الجرائد التي تصله اسبوعيا، وهو متشوق الى مشاهدتكم في بلاده، وينتظركم في الاحساء.. عندها ذهل السيد امين الريحاني، فقد كان يصارع الانجليز ويحادثهم منذ شهر محاولا الحصول عى اذن بالسفر الى نجد على امل اللقاء بالسلطان عبد العزيز، فاذا السلطان يعرفه ويقرأ له ويرسل له من يستدعيه للمقابلة.. ثم يضيف موظف الديوان ـ رسول السلطان عبد العزيز ـ نعم السلطان يحب الاجتماع بكل اديب عربي مخلص لبلاده.
ويقول الريحاني: انه بعد تلك الكلمات كدت ان أقَبّل جبين السيد الرفاعي.
ويتناول الريحاني في مذكراته عن السلطان عبد العزيز الكثير من المواقف التي جمعته بالسيد هاشم الرفاعي بأمر من السلطان عبد العزيز، حيث كان السيد هاشم اجدر رجال ديوان السلطان عبد العزيز عام 1341هـ اوائل نمو شؤون المملكة، وقبل انضمام الحجاز الى بقية اجزاء الوحدة.
ويعود اهتمامي بهذه الطبقة من موظفي ديوان الملك عبد العزيز وبلاطه السامي الى ان ذلك الصنف من الرجال ليسوا كتبة او موظفين، يسعون صباح كل يوم الى غرف مكاتبهم، ثم يغادرون تلك المكاتب فور انتهاء فترة الدوام.. هذا الوصف انما ينطبق ـ آنذاك ـ على الدوائر الفرعية التي بدأت تظهر في اواخر حياة الملك عبد العزيز. وانما قصدت برجال الديوان ذلك الفريق العامل بمعية جلالته، والذين كانوا دائما وابدا يتحركون، واحيانا يغادرون اماكن عملهم في مهمات لا يعلمها سوى رجل الديوان الاول، يتم ذلك بأسلوب فريد تقتضيه طبيعة العلاقات المتاحة آنذاك.
والسيد هاشم بن احمد الرفاعي من مواليد البصرة في العراق وينتمي لاسرة عربية عريقة انتشر افراد منها في بيوتات تسكن البصرة والكويت والبحرين والحجاز، ونسبتهم للرفاعية لانتماء اوائلهم الى الطريقة الصوفية المعروفة والمنتشرة في العالم الاسلامي.
وقد اشتهر عدد من افراد هذه الاسرة الكريمة بالتفوق في العلوم الشرعية وشغل مناصب القضاء والوظائف الادارية واشتهر البعض منهم بممارسة الشعر والأدب.
ويعد السيد هاشم ممن تضلع بالثقافة العربية والدينية، مما جعله يمتهن الكتابة، وينشر مقالاته في صحافة ذلك العهد.. وعندما عزف عن الوظائف الحكومية اصبحت الكتابة ـ كما يقول عن نفسه ـ شغله الشاغل على مدى خمسة عشر عاما.. وقد اهتم بالصحافة الى درجة دفعت به الى ان يحاول اصدار جريدة في بغداد، وقد حصل على ترخيص بذلك لكن صدامه بموظف التراخيص في وزارة الداخلية العراقية حرمه من تلك الرغبة.
وتعود معرفة السيد هاشم بالسلطان عبد العزيز الى معرفة والده بالامام عبد الرحمن بن فيصل وصلته به بصداقة متينة، عندما كان الامام عبد الرحمن واسرته في الكويت، فقد كان الامام عبد الرحمن يتبادل الزيارة مع والد السيد هاشم في الكويت.
ويقول السيد هاشم: «كنت ولم ابلغ سن الرابعة من العمر اصحب والدي الى مجلس الامام عبد الرحمن، وكنت ادرس في الكتّاب الذي يدرس فيه الملك عبد العزيز في الكويت» ويظهر ان استقدام عبد العزيز للسيد هاشم، كان من اثر تلك العلاقة، واساسه تلك المعرفة.
فعندما ابلغ الشيخ عبد الله بن حمد النفيسي ـ الوكيل الشخصي للسلطان عبد العزيز في الكويت عام 1340هـ ـ 1921 م ـ هاشم الرفاعي ان السلطان عبد العزيز يرغب في مقابلته في الاحساء رحب السيد هاشم، واستجاب لتلك الرغبة، وعند حضوره الى هناك عرض عليه السلطان ان ينضم الى كُتَّاب ديوانه، وان يعمل معه وحدد له راتبه السنوي في حدود (2500) روبيه، ورغبة من السلطان في ان يساعد ذلك الرجل امر ان يضاعف له ذلك الراتب باسم مخصصات اضافية، فأصبح راتبه في دوان عبد العزيز ـ انذاك ـ خمسة آلاف روبية سنوية.
وكان اول عمل انيط به ان انتدبه السلطان الى البصرة للاتصال بالكاتب الصحفي الاستاذ امين الريحاني وهو اذ ذاك في البصرة، وان يحمل له مشاعر السلطان نحوه كما اشرنا الى ذلك آنفا.
وكان الملك عبد العزيز يرى ان بناء الدولة لا يمكن ان يضطلع به جهد فرد واحد.. لذلك كان بلاطه السامي يعج بالرجال المثقفين، وينتمي معظمهم الى جنسيات عربية مختلفة بالاضافة الى مجموعات اخرى من مواطنيه، ومن اهل بيته مستشارون ومندوبون، يرجع اليهم، ويعمل بمشورتهم كل في حدود اختصاصه.. وكان الكثير منهم له تجاربه الوفيرة في السياسة والمجتمع.. ومع ذلك لم يستطع احد منهم مهما علت مكانته ان يفرض عليه رأيا معينا، كما لم يشعر احد منهم انه الافضل او الاقرب، على الرغم من ان بعضهم كان رأيه يحمل السلطان على ان يتراجع عما تمسك به من رأي.
وقد اشار في يوم من الايام، وعلى اثر اختلاف كبير في وجهات النظر وهو يخاطب كل المستشارين: «ها نحن هنا نمثل الامم المتحدة، او قال عصبة الامم.. نختلف ولا نفسد للود قضية».. لذلك كان تاريخ الملك عبد العزيز خلاصة نتيجة تعرفه المبكر على اسس القوانين التي تتحكم في مصائر الامم والشعوب.
وعندما قضى السيد هاشم الرفاعي في ديوان السلطان قرابة السنة وهو يشغل وظيفة كاتب، قرر السلطان ان يبعث به ليمثل بلاده في مفاوضات الميجور (فرانك هولمز) الذي تقدم بطلب امتياز نفطي في بلاد نجد، وعندما كان السيد هاشم على وشك تسلم تلك المهمة والذهاب الى البصرة لانجازها، كان احد مستشاري السلطان عبد العزيز السيد (عبد اللطيف المنديل) موجودا بصحبة السلطان عبد العزيز في الاحساء، وقد حضر اليها ليشارك السلطان مستشارا في مؤتمر العقير، وعلم بالامر فخاطب السلطان معترضا على ذلك الترشيح قائلا: «ان السيد هاشم وان كان يتمتع بصفات الموظف النشط، الا ان هذه المهمة بالذات مهمة شاقة فضلا عن انه قريب العهد بالخدمة في ديوان السلطان، ولا اعتقد انه يمتلك في الوقت الحاضر الكفاءه التي تخوله لتمثيل تلك المهمة الخطيرة».
ومع صراحة المستشار السيد عبد اللطيف لم تنل تلك الصراحة من احساس السيد هاشم، بل انه كما يقول: قد ازاح عنه ثقل تلك المهمة، التي كان يداعبه الخوف من الفشل في ادائها وقد تلت تلك المهمة التي لم يذهب اليها السيد هاشم عدة مهمات، منها: السياسي، ومنها المالي، فكان يحظى بثقة السلطان وعطفه.
وذات مرة ـ وكان وقتها يعيش مع موظفي الديوان في الرياض ـ استدعاه السلطان عبد العزيز ليعرض عليه موضوع الزواج وينفره من وضع «العزوبة» قائلا له: «الزواج بمثابة درع يتقي به المرء خطر الفساد»، فاستسلم السيد هاشم لإرادة السلطان التي لا تقبل الامتناع، وتوكل على الله، وعزم على أن يرتدي ذلك الدرع ليتقي به نبال الفساد.
وكان السلطان عبد العزيز قد أوعز إلى احد خاصته وهو شخصية كبيرة من حاشيته يدعى «عبد العزيز الرباعي» وطلب أن يبحث أهله عن امرأة صالحة تكون زوجة للسيد هاشم لتزيل عنه وحشة الاغتراب، وتم الاختيار، وبعث السلطان بهدايا العرس من نقود وثياب، وعند عقد القران حدث شيء ما حال دون ذلك، حيث سمع أقارب العروس وهم يسكنون في ضاحية الرياض بنبأ تلك الزيجة، ويا لدهشتهم عندما علموا أن غريبا لا يعرفونه يريد الاقتران بقريبتهم فاعترضوا سبيل ذلك، وحاول السلطان عبد العزيز أن يشرح لتلك الجماعة من الأقارب بأن هاشما الرفاعي من بيت رفيع، لكنهم لم يلتفتوا لذلك، وأصروا على عدم إتمام ذلك الزواج، وردت الهدايا إلى خادم السلطان عبد العزيز الوسيط (عبد العزيز الرباعي)، فتأزم الموقف ـ آنذاك ـ واشتدت الممانعة.. عند ذلك ذهب السيد هاشم إلى السلطان في قصره يستعطفه ويتقدم بعذره إليه عن ذلك الزواج، الذي يمكن أن يكون سببا في مشكلة تقوم بين العائلة، فرده السلطان عبد العزيز ببشاشة، وأفهمه بأن ليس في الطريق ما يعيق، وأنه سوف يتدبر الأمر.. ولم تتم تلك الزيجة.
ويذكر السيد هاشم أن من بين المهمات التي كان يقوم بها في خدمة السلطان عبد العزيز قضايا تكشف عن مدى نزاهة القضاء والعدل وعدم تدخل السلطان في أعمال القضاة، ويستشهد على ذلك بقصة كان هو الواسطة فيها، ذلك: أنه ـ عندما كان احد موظفي الديوان بالرياض ـ حدث أن عائلة نجدية من العائلات العريقة في القصيم كان لها عقار وأملاك في مدينة البصرة قبل الحرب العالمية الأولى، وبعد انتهاء تلك الحرب طرأ على تجارة تلك العائلة ضعف وخلل، فغادرت البصرة إلى القصيم، إلا فرد من تلك العائلة بقي في البصرة يدير تلك الأملاك ويشرف عليها باسم العائلة.
وبعد مضي مدة من الزمن اتهمت العائلة في القصيم ذلك الفرد بالتلاعب في حسابات تلك الأملاك.. ويشاء الله أن يقدم ذلك الفرد إلى أقاربه في القصيم.. فتنتهز العائلة الفرصة وتقدم شكواها للسلطان عبد العزيز في الرياض، فما كان من عظمته ـ وهو المحب للعدل ـ إلا أن أمر بأن يحضر الأخصام إليه، وعند مقابلته ارتأى أن تحل القضية بينهم صلحا، وعهد إلى موظف الديوان السيد هاشم الرفاعي بأن يدرس تلك القضية وأن يدقق في الحسابات، وكل ما يتصل أو يتعلق بتلك القضية، وأن يقدم تقريرا بذلك، وأن تتم الدراسة والمراجعة بحضور الخصوم وأخذ موافقتهم حول كل نقطة يدور النزاع حولها. وانتهت القضية بالصورة التي ارتضاها الجميع بمتابعة السلطان، وأمر ـ حينذاك ـ بأن ينظم بموجب ذلك ورقة صلح توقعها كل الأطراف.
وحتى تكون تلك المصالحة سارية المفعول ومقبولة لدى الدوائر الرسمية في البصرة، كان لا بد من مصادقة القضاء الشرعي في نجد على ورقة المصالحة، فكلف السلطان عبد العزيز كاتبه هاشم الرفاعي أن يذهب بورقة الصلح والخصوم إلى قاضي الرياض ـ آنذاك ـ الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، لكي يستنطق الخصوم ويذيل على ورقة المصالحة ويختمها.. فطلب القاضي الشيخ سعد من السيد هاشم أن يتلو عليه ورقة الصلح، وبعد هنيهة وإنصات من القاضي استفسر من السيد هاشم:
الصلح حصل بواسطة السلطان ـ حفظه الله ـ أليس كذلك؟ فأجاب السيد هاشم: نعم يا حضرة القاضي. فقال الشيخ سعد: إن الصلح الذي يحصل على من بيده السلطة يكون أحد الطرفين فيه مغبونا، لذا عليك أن تبلغ السلطان ـ حفظه الله ـ بأنني لا أستطيع أن أتحمل مسؤولية الغبن بحق احد الخصمين، لذلك فأنا لا أستطيع أن أوقع على هذه الورقة، وأبلغ الإمام ـ حفظ الله عليه دينه ودنياه ـ أنه إذا كان لا بد من ذلك فإن عليه أن يدفع إليَ بالخصمين ليترافعا إمامي.. وسوف أحكم في القضية وأوقع حينئذ ورقة الحكم.
كان ابن عتيق يتحدث في هذا الموضوع بصورة قطعية لا تقبل النقاش.. وعندما بلغ السلطان عبد العزيز ذلك أعاد الورقة مع احد رجاله إلى القاضي، وزوده بكلمات لم يسمعها أحد. فعاد الرسول مرة ثانية، ومعه الورقة من دون توقيع.. فكتب السلطان في الحال كتابا شديد اللهجة للقاضي، وأشار إلى أن عليه إذا كان يشك في حصول الغبن على أحد الخصمين أن يستحلفه.
فجاء الجواب من القاضي على الفور بأسلوب مؤدب، يشعر بتعظيم سلطة القضاء ونزاهة القاضي، فقبل السلطان عبد العزيز ذلك بكل رحابة صدر.
ومن يقرأ الرسائل المتبادلة بين الملك عبد العزيز وبين أمين الريحاني.. وقد نشرت تلك الرسائل في كتاب صدر في بيروت وطبعته دار النشر «أمواج» عام 2001 (1422هـ) يجد في مضامينه ما يدل على مكانة الأداء الوظيفي في الديوان السلطاني للسيد هاشم الرفاعي، لا سيما الرسالة التي بعث بها السلطان عبد العزيز للأستاذ أمين الريحاني في 27 ربيع الأول 1341هـ ـ نوفمبر (تشرين الثاني) 1922م.. ورسالة أخرى ملحق بها بعض التقارير موجهة من الأستاذ أمين الريحاني إلى السلطان عبد العزيز في 25 ربيع أول 1343هـ ـ نوفمبر 1922م.
وعندما وقع الصدام الدامي بين أهل نجد وبين بعض رعايا إيران في البحرين، وتطور الوضع في ذلك الصدام، حتى أدى إلى الاحتراب الذي نتج عنه سقوط عدد من القتلى والجرحى من الطرفين، وذلك عام 1341هـ (1922م)، ولم تظهر سلطات الأمن البريطانية أي اهتمام في إيقاف تلك الاستفزازات، مما أدى إلى تبادل الرسائل بين السلطان عبد العزيز ورئيس الخليج آنذاك الكولونيل «نوكس» الذي أصر على أن المصادمات يتحمل مسؤوليتها رعايا السلطان ابن سعود وقد حدثت بقيادة وكيله في البحرين عبد الله بن حسن القصيبي، لذلك قرر رئيس الخليج إبعاد القصيبي عن البلاد وطلب من السلطان عبد العزيز عدم إرسال أي وكيل له في البحرين إلا بعد استشارة الدولة البريطانية.. فرد السلطان عبد العزيز على رئيس الخليج بخطاب غاضب حرر في 5 شوال 1341هـ ـ 26/5/1923م، وأرسل الخطاب صحبة السيد هاشم الرفاعي ولمح فيه إلى أنه كان ينتظر من رئيس الخليج اعتذارا عن ذلك الاعتداء، بدلا من وضع اللوم على رعاياه في البحرين، وأن ما حدث من إصدار أمر بمغادرة وكيله البحرين يعتبره مساسا بكرامة جلالته.
وعند لقاء رئيس الخليج بـ ـ رسول جلالة السلطان ـ السيد هاشم، وتسلم الخطاب المشار إليه، ندم وحرر مسودة جواب أضعف لهجة من خطابه السابق، وقبل أن يعتمدها أطلع عليها (مندوب السلطان) السيد هاشم الرفاعي الذي درس المسودة، واقترح بعض التعديلات لتكون ملائمة لمخاطبة السلطان عبد العزيز.
وقد أشار الأستاذ راشد ابن الشيخ الزياني في كتاب صدر له حديثا إلى تلك المراسلات والى تلك القصة بكاملها في كتابه «البحرين بين عهدين».
لم يستمر السيد هاشم الرفاعي طويلا في خدمة السلطان عبد العزيز، لكنه مع ذلك أنجز خلال زمن قصير في خدمة السلطان أكثر مما أنجزه غيره في زمن طويل.. وكان آخر عمل أوكل إليه هو انتدابه للإشراف على إدارة شؤون الجمارك في الأحساء والقطيف، وأعطي كامل الصلاحيات في ذلك العمل، لكنه لم تغره تلك الوظيفة، وكان بطبيعته يكره العمل في الوظائف المالية، ويقول: «من يتولى المال يصبح عدوا للرجال»، وقد لبى أمر السلطان عبد العزيز في إشغال تلك الوظيفة، لكنه اشترط عليه ألا يبقى كثيرا في ذلك المنصب.
وكان أثناء عمله في تلك الوظيفة ينتدب بين آونة وأخرى لتمثيل حكومة السلطان مع أعضاء آخرين أمثال السيد حمزة غوث، والشيخ حافظ وهبة، والدكتور عبد الله الدملوجي، والشيخ عبد العزيز القصيبي، حيث شاركهم في أكثر من لجنة، كما شاركهم في حضور بعض المؤتمرات المهمة.
وبينما هو في الكويت ـ لحضور مؤتمر الكويت الأول ـ نما إلى سمعه أن جماعة من أهل القطيف ممن يتعاطفون مع مدير الجمارك السابق قد لفقوا ضده بعض التهم التي تتصل بالاختلاس من أموال الدولة، فتكدر لذلك الأمر، وقرر أن يقدم استقالته من إدارة شؤون الجمارك في الأحساء والقطيف، وأصر على ذلك، وقدم تلك الاستقالة فور عودته من مؤتمر الكويت حينما ذهب إلى الأحساء لمقابلة السلطان ليطلعه على نتائج المؤتمر، لكن السلطان رد على تلك الاستقالة شفهيا بقوله: يا سيد هاشم أنت تعلم أن ثقتي بك كبيرة، وتعلم أيضا أن الوظيفة التي تشغلها مهمة، وسوف لن تبقى بها كثيرا، وعليك أن تستأنف مباشرة العمل، فكان من حسن حظ السيد هاشم أن تقرر عقد مؤتمر الكويت للمرة الثانية، فعاد إلى الكويت لشغل منصب عضو المؤتمر.
وعندما عاد الوفد من ذلك المؤتمر إلى البحرين، بقي السيد هاشم في البحرين، وقرر الانفصال من الخدمة، وقرر رفع الاستقالة المؤرخة في 10 شوال 1343هـ شرح فيها أسباب استقالته وحاجته إلى الراحة. وبعد أيام تلقى من السلطان عبد العزيز خطابا مصدره الرياض يشكر السيد هاشم على جهوده، لكنه لم يشر إلى الاستقالة، وبدلا من ذلك قال له السلطان: إن بقاءك في البحرين هو طبقا لرغبتي، ووكل إليه المشاركة في بعض الأعمال كما طلب منه أن يقدم إليه بعد إنجازها في أرض القصيم.
ثم تلقى بعد ذلك خطابات كثيرة من السلطان ولم يجد فيها أي إشارة إلى قبول الاستقالة.. إلا أن السلطان في آخر جواب تلقاه السيد هاشم من عظمته أشار فيه إلى تعيين «حمد السليمان الحمدان» ليحل محله في القطيف، وأن عليه أن يذهب إلى هناك فيسلمه كل ما لديه من عهدة، ويوافيه بعد ذلك في القصيم.
وعند مقابلة السلطان عبد العزيز فاجأه بقوله: «يا أخ هاشم.. إننا والله نعرف من إخلاصك ونصحك واجتهادك ومقدرتك أكثر مما تعرفه أنت عن نفسك.. فإن أردت الإصرار على استقالتك فنحن ربعك الذين لا نتغير ولا تغيرنا الليالي والأيام، وإني لأرجو لك الله التوفيق والهداية».
واعتبر السيد هاشم أن هذه الكلمات الجميلة هي قبول للاستقالة، وظلت صلته بالسلطان عبد العزيز متصلة من دون انقطاع.
رحم الله الملك عبد العزيز، ورحم الله السيد هاشم بن احمد الرفاعي، الذي لم يأل جهدا في خدمة هذه البلاد التي كانت أحوج ما تكون إلى جهده آنذاك.. فقدَم ما يملك من جهد وحسن أداء.
نشرت صحيفة «الأوقات» العراقية الصادرة في البصرة بتاريخ 9 نوفمبر 1922 تعريفا بأول صحافي كويتي:
«نعمنا بلقاء الشاب الأديب السيد هاشم افندي الرفاعي مدير مكتب الاوقات العراقية سابقا في الكويت، وقد تحادثنا معه مليا وعلمنا ان جنابه زار في الأيام الأخيرة مدينة الإحساء وتشرف بمقابلة عظمة سلطان نجد هناك، وقال ان المشار إليه يميل إلى تأسيس مطبعة وإصدار جريدة في عاصمة ملكه الرياض أو الإحساء لتنشر فيها الأوامر الرسمية والأخبار النجدية، وان عظمته مولع بمطالعة الصحف والمجلات ويتشوق لرؤية الاستاذ الريحاني وغيره من حاملي العلم والأدب، فنرحب بحضرته ونرجو له طيب الإقامة».
علما بأن الزميل الأستاذ يعقوب الإبراهيم كتب بحثا موسعا عن تاريخ السيد الرفاعي نشر في القبس على حلقتين بتاريخ 2003/12/10 و2003/12/11.