رجال لا ينساهم الوطن: عيسى بن محمد المخيزيم
رجال لا ينساهم الوطن: عيسى بن محمد المخيزيم
د. يعقوب الغنيم
مر بي ذكر هذا الرجل ضمن مطلع قصيدة كتبها الشاعر عبدالغفار الأخرس المتوفي في سنة 1874م، كان ذلك في ديوانه المطبوع في سنة 1986م بتحقيق وتعليقات الخطاط وليد الأعظمي. ومطلع القصيدة يقول:
يا ابن المخيزيم وافتنا رسائلكم
مشحونة بضروب الفضل والأدب
جاءت بأعذب ألفاظ ٍمنظمة
حتى لقد خلتها ضرباً من الضرب
(الضرب: العسل).
وكان واضحا أنه يوجه قصيدته إلى شخص كويتي كانت بينهما مراسلات بدليل ما جاء في ثنايا القصيدة مما سوف نذكره فيما بعد. جلست مفكراً ومتذكراً استجلب المعلومات عن ابن المخيزيم هذا، ثم عدت إلى هامش الديوان فوجدت الأعظمي يقول عن الرجل: «لم أعثر له على ترجمة، ومن أحفاده اليوم في الكويت السيد مبارك بن مسعود بن عبدالعزيز المخيزيم. أخبرني بذلك الصديق الأديب عبدالعزيز عمر العلي برسالة من البصرة، ويبدو من القصيدة أن ابن المخيزيم كان أديباً بارعاً،وله صلات مع شعراء وعلماء عصره، وربما كان الأخرس ينزل عنده في زياراته للكويت».
ولم يفدنا هذا التعليق شيئا، ولم يقدم لنا اسم الرجل الذي توجه إليه الأخرس بقصيدته، وما أشار إليه من معلومات عن أدب ابن المخيزيم وعلاقاته لا يتعدى الاستنتاج الذي حصل عليه بعد قراءته للقصيدة.
يثني الشاعر عبدالغفار الأخرس، على صديقه ويبدي إعجابه برسائله وفصاحتها، وذكر ما تحتويه من حسن البيان وجميل العبارة، ومن التلطف بالدعابة التي تدخل السرور على قارئها:
فيها من الشوق أضعاف مضاعفة
تطوي جوانح مشتاق على لهب
وربما عرضت باللطف واعترضت
دعابة هي بين الجد واللعب
ويضيف بعد ذلك:
فأطربتنا وهزتنا فصاحتها
فلا برحت مدى الأيام في طرب
أما ما يتعلق بالكويت في هذه القصيدة فهو قوله:
إن الكويت حماها قد بلغت
باليوسفين مكان السبعة الشهب
تاالله ما سمعت اذني ولا بصرت
عيني بعزهما في سائر العرب
فيوسف بن صبيح طيب عنصره
أذكى من المسلك إن يعبق وإن يطب
ويوسف البدر في سعد وفي شرف
بدر الأماجد لم يغرب ولم يغب
وقد مر بنا في مقال سابق الحديث عن هذين الرجلين الكريمين اللذين بذلا الكثير في مجاعة سنة الهيلق التي بسطنا الحديث عنها فيما سبق. وكان الشاعر الأخرس كثير الاعتزاز بهما، قوي الاتصال معهما. وقد ذكرهما في أكثر من مناسبة من شعره، وقول الأعظمي ان الشاعر كان يقيم في الكويت وقت حضوره إليها عند ابن المخيزيم يرد عليه ما جاء في الأبيات التي كتبها ووجهها إلى يوسف البدر وهو في الكويت يستأذن مضيفه بالمغادرة:
مولاي قد حان الودا
ع، وقد عزمت على المسير
كم زرت حضرتك التي
ما زلت منها في حبور
ورجعت عنك بنائل
غمر، وبالخير الكثير
لقد كان في تردده على الكويت يقيم عند يوسف البدر، بدليل الاستئذان منه بالرحيل.
ديوان الأخرس يضم عدداً من القصائد التي يذكر فيها الكويت، وعدداً من أهلها. وحين كان في بغداد تاقت نفسه إلى شيء من المسلك فأرسل إلى يوسف الصبيح معرضاً بذلك في قوله:
وما زلت مذ فارقت بغداد أبتغي
نزوحاً إلى ما يقتضيه نزوحي
وإني مشتاق إلى كل ما جد
يصوب بقطر أو يهب بريح
تطالبني نفسي بطيب وطيب
فقلت ابشري بالمسك وابن صبيح
وكما قرن صاحبيه (اليوسفين) في قصيدة واحدة قرنهما مرة أخرى في قصيدة منها:
وكم يومٍ ركبنا الفلك تطفو
بسيط الماء في البحر المديد
فآونة تكون إلى هبوط
وآونة تكون إلى صعود
ولولا اليوسفان لما رمت بي
مراميها إلى خطر مبيد
وقال الأخرس – أيضا- قصيدة امتدح بها الشيخ عبدالله بن صباح بن جابر الأول الذي ولي حكم الكويت في سنة 1866م، ودام في سدة الحكم حتى سنة 1892م.
القصيدة لطيفة المعاني سهلة الأسلوب، تحدث فيها عن الشيخ وعن آل الصباح، ووصف أخلاقهم وأعمالهم الطيبة، وذكر أنه لم يزرهم مرة إلا عاد وهو مصحوب بالنجاح وذلك لحسن ما يلقى منهم من كرم وفضل حتى أطلق بهم ألسنة القوافي بما فيها من كلام فصيح بليغ كما جاء في شعره المذكور.وهو يقول – أيضاً- إن محبتهم قد مزجت بروحه مزاج الراح بالماء القراح، واعتبر مديحهم خمراً يرتاح إليها ويغتبق منها ويصطبح ثم يقول:
ولو أني اقترحت على زماني
وأعطاني الزمان على اقتراحي
لما فارقتهم يوماً وما لي
إذا وفقت عنهم من براح
ومن هذه القصيدة قوله:
نزلت بهم على سعة ورحب
وأنس وابتهاج وانشراح
فقوم ساد عبدالله فيهم
فبالبأس الشديد وبالسماح
٭٭٭
كانت هذه مقدمة لابد منها للدخول على الحديث الذي نريد طرحه عن ابن المخيزيم كما سماه الشاعر الأخرس وهو: عيسى بن محمد المخيزيم، كما أبلغني باسمه الأخ الكريم الأستاذ محمد المخيزيم، بعد أن أكثر من البحث بسبب طول المدة، وبُعد العهد عن أيام ذلك الرجل. وقد تكرم الأخ محمد فأمدني ببعض الملاحظات أنارت لي الطريق إلى معرفة هذا الشَّهم الكريم المحب للعلم والأدب.
كان أهالي الكويت يتصرفون بصدقاتهم بصورة مباشرة، فلا يدفعونها إلى أناس آخرين لكي يقوموا بتقديمها للمحتاجين نيابة عنهم وذلك حرصاً على أن تذهب الصدقات في أبوابها وأن يتأكد المتصدق بأن مستلم الصدقة في حاجة إليها بالفعل، ومن الأغنياء من يطوف ليلاً على بعض البيوت المحتاجة لكي يقدم لها مالديه دون أن يشعر به أحد، وذلك وفق الحديث الشريف الذي ينص على أن خير الصدقة ما تقدمه سراً ومباشرة للمحتاج حتى لا تعلم شمالك بما تنفق يمينك.
وكانت للأغنياء طرق كثيرة غير دفع المال لكل صاحب حاجة، ومن ذلك المساهمة في الإغاثة ودفع الضرر عند حدوث بعض الحوادث كما وجدنا في حالة الهيلق وسنة هدامة وغيرهما حيث تصدى عدد من أبناء الكويت لتقديم كل ما في استطاعتهم من مال وجهد ومواد لرفع الضرر عن المتضررين. ومن ذلك بناء المساجد والصرف على نفقاتها عن طريق الأوقاف التي يوقفها هؤلاء على المساجد التي ينشئونها فكان لكل مسجد بيت أو أكثر أو حوانيت يؤخذ من إيجارها ما يكفي الإمام والمؤذن وما يصرف به على المسجد. وقد كان ذلك قبل أن تنشأ دائرة الأوقاف العامة في سنة 1949م حيث ضمنت مصروفات المساجد في مقابل استيلائها على الأماكن الموقوفة عليها.
وإضافة إلى كل ما كان يعمله هؤلاء الرجال من خيرات، ونفقات صالحة. فإنهم كانوا يحرصون على كتابة وصايا لورثتهم يقوم هؤلاء بتنفيذها بعد وفاتهم.
وقد كان عيسى بن محمد المخيزيم واحداً من الرعيل الأول من الرجال الكويتيين الذين يتناقل الناس مآثرهم، ويثنون على أعمالهم. حرص على بذل الصدقة في السر والعلن، وأوقف الأوقاف النافعة لبيوت الله، ووصى بوصية ذات أثر كبير في ما يتعلق بجدواها التي تصب في صالح المحتاجين. كان تاجراً كبيراً وكانت له أعماله الكثيرة في المجال التجاري. وله سفراته العديدة المتعلقة بعمله، كما كانت له صلات متعددة مع كثير من الناس من رجال عصره في داخل الكويت وفي خارجها وكان – كما رأينا – معاصراً للشيخ عبدالله بن صباح ابن جابر (1866 – 1892م) ضمن من عاصر من حكام الكويت، ولكل من يوسف البدر ويوسف الصبيح، وبالطبع فإنه معاصر للشاعر عبدالغفار الأخرس بدليل القصيدة الموجهة إليه، وسوف يأتي تفصيل ذلك فيما بعد.
ولئن كنا لم نتمكن من التوصل إلى تاريخ مؤكد يحدد يوم مولد المخيزيم أويوم وفاته، فإننا نستطيع أن نقدم تقديراً بذلك من واقع الاتصالات مع بعض كبار السن، ومن واقع الأحداث التي حدثت في وقته، فنذكر أنه ولد على وجه التقريب في سنة 1795م، وتوفي على وجه التقريب – أيضا – في سنة 1875م.
وبذا يكون قد عاصر عدداً من حكام الكويت القدماء منهم الشيخ عبدالله الأول المتوفي في سنة 1813م، والشيخ جابر بن عبدالله المتوفي في سنة 1859م، والشيخ صباح الثاني المتوفي في سنة 1866م، وحضر جزءاً من فترة حكم الشيخ عبدالله الثاني الذي توفي في سنة 1892م، وكانت الكويت في تلك الفترة غير خالية من المهتمين بالعلم والأدب، فكان فيها الشاعران عبدالله الفرج وعبدالجليل الطبطبائي وقد توفيا في سنة 1900م – والشاعر محمد بن لعبون الذي توفي بها في سنة 1831م.
وكان فيها اهتمام بالعلم الديني كما بدا لنا من مراسلات عدد من العلماء الكويتيين مع آخرين من البلدان المجاورة. وقد حفظ لنا الزمن مخطوطة لكتاب في الفقه الشافعي كتبها عثمان بن سري القناعي في سنة 1798م، وهناك مخطوطات غيرها معاصرة لها.
وحركة التواصل بين علماء الأمة تؤكد دور أبناء الكويت في بناء العلاقات مع أمثالهم، وفي حرصهم على الازدياد من المعلومات وتعرف ما يمكن الحصول عليه من كتب في ذلك الوقت البعيد، ومن الجدير بنا ذكره هنا أن مركز البحوث والدراسات الكويتية قد أصدر في سنة 2007م القسم الثاني من كتاب «بحوث مختارة من تاريخ الكويت» وقد تضمن فصلاً شاملاً عن هذا الموضوع، وهو فصل كبير منه.
ولقد كانت لعناية أخي الأستاذ الدكتور عبدالله يوسف الغنيم بالموضوع الذي أشرنا إليه أثرها في إثراء العمل بالمعلومات المهمة فقد كان بصفته رئيسا للمركز مشرفاً على الكتاب المذكور تكاد تتلمس أفكاره وأسلوب قلمه في كل سطر فيه.
وقد استعرض المقال ضمن ما استعرض رسالة كتبها الشيخ عبدالله بن أبي بكر الملا، وأرسلها من الإحساء إلى الشيخ أحمد بن محمد بن عبدالإله القناعي في الكويت وذلك في اليوم الخامس والعشرين من شهر يونيو لسنة 1879م. وقد جاء في الكتاب تعليق على الرسالة الواردة من الشيخ عبدالله الملا تضمن مايلي: «ويبدو من الرسالة المذكورة أن الشيخ أحمدا لقناعي من المشتغلين بالعلم الذين لم يكن لهم ذكر في الكتب التي أرخت للأدباء أو الفقهاء في دولة الكويت، وواضح انه بعث يسأل الشيخ عبدالله بن أبي بكر الملا عن عدد من الكتب مثل حاشية الطحاوي، وقد أجابه بأن حاشية العلامة ابن عابدين تغني عنها، وأن شرح رياض الصالحين عديم الوجود في الإحساء، «ولم نعلم هل طبع أم لا»، ثم يقدم الشيخ عبدالله بن أبي بكر تحية إلى عدد من معارفه في الكويت مثل السيد حسين والشيخ علي بن محمد بن إبراهيم والسيد مساعد بن السيد أحمد وعبدالعزيز المطوع، وتعد هذه الرسالة من أقدم الرسائل التي وصلتنا حتى الآن عن العلاقات العلمية بين الكويت والإحساء.
والشيخ أحمد القناعي هو جد عبدالله القناعي الموظف بالمعتمدية البريطانية في الكويت والذي أعطته الحكومة البريطانية لقب «خان بهادور» لخدماته لها، وقد ذكر الأخير أن وفاة أحمد هذا كانت في عام 1892م».
تعمدنا أن يكون هذا المقال شاملاً للصورة العامة السائدة آنذاك، وبذلك نكون قد اقتربنا من تبيان سيرة حياة المخيزيم، والصورة التي كان عليها عصره، وتبيّنا كذلك، شخصيته التي تميزت بالطيبة وحب عمل الخير، والسعي إلى كل ما يفيد المحتاجين سواء أكانوا من سكان الكويت أم من الذين يعيشون خارجها، وذلك ما أوضحناه فيما سبق. رحمه الله.
|