كتاب كاديلاك وكوكاكولا ترجمة د.محمد السبيعي
كاديلاك كوكاكولا
بقلم مهاب نصر(القبس)
«لقد أصبحت الكويت من فرط ما فيها من حركة كمدينة يسكنها الجان..في تلك المدينة القديمة والجميلة ببيوتها العريقة المتواضعة أخذت تكثر المساحات الفضاء، هات الجرافة انسف الأسوار أفسح المكان لمدينة جديدة..للتقدم»، بهذه العبارات يصف المهندس السويسري جون هنري ميلر في كتابه {كاديلاك وكوكاكولا} الصادر عن دار هكسوس بترجمة د. محمد السبيعي فورة الحياة المغايرة التي دبت في أوصال الكويت على اعتاب الطوفان النفطي الذي اكتسح بالحياة العصرية التي حملها كل جوانب العيش ومظاهر العمران. لكن الأهم في مذكرات هذا المهندس الذي عمل في الكويت منذ عام 1957 في مشروع الميناء ، وإن كان قد زارها في ثلاثينيات القرن الماضي، هو تفصيله للقاء الحضاري المدهش في بقعة من الأرض صارت محطا للمطامح والأطماع وتنافس الشركات على الفوز بالمشاريع الإنشائية الكبرى، كما هي حافز لأحلام الثراء ومسعى لطلب الرزق للآلاف الآتين من أصقاع الأرض ببشرات متنوعة كأنها كرنفال إنساني، من أميركا إلى الفلبين ومن مجاهل اليمن إلى الساحل الفارسي.
بلغة روائية يركز ميلر على حياة المهنيين والحرفيين الذين صاروا قوة عمل عابرة للقارات، يصفها كحياة المغامرين الذين يألفون تحديات البيئة وقسوة الطبيعة ولا يصبح الكسب فقط مطمحهم بل التحدي والحياة في مجتمع جديد. بحذق يلتقط ميلر و بلا تعصب حياة السكان المحليين من أبناء الكويت بدوا وحضرا، وبتفهم عميق لقيم الحياة النابعة من ظروف البيئة القاسية التي لم تمنع من الكرم واحترام خصوصية الأجنبي، وتركه يعيش في سلام.
نادي غرانديا
«نادي غرانديا هذا يقع في المعسكر القديم في موضع لا يبعد أكثر من خمسين مترا عن أقصى نقطة يمتد إليها لسان البحر. قام الأنكليز ببنائه منذ خمسة أعوام أما اليوم فنحن الوارثون له». هكذا يصف ميلر النادي الذي كان يقضي فيه عمال المشروع الذي عمل به في الكويت حيث كان يعمل لدى الشركة الأميركية التي تولت بناء الميناء. لكن لميلر المولود في عام 1911 خبرة عميقة بالمنطقة العربية لغة وعادات ، حيث توجه إلى العراق في الثلاثينات من القرن الماضي لبناء طريق بغداد، ومن ثم كان حديثه عن طبيعة التكوين السياسي وتوزيع الثروة هناك ينم عن خبرة، و ذلك حين تعرض لأحداث ثورة الموصل وإحباطها بقسوة.
أما نادي غرانديا فهو بالنسبة لهؤلاء العمال المغامرين الغرباء بدا كجزيرة يؤون إليها من عناء العمل الأسبوعي الشاق تحت سياط الشمس اللاهبة والرطوبة التي تتخلل الثياب وتخنق الأجساد.
عن هؤلاء العمال يقول «رجال يتخذون من كل عمل تحديا شخصيا إنه أحد ضروب الأخوة التي تتوسل لشق طريقها بكل ما هو شاق من جرافات وعمليات نسف وهدم.. يسكنهم نوع من أنواع الفتنة بالأعمال العملاقة...هذا ما شيدناه، تلك هي نصبنا: ميناء، نفق سد».
وحين يفكر أحدهم في العودة إلى الديار نتيجة الظروف القاسية للعمل ليستريح بين أهله ويقص عليهم مغامراته، يقدم ميلر رؤية عكسية حيث يرى الناس في بلاده غارقين في مشاكلهم المحلية بينما يكون العامل قد صار مواطنا عالميا «حتى لو كنت آت من القمر فأحد لا يكترث بما عملت وأين كنت في أصقاع هذا العالم..هذه العاهات التي لم يذهب أنفها أبعد من سان فرانسيسكو لا تود أن تعلم شيئا».
حلم الذهب
كنصف الحالم يتحدث ميلر عن الكويت القديمة «في يوم من الأيام كانت هذه المدينة عتيقة وجميلة وبملامح عربية وأزقة ضيقة وأسواق وممرات ظليلة بنيت بيوتها من الصخور المرجانية والطين وبلا نوافذ .. العزلة عن مجريات العالم والعازل الصحراوي مكنا شعبا كويتيا من النضج، كما يتسم تجار الكويت بالوقار البالغ والنبل الذي لا يمكن رشوته».
لكن نشوة النفط تلبست بالمدينة «أتت بالذهب.. الذهب» فأقبل إليها الحالمون بالثراء وتغير وجه المدينة «بيوت عصرية ذات أربع طوابق، الواحد بمحاذاة الآخر، ولتذهب خصوصية السكن إلى الشيطان.. نود أن تكون أحدث مدينة في الجزيرة العربية؟ أحدث من بيروت والقاهرة.. إعلانات ضوئية هنا.. أضواء نيون حمراء.. نريد أبقار نسلة تومئ برؤوسها.. أن نسمع حركة ساعات سويسرية، سيارات جيب وكوكاكولا فوارة..».
ومع هذا، فإن تحول الكويت إلى{دولة الرفاه التي يشار إليها بالبنان في العالم» لم تفسد المزاج الإنساني الكويتي ممثلا في الأمير الراحل الشيخ عبدالله السالم الصباح فقد ظل على خلاف المحيط الخليجي، كما يقول الكاتب «ذلك الرجل البسيط الذي لم يتلبسه هوس الثراء» ولم يرتكب أخطاء كتلك التي أصاب منها بعض حكام المنطقة.
يشيد ميلر قياسا على الحياة في شبه الجزيرة العربية بروح التسامح الكويتية «أمسلم أنت أم مسيحي، عربي فارسي أو أوروبي، هندي، درزي... من أنت وماذا تكون ومن أين أتيت هذا لا يعني شيئا في الكويت.. من يقم في هذا البلد باستقامة وإخلاص فلن يلاحظ البتة بأن هناك قانونا» ويعني بذلك عدم مطاردة الغرباء باللوائح والقوانين.
مهربو البشر
مثلما يركز ميلر على ملامح التغير في المدينة ويقارن على طول الكتاب بين العادات والقيم التي جلبتها حمى الثراء، كذلك يتابع حالات السقوط الإنساني، حين يتحول بعض المستغلين إلى تجار للموت، هؤلاء هم مهربو البشر من الفقراء المنتظرين على ضفة الشاطئ الآخر، متطلعين إلى فرصة للحياة على أرض الذهب. يكتشف الكاتب ذات يوم جثثا طافية وأشلاء لفظتها مياه الخليج «أربعة وثمانون فارسيا أريد تهريبهم إلى الكويت..غرق البوم بكل من حمل، وفي كل يوم يلفظ التيار إلى اليابسة بجثث، وأحيانا بذراع أو ساق.. في رقاب قباطنة سفن التهريب هذه كثير من الضحايا». يصيح هؤلاء القباطنة القساة في راكبي السفينة: الهدوء .. أتودون أيها الكلاب أن يكتشف خفر السواحل أمرنا.. هيا انتشروا على الساحل وتوجهوا فرادى إلى المدينة .. اقصدوا تلك الأضواء فما ترونه هو الكويت. اتضح أن القبطان أنزل ركابه في فيلكا حيث سريعا ما يتم اكتشاف الغرباء، ولا أمل في الإفلات.
كاديلاك وكوكاكولا
تماما كالرحالة المغامرين يعيش ميلر ومهندسو وعمال المشاريع في بيئة تجمع بين التنافس والتضامن بحسب الظرف، لكنها أبدا متغيرة، هكذا ينتهي المشروع، وتبدأ الشركة في البحث عن عقود في أماكن أخرى منها السعودية. يرفض ميلر بقوة ويصر على البقاء في الكويت حيث أثث بيتا وكوّن أصدقاء، وصارت له حياته الخاصة « .. كم أحب أن أرسل بصري في منزلي يمنة ويسرة لأقول: هذه السجادة البدوية مرحة الألوان أهداني إياها عبد الله حمدان، وهاتين الكرمنشاه ساومت عليهما في سوق الزل» حصيلة اسطوانات .. إبريق قهوة ذو منقار، هكذا يقول أحد أصدقاء ميلر «أنت هنا في وطن إذا فالأمور لا تختلف معك». فما قصة الكاديلاك والكوكا كولا إذا؟ هل هي رموز مرحلة التعاطي مع مفردات الحياة المعاصرة وغزوها للمدينة التقليدية؟ ربما لكن ميلر يشير بها أيضا إلى المفارقة الأبدية بين طبقات الناس، ففي حفل التكريم بمناسبة الفراغ من المشروع يسلم الكبار هدايا من سيارات الكاديلاك، أما موظفو الصفوف الخلفية فيكتفى بتوزيع مشروب الكوكاكولا عليهم.
المرجع: جريدة القبس 28/7/2009
التعديل الأخير تم بواسطة AHMAD ; 03-09-2009 الساعة 02:05 AM.
سبب آخر: رفع الصورة
|