عرف بتاريخ الكويت العديد من رجال الدين المشهورين بالورع والتقوى والتدين ولهم بصمات واضحة في التاريخ، ومن علماء الكويت الاتقياء الذين اشتهروا بخطبهم الرنانة وعلمهم الواسع الشيخ الجليل أحمد غنام الرشيد وكان لنا شرف اللقاء معه وتسجيل بعض من ذكرياته القيمة عبر حديثنا معه.
والشيخ الغنام من مواليد 1928 ودرس عند العديد من الكتاتيب والمدارس القديمة وعرف بعلمه الشرعي ليعد من أبرز علماء الكويت وهو شاعر فطحل له الكثير من القصائد الرنانة وكان شاهداً على حقبة تاريخية من وطننا العزيز، وإليكم نص الحوار مع فضيلته:
يحدثنا الشيخ أحمد غنام الرشيد عن بداية دراسته وطلبه العلم قائلا:
ولدت في بيت الوالد عام 1928 ونشأت وسط أسرتي، ودرست في مدرسة العثمان في سوق بن دعيج التي يدرس فيها الملا عثمان العثمان وأخوه الملا عبدالله العثمان وكان معي أخي عبدالرحمن الذي يكبرني بسنة ونصف وتوفي بعدها بسنوات وهو صغير السن رحمه الله وتعلمت الكتابة والقراءة وحفظت بعض سور القرآن الكريم، ثم انتقلت إلى كتاب الملا سليمان علي الخنيني في المرقاب وظليت عنده فترة من الزمن لانتقل بعدها إلى مدرسة الملا مرشد، ثم التحقت بالمعهد الديني عام 1948م عند بداية افتتاحه وكنت ضمن أول دفعة تدرس فيه وكانوا يعطوننا ثلاثين روبية مكافأة للطلبة الدارسين بمعهد الديني وكان موقعه عند سكه النفسي في بيت المرحوم محمد البحر استأجرته إدارة المعارف لوضع مكاتب للإدارة ويوجد مسؤول هناك اسمه طاهر السويدي وهو مصري الجنسية ويوجد في هذا البيت غرفتان في الطابق العلوي وبدأ المعهد الديني في هاتين الغرفتين ودرسنا فيهما، ثم انتقل موقع المعهد في شرق وبعدها أصبح في سوق الخراريز وكان كل سنة يأتون بمدرسين من الأزهر وهم علماء أجلاء كبار يدرسوننا، وأتذكر مديره الشيخ الجليل علي البولاقي.
كما قرأت على أيدي علماء أجلاء وممن درست عندهم الشيخ الجليل محمد سليمان الجراح رحمه الله حيث درست على أيديه باب الحج ودرست على الشيخ الفاضل محمد أحمد الفارسي متن الأجرومية وشرحها في علم النحو ودرست أيضاً متن الرحبية وشرحها في علم الفرائض، وممن درست عندهم الشيخ الجليل عبدالرحمن الدوسري حيث قرأت عنده أصول الفقه ومازلت احتفظ بمذكرة الأصول في مكتبتي والشيخ الدوسري يتميز بسرعة الحفظ وهو يحفظ كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كلها على صدره ويسميه الشيخ محمد الجراح بالحافظ.
وأنا كونت مكتبة علمية لا بأس بها أقرأ فيها وانهل من العلم لأنني أحب القراءة وأجمع كل كتاب قيم واشتريه لاقتنيه.
الخطابة والإمامة بمساجد الكويت
ويضيف الشيخ أحمد الغنام: أنا عملت مؤذنا في مسجد العجيري والمعروف بمسجد الغربللي قرب مبنى البلدية وكان ذلك عام 1948م ثم انتقلت إلى مسجد الوزان في المرقاب مؤذنا، وبعدها أصبحت خطيبا في مسجد دسمان عام 1952، وكان عمري آنذاك ثلاثة وعشرين عاماً وكان الشيخ جابر الأحمد الصباح رحمه الله يحضر خطبة الجمعة في المسجد وكذلك الشيخ صباح الأحمد أطال الله في عمره.
ثم تم تعييني إماماً في مسجد ابن بحر وموقعه مقابل إدارة الجمارك عند قصر السيف على شارع الخليج العربي وهو أول مسجد في الكويت وأقدمها وقد جدده المحسن عبدالله الإبراهيم وعرف بمسجد الإبراهيم قبل أكثر من مئة سنة، ثم جاءت وزارة الأوقاف وهدمته ورفعته وحطت تحته دكاكين علشان يواسي منطقة بهيته، وفي تاريخ 1 أغسطس 1957 كنت فيه إماما حتى سنة 1962 حيث تم إزالته بحجة توسعة شارع الخليج وهو لا يضايق التوسعة ولا شيء واتحسر على إزالة أقدم مسجد بالكويت بحجة العمران والمفروض أن لا يُزال.
وهو مسجد كبير وفي عهد الشيخ سالم المبارك كانت تقام فيه صلاة الجمعة بصفته أقدم وأكبر مسجد بتاريخ الكويت.
ثم انتقلت إلى مسجد العجيري مرة أخرى كإمام له وبعدها أصبحت إماما وخطيبا في مسجد قطعة ستة بالفيحاء وذلك في عام 1962.
ثم انتقلت إلى مسجد الحداد مقابل البنك التجاري وبقيت إماماً لعدة سنوات. وفي عام 1967 نقلوني مرة ثالثة إلى مسجد العجيري أول مسجد عملت فيه وبقيت فيه إماماً لمدة إحدى عشر سنة حتى تقاعدت في سنة 1978م وخدمت بالأوقاف ما بين إمام ومؤذن وخطيب ثلاثين سنة.
دكان غنام والمرادي
ويستكمل الشيخ أحمد الغنام ذكرياته قائلا: عملت في دكان الغنام الذي يمتلكه والدي رحمه الله ويقع في سوق الغربللي، وكنا نبيع المرادي وهي عبارة عن أعواد خشب مستورد من بلدة جوا بالهند بواسطة السفن الشراعية ونشتريها جملة من صاحب العمارة ثم نقوم بفرزها كل عشرين أو ثلاثين عودا في حزمة، ونتركها في البحر بالنقعة حتى تشرب ماء مالحا ثم ننشفها ونحكها حتى تكون ملساء، وهذه المرادي لها استخدمات كثيرة لدى أهل الكويت حيث أهل البادية يستخدمونها كاطناب لبيوت الشعر وملاميذ وعصا محفارة وعصا غنم للشاوي، كما يستخدمها العوازم أهل الكويت أصحاب الحظور في بناء الحظرة التي تستخدم في صيد الأسماك، وكان العوازم يقصدون دكان ابن غنام ونعرفهم حق المعرفة، ويقولون في الأمثال الكويتية«دفعة مردي والهوى شرقي»، وتضرب على الشخص البغيض ، واستمريت أعمل في دكان الوالد سنوات طويلة وتنوعت بضاعتنا كمشتقات النايلون والبلاستك وغيرها من الأدوات التي يستخدمها الناس بعد ذلك ولكن بعد افتتاح الجمعيات التي تجلب مثل بضائعنا أغلقنا دكاننا بعد غزو العراق الغاشم على الكويت وارتفعت الإيجارات فأغلقنا دكان الغنام.
البستكي والتاجر الشيعي
ويبين العم أحمد الغنام قيمة الكلمة التي تعطي قائلا: كان هناك تاجر كويتي شيعي اتفق مع رجل سني من أسرة البستكي بضاعة على الأصول وكان ذلك قبيل الحرب العالمية الثانية وعندما اندلعت الحرب ارتفعت الأسعار بشكل كبير وتضاعفت والشيء الذي قيمته عشر روبيات أصبحت قيمته أربعين روبية، ووصلت البضاعة وأوصلها البستكي إلى دكان صاحبنا الشيعي فقال الشيعي يا حجي أنا لا استطيع شراء البضاعة لارتفاع أسعارها بعد اتفاقنا فرد عليه البستكي ومن قال ان سعرها تغير أنت ملزم بالسعر المتفق عليه وقتها ولو انخفضت الأسعار عما نحن اتفقناعليه فأنت ملزم باتفاقنا وإذا ارتفعت الأسعار فأنت ملزم أيضا بالاتفاق فالبضاعة مباعة لك وفق السعر الذي اتفقنا عليه بكلمتنا ويذكر أن التاجر الشيعي ربح من هذه البضاعة ألف روبية آنذاك والألف روبية لها رنة والكويتيين أهل كلمة ووفاء ومصداقية.
أبو مريوم والعجمي
ويتذكر العم الغنام حادثاً آخر فيقول:
جارنا من شمال المرحوم محمد أبو مريوم في سوق الغربللي وهو رجل محترم شيعي، فأذكر أنني في إحدى السنوات سافرت إلى الإحساء وقابلت رجل عجمي من آل مرزوقي لا أتذكر اسمه سألني من أنت فقلت أنا ابن غنام فرد جار أبو مريوم فقلت نعم فقام يهز رأسه ويضيف«ونعم بأبومريوم» ففي إحدى السنوات كنت بالسوق بالكويت ولقيت غنم طيبة وفيها مربحية ولكن صاحبها يريد فلوسها نقدي وأنا لم أملك فلوس نقدي فزرت دكان أبو مريوم للسلام عليه وجلست فقال لي «أبو مرزوق شفيك سرحان علمني»، فرديت عليه«لقيت غنم تسوى وراعيها يريد نقدي وأنا ما عندي نقدي»، فقام أبو مريوم ورمى علي مفتاح التجوري وقال خذ قيمتها من التجوري وكانت قيمة الغنم خمسة آلاف روبية فأخذت منه عشر ورقات من فئة خمسمئة روبية فطلعت واشتريت الغنم وبعتها في السعودية وربحت فيها ربح جيد.
فقلت إن أبو مريوم شريك معي في الربح فقمت وجهزت الخمسة آلاف في كيس ونصيبه من الربح في كيس آخر وجيت إلى دكانه وسلمت عليه وأعطيته الصرة الأولى ورفض أخذ الصرة الثانية وقال أنا سلفتك قرض حسن وإذا في ربح فلك ورفض استلام الأرباح وعندما أردت العودة إلى أهلي بالبر قال خذ معك مأكله وهي وقية هيل ووقية شاي ووقية سكر وهذه هدية إلى عيالك.
الغوص على اللؤلؤ
ويتحدث عن مهنة الغوص على اللؤلؤ قائلا:
لم أعمل في مهنة الغوص على اللؤلؤ وكذلك والدي لم يعمل في هذه المهنة العريقة التي توارثها الكويتيون القدامى جيلا بعد جيل وكانت مهنة صعبة وشاقة حيث يركب البحار البحر بواسطة السفن الشراعية ويتوجهون إلى المغاصات وسط مياه الخليج العربي ويظلون أكثر من أربعة أشهر يغوصون في أعماق البحر بحثا عن المحار واللؤلؤ، وللأستاذ سيف مرزوق الشملان كتاب قيم حول تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت وهو أجود ما كتب عن هذه المهنة.
ونحن لم نركب الغوص لاشتغالنا بدكاننا في بيع المرادي.
هدم السور
ويتحسر الشيخ أحمد غنام الرشيد على حادث هدم السور بقوله:
اتحسر على هدم السور الثالث الذي بناه الكويتيون في رمضان 1338«1920م» وكان يحمي الكويت من الأخطار الخارجية فكان من الأولى أن يتركوا القلاع أو ما يعرف بالغولة ولا يهدموها لتكون شاهداً على تاريخ الكويت وآثاراً وهم تركوا البوابات وكان الشيخ عبدالله الأحمد رحمه الله رافضا هدم السور لمعرفته بأنه يمثل التراث الكويتي العريق. واتحسر على هدم المباني التاريخية فالمدرسة المباركية التي تأسست عام 1911م«1330هـ»، هدموها وقضوا عليها وهي أول مدرسة نظامية بتاريخ الكويت والحمدلله أنهم تركوا الديوانيات القديمة المطلة على البحر لتبقى شاهداً على الماضي.
وكذلك مسجد آل البحر أول وأقدم مسجد بتاريخ الكويت تم إزالته بحجة توسعة شارع الخليج العربي وهذا خطأ كبير ارتكب بحق التاريخ.
من علماء الكويت
يحدثنا الشيخ أحمد الغنام عن أحد علماء الكويت القدامى قائلا: الشيخ مساعد العازمي طبيب كويتي قدم خدمات جليلة لأهالي الكويت عبر تطعيمه ضد مرض الجدري واشتهر شهرة واسعة وتوافدت عليه الأهالي ثم ضايقوه وسافر إلى البحرين وسكن قرية اسمها عسكر وتزوج فيها وتوفي هناك عام 1943. وهو خريج جامعة الأزهر وحاصل على الشهادة العالمية قبل أكثر من قرن وربع القرن وهو من علماء الكويت الأجلاء وتعلم التطعيم ضد الجدري في مصر واشتهرت بتتينة الشيخ مساعد.
قاضي الكويت عبدالله خلف
الشيخ عبدالله خلف الدحيان من علماء الكويت الأجلاء وكان قاضيها وفقيها حيث تولى القضاء في رمضان 1348 هـ بعد وفاة الشيخ عبدالله خالد العدساني أخذ قضاة العداسنة الذين توارثوا القضاء لقرابة مئة وخمسين سنة واشتهرت أوراقهم وصكوكهم بالوثائق العدسانية. واستمر الشيخ عبدالله خلف وكيلاً بالقضاء وليس أصيلا بناء على طلبه وكان مجلس القضاء يعقد في ديوانه ولكنه توفي في العشر الأواخر من رمضان 1349«1931م»، وكان رحمه الله يحاول أن يصلح بين المتخاصمين قائلا«والصلح خير»، لكي يخرج جميع المتقاضين متحابين راضين عن الحكم أما إذا رفضوا الصلح فيحكم بينهم وفق علمه الواسع بالكتاب والسنة.
رثاء ابن جراح
مما قاله الشيخ أحمد غنام الرشيد في رثاء الشيخ محمد سليمان الجراح رحمه الله
مصاب جسيم وخطب جلل
فمنه على الخد دمعي انهمل
وقلب تصدع من وقعه
وحار المحبون مما حصل
قضاء الإله رضينا به
فلا حول إن حل وقت الأجل
وهذا مآل جميع الورى
تحتم من قدم لم يزل
فعنا توارى حليف التقى
كريم السجايا العليم الأجل
فأعني بن جراح سامي الذرى
محمد بدر الدجى قد أفل
عليه بكى عارفو قدره
فسكناه يا صاح أقصى المقل
فيا قبر رفقاً بعلامنا
ففيك غدا اليوم يا قبر حل
وكن روضة منه رياض الجنان
بها برد عيشٍ وظل ظلل
ترفق بشيخ العلا إنه
حبيب لدينا ولو قد رحل
وطلاب علم فعزي به
فعزي الدروس ببدر أفل
بكته العيون بدمع غزير
وعما جرى في الحشا لا تسل
فنار الفراق بها أضرمت
فوقع لها مثل وقع الأسل