بقلم: يعقوب يوسف الإبراهيم
وإذا أراد الله نشر فضيلة .. طويت، اتاح لها لسان حسود.
لولا اشتعال النار فيما جاورت .. ما كان يعرف طيب نفح العود.
وقع نظري على كتاب «السيد رشيد رضا... منشئ المنار ورائد السلفية الحديثة» لجمال البنا. فجذبني العنوان على الرغم من جهلي بكاتبه الذي لم يسبق لي ان قرأت اي مؤلف له. كل ما عرفته انه الشقيق الاصغر لمؤسس «حركة الاخوان المسلمين» المرحوم حسن البنا، لكن اهتمامي هذا جاء لكوني اقوم حاليا بإعداد كلمة عن شخصية بارزة يُعد لتكريمها قريبا في الكويت في مهرجان شعبي «لرواد التنوير والعطاء» وقد ارتبط صاحبها بالسيد رشيد رضا.
وعند تصفحي السريع وجدت في محتوياته موضوعا عن تأسيس «دار الدعوة والارشاد» الذي هو سبب العلاقة بين الاثنين، مما دفعني لاقتنائه علني اجد فيه جديدا اضيفه، ربما يكون من باب الفائدة عرض الكتاب الموقوف على محتوياته: فهو من الحجم المتوسط 16.5 سم x 23.5 سم، يشتمل على 175 صفحة صادر من دار الفكر الاسلامي بالقاهرة 2006. والكتاب بمحتواه توثيقي الجانب ذو فصول خمسة، وفيه اشادة واضحة بدور السيد رشيد رضا ــــ وهو قول لا يختلف فيه اثنان ــــ يعتمد على مصادر كتبت عنه، اضافة الى استعانته باعداد مجلة المنار. ومما يلاحظ اهتمام المؤلف بعلاقة اسرته بالمترجم، ومنهم والده احمد عبدالرحمن البنا، هامش ص50، وملحق كامل يحمل رقم 4 مكون من اربع صفحات ص155 الى ص158 عن شقيقه حسن البنا، بعنوان مقارنة بين الامام حسن البنا والسيد رشيد رضا ــــ لاحظ لقب الامام الذي اقتصره المؤلف على شقيقه وحرم منه الكثيرين ممن جاء ذكرهم ومنهم محمد عبده الذي اكتفى بشيخ!! ــــ بالاضافة الى ملحق رقم 5 عن الامير شكيب ارسلان مكون من 16 صفحة، ولاستاذ اللغة العربية في الجامعة اللبنانية ــــ كلية الآداب محمد كشاش (ملحق 2) جاء في 21 صفحة. اما المذكرة المرفوعة الى رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج (ملحق 1) فكانت على صفحتين، لكن موضوع اهتمامي عن تأسيس «دار الدعوة والارشاد» فكانت حصته في مجموعها تشكل قرابة 1/4 الكتاب، وهي 9 صفحات في المتن بالاضافة الى 36 صفحة هي ملحق رقم (3).
وصف الدار
ما سوف ابتدئ به يأتي على ص70 هو ما ينقله المؤلف عما كتبه السيد رشيد رضا اقتباسا من اعداد المنار جاء كالتالي مع بعض الاختصار:
«كان تأسيس دار او مدرسة لاعداد الدعاة من اهم الافكار التي شغلت بال رشيد رضا في سنواته الاولى. فقد ظهر له ان ايجاد الاداة التي تعد هؤلاء وتسلحهم بالثقافة والمعرفة هو الضمان الاعظم لاستمرارية الدعوة».
وقد تحدث السيد رشيد رضا عن فكرة دار الدعوة والارشاد مرارا وتكرارا.
كما جاء في الجزء الاول من المجلد الرابع عشر من المنار الصادرة يوم الاثنين 29 محرم 1329 هــ الموافق يناير 1911م ص42 الى ص45.
ويضيف على ص 71: وكانت البداية مقالات ظهرت في جمادى الأولى 1318 هــ اغسطس 1900م. في مقالتين الاولى «الدعوة إلى حياة الأديان» والثانية «الدعوة وطريقها وآدابها»، وكتب في مقالات اخرى ردا على كتب وصحف دعاة النصرانية «شبهات النصارى وحجج المسلمين».
وفي عام 1323 هــ ــ 1905م كتب مقالة نوه فيها بالدعوة، واشار الى الاستعداد لها وبحث فيها دعوة اليابانيين الى الاسلام وانشاء جمعية الدعوة ومدرسة لاعداد الدعاة.
وقد راسل من وصفهم بــ «اهل الغيرة من الصين وبلاد المغرب» واشار الى ذلك في الجزء الاول من المنار الذي صدر في محرم 1324 هـ ــ فبراير 1906.
كما كاشف اصدقاءه في مصر ومنهم صاحب الدولة رياض باشا ليصبح رئيسا للجمعية التي تقوم بالاكتتاب لتنفيذ العمل، ويكون امين السر محمود بك سالم، امام الاعضاء، فمنهم حسن باشا عاصم ومحمد بك راسم وغيرهما من الفضلاء، واجتمعوا مرارا في المنار.
ويضيف نقلا عن السيد رشيد رضا: «شاورت يومئذ احمد مختار باشا الغاوي في العمل فاستحسنه هو وولده محمود باشا، ووعدني بالاشتراك بمائة جنيه في السنة عدا ما يدفعه من نفقات التأسيس، ولكن عرض في اثناء السعي دعوة كامل بك الغمراوي إلى تأسيس مدرسة جامعة مصرية. وتلت ذلك العسرة المالية في مصر فوقف الاكتتاب للمدرسة الجامعة ووقف ايضا سعي المشروع للدعوة».
رحلة الاستانة
أما على ص 72 فنظهر الامور كما يلي: «ثم حدث الانقلاب العثماني عام 1326 هــ ــ 1908م الذي كنا نسعى اليه في الخفاء ثم خلع السلطان عبدالحميد الذي كان مانعا في بلاده من كل علم وعمل نافع يجب على المسلمين القيام به، فعزمت ان اجعل مشروع الدعوة والارشاد في الاستانة لاسباب اهمها امران: انني ارجو انجاحه ومساعدته والثقة به بالاستانة في ظل الدستور ما لم ارجه في مصر التي اتوقع فيها مقاومة الحزب الوطني. (وثانيا) انني رأيت الدولة تكثر فيها الفتن باختلاف العناصر والمذاهب، وانني اعلم ان لكل طائفة من النصارى العثمانيين مدارس دينية تابعة لبطاركهم على شدة اقبالهم على مدارس دعاة دينهم من الافرنج، واعلم ان المسلمين هم المحرومون من ذلك، فقلت في نفسي ان تأسيس المشروع في الاستانة تكون فائدته الاولى ترقية مسلمي الدولة العلية في دينهم ودنياهم والتأليف بينهم وبين ابناء وطنهم ومنع اسباب الفتن والخروج على الدولة من اقرب طرقها وهو الوعظ الديني، وبذلك يكون ارتقاء الامة العثمانية الاجتماعي والاقتصادي سريعا وبه تزيد ثروة الدولة وقوتها.
فرحلت الى الاستانة في اواخر رمضان 1327 هــ ــ 1909 بعد مكاتبة في المشروع مع بعض معارفي فيها، ومع رجال جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك ظهر منها ميلها الى مشروعي حتى انها سألت عن سفري بلسان البرق (تلغرافيا) وتلقتني بحفاوة في ازمير والاستانة، وقد اقمت سنة كاملة لا عمل لي فيها الا السعي لهذا المشروع، وقد كتبت مقالات اكثرها هناك بالتركية والعربية في جريدة اقدام وجريدة كلمة حق ثم جريدة الحضارة، وبجدها القارئ في مجلد المنار للسنتين الماضيتين.
وعلى ص 73 يكمل الآتي: عرضت المشروع هناك على وزراء الدولة وكبرائها من رجال جمعية الاتحاد والترقي وغيرهم، فاتفقت كلمتهم معي بصرف النظر عن مسألة تخريج الدعاة، وان تسمى المدرسة المراد انشاؤها «دار العلم والارشاد»، وكان قد وصل المشروع وزارة حسين حلمي باشا الى حيز التنفيذ اذ قال لي: «ان العمل قد تم نهائيا، فألف الجمعية حالا ونحن نصرف لكم خمسة الاف ليرة لاجل الابتداء بالعمل، وفي السنة المالية تزيد لكم بقدر الحاجة، ولكن استقالت وزارة حسين حلمي باشا قبل ان نتمكن من تأليف الجمعية».
ثم استأنفت العمل في وزارة حقي باشا وقد عرض عليّ ناظر الداخلية وناظر المعارف فيها ان آخذ رخصة باسمي وادع مسألة الجمعية إلى فرصة اخرى فلم اقبل، وقلت يجوز أموت بعد مدة قليلة حينئذ تصير المدرسة لورثتي وهم ليسوا أهلا لهذا العمل فلا بد من جمعية. وقد فوضت اليهم اختيار الاعضاء المؤسسين فاختارهم ناظر المعارف مع مدير شعبة الالهيات والادبيات في دار الفنون من صفوة رجالهم في المشيخة الاسلامية ومجلس الأمة ونظارات الحكومة، وقد ذُكرت اسماؤهم في الجزء السادس من المنار الذي صدر في جمادى الآخرة 1328 هــ ــ يونيو 1910م ومنهم شيخ الاسلام الحالي وكان من اعضاء مجلس الاعيان والمدرسين واقترح ان يكون شيخ الاسلام رئيس شرف الجمعية فقبلت.
كان هذا في شعبان من السنة الماضية، وفي رمضان بلغنا شيخ الاسلام صورة القرار الذي قرره مجلس الوكلاء فاذا فيه ان المدرسة تكون لها لجنة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الاسلام، ولم يطرق سمع احد من اعضاء الجمعية هذا الرأي الا في أوائل رمضان وهو الشهر المتمم للسنة من سعيي للمشروع هناك. لم أكن انا الذي اعترضت وحدي على هذه الفقرة من القرار بل اجتمعت جمعية العلم والارشاد بدار الفنون بعد ظهر يوم الجمعة 19 رمضان 1328 هــ 25 سبتمبر 1910م، وقررت باتفاق الآراء الاعتراض على قرار مجلس الوكلاء وبلغوا شيخ الاسلام قرارهم بالكتابة الرسمية فقال حفظه الله: ان الاعتراض في محله (حقكز وار) أي معكم الحق، وانه سيراجع الباب العالي ويقترح تعديل قرار مجلس الوكلاء وجعل مدرسة دار العلم والارشاد خاصة بالجمعية التي الغت لاجلها وقد كتب بالفعل إلى الباب العالي يقترح تعديل القرار»، انتهى الاقتباس من المنار.
ليلة الافتتاح
اما على ص74 يذكر المؤلف بعد هذه المقدمة وملابساتها: «نتيجة لهذه التطورات، ولان المشروع اكتسب معارضة شخصيتين بارزتين هما: محمد فريد والشيخ عبدالعزيز شاويش لما سبق إلى ذهنهما من ان المدرسة هي خاصة بتخريج مبشرين اسلاميين، ولان لصاحبها علاقة بالدوائر البريطانية في مصر وعلى رأسها «الدون حورست» المندوب البريطاني (الاسم الذي كتبه المؤلف خطأ والصحيح هو السير ايلدون كورست SIR EL DON GORST وقد عين بعد اللورد كرومر عام 1907م واستمر في منصبه حتى عام 1911م).
ويضيف كانت هذه ظنونا غير صحيحة، طرح السيد رشيد رضا فكرة تكوينها في الاستانة واعتمد على نفسه وعلى المجموعة الوثيقة التي تبارك الفكرة في مصر وعكف على اعداد الترتيبات العملية ووضع لائحة المدرسة في عددين من المنار واجرى اتصالاته الخاصة بحيث امكنه افتتاحها بصورة عملية في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي سنة 1330 هــ ــ 1912م في مقرها بجزيرة الروضة». انتهى ما كتبه المؤلف بهذا الخصوص.
ولكنه لم يوفر للقارئ الأسباب والقدرة المالية التي مكنته من تحقيق ذلك ومن هم الاشخاص الذين ساهموا بالانفاق على المشروع، مختصرا كل المعاناة والمحاولات التي ابتدأت منذ عام 1318 هــ ــ 1900م حتى اتمام تحقيقها في ربيع 1330 هــ/ مارس 1912).
واكتفى بقوله: «اعتمد على نفسه وعلى المجموعة الوثيقة التي تبارك الفكرة بمصر وعكف على اعداد الترتيبات العملية واجرى اتصالاته الشخصية بحيث امكنه افتتاحها بصورة عملية في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي سنة 1330 هــ ــ 1912 في مقرها بجزيرة الروضة.. ونسي أو تناسى ما ذكره كما راينا على ص71 عن دعوة كامل بك الغمراوي لتأسيس جامعة مصرية تم عن العسرة المالية التي تلتها وتوقف اكتتاب الجامعة ومن ثم توقف مشروع الدعوة.
وكذلك تناسى ما ذكره على ص72 من تفضيله اقامة المشروع في الاستانة لانه كان يتوقع معارضة الحزب الوطني لها في مصر..!!!
لقد تركنا المؤلف فجاءة امام فراغ للأحداث بعد سرد واف شغل ثلاث صفحات من كتابه، شارحا الاخفاقات المتكررة لمسعى رشيد رضا وعدم توافر المصدر المالي رغم الصعود المتكرر في كل من مصر والاستانة حتى رمضان 1328ه - سبتمبر 1910م.
ولكنه فجاءة يتمكن رشيد رضا خلال سنة واحدة وبضعة أشهر ان يفتتح مدرسة دار الدعوة ليلة المولد النبوي 1330ه - مارس 1912 في مبناها بجزيرة الروضة. ولم يأت بتفسير لهذا التغير الفجائي فجاءت الأمور كأنها رمية بدون رام.
وتحولت الأشياء بقدرة قادر من الفشل الذريع الى النجاح الباهر.
والاكثر غرابة هو عدم الافصاح عما إذا ما كان رشيد رضا قد كتب عن تلك الفترة والتغيير الجوهري للأمور وهو الذي عرف عنه تسجيل احداث حياته صغيرها وكبيرها ونشرها في مقالاته المستمرة في المنار بكل دقة ووضوح.