تاريخ الهندسة في الكويت... قصة وطن في سيرة ذاتية (5)
23-11-2017 - جريده الجريده
وقع الشيخ أحمد الجابر الصباح بتاريخ 23/12/1934 اتفاقية بين الكويت وشركة نفط الكويت المحدودة للبحث والتنقيب عن النفط، فبدأت الشركة نشاطها في منطقة المقوع التي تبعد عدة كيلومترات شمال الأحمدي، وذلك بعد اكتشافها لحقل برقان.
ثم نقلت شركة نفط الكويت مقرها من المقوع إلى الموقع الحالي لمدينة الأحمدي، وذلك لوجود آبار المياه العذبة في منطقة «ملح» في الجنوب الغربي منها، كما أنها محمية من الناحية الغربية بساتر منطقة الظهر الذي يحميها من رمال سافي الصحراء ويحميها من سيول الأمطار المتدفقة من الصحراء إلى الخليج، كما ارتبط اختيار موقع هذه المدينة باختيار موقع الميناء الذي سيصدر منه النفط المستخرج من حقل برقان.
وخلصت الدراسات التي أجرتها شركة نفط الكويت إلى أن أفضل موقع للميناء هو المنطقة الواقعة ما بين قرية الفحيحيل وقرية الشعيبة، لتكون نهاية لخط الأنابيب الواصل بين حظيرة خزانات النفط والمنطقة على ساحل البحر التي سيبنى فيها الميناء.
كلف مكتب ولسون ميسون Wilson Mason لوضع المخطط الهيكلي للمدينة الجديدة، كما كلف مكتب جين درو Jane Drew بتصميم مستشفى الأحمدي عام 1949 والمستوصفات والمدارس والمساكن، ثم بنيت بعض البيوت الجاهزة لكبار المديرين الإنكليز والأميركيين شمال المدينة، وسميت مدينة الأحمدي عام 1947 نسبة للشيخ أحمد الجابر الصباح.
صممت مدينة الأحمدي لتعزز الفصل العنصري ما بين الإنجليز والأميركيين من ناحية وبقية العمال من ناحية أخرى، حيث لا يسمح للعمالة الأخرى بالانتقال واستعمال الخدمات المخصصة للفئة الأولى.
فصممت المنازل ووزعت حسب الوظيفة، وقسمت إلى مناطق يسكنها الإنكليز والأميركيون فقط، ومناطق أخرى يسكنها الهنود والباكستانيون، والمنطقة الثالثة يسكنها العمال العرب.
مدينة الكويت
نمت مدينة الكويت منذ نشأتها، حتى عام 1949 نمواً طبيعياً، ثم بدأت المدينة تأخذ منحى آخر بعد وضع المخطط الهيكلي الأول حيز التنفيذ عام 1952، فظهرت فيها الشوارع الواسعة المستقيمة، والمناطق التجارية وشارع فهد السالم بعماراته العالية المكونة من خمسة طوابق غير مألوفة المنظر في حينه، ومتاجره الحديثة وشققه التي لم تشهدها الكويت من قبل، وبدأت ساحة الصفاة تفقد أهميتها شيئاً فشيئاً.
وبدأت أحياء الكويت وأزقتها تختفي، ونزح سكان المدينة إلى الضواحي، إلى أن أصبحت المدينة خالية من سكانها تقريباً، قبل أن تنزح إليها جحافل العمال لتسكن البيوت المهجورة.
وبدأت المباني العالية تظهر في سماء الكويت، حيث تم إنشاء مبنى وزارة الإعلام عام 1961 ليكون أول مبنى في الكويت بارتفاع خمسة طوابق، أدخل فيه التكييف المركزي والمصاعد، وكان يعتبر من أعلى المباني وأفضلها، وما ضاهاه إلا مبنى بلدية الكويت الذي انتهى عام 1963.
المخطط الهيكلي الأول
قام مجلس الإنشاء بتكليف مكتب (مينوبريو)، (سبنسلي) و(ماكفارلين) (Minoprio, Spencelly & McFarlane) وذلك في أبريل 1951 لوضع الأسس الأولى للمخطط الهيكلي، وهي خطة التنمية الأولى التي كلف بها المكتب المذكور بإعداد أول مخطط هيكلي للكويت، وانتهى العمل به عام 1952، ويعتبر المخطط الهيكلي لأية دولة بمثابة خريطة طريق لمشاريع التنمية ودستور الدولة العمراني والحضري.
وبني المخطط الهيكلي على أساس الطرق الدائرية والشعاعية ونظام الضواحي والحدائق، حيث كان أساس التصميم وحجر الأساس له هو أن تكون مدينة الكويت حديقة كبيرة Garden City، مثلما كان متبعاً حينها في معظم القرى والمدن الأوروبية الصغيرة، فركز المخطط على أن تكون منطقة سور الكويت حديقة كبيرة تربط شرق الكويت بغربها بعمق 250 متراً.
الملاعب والنوادي الرياضية
لم يكن في الكويت أي ملعب رياضي سوى ملاعب مدينة الأحمدي، وكانت الساحات المفتوحة والبراحات داخل مدينة الكويت تستعمل لكثير من الأنشطة الرياضية، فكانت الساحات المفتوحة الخالية تستعمل للعبة (الهول) ولعبة (الدقة) أو لعبة (المقصي)، أما لعبة كرة القدم فقد كانت لها ساحاتها الخاصة بها، بعيداً عن البيوت، وكانت الملاعب الترابية في منطقة الشرق مثل ملعب (بو الحصم) الواقع بجوار مبنى عمارة الخليجية الحالي، وملعب وزارة التربية الواقع في حوطة تسمى حوطة أم الصفصاف، وكان هناك ملعب في الساحة القريبة من السفارة البريطانية بين قصر دسمان والسفارة البريطانية.
عناصر المخطط
فصل المخطط الهيكلي بين المدينة القديمة والضواحي الجديدة، باستحداث الحزام الأخضر بين السور القديم والطريق الدائري الأول، كما حرص على وضع المنطقة الصناعية في منطقة الشويخ، وكذلك منطقة المستشفيات والخدمات الصحية والمطار الجديد في مواقع معاكسة للمدينة، وذلك للتخفيف من الازدحامات المرورية، بالرغم من عدم وجودها في ذلك الوقت.
ووضع المخطط الهيكلي الأسس للطرق الدائرية والطرق الشعاعية، وأدخل نظام الضواحي السكنية ما بين الطرق الدائرية والشعاعية، كما أوصل الطرق الشعاعية إلى المدن والقرى البعيدة مثل الجهراء والأحمدي.
الطرق الدائرية والشعاعية
ركز المخطط الهيكلي الأول على خلق طرق دائرية تحيط بالمدينة من شرقها إلى غربها، تبدأ بشارع السور ثم الدائري الأول فالثاني فالثالث، وترك جزء من الرابع كنقط للتوسع المستقبلي.
وقسمت الكويت إلى مناطق انتهت بالدائري الرابع وصممت على أساس طرق دائرية ومحورية، حيث تربط الطرق الدائرية شرق الكويت بغربها، وتربط الطرق الشعاعية شمال الكويت بجنوبها وغربها.
حل شارع السور محل سور الكويت القديم، والذي كان يحيط بالمدينة القديمة من شرقها إلى غربها والذي يبدأ من قصر دسمان وينتهي عند بوابة المقصب، وأقيمت على الدائري الأول المناطق السكنية الأولى وهي الدسمة والمنصورية والشامية والشويخ، في حين كانت ضاحية عبدالله السالم والنزهة مطار الكويت القديم حتى نهاية الخمسينيات، ولم يبدأ تطويرها وتقسيمها وتوزيعها إلا في نهاية ستينيات القرن الماضي.
نظام الضواحي
تدارس المخطط الهيكلي الأول قواعد تخطيط مدينة الكويت وضواحيها، وذلك بتخطيط مدينة الكويت على أن تكون المدينة محاطة بثماني مناطق سكنية نموذجية بمساحة نحو 2 كيلو مترمربع لكل منطقة تقع ما بين الطريق الدائري الأول والثاني والثالث، تمتد من المنطقة الواقعة خارج السور من الدائري الأول وحتى الدائري الثالث بمساحة 1450 هكتاراً. وكل ضاحية سكنية بكثافة قليلة تتوافر فيها جميع الخدمات في مركز الضاحية الذي يحتوي على سوق مركزي والخدمات الإدارية والمرافق العامة والترفيهية، وجميع الخدمات التي يحتاج إليها داخل المنطقة من خدمات بريد وبنوك وتسوق ومخفر شرطة ومستوصف وغيرها من الخدمات التي يتطلبها ساكن المنطقة، كما خططت مناطق صناعية داخل مدينة الكويت في منطقة الشرق محاذية لشارع السور، ومنطقة أخرى في منطقة الشويخ الصناعية، ووضع هذا المخطط الهيكلي أسس تصميم الكويت على أفضل تصميم، وحد من التخبط في التخطيط الذي تعانيه مدن حديثة كثيرة.
تصميم العديلية والخالدية هو الأفضل بين جميع الضواحي
اتفق المعماريون والمخططون الذين كانوا يعملون في هذا المجال في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي على أن تصميم العديلية والخالدية هو الأفضل بين جميع الضواحي التي صممت، وعليه تم الاتفاق أن تطبق نفس معايير هاتين المنطقتين على المناطق التي سيتم تصميمها مستقبلاً، وذلك لناحية الكثافة السكانية وسعة الشوارع والارتدادات والمناطق المفتوحة والحدائق وغيرها من المعايير
توزيع القسائم السكنية
بعد وضع التثمين حيز التطبيق، بدأت الدولة استملاك منازل المواطنين داخل المدينة، لتحرير الاراضي وإفساح المجال لمشاريع الدولة من طرق ومبانٍ حكومية وخدمات.
ولوضع المخطط الهيكلي موضع التطبيق، وزعت الدولة الأراضي في المناطق السكنية المخصصة لبناء المساكن، التي حددها المخطط الهيكلي، فبدأت عام 1956 بتوزيع القسائم لمستحقيها في منطقة الشامية والشويخ والدسمة، تلتها عام 1958 منطقة كيفان ثم منطقة الدعية والفيحاء والقادسية عام 1962، ثم الشعب عام 1963، تلتها الخالدية والعديلية عام 1964، ثم الرميثية والروضة والصليبيخات عام 1965، ثم العمرية والمنصورية عام 1966، ثم ضاحية عبدالله السالم والنزهة عام 1968
صناعة البناء
بدأت صناعة البناء في الكويت تتطور، بعد الحرب العالمية الثانية، والبدء في إنشاء مدينة الأحمدي، وكان من أوائل ورواد صناعة البناء يوسف أحمد الغانم ومساعد الصالح وعيسى الصالح وعبدالله الملا.
وبعد تسلم الشيخ عبدالله السالم مقاليد الحكم وسياسة التثمين وإنشاء مجلس الإنشاء بدأت عملية الإعمار الفعلية التي لم تشهد المنطقة مثلها من قبل، واستن الشيخ عبدالله السالم تقليداً مهماً لإطلاع أهل الكويت على ما تنوي الدولة عمله من مشاريع مستقبلية، فكانت مخططات المشاريع المقبلة للدولة وبرنامج عمل الحكومة من مشاريع يعرض في مقر بلدية الكويت التي تقع في ساحة الصفاة.
إزالة سور الكويت الثالث عام 1957
جاء قرار إزالة السور بقرار حكومي صادر من المجلس الأعلى للدوائر الحكومية، الذي كان يعد آنذاك من أعلى سلطات البلد بعد سلطة الأمير، إذ نادى هذا المجلس بهدم السور تمهيداً لتطبيق المخطط الهيكلي الأول، الذي تم وضعه عام 1952، وجاء ذلك بناء على توصية من المهندسين العاملين في بلدية الكويت ووزارة الأشغال العامة.
وبدأ العمل في إزالة السور في شهر فبراير 1957 بعد أقل من شهر من وفاة الشيخ عبدالله الأحمد الجابر الصباح في 28/1/1957 الذي كان من أشد المعارضين لإزالة السور.
تخطيط الكورنيش (شارع الخليج)
تعامل المخطط الهيكلي الأول مع الواجهة البحرية وخصصت لها مساحة كبيرة، فقد كانت الواجهة البحرية هي متنفس الكويت على مدى السنين، فلم يكن يفصل المنازل والديوانيات والعماير الواقعة على البحر سوى ساحة ترابية تستعمل كطريق، وفي كثير من الأحيان وخلال ارتفاع المد يصل البحر إلى البيوت تقريباً، ومع استمرار الاستملاكات وتملك الدولة لمعظم المنازل والمساحات المفتوحة فقد تقرر البدء بإنشاء شارع الكورنيش.
كما كان يسمى في البداية، وكان مخططاً له في بادئ الأمر أن يغطي طول 6 كيلومترات وهي المنطقة الواقعة من بوابة المقصب غرب المدينة إلى شرقها، حيث ينتهي عند السفارة البريطانية، ثم تقرر مده حتى يصل إلى رأس السالمية ثم إلى البدع، بحيث يكون خالياً من العوائق، وحدد موقع مجلس الأمة ليطل على البحر قريباً من المنطقة الحكومية، التي حدد لها موقع محاذ لقصر السيف، مع توسعته الجديدة من الناحية الغربية.
السكن النموذجي
قسمت الضواحي الجديدة، خارج السور إلى قسائم تتراوح مساحتها ما بين 750 و1000 مترمربع وزعت على السكان نظير قيمة رمزية، وكانت الأولوية لمن شمل الاستملاك بيوت سكنهم الخاص، وأراضيهم داخل المدينة.
وكان توفير السكن للمواطنين يتم بخيارين، إما قسيمة وقرض وإما بيت مبني، وبعد عدة سنوات أضيف خيار ثالث وهو إعطاء شقة، كما حدث في مجمع الصوابر.
وقد وزعت القسائم السكنية على المناطق السكنية خارج السور بواقع 900 قسيمة سكنية تقريباً لكل منطقة سكنية، والتي تقع ما بين الدائري الأول والدائري الرابع، وبنيت الفلل على قسائم، إما 750 متراً مربعاً أو 1000 متر مربع خصص معظمها للذين ثمنت بيوتهم داخل المدينة.
وبالرغم من أن بناء هذه البيوت مكلف نوعاً ما، لكن تصماميم هذه البيوت كان سيئاً إلى حد بعيد، ولم تمض عشر سنوات إلا هدمت هذه البيوت، واستبدلت بأخرى إما عن طريق بيعها والانتقال إلى منزل أخر أو هدمها وبناء منزل أفضل عليها.
إسكان ذوي الدخل المحدود
تبنت الحكومة مشروع إسكان ذوي الدخل المحدود، فقامت ببناء مساكن للمواطنين الذين لم يكن لديهم بيوت أو أراض ولم تستملك لهم الدولة أي أراض أو غير القادرين على القيام ببناء مساكن لهم. بدأتها ببناء نحو 1640 منزلاً عرفت فيما بعد (بالبيوت السود) وزع منها 200 منزل في الشامية و240 منزلاً في كيفان و1200 منزل في الفيحاء، ولم يكن هناك انتظار للحصول على هذه البيوت.
السكن الاستثماري
خصص المخطط الهيكلي الأول مناطق مثل حولي والسالمية وخيطان لتؤوي الأعداد الكبيرة الوافدة من فلسطين والعراق ومصر وإيران والهند، لسد حاجة السوق من العمالة.
ومع الأسف، لم تعط هذه المناطق الأهمية التي تستحقها، فقد أهملت خدماتها وبنيتها التحتية وكأنها ليست جزءاً من الكويت، فكانت منطقة حولي والسالمية تضم 30 في المئة من العمالة الوافدة، وكلما زاد الطلب على السكن زادت الضغوط على البلدية، فسمحت ببناء المزيد من العمارات السكنية التي لا تتوافر فيها أبسط سبل الراحة، فمعظم السكن الذي يتم توفيره لا يتماشى مع متطلبات النمو السكاني سواء للكويتيين أو غير الكويتيين.
كما أن المباني الاستثمارية التي يتم بناؤها هي دون المستوى ومكتظة، وبالأخص الشقق الرخيصة في منطقة حولي، حيث إن توفير السكن لغير الكويتيين مربوط بسياسة الدولة، فقد بات ملحاً توفير السكن الملائم بأسعار معقولة، وأن يكون أحد الأهداف الرئيسة للدولة، والتخلص من المباني السكنية القديمة المتهالكة التي لم تكن يوماً من الأيام تفي بالغرض.
التوسع الأفقي
امتدت المدينة إلى خارج السور وتضاعفت مساحتها خلال سنوات عديدة، وترتب على الامتداد الأفقي زيادة في الأعباء الملقاة على الدولة لتوفير الخدمات ومرافقها، فالتوسع الأفقي يحتاج إلى شبكة طرق ومجار وخدمات يمكن توفير 90 في المئة منها في حالة بناء مبان عالية لنفس كثافة سكان ضاحية من الضواحي، هذا بالإضافة إلى المساحات التي تتطلبها الضواحي ومساكن الفلل.
الكويت أول دولة عربية تطبق نظام تخطيط الضواحي
كانت الكويت أول دولة عربية تطبق نظام تخطيط الضواحي، كما كانت من الدول القليلة في العالم الرائدة في هذا المجال، فطبق هذا النظام الفريد من نوعه في ذلك الوقت على منطقة الدسمة والدعية والشويخ والشامية والفيحاء والقادسية والشعب، وعند تخطيط ضاحية جديدة، يحاول المخططون تطوير تخطيطها ليكون تصميم هذه الضاحية أفضل من سابقتها، إلى أن توصلوا إلى تصميم العديلية، وتصميم الخالدية والتي اتفق جميع المخططين على أنهما الأفضل تخطيطاً.
|