* تم إجراء هذه المقابلة في منزل النوخذة صالح في منطقة الفيحاء - يونيو 1995.
يقول النوخذة صالح رحمه الله :
ابتدأت علاقتي بالبحر وأنا عمري 14 سنة ، وقد شدني حب البحر ورأيت في قلبي الرغبة الشديدة بدخوله ..
" خشب الغانم "
في البداية ركبت مساعد نوخذه مع عمي في بوم " تنكسيري "ملك لمحمد ثنيان الغانم ، وذلك لأربع سنوات متتالية تعلمت فيها الكثير عن أمور البحر،ثم ركبت مع النوخذة راشد المبارك بوظيفة " سكوني" على قلاطه ونص، ، بعد ذلك أراد محمد ثيان الغانم أن يبنى بوم ماء جديد وعرض علي الإشراف على الاستادية والقلاليف على أن أتولى قيادته بعد الإنتهاء منه ، ثم أن محمد ثنيان بعد أن تم استكمال بناء البوم تغيرت نيته وأراد نوخذه آخر لقيادة هذا البوم . فسحبت نفسي وابتعدت ، فلما رأى محمد ثنيان ذلك قال للنوخذة راشد للمبارك لا نريد للنوخذة صالح أن يترك خشبنا ، فأمره فلينظر في أي من خشبنا يريد فله ذلك ..فاخترت النوخذه عيسى بورحمة وهو من النواخذة الكبار ، فركبت معه نوخذة شراع وصار أجري قلاطتين .
ذهبنا للبصرة وحملنا التمر وانطلقنا إلى النيبار وعند عودتنا إلى الكويت رفعنا البنديرة " العلم "،و كان من عادة أهل الكويت أن تخرج سفينة صغيرة " تشاله " لاستقبال العائدين من رحلة السفر و تذبح ذبيحة شكر لله واحتفاء بوصول أهل البحر بالسلامة .. إلا أن التشاله عند وصولها أمرتنا بإنزال العلم لأن حمد الصقر" وهو من كبار تجار الكويت في ذلك الوقت " قد توفاه الله .وكان عمري في ذلك الوقت 17 سنة.
· " بداية التنوخذ " و كان لوالدي وعمي النوخذه علي المهيني بوم اسمه " توكلي " يملكونه مناصفةً مع حمد الصقر .. ركبت فيه عدة سنوات نوخذه شراع مع عمي ، وخلال عودتنا من إحدى السفرات وصلنا إلى البحرين .وأنزلنا حمولتنا فيها وكان عمي مريض فسافر مع إحدى السفن البخارية واستلمت قيادة السفينة إلى الكويت ، إلا إن عمي استمر مرضه وعجز عن قيادة السفينة في الموسم التالي ، فعرض علي عبدا لله الحساوي وكيل الصقر قيادة التوكلي ، فجهزت نفسي للانطلاق . يقول النوخذة صالح عن أولى رحلاته كنوخذه : غادرت الكويت متوجها للبصرة ، وحملت التمر ، وغادرت بعدها إلى كراتشي ، وأنزلت حمولتي ، وحملت فحم إلى البصرة ثم عدت إلى الكويت في رحلة استغرقت 40 يوما وكنت أول الواصلين من السفن للكويت . فسمع الناس خبر وصول سفينة ولكنهم لم يتوقعون أنها سفينتي لحداثة عهدي في قيادة السفن ولأن الوقت لازال مبكرا لوصول السفن إلى الكويت ؛ وكنت قد أرسلت أحد البحرية إلى البيت بأغراضي .. فتفاجأ عمي لما رأى أمتعتي وخاف أشد الخوف من حصول مكروه لي أو للبحرية والسفينة .. فقال له أطمئن نحن بخير وصالح في مكتب الصقر يسلم عليهم .. وقد وصلنا سالمين إلى الكويت .. عندئذ ابتسم عمي ابتسامة فخر لكون أبن أخيه الذي علمه هو أول الواصلين إلى الكويت . استمريت في قيادة التوكلي 7 سنوات . ثم أن عبد العزيز الصقر قال لي أن البوم " التوكلي " أما يكون له -حيث انتقلت ملكية نصيب والده حمد إليه بعد وفاته - أو يكون لوالدي وعمي .. فاشتراه عبد العزيز الصقر ب 11 ألف روبية وزاد من حمولته ، عندها ابتعدت حيث ليس لي علاقة بالبوم ، إلا أن عبد العزيز لما رآني " تنعزت " وقد اقترب الموسم ، نادني و قال لي لما ابتعدت ، فالبوم لم اشتريه إلا عشانك وأنت نوخذاه فعندها رجعت إلى قيادة البوم مرة أخرى ولمدة 8 سنوات .
· " صالح المهيني نوخذه الصقر "
اشتهر النوخذه صالح بأنه نوخذه "هرفي" والهرفي تعني بداية نقل التمر من البصرة إلى الهند ، حيث يتسابق النواخذة لبيع التمور في الهند نظرا لأن الحكومة الهندية كانت تعفي السفن المبكرة للوصول للهند من الضرائب ، .. واستمر النوخذة صالح ينقل التمور في مواسم الهرفي على سفن تابعة لعائلة الصقر لأكثر من 14 عام ، حتى عرف بأنه نوخذه الصقر– يستطرد العم صالح فيقول عن الصقر أن لهم 1000 فلاح يعملون في التمر وتجهيزه - ، فكان يبحر أحيانا ثلاث مطاريش " أي ثلاث رحلات في الموسم الواحد . بدل مطراشين أو مطراش حسب ما تعارف عليه النواخذة في ذلك الوقت .
يروي النوخذة صالح رحلة أخرى له فيقول :
في أول سنين الحرب العالمية الثانية طلب مني عبد العزيز الصقر أن أكون نوخذة البوم "مشهور" والذي اشتراه من التاجر هلال المطيري .. فوافقت وجهزت بحريتي وذهبت في أول مطراش إلى كراتشي وأنزلت حمولتنا من التمر وكان معي النوخذة عيسى النشمي رحمه الله ، وهو أيضا فرغ من حمولته .. فجاءنا فهد المرزوق ، وسألنا عن حمولتنا فأخبرناه أنه ليس معنا شيء ،فقال أن عندي أمر من الشيخ أحمد الجابر أن تحملوا معكم عيش التموين للكويت ، فقلنا أن البوم للصقر ، وينبغي الاستئذان منهم .. فكلمت عبد الرحمن الشاهين وكيل الصقر وأخبرناه بالخبر ، فأمرنا بعد مكالمتهم أن تكون "السطحة " أي الجزء العلوي من البوم حمولته فحم ، "والخن" أي الجزء السفلي يكون للعيش ، ففرحنا بذلك وحملنا العيش والفحم ، وانطلقنا من كراتشي إلى الكويت ، وإثناء عودتنا وعند جزيرة سلامة في مدخل الخليج ، ضربتنا عاصفة قوية كادت تودي بحياتنا ، ولم تفلح محاولة تغير الأشرعة من التصدي للعاصفة ، وأبلغني البحارة أن الماء بدأ يتسرب إلى جوف السفينة ، فاتجهت صوب الجبال عند مضيق هرمز وأمرت البحرية بإنزال الأشرعة وترك المركب يدبر " أي من غير أشرعة " ... ثم هدأت الرياح قليلا وخف المطر خاصة عندما احتميت بالجبال ، ورأيت محمل ظننا أنه عيسى النشمي ، لاكن تبين أنه سمبوك تابع لأحد نواخذة ميناء لنجة الايراني فاقتربت منه وانطلقت إليهم بالكيت " قارب صغير" للسلام عليهم والإستفسار عن هذا المكان .. وقبل أن أصل إليهم بثوان رأيتهم يصرخون ثم ألقوا بالحبال تحت مركبي وحملوني أنا وبحريتي ومركبي برفعة واحده ، وما أن انتهوا حتى نزل علينا الدولاب "إعصار" فأخذت السفينة تدور في مكانها ، وارتفع الموج وزاد المطر وصرنا أشبه بعود كبريت بوسط البحر ..
بعد نصف ساعة تقريبا زال الإعصار وهدأ الجو قليلاً ، فسألني النوخذه كم مره جئت إلى هذا المكان ؟ فقلت أول مرة آتي إلى هذا المكان بين الجبال .. فنظر إلي وقال .. في هذا المكان وبعد الإعصار بوقت سوف تأتي ريح قوية لا تستطيع المراكب أن تتحملها لأن الريح قد تسحبك وتصطدم في الجبال ، أو تغرقون في مكانكم لأن المراسي لا تتحمل قوتها .. فعليك تجهيز شراع الجيب .. وانتظار إشارتي للانطلاق إلى وسط البحر .. وفعلاً وعند منتصف الليل ناداني بتكرار" نوخذه صالح حرك أنطلق بسرعة ، ولم ينتظرني بل رفعوا مرساتهم ومشوا .. وخلال دقائق انطلقت بعده .. وما أن خرجنا من ذلك المكان حتى هدأت الريح وانقشعت الغيوم .. وبعد مدة من سيرنا رأينا بوم عيسى النشمي ، فاقتربنا منهم وسلمنا عليهم وروينا لهم قصتنا فقال النوخذه عيسى : نحن طبقنا " أي رسونا" على جزيرة – يمة – فأنزلنا عليها ثلاث باورات ، والله حفظنا لان لو انقطعت مرساة واحدة لغرق المحمل بما فيه ،فالحمد لله على السلامة .. وبعد عشرة أيام من مسيرنا وصلنا للكويت وكنا نحن أول الواصلين أليها وأول من أحضر عيش التموين في تلك السنين .
بعد سنتين من قيادة البوم "مشهور" انتقل النوخذه صالح إلى قيادة البوم " قتيبة " السفينة المشهور ، وكان له الكثير من المغامرات والقصص فيها ،كما كان في اغلب رحلاته يسبق الجميع في الوصول إلى الكويت .
النوخذة صالح " شيخ " في خشب العثمان:
ينتقل النوخذة صالح إلى صورة أخرى جميلة من صور ذلك الزمان الذي لا يتكرر حيث الاحترام والتقدير ومعرفة الرجال وتوقيرهم حيث يقول: في عام 1943 عرض علي النوخذة عبد الوهاب العثمان قيادة إحدى سفنهم وقال لي : تدلل نوخذه صالح هناك ثلاث محامل جاهزة اختر أيها شئت ، وكان البوم " فتح الكريم " احدى هذه السفن فاخترته لأنه أفضلها تجهيزا وبحرية ، وكان عليه مجدميين وثلاثة نهامين وثلاثة سكوني وطباخ واستاد و30 نفرا من البحرية .
فجاء عبد الوهاب العثمان وقال للمجادمة : منهو النوخذه؟ : فقالوا النوخذة صالح ، فرد عليهم وقال :لا صالح ليس نوخذه فقط وإنما نوخذه وراعي حلال ، إن أقدم على جزيرة واصطدم بها لا يتكلم منكم أحد بل عليكم السمع والطاعة .
فقال المجادمة : إن شاء الله يا أبو عثمان نطيب خاطر نوخذانا وخاطرك .
يضيف النوخذه صالح فيقول: بعد يومين أتاني عشرة من البحرية حملوا أمتعتي وبشتختتي وفراشي.. وما أن أقبلت على البوم ،ورفعت ثيابي كي أمشي إليه ، فلما رأوني تراكضوا إلي وحملوني فوق أكتافهم ووضعوني في الماشوة ، وجلس عن يميني نهام وآخر عن يساري وعشرون نفر من البحرية يجدفون .. حتى وصلنا إلى البوم فحملوني إليه .. فرأيت مكاني وقد رتب أحسن ترتيب وجلست على الزولية المفروشة لي في السدة الخلفية من البوم .. وأتى البحارة يسلمون علي واحداً تلو الآخر .. كأني ملك أو شيخ .....
يروي النوخذه صالح رحمه الله هذه القصة ويقول : أن تلك الذكرى تشعرني بالشوق والحنين إلى البحر وتلك الأيام الجميلة فروح الأخوة والتسامي والاحترام يتحلى بها الجميع ، ورغم تغير الزمان إلا أنه في هذه الأيام لو رآني أحد البحرية لقبل رأسي وسلم علي بحرارة ويذكرني بالخير ، وذلك لأني عشت معهم أخوة البحر على أحسن ما تكون .