كل عام وجرح الكويت بخير
بقلم أسيل عبدالحميد محمد أمين
جريدة القبس
لم يكن والدي - رحمه الله ــ يبارح الجلوس واجما قلقا، هو والصحف والمذياع، حيث كنا نقضي اجازة الصيف في اليونان، الى يوم ان جثم علينا صباح اسود، صباح حلمت في ليلته بأن اقضي نهار الغد على شاطئ البحر، اغسل بالموج الرائق ما تبقى على جلد يومي من غبار الكويت وحر صيفها، وأكنس بألوان المرح عناء عام دراسي طويل، لأستيقظ فيه مفزوعة على صراخ والدتي:
«الكويت راحت.. الدبابات تمشي في الشوارع!!.. قوموا.. الكويت راااحت»
وجدتني أصحو في هذا الصباح بلا وطن، لتلطم أمواج الحزن والدمع كل الفرح!
تسعة عشر عاما مضت، جرفها الزمن بمجرفة التاريخ أو علقها على جدار الذاكرة، لا فرق ان فعل هذا أو ذاك، فالدم النازف من الجرح لونه واحد، والندوب على جلد الكويت أثرها واحد، يومُ بح فيه صوت الكويت من الأنين، وارتوت فيه أرضه من دماء أبنائه، في حين اصبح بعضهم جذورا في أرضه ضاربة، بينما آخرون كانوا طيورا حطت على أشجار صيف لا عش لها عليها.
قبل أن تشرّع آنذاك مدارس سفارتنا أبوابها في العزيزة مصر، التحقت باحدى المدارس الخاصة، كانت المدرسة تضم الكثير من الفتيات العربيات اللاتي قدمن بسبب الأزمة من الكويت ودول الخليج، كنت أدرس في مادة التاريخ التلاحم العربي ونضال الثوار في مصر ضد المستعمر الغربي، وكنت أشهد تسامح الاديان حيث كانت النصرانيات تجاورن المسلمات في الصفوف، اذهب الى المدرسة كل صباح، لأشرب السعادة تارة، لان هناك قلوبا وفية ومحبة للكويت، بينما يأكلني الألم تارة أخرى، لأن هناك قلوبا يعصرها السواد، لأتعلم بين جدرانها درسا، وهو أنه لا «دين» ولا «لغة» أو «جدار» بقادر على احتضان البشر ان سقطت الانسانية خارج الحسبة، وأن المصالح في السياسة فوق كل الشعارات، وأن الانسان بلا وطن ضعيف جدا.
بينما مازال في حجر الكويت بعض من أبنائها نياما، يطنطنون لمن يخفي وراء الدين مصالح سياسية وخارجية، فيصمون بذلك آذانهم عن أنين وجعها من هؤلاء، وآخرون منهم يصرون على رش الملح على الجرح المفتوح، ليزيد على ألمها القديم ألما، في وقت هي أكثر حاجة فيه للمصالحة.
من عاصر اليوم الثاني من أغسطس عام 1990، يعرف جيدا كم كبر وشاخ هذا الوطن، وكم تغيرت وقست ملامح الكويت، وكم تراجعت بخطاها الى الوراء رغم أنف كل جميل فيها، فبقدر ما علا على أرضها البنيان تداعى فيها الانسان، وبقدر ما عانت غزوا خارجيا، أصبحت من بعده تعاني غزوا داخليا وان كان بصورة مغايرة.
عدو الأمس قلم أظافره ومد يده مصافحا، بينما يمعن بعض أبناء الكويت في سن أنيابهم عليها، لأنهم تعلموا من الجرح القديم درسا عن الآخر، وما تعلموا منه درسا عن الوطن.
كل عام والكويت نصب العين وفي القلب
كل عام والكويت بأهلها وجيرتها بخير