سلطان العارفين بن عربي محي الدين: إنه محيي الدين أبو عبد اللهمحمد بن علي بن محمد الحاتمي، بن عربي· يلقب ب(محيي الدين، الشيخ الأكبر، رئيس المكاشفين، البحر الزاخر، بحر الحقائق، إمام المحققين، سلطان العارفين) . سليلأسرة شريفة عريقة في العلم والتقوى. كان جده الأعلى عبد الله الحاتمي أحد قادة الفتوحات الإسلاميةومهتم بالفقه الإسلامي، وكان جده الأدنى أحد قضاة الأندلس وعلمائها، وكان أبوه عليبن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف .في هذاالوسط المحب للعلم والعلماء نشأ وترعرع . كان من صباه مرهف الحس والذوق، قويالعاطفة، غلاب الوجدان، ورحب الآفاق في الهمة والطموح والتطلع انطلقت روحه تبغي أفقاًأعظم وأشمل من ألوان العلوم والمعارف التي ألفها · ولد في بلدة " مرسيليا " على الساحل الشرقي للأندلس سنة (560هـ-1165م) وعاش فيهاحتى بلغ الثامنة، ثم انتقل إلى "إشبيلية"، العاصمة الفكرية للإمبراطورية الأسبانية التي شملتشمال أفريقيا قضى فيهاعشرين عاماً، حيث تلقى علوم الفقه والحديث والكلام، واطلععلى المذاهب الفلسفية وسائر علوم عصره، انتقل بعد ذلك إلى المغرب وأقام فيها حتىسنة (1201م) زار تونس ومصر والحجاز وبغداد والموصل والقدس والخليل، ثم أقام فيدمشق حتى وفاته سنة (638هـ-1241 م ).
تباينت أقوال العلماء فيه فمنهم من مدحوه وزكوه وأثنى عليه من أئمة العلماء والأولياء من أهل الصوفية وغيرهم من أهل المذاهب الأربعة. ذكره الإمام الشعراني في كتابه "اليواقيت والجواهر "حيث نقل عن الكثيرين من هؤلاء أبلغ العبارات والثناء عليه، وعلى مؤلفاته العديدة، التي من أشهرها 'الفتوحات المكية'، 'فصوص الحكم'، 'مفاتيح الغيب'، 'إنشاء الدوائر'، 'روح القدس'، 'شجرة الكون'، 'التجليات'، 'التدابير الإلهية في المملكة الإنسانية'، 'عنقاء مغرب'، 'ترجمان الأشواق' وغيرها . ألف بن عربي فيالتصوف، وفي التفسير، ومال إلى الأدب، وكتب الرسائل إلى بعض الولاة والعلماء ومفكريعصره، وغير ذلك من مؤلفات لا يأخذهاالحصر، وله سعة وتصرف في الفنون منالعلم، وباع في الكلام والتصوف، وله في ذلك كتب ومصنفات على قدر من الأهميةوالتفرد، وكان يشار إليه بالفضل والمعرفة، والغالب عليه طريق أهل الحقيقة، جمع بينمختلف العلوم المكتسبة، وغلب عليه التوحيد علماً وخلقاً وحالاً، وكان شيخاً جامعاًللعلوم، له معرفة تامة بعلم الأسماء والحروف وعلم الفراسة، وله في ذلك أشيـاءغـريبـة واستنبـاطـات وتفسيرات مبدعـة أدهشت أساتذته وحيرت شيوخ وعلماء عصره .
إن استعداده الفطري و نشأته العلمية في البيئة التقية وميله إلى المدرسة الرمزية قد أبرزت الناحية الروحية عند بن عربي في سن مبكرة فلم يكد يختم الحلقة الثانية من عمره حتى كان قد انغمس في أنوار الكشف والإلهام و لم يشارف العشرين حتى أعلن انه جعل يسير في الطريق الروحاني بخطوات واسعة ثابتة، و انه بدأ يطلع علي أسرار الحياة الصوفية، وأن عددا من الخفايا الكونية قد تكشفت أمامه وأن حياته سلسلة من البحث المتواصل عما يحقق الكمال لتلك الاستعدادات الفطرية . وظل عاكفا على مختلف العلوم منها علم الفلك حتى ظفر بأكبر قدر ممكن من الأسرار . وحين كان لا يزال في قرطبة تكشف له من أقطاب العصور البائدة من حكماء فارس و الإغريق ك (فيثاغورس و أمبيذوقليس و إفلاطون) وهذا هو سبب شغفه بالاطلاع علي جميع الأديان والمذاهب عن طريق أرواح رجالها الحقيقيين بهيئة مباشرة . ويقول الباحث جمال الدين فالح الكيلاني في كتابه (الإمام عبد القادر الجيلاني) : من الواضح أن من اشد المعجبين بالإمام الجيلاني كان الشيخ بن عربي صاحب "الفتوحات المكية" الذي تتبع أقواله على طول الكتاب وفي جميع أجزاءه . وقال فيه الكمال بن الزملكانيالبحر الزاهر في المعارف الإلهية) ومنهم من كفره كما فعل الإمام شمس الدين الذهبي متحدثاعن كتابه 'فصوص الحكم' حيث قال عنه في كتابه 'السير): فإن كان لا كفر فيه فما في 'الدنيا كفر( ومنهم من اعتد به، وهم أهل عصره، كما فعل ابن النجارفي مؤلفه" ذيل تاريخ بغداد"، وابن نقطة في مؤلفه" تكملة الإكمال" وابن العديم في مؤلفه " تاريخ حلب"، والزكي المنذري فيمؤلفه " الوفيات " .
وذكره الشيخ مصطفى البكري في كتابه " السيوف الحداد في أعناق أهل الزندقة والإلحاد" فقالانه من العلماء والأولياء المشهود لهم بالولاية الخاصةالمحمدية). كذلك وصفه شيخ الشيوخ أبو مدين الغوث الأفخر، وسماه رضي الله عنه بالشيخ الأكبر. وممن أثنى عليه أيضا، الشيخ عبد الغني النابلسي والشهاب السهروردي، والعز بن عبدالسلام، وشيخ الإسلام زكريا، وابن حجرالهيتمي والشيخ الجلال الذواني. أما الحافظ السيوطي فقد دافع عن أفكاره، وألف رسالة في حقه سماها" تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي" والشيخ علي بن ميمون ألف رسالة في مدحه والثناء عليه، والحط على المنكرين عليه وكذلك أثنى عليه الشيخ عبد القادرالعيدروس في كتابه " النور السافر" ونجم الدين الفيروزأبادي صاحب 'القاموس' الذي نقل عبارات الكثير من العلماء في مدحه وثنائهم عليه. وأشبع الرد على المنكرين له الشيخ عبدالغني النابلسي في كتابه 'الرد المتين على منتقص العارف محيي الدين'. وذكره الشيخ أحمد القشاشي في رسالته. " وحدةالوجود" فقال لو استقصى إنسان وتتبع مناقب الشيخ بن عربي التي تذكر بالسياق والتقريب في مصنفاته وفتوحاته لكان مجلدات. ويعتبر كتابه " فصوص الحكم " أعظم مؤلفات ابن عربي كلها قدرا وأعمقهاغورا وأبعدها آثرا في تشكيل العقيدة الصوفية في عصر هو في الأجيال التي تلته. يعالج هذا الكتاب نظرية " وحدة الوجود " وما تفرع عنها من المسائل التي سلك في استنباطها مسلكا كلاميا خاصا لا يوجد له نظير في مؤلف آخر من مؤلفاته، وربط هذه المسائل كلها ربطا محكما داخل دائرةمذهبهالعام. فجاء كتاب
' الفصوص الحكم ' خلاصة لمذهب في الصوفية منسجم، منسق الأجزاء، وهو مذهب لا نكاد نظفر به كاملا في كتاب آخر له، كما لا نظفر بمثله في كتب غيره من الصوفية الذين سبقوه أو أتوا بعده من حاول أن يوفق بين قضايا العقل وأحوال الذوق والكشف بمثل ما فعل بن عربي. وربما انفرد هذا الكتاب من بين مؤلفاته بأنه أكمل صورة، فقد جمع بين هذه الجوانب واستغلها إلى أبعد مدى في تأييد مذهبه في وحدة الوجود. ولا يمكننا أن ننكر أو نشك في أن له مذهبا فلسفيا صوفيا في طبيعة الوجود، لأننا نلمس هذا المذهب في كل صفحة من صفحات كتابه ' فصوص الحكم' كما نلمسه في كتبه الأخرى، لاسيما
" الفتوحات المكية ". وإن حاول أن يخفي هذا المذهب، أو ينطق بغيره عاد إليه فأكده وارتفع به صوته أشد ما يكون وأعنف ما يكون، وإن كان الفصوص أجمعها وأشملها من هذه الناحية ولذا يجدر بالباحث في هذا المذهب أن يجمع عناصره المبعثرة في كل مكان ويؤلف بينها حتى يظهر له في وحدته المتماسكة وما أشبه ابن عربي في هذا بفنان ألف لحنا موسيقيا عظيما ثم بدا له أن يخفيه عن الناس، فمزقه وبعثر نغماته بين نغمات ألحان أخرى. فاللحن الموسيقي العظيم هنالك، لمن أراد ان يتكبد مشقة استخلاصه وجمعه من جديد! وقد اعترف ابن عربي على نفسه بأنه قصد إخفاء مذهبه ظنا بأنه يظهره كاملا في أي كتاب من كتبه، في عبارة وردت فيكتابه 'الفتوحات المكية' حيث قال بعد أن ذكر عقيدة العوام ثم أردفها بعقيدة الخواص: (أما التصريح بعقيدة الخلاصة فهي عقيدة خلاصة الخاصة، وهي مذهبه في "وحدة الوجود" فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئت بها مبددة في أبواب كتاب "الفتوحات المكية " مستوفاة، مبينة لكنها كما ذكر متفرقة.
فمن رزقه الله الفهم يعرف أمرها ويميزها من غيرها، فإنها العلم الحق والقول الصدق، وليس وراءها مرمى، ويستوي فيها البصير والأعمى، تلحق الأباعدي بالأداني، وتلحم الأسافل بالأعالي. وأفكار بن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" صعبة الفهم، وأصعب من ذلك شرحها وتفسيرها، لان لغته اصطلاحية، خاصة، مجازية، معقدة في معظم الأحيان، وأي تفسير حرفي لها، يفسد معناها، ولكننا إذا أهملنا اصطلاحاته، استحال فهم كتابه واستحال الوصول إلى فكرة واضحة عن معانيه، ويمثل الكتاب في جملته، نوعا خاصا من التصوف المدرسي العميق الغامض. ولهذا فعلى الباحث ان يبذل جهدا معقولا في استقطاب المعاني والتفسير في معظم كتابات بن عربي، وإلا لن يخرج بفكرة واضحة سليمة، وأول مقاصده بغير ما تطرق إليه بن عربي. يقول الدكتور أبو العلا عفيفي أستاذ الفلسفة في جامعة كمبردج في كتابه "فصوص الحكم" بن عربي قدكتب كتبه تحت تأثير نوع من الوحي أو الإلهام، فأنزل في سطورها ما أنزل به عليه، لا ما قضى به منطق العقل، ولهذا يجب أن ننظر إلى مذهبه في جملته لا في تفاصيله، ونستخلص هذه الجملة من بين أشتات التفاصيل التي لايبدو في ظاهرها انسجام ولاترابط، ولم يكن الرجل واهما ولا مفتريا حينما قال في كتابه هذا: (ولا انزل في هذا المسطور إلا ما ينزل به علي، ولست بنبي ولا رسول، ولكني وارث، ولآخرتي حارث) . فهو يعتقد عن يقين أن كتابه " فصوص الحكم " إملاء عليه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان. أملاه عليه في رؤيا رآها في دمشق سنة 627 هجرية، وانه لم يكن إلا مترجما لما كاشفه به الرسول الذي هو منبع العلم الباطن ومصدر نورالمعرفة. كما انه لم يكن واهما ولا مخدوعا عن نفسه عندما سمى موسوعته الكبرى في التصوف باسم " الفتوحات المكية " وسمى كتابا آخر بـ " التنزلات الموصلية " إلى غير ذلك مما يؤيد به دعواه أنه لا يصدر في كتبه عن تفكير أو رؤية، بل عن كشف وإلهام. وأما ما نطق به فيها لم يكن إلا من الفتح الذي يفتح الله به على الخاصة من عباده.
وقال ابن عربي في كتابه" الفتوحات المكية ": (وهذا الكتاب مع طوله وكثرة أبوابه وفصوله، ما استوفينا فيه خاطرا واحدا من خواطرنا في الطريق، وقال لقد أعطى الله للإنسان الكامل ألفا ومائتين من القوة، بحيث لو سلط واحدة منها على الكونين لأعدمهما) . وأمثال ذلك كثيرة في كتبه فما علينا إلا أن نفهم. و يعدبن عربي المثل الأعلى للأرستقراطية العقلية، وأسلوبه البياني كما يقول بعضالمستشرقين يشبه عمل الفنان المدقق الذي يتخير الدرر الغالية بعناية فائقةوبحساسية مرهفة لفنان قدير، فهو لا يشغلك كما يقول النقاد بالألفاظ مع روعتها عنالمعاني، ولا بالمعاني على سموها عن الألفاظ، فلكل عنده نصيبه فهو العالم الأديب،والأديب العالم. في كل جملة له صورة بيانية، والقوة لديه قوة الفكر والبيان لا قوةزخرف وتهويل · ويظهر أسلوبه جلياً بلغة التصوف. فقد نقلها من لغة القلوب إلى لغةالعقول، ومزج بينهما فكان منهما أسلوبه الذي تميز به وعرف عنه· ويشعر قارئ بنعربي بأنه خلق خلقاً جديداً، وأنه اطلع على آفاق رحبة وعالم فكري لا عهد له به منقبل وتشده عاطفة قوية تجاهه . إنه عالم امتلك أسلوباً متفرداً في الكتابة والحوار.لقد بريء قلم بن عربي مما أصيبت به أقلام غيره، وتغلب بمواهبه العقلية والروحيةوبإلهاماته الدينية وكشوفه القلبية على جيله وعلى الأجيال التي سبقته، بل لقد احتفظبتفرده وتفوقه على الأجيال التي تعاقبت بعده، فعاش في التاريخ منارة لا تطاول،وصرحاً شامخاً ممرداً ترتد عنه العيون.
وكانت له كثير من الرؤيا الصالحة مناما ويقظة. فذكر بن عربي بنفسه في إحدى مذكراته أنه مرض في شبابه مرضا شديدا و في أثناء شدة الحمي رأى في المنام أنه محوط بعدد ضخم من قوى الشر، مسلحين يريدون الفتك به . وبغتة رأى شخصا جميلا قويا مشرق الوجه، حمل على هذه الأرواح الشريرة ففرقها و لم يبق منها أي أثر فسأله محيي الدين من أنت ؟ فقال له أنا "سورة يس". و علي أثر هذا أستيقظ فرأي والده جالسا إلى وسادته يتلو عند رأسه "سورة يس".
ثم لم يلبث أن برئ من مرضه، و ألقي في روعه أنه معد للحياة الروحية وآمن بوجود سيره فيها إلى نهايتها ففعل . ورأى وهو في حالة اليقظة أنه أمام العرش الإلهي المحمول على أعمدة من لهب متفجر ورأى طائرا بديع الخلق يحلق حول العرش و يصدر إليه الأمر بأن يرتحل إلى الشرق و ينبئه بأنه سيكون هو مرشده السماوي و بأن رفيقاً من البشر ينتظره في مدينة فاس594هـ. فرحل إلى المغرب وتقابل مع ذالك الرفيق ويعرف بالفاسي وذهبا معا إلى مكة المكرمة. وفي مكة في احدي تأملاته رأي مرشده السماوي مرة أخرى يأمره أيضا بتأليف كتابه الجامع الخالد "الفتوحات المكية" الذي ضمن فيه أهم أرائه الصوفية و العقلية و مبادئه الروحية.
ولو قيس بن عربي بغيره من كبار مؤلفي الإسلام أمثال بن سينا والغزالى لسبقهم جميعا في ميدان التأليف من ناحية الكم والكيف على السواء. أما من ناحية الكم فقد ألف نحوا من مائتين وتسعة وثمانين كتابا ورسالة على حد قوله في مذكرة كتبها عن نفسه سنة 632هجرية، أو خمسمائة كتاب ورسالة على حد قول عبد الرحمن جامى صاحب كتاب " نفحات الأنس" أو أربعمائة كتاب كما يقول عبد الوهاب الشعرانى في كتابه (اليواقيت والجواهر). وقد وصفه "بروكلمان" بأنه مؤلف من أخصب المؤلفين عقلا وأوسعهم خيالا، وذكر له نحوا من مائة وخمسين مؤلفا لا تزال باقية بين مخطوط ومطبوع . ويقول الدكتور أبو العلا أستاذ الفلسفة في جامعة" (كمبردج) ومهما يكن من تضارب بين الكتاب في عدد مؤلفات بن عربي وأحجامها فليس هناك من شك في أن هذا الرجل كان من أغزر كتاب المسلمين علما وأوسعهم أفقا وأقربهم إلى العبقرية والتجديد في ميدان دخل فيه كثيرون غيره، ولم يخرجوا منه بمثل ما خرج، ولا بلغوا فيه الشأن الذي بلغ) .
شرقاوى بحرى. اقتباس